د. سيّار الجميل
يعيش مجتمعنا العراقي اليوم كوارث متنوّعة ومتعدّدة لا يمكن تخيّل نتائجها التاريخيّة على مدى زمني تصوّري منظور او تخيلّي بعيد ، فالانهيارات لا حدود لها ولا كوابح تحدّ من اهوال السقوط والعبثيّة وانهيار القيم وتبدّد الاخلاق وبشاعة العلاقات ..
انه نسيج اجتماعي متهتّك .. ولقد كانت تواريخه المضنيّة القريبة منذ خمسين سنة قد مرّت ، خلقت غيبوية في القوى الفاعلة ، وبقيت الاجيال تتغنّى بما انتجته تواريخها وتترّبى على مواريثها السالبة لا الموجبة ، والتي اخذت تأكلها وتحرقها او تحجبها عن حياة العصر . ولقد تحقّق اليوم ما خشي منه العقلاء والحكماء بأشكال بشعة – ويا للأسف الشديد - .
لقد كانت لمجتمعنا العراقي مظاهر متماسكة في دواخله ، بائتلافاتها وتعايشاتها علنا ، من خلال المثل التقليديّة الاجتماعيّة بالرغم من الاختلافات السياسيّة والصراعات الايديولوجيّة لدى الاحزاب السياسيّة والنخب الفكريّة والمنظومات الادبيّة والمستويات الثقافيّة التي استفادت الى حدّ ما من حياة العصر الذي كانت تمثلّه نماذج متعددة بدءا بالتجربة الاتحاديّة ثم الكمالية ، ثم التفت العراقيون ليتعلّموا اشياء ليست بالقليلة على يد الانكليز ، ثم انقسموا بين تجربة المنظومة الاشتراكيّة والاتحاد السوفييتي وتجربة جمال عبد الناصر المصريّة .. ومن ثم كانت تجربة البعثيين التي وجدت نفسها هي المثل الاعلى ! ومن ثمّ ليعيش المجتمع العراقي في ظلّ تجربة الاسلاميين الطائفيين ، وقد تشرذم العراقيون في الاعجاب اليوم بين نموذجي ايران وتركيا ! وكل يوم يمضي يتقهقر العلمانيون والتقدميون والمستنيرون ، وهم قلة اليوم على حساب تخندقهم هنا او هناك ، مع تفاقم الكراهيّة ضدهم ووصفهم بأبشع الاوصاف !
لقد خلقت ازمة الحكم في ظلّ الانقسام السياسّي( والاجتماعي لاحقا ) انتفاء للوعي الوطني وتم تبديله بما اسموه " المكوّنات الثلاثة " ، وهي حالة غريبة على الواقع بانتزاع روح المواطنة مع خلق صدمات اعلاميّة غسلت الادمغة الهشّة ، وانتجت سلبيات وكوارث . ومن المؤسف ان كلّ الذين أتوا الى السلطة في العراق ( الجديد ) ليست لديهم تجارب ولا معرفة ولا اية مصداقيّة اخلاقيّة ، ولا ايّة قدرات سياسيّة ، او ابداعات فكريّة ، ولم نجد ايّ صنّاع اذكياء للقرارات ، ولا خبراء في ادارة الازمات ، بل حلّ وباء المحاصصة الدينية والطائفية والعشائرية .. فماتت القوى الفاعلة في المجتمع موتا بطيئا ، وخصوصا مع نزوح وهجرة ابرز الكفاءات واصحاب التخصصّات .. كنت اتمنّى مخلصا ان يكون الوزراء والنواب والسفراء والمدراء وكل المسؤولين العراقيين على درجة عالية من الكفاءة لقيادة البلاد ، ولكن ما يحصل حتى الآن يشّكل فجيعة تاريخيّة بكلّ المقاييس .
ويبدو للمؤرّخ ان طبيعة مجتمعنا العراقي قد اختلفت تاريخيّا وتبدّلت بعد ان قامت القوى الفاعلة العراقية القديمة بتأسيس الدولة وتطوير المجتمع ، وكانت تبدو اكثر وعيّا في التخلّص من المشكلات بتقديمها الحداثة على الموروثات المخدرة وايجاد البدائل المدنية الفاعلة ، ولم تزل مجتمعاتنا تؤمن بأنّ مواريثها وبقاياها القديمة صائبة وانها اقوى من حضارة العصر .. وهذا هو الخطأ بعينه الذي يمارسه ساسة الاسلام السياسي ، اذ قاد هذا السبب الى تفاقم حجم التناقضات كثيرا ، وانتهك المجتمع انتهاكا !
لقد تخلّص مجتمعنا العراقي – كما تراءى لأبنائه – من الاستعمار وآثاره وأذنابه – كما جرى تداوله في البيانات الصارخة - ، ولكنه لم ينجح في التخلّص من الامراض التاريخية المتوارثة .. والاوبئة الطائفية التي تنتشر سايكلوجيا جرّاء ثقافات منحرفة يتربّى عليها المرء منذ الصغر ، فتتجسّد في ذهنيته المركبّة من دون ان يدري بأدرانها ، فيتوالد عنده الحقد والكراهيّة للطرف الاخر ، وقد تعلّم كيف يخفيها ويدفنها في كلّ الظروف ، ولكنه يتحيّن الفرص لإظهارها مستترة او الاعلان عنها ببشاعة متى اطمئن للظرف الذي يخدمه !
لقد كذبت كلّ السلطات والنخب السياسيّة والفكريّة والحزبية على مجتمعنا مع ولادة زعامات كسيحة متخلّفة اوليغارشية عسكريتارية او حزبية او دكتاتورية مستبدّة او طائفيّة .. زرعت واقعنا بالشعارات الوهمية .. وغدا الحكم بأيدي حكام مستبدين ومتخلفين ومشعوذين خلقوا نزعة عداء وكراهية للعالم كله ، وعدّوا شعوب العالم غير محترمة وجاهلة وكافرة ومستغلة فتوالدت تناقضات ذهنيّة مركبة وخطيرة سايكلوجيا واجتماعيا !
لقد جمع مجتمعنا كلّ التناقضات ، فهو لم يتخلّص من بقايا الموروثات الصعبة ، ولم يعالجها بشجاعة ، وجعل كلّ من ينتقدها ويصلحها عميلا وجاسوسا وكافرا لابدّ من اعدامه وقتله بعد تعذيبه وإسقاطه او اسكاته او تهجيره ! ومع مرور الوقت ، غدت القوى الاجتماعية بدءا بالعائلة ثمّ النخب والفئات .. رخوة لا قدرة لها على الحداثة ومجاراة العصر ، ولكنّها تغالط نفسها ، اذ لم تستطع ابدا البقاء على قيد الحياة لدقائق معدودات بلا مستحدثات تكنولوجية وإلكترونية حديثة ، فلا يمكنها ابدا ان تنعزل ( مع مواريثها ) لتعيش بلا كهرباء ولا اتّصالات ولا مواصلات ولا اجهزة دقيقة ولا انترنت ولا فضائيات .. وتفاقمت جملة امراض بموت تقاليد رائعة في التعايش الاجتماعي وتقبّل الآخر ، فبدأت حرب قذرة ضدّ الاطياف الداخليّة .. وزاد الامر سوءا ما تلقنّته الاجيال الجديدة من رثاثة في مناهج التربية والتعليم ، بل تغلّبت نوازع طائفيّة ومتشددّة ومتعصبّة في بيئات ازدادت رثاثة وتخلّفا مقارنة بمجتمعات اخرى جدّدت نفسها واحدثت قطيعة مع تقاليدها البالية فابتعدت عن اعادة انتاج مثالبها.
لقد عاشت قوانا الاجتماعية على شعارات مزيّفة واوهام وخرافات وخطابات كاذبة لا يمكن تحقيقها ابدا في القرن العشرين .. وكانت السلطات تخفي الواقع ، ولم تعتمد تثقيف الانسان اية صيغ علميّة او مكاشفات نقديّة لإيقاف خطر التناقضات الفكرية بفعل تربوياتها الفاسدة واعلامياتها الكاذبة ،وسياساتها الجائرة .. بل لم تزل تشكيلة الحكومات حتّى اليوم تقوم على محاصصة خائبة جعلت الاغبياء والجهلة والملالي يتقلّدون المناصب العليا والتشريعيّة والتنفيذيّة في عمليّة سياسيّة كسيحة ، فكان ان تبهدل كلّ من الدولة والمجتمع معا بولادة سلطات شعبويّة تفرعنت من خلال ميليشيات ، وتشيطنت باسم الدين والطائفة والعشيرة ، فتفاقمت قوى ظلامية وعنيفة وجاهلة لتطغى على القوى الفاعلة المستحدثة ، او حتّى تلك التقليديّة التي ازدحمت بها مجتمعاتنا الحيّة سواء في الزراعة والصناعة والتجارة والمهن القديمة والحديثة كالطب والمحاماة والكتابة والترجمة وغيرها .
وساهمت الثروات النفطيّة في قتل تلك القوى الفاعلة ، فغدت قوى المجتمع كسولة كسيحة ، او ريعيّة غير منتجة اتكّلت على الدولة او المساعدات او رواتب البطالة المقنّعة .. وبدت اليوم غير متجانسة يطغى عليها الجهل ولا تقدّر قيمة الزمن ولا الارض ولا الماء ولا الزراعة او الصناعة ولا الابداع ، ووصل الامر الى تشويه التعليم والحياة العلميّة والادبيّة ،وبخس شأن العلماء باعتلاء من ليس مؤهّلا ليكون معلما واستاذا وباحثا .. واصبح العداء سافرا بين المتعلمين والجهلة وبين المثقّفين وبين الاشباه الذين ازداد عددهم بشكل مخيف بغلبة الكم على النوع ، وبدت الاجيال الجديدة بحاجة الى المأكل والملبس والسكن والعمل والرفاهيّة ، مع تبدّد الثروات وتفاقم النهب المنظّم وانهيار العدالة الاجتماعيّة فتبلور العنف والتشدّد والهجرة اللاشرعية .. وطغى الانغلاق على ماضويات اعتبرت الحل الامثل من دون الالتفات الى هشاشة الماضي ازاء الحاضر ، وان مواريث الماضي القديمة لا يمكنها ابدا ان تعالج الحاضر ، فكيف يمكنها بناء المستقبل ؟!
ولقد استفاد المستبدون الجدد من الجهالة والضحالة باستخدام العواطف وتلفيق العودة الى الماضي الزاهر ، وغدت قناعات لا يمكن التمفصل عنها ! ان الاستبداد لحق بقوى اجتماعيّة كرجال الدين الذين وجدوا انفسهم يتمتعون بسلطات اكبر من حجمهم كثيرا ، فجنّ جنونهم وبدأوا يضطهدون من يخالفهم حتى في ابسط الاشياء . لقد خلقت هذه الكوارث المتواليّة الى جملة انهيارات بتلاشي القوى الفاعلة في المجتمع العراقي ..
إن الديمقراطية ضرورة اساسية ، ولكن كيف تتطّور في ظلّ تشريعات غبيّة مع غياب الحريّات بتنوعاتها الشخصيّة والفكريّة والسياسيّة ؟ كيف يتلاءم ذلك في مجتمعات تؤمن بالتعذيب والقتل والسلب والنهب وصراع الطوائف ؟ او تؤمن بطقوس قروسطية هي اقرب الى الجنون .. ان مجرّد وصف القوى الاجتماعية باللا متجانسة في تربوياتها واحكام شعائرها .. يعدّ مأزقا قديما فات على العقلاء معالجته بشجاعة علميّة ووضوح فكري جرّاء الخوف ، فكيف يعالجه اليوم من يحمل فكرا خياليّا او اسطوريّا او وهميّا او متخلفّا على اشدّ ما يكون من التخلف ؟
يعيش مجتمعنا العراقي اليوم في حالة خواء للقوى الفاعلة في المجتمع ، فالعقول خاوية بالفعل ، والبطالة متفاقمة ، والزمن لا قيمة له وتحرق الموارد على توافه الامور ، القراءة تكاد تكون منعدمة ، والثقافة بائسة عموما ، ويجري الفتك بالموهوبين ويحرم الابداع ! وتعاسة المرأة العراقية كبيرة للغاية بفقدان حقوقها الماديّة والمعنويّة ، وافتقادها حرّياتها ، وغياب تشريعات تحفظ كرامتها وحقوقها ، فما السبيل الى إنقاذ مجتمعاتنا وإحياء القوى الفاعلة فيها ؟ هذا ما سنعالجه في قابل.
1693 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع