عامر سليمان كما عرفته.. علّامة آخر نخسره في هذا الزمن الكئيب

                                   

                        أ.د. سيّار الجميل

       

                                  

نقلت إلينا الأخبار مؤخرا من مدينة الموصل رحيل الصديق والزميل العلّامة الاستاذ الدكتور عامر سليمان الذي عمل لأكثر من خمسين سنة في حقل تاريخ العراق القديم وآثاره وحضاراته ولغاته القديمة ، وقدم جهوده الرائعة للعراق والعالم بتآليفه وعلمه من خلال عمله في كل من قسمي التاريخ والآثار في كلية الآداب بجامعة الموصل .

ولقد عدّ الاستاذ سليمان من ابرز المتخصصين في كلاسيكيات العراق القديم وعلم الاركيولوجيا والدراسات المسمارية في القرن العشرين .. كما وكان عالم آثار من الدرجة الاولى وهو أستاذ اللغات القديمة والأكدية بشكل خاص .. رحل قبل ايام عن عالمنا كما يرحل كل يوم أبناء جيل عراقي رائع نبغ لما بعد الحرب العالمية الثانية وادى رسالته العلمية في ظروف صعبة .. انه يرحل اليوم بعد أدائه الأمانة بأحسن صورها ، وأروع أشكالها ، واسمى مضامينها .

ولد الاستاذ عامر سليمان بمدينة الموصل عام 1936 في أسرة معروفة ، وبدأ دراسته في مدارسها الابتدائية والمتوسطة والإعدادية ثم انتقل لدراسة علم الآثار في جامعة بغداد بكلية الآداب ، ونال إعجاب أساتذته فيها لنباهته وفطنته وذكائه ، وحصل فيها على شهادة البكالوريوس بتقدير امتياز سنة 1958، وحصل على بعثة وزارة المعارف لإكمال دراسته العليا في خارج العراق ، فغادر الى بريطانيا إذ أكمل دراسته وحصل على شهادة الدكتوراه في جامعة لندن سنة 1966، وهناك درس على أيدي كبار العلماء والمؤرخين والآثاريين ، وكان من زملائه وقت ذاك الصديق الدكتور رياض القيسي الذي كان يدرس القانون الدولي وقد برع في وزارة الخارجية العراقية لاحقا .. وبعد عودة عامر سليمان الى العراق عام 1966 ، كان تأسيس جامعة الموصل قد بدأ ، فأصبح عضوا في الهيئة التدريسية لهيئة علوم الانسانيات فيها والتي تحول اسمها الى كلية الآداب لاحقا في المجموعة الثقافية . كان رئيس الجامعة وقتذاك العلامة الراحل الاستاذ الدكتور محمود الجليلي ، وقد اعتمد على عامر سليمان كثيرا في إحياء سور نينوى العاصمة الآشورية القديمة وتأسيس قسم للآثار في الجامعة ، ولقد ابلى الدكتور سليمان بلاء حسنا في مهمته التأسيسية الصعبة .. لقد بدا لنا من خلال سنوات عمره العلمية التي قضاها في جامعة الموصل انه شغل بعض المناصب ، كان من أبرزها رئيس قسم التاريخ في العام 1967 ، ثم سعى لافتتاح قسم الآثار في جامعة الموصل ، فأصبح أول رئيس له سنة 1969، كما غدا مديرا لمتحف الجامعة1967 بعد ان ساهم بتأسيسه مساهمة أساسية ، وعمل معاونا لعميد كلية الآداب 1967 وكان العميد هو المؤرخ الراحل الاستاذ الدكتور عبد المنعم رشاد 1934- 2008 ، وبقي الاثنان يرتبطان بصداقة قوية جدا على امتداد سنوات حياتهما ، اذ كانت عراها قد بدأت منذ ايام الصبا ودراستهما المشتركة في جامعة لندن . ثم تولى عامر سليمان منصب رئيس هيئة تنقيبات الجامعة في العام نفسه بعد إن اكتشف بوابة ادد في سور نينوى الشمالي. وشغل منصب مساعد رئيس الجامعة 1972، ثم اصبح عضو مجلس الجامعة في 1973، اذ اعتمد على جهوده الاستاذ الدكتور محمد المشاط رئيس الجامعة وقتذاك، وساهم في هيئة تحرير مجلة أكاديمية أصدرتها كلية الآداب بعنوان "آداب الرافدين" منذ مطلع السبعينات، إضافة إلى حصوله على عضوية المجمع العلمي العراقي سنة 1996 ، ناهيكم عن شغله العديد من المناصب الإدارية الأخرى.

اما عن مساهماته العلمية ، فاذكر إن الأستاذ الدكتور عامر سليمان كان قد حصل على مهمة أستاذ زائر في جامعة كارديف البريطانية سنة 1975 ، ومهمة أستاذ زائر في ألمانيا سنة 1981، وكانت له مشاركاته التخصصية ومراسلاته مع كبار المؤرخين والآثاريين في العالم باستشارته ومن ابرزهم هارس زاكس، اذ غدا واحدا من الذين يعتمد عليهم في كلاسيكيات العراق القديم ولغاته القديمة فضلا عن مساهماته العلمية في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية في الهيئة العامة للآثار والتراث والمجمع العلمي وبيت الحكمة وجامعة الموصل.

لقد عرفت الاستاذ عامر سليمان منذ زمن بعيد ، اذ كان ابن اخيه باهر سليمان واحدا من اصدقائي وزملائي في متوسطة المثنى للبنين والإعدادية الشرقية ، وكثيرا ما كان يستشهد بعمه الدكتور عامر  .. وكان للدكتور عامر  كل من الاخوين الفاضلين ، هما الاستاذ عاصم الذي خدم الادارة المحلية للموصل خدمة كبيرة ، وهناك الدكتور يعسوب سليمان احد ابرز الاساتذة من الاطباء المختصين في الموصل وكان الاثنان قد خدما الموصل ومجتمعها كثيرا.. لقد زاملت الأستاذ الدكتور عامر سليمان قرابة ثماني سنين في جامعة الموصل ، فوجدت فيه عالما كبيرا شغوفا بمهنته جدي في عمله مخلصا لاصدقائه وزملائه عاشقا لتخصصه محبا لطلبته ومساعدا لهم ، وكان يتمتع بخصال عالية ، ولكنه يعرف من يختار من اصدقاء له .. لا يكتفي بما لديه من كتب وأوراق ورسوم ، بل كان ميدانيا يريد معرفة الاشياء تطبيقيا في كل حقول الآثار في نينوى وكل المناطق الاثارية ، وكانت هذه سمته منذ شبابه المبكر .. كان متواضعا ويستمع للاخرين وان تكلم فكلامه مختصر مفيد ..

كان يعشق مدينته الموصل ويدرك قيمتها التاريخية وقوة جغرافيتها وعظمة حضاراتها .. كان انسانا عمليا لا يكترث للسفاسف والترهات التي يؤمن بها الاخرون .. كان استاذا قديرا في قاعة محاضراته لا يضيع اية دقيقة من وقته ، وقد اشرف على اعمال طلبته وكان يصحح اخطاءهم ويرشدهم الى مواطن الصواب والخطأ ، كما يعتني عناية بالغة بطلبته المبدعين ويتوسم فيهم مستقبلا زاهرا .. سألته يوما وكان يجلس الى جانبي في واحد من اجتماعات مشروع " موسوعة العراق الحضارية " التي لم تر النور مع الاسف جراء غزو العراق للكويت 1990 والحرب على العراق عام 1991 ، متى نحتفل باحياء العاصمة الاشورية الثالثة نينوى الكبرى ؟ قال : لا اعتقد ان احيائها سيكون سهلا في ظل واقع صعب ابدا ، وقد فهمت عبارته تلك رحمه الله . وكان يتحدث عن نينوى بشغف كبير ، اذ كانت عاصمة الدنيا في تلك الازمنة الكلاسيكية الغابرة .. كان قد خاب رجاؤه من التواصل في العمل والتواصل مع مشروع احياء العاصمة نينوى الذي صادف عقبات لا تعد ولا تحصى في ظل النظام السياسي السابق .. ولكنني اعتقد بأن الرجل نجح نجاحا كبيرا في احياء اقسام كبيرة من سور نينوى وبواباته الكبرى .. وسمعت لاحقا بأن الرجل كان يحزن كثيرا على الاهمال الذي رافق العناية بالسور والبوابات التي عمل على تشخيصها الى الارض . ومن جانب آخر ، كان قد اخبرني منذ زمن طويل بأنه يؤمن ايمانا كبيرا بأن ما اورده البعض من الاركيولوجيين العالميين من كون الجنائن المعلقة هي قد بنيت اصلا في نينوى ، وليس في بابل .. وذلك من خلال الادلة الآثارية التي اكتشفت باختراق نهر الخوصر  في قلب مدينة نينوى ، وهو النهر الذي ينبع من جبال منطقة النوران على طريق اتروش .. ويصب في نهر دجلة قبالة مدينة الموصل .

استطيع القول ، ان عامر سليمان هو الاستاذ العراقي الوحيد الذي برع براعة من نوع خاص باللغات العراقية القديمة وفك الكتابة المسمارية ومعرفة اللغة الاكدية ، وقد نجح في نقل بعض معرفته الى العديد من طلبته وزملائه بروح علمية عالية .. وكان يتعب معهم في قراءاته لأعمالهم التي لا يقبلها الا مقرونه بالتطبيقات .. ولعل اهم ما تميز به الرجل مستكشفاته الاثارية وكشفه للعديد من الأسرار والمخفيات التي لم تكن معروفة سابقا وخصوصا في تاريخ العراق القديم .. وهنا ، استطيع القول ان العراق فقد في عامر سليمان الرجل الموسوعي في كلاسيكيات العراق القديم ، وان رحيله يمثل خسارة كبيرة لا يمكن تعويضها بسهولة ابدا .

وفي مسيرته الحافلة حصل الرجل على العديد من الجوائز والتكريمات والألقاب على جهوده الكبيرة ، ومؤلفاته وابحاثه العديدة .. اذ قام بتأليف وترجمة عدة كتب مهمة جدا بلغت اكثر من عشرين كتابا ، منها : "القانون في العراق القديم" ( 1977 ) و " محاضرات في التاريخ القديم " ( 1978 ) ، و " الكتابة المسمارية والحرف العربي" ( 1984) و " اللغة الاكدية " (1991 ) ، و " محافظة نينوى بين الماضي والحاضر " ( 1986 ) ، و " العراق في التاريخ القديم " الجزء الأول (الموجز السياسي) ، ( 1991) ، و " العراق في التاريخ القديم" الجزء الثاني (الموجز الحضاري) ، ( 1993) ، و " المدرسة العراقية في دراسة التاريخ القديم " ( 2007) . ، و نماذج من الكتابات المسمارية ( 2002 ) ، و " اللغة الاكدية البابلية-الاشورية " (2005 ).

وترجم عامر سليمان عددا من الكتب المهمة، منها : " عظمة بابل " ( 1980 ) ، و كتاب بورتر,ووجين " الشرق الادنى الحضارات المبكرة ( 1986 ) ، و " الكتابة " ، لديفيد ديربنجر (2001 ) ، والإشراف على ترجمة " قاموس العلامات المسمارية " للباحث لآبات، و " قوة آشور " ( 1999) .

إما بحوثه المنشورة فلقد اقتربت من 45 بحثا متخصصا بدراسة علم الاثار العراقي وتوزعت بين مجلات ونشرات أكاديمية رصينة. ونجح سليمان في البرهنة على نظريات وولادة فرضيات،

وقد نشر في مجلة آداب الرافدين : " اكتشاف مدينة تربيصو الآشورية " (1971 ) ، و "العقوبة في القانون العراقي القديم " ، ( 1979 ) ،  و " مدينة بابل وتطبيق العدالة"  ، (1999 )، و " اللغة والاكدية وأسلوب نطقها الصحيح " ، (2003 ) ، و " أقدم صيغ الديمقراطية في العراق القديم " ، (2004 ) ، و " العلامات المسمارية والحاسوب وآخر " ، (2004 ) ، و " نشاطات جامعة الموصل الاثاري " ، (مجلة آثار الرافدين 2012 ) .

ونشر في مجلة المجمع العلمي العراقي : " المعاجم اللغوية من مظاهر أصالة حضارة بلاد الرافدين " ، (1997 ) ، و " من القران الكريم إلى النصوص المسمارية " ، (1998 )  " الإنسان في الحضارات العربية القديمة : في الأنساب مصدراً لكتابة التاريخ "، (2000 )، و " هوية العرب في العصور القديمة، في الهوية العربية عبر حقب التاريخ " ، (1997 )، و " العصر الآشوري في العراق في التاريخ " ،( 1983 )، و "اللغة والكتابة "، (موسوعة الموصل الحضارية،  1992 )،  ثمة مقالات اخرى في مجلة اوراق ، منها: " الكتابة المسمارية بين الماضي والحاضر " ، و " ملوك العراق " ، و " الملوك الاكديون " ، و " الملوك الأشوريون ".

بوفاته خسر العراق احد ابرز علمائه ومؤرخيه المبدعين في القرن العشرين .

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1712 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع