الوطن المسكون / قصة حقيقية من ذكريات الطفولة

    

                             

                                            

 الوطن المسكون /قصة حقيقية من ذكريات الطفولة.

   

لاشيئ يُغذي ويُنَمي الخوف والرعب أكثر من الجهل. وأينما يكون المجتمع الجاهل تتواجد معهُ الأساطير والخرافات وحكايات الجن والعفاريت والشياطين بأنواعها المُفزعة والمُضحكة على حدٍ سواء.

في بداية الخمسينات، كانت العاصمة بغداد تحوي العديد من“البيوت المسكونة” بالجن والعفاريت والأرواح الشريرة حسب زعم الناس في تلك الأيام.
في أيام طفولتي تلك كانت عائلتنا تسكن منطقة ال (سبع قصور) التابعة لمنطقة الكرادة الشرقية والواقعة بالضبط بين منطقة (الزوية) و(البوليس خانة). وحسب مودة ذلك الزمن فقد كان في محلتنا واحد من تلك البيوت التي يُقال أنها كانت مسكونة بالجن!!. كانوا يسمونه (بيت أبو النبگة)،والنبگة أو النبقة هي شجرة السدر. وكانت شجرة النبكة الموجودة في حديقة ذلك البيت المسكون كبيرة عملاقة تغطي أغصانها مساحة كبيرة من الحديقة المهجورة المليئة بالحشائش والنباتات البرية، كذلك تُغطي جزءاً كبيراً من سطح ذلك البيت المهجور الكئيب الشكل والتفاصيل.
تقول حكايات الناس في تلك المحلة أن إمرأة طيبة كانت تسكن ذلك البيت مع ولديها الشابين، وتشاء الصدف السيئة أن يحب كلا الأخوين إبنة عمهم الشابة الحلوة، وبسبب ذلك تنمو خلافاتهم وتتعمق في جذرها وتتطور إلى إشتباكات جسدية عنيفة غالباً ما كان يتدخل الجيران لفضها.
في ليلة ما، وخلال أحدى المشاجرات بين الأخوين، يقوم أحدهما بطعن الأخر عدة طعنات بسكين المطبخ الكبيرة!، ويلاحقه الى خارج الدار ويذبحه من الوريد الى الوريد عند شجرة النبق العملاقة!.
حدث كل ذلك في ليلة شتائية عاصفة مُمطرة من ليالي بغداد في أربعينات القرن الماضي. وقيل أن الأخ القاتل إختفى تماماً ولم يسمع لهُ خبر بعد ذلك الحادث أبداً، وزعم بعض سكان المنطقة أنه إلتجأ الى الجن وأصبح واحداً منهم!. ويحكي بعض الجيران أنهم كانوا يسمعون صراخ الأم الهستيري المرعب في الليالي الشتائية الممطرة حين تزورها ذكريات ولديها ويُهاجمها الشوق لهما بلا رحمة، وقيل أنها هجرت ذلك البيت بعد سنتين من الحادث زاعمةً أن روحا ولديها تطوفان في البيت مع الجن والعفاريت الشريرة!، وإنها ترى شبحا ولديها أحدهما يركض هارباً ودشداشته ملطخة بالدماء، والأخر يتبعه وبيده سكين المطبخ الطويلة وهي تقطر دماً !.
أما الناس الذين كانوا يعيشون حول بيت (أبو النبگة) فقد راحوا عبر السنوات التي تلت تلك الحادثة يرددون حكايات وشائعات مُفزعة لا يعرف أحد مدى صحتها عن ذلك البيت المسكون، حيث أن أخباراً كهذه هي حديث لذيذ للعامة يتداولوه بشغف ويُنَموه ويُهولوه حتى يُضاهي الخرافة غرابةً وخيالاً.
كان سُكان محلتنا يزعمون أنهم يسمعون أحياناً أنيناً وعويلاً كعواء الذئاب، مُقترناً بضحكات هستيرية خشنة تقشعر لها الأبدان. ويتهامس آخرون عن كون الحجر يرتد الى راميها إذا قُذفت بأتجاه ذلك البيت!، ويُقسم البعض بأغلظ الأيمان أنهم كانوا يسمعون في الليالي الشتائية المُمطرة أصواتَ إحتفالاتٍ غريبة تُصاحبها أصوات دفوف وصنوج ودمامات وغناء بألحان ناشزة مُزعجة حادة ولغة غريبة مبهمة تتخللها صرخاتٌ مكتومة وبكاءٌ هستيري مخيف!.  
كذلك زعم بعض هؤلاء الناس -وجلهم من الأميين- أن شجرة النبق تضاعَفَ حجمها بعد أن إرتوت جذورها من دماء الأخ المذبوح!، وتقول بعض الشائعات أن من كان يأكل من نبق تلك الشجرة كان يصيبه الأسهال وحالة من الغباء لمدة يوم أو أكثر. ولطالما إستغل صبية وأطفال محلتنا تلك الشائعة لصالحهم حين كانوا يزعمون لذويهم أنهم أكلوا من نبق شجرة البيت المسكون، ولهذا أصابهم الغباء الوقتي وسقطوا في الأمتحان المدرسي لذلك الأسبوع أو الشهر!، كان الأهل يبتلعون كذبة صِغارهم على مضض، ربما لأنهم مَن خلقها ورَوَجَها، فيعنفوا أولادهم وينهوهم عن أكل نبق تلك الشجرة الملعونة وكأنها شجرة آدم وحواء في الجنة التوراتية!.
أما أنا فبعد سقوطي في إمتحان درس الحساب كالعادة، حملتُ كذبة الغباء (النبقي) وبتردد الى والدي الذي كنتُ أعرف أنه (مفتح باللبن)، أو كما كانت تقول عنهُ والدتي (راضع وية الجني) ويعرف (الشط منو حفرة .. والشيطان منو بِزَرَة)، وكان نصيبي علقة (بسطة) عراقية أطارت من رأسي كل عفاريت الكذب وحذلقات الجن والعفاريت!.
تمر الأيام بلا أحداث كبيرة عبر تأريخ محلتنا، وذات يوم تنتشر في  المحلة مفرزة شرطة كانت تُلاحق أحد المُتهمين بالشيوعية يومذاك!، كان إسمه (حمزة) وكان من سكنة المنطقة، ويقول شرطة المفرزة أن إخبارية وصلتهم تُفيد أن حمزة كان يسب الحكومة والملك ونوري السعيد أثناء تردده على مقهى الطرف!.وهي نفس التهمة الكلاسيكية التي إستعملتها كل الحكومات اللاحقة ولحد اليوم.
كان حمزة رجلاً أمياً من عامة الشعب، من الطبقة الفقيرة المسحوقة التي ترسبت عبر أجيال متلاحقة في قعر السلم الإجتماعي للمجتمع العراقي. كان رجلاً متواضع المدارك وعلى قسطٍ كبير من الغفلة، وكل ما كان يفهمه عن الشيوعية هو إنها نظام سيأخذ أموال الأغنياء ليوزعها على الفقراء بالتساوي!!، وأن مقام الوزير سيكون كمقام الفراش!، وكان في أثناء الليل يقوم بألصاق المناشير -المُحَرِضة على الثورة- فوق جدران البيوت وأعمدة الكهرباء، وكان يقول لأطفال المنطقة مُباهياً .. بأنه سيكون مُختار محلتنا بعد الثورة!.
وهكذا راحت شرطة المفرزة تطارد وتلاحق حمزة من شارع لشارع ومن منعطف لأخر الى أن حاصروه وشددوا عيه الكماشة أمام البيت المسكون. وكما تقول خطبة طارق بن زياد قبل معركة “فتح الأندلس”: (البحر من ورائكم والعدو من أمامكم)، وعلى هذه الصورة وجد حمزة نفسه في موقفٍ لا يُحسد عليه أبداً، فأمامه شرطة نوري السعيد وبأيديهم أحدث الصوندات والتواثي، والكلبجات تتلامع في أحزمتهم، وخلفه كان يجثم بهدوءٍ وعفرتة (بيت أبو النبگة) بنوافذه المكسرة الزجاج وشكله الكئيب الغامض ونبقته العملاقة وبابه الداخلي الخشبي المفتوح على مصراعيه كفك عفريت يتربص الطريدة!.
فكَرَ حمزة للحظات، وأظنه فضل عفاريت الجن على عفاريت الحكومة، فلم يكن منهُ إلا أن عبر سور الحديقة الواطئ ودلف بلا أدنى تردد الى عمق ظلمات البيت المسكون!.
أسقط في يد مفرزة الشرطة!!!. لم يصدقوا أن حمزة من الجرأة والشجاعة أو حتى الغباء لدرجة أن يُفضل لقاء العفاريت على لقائهم!. وقفوا أمام البيت المسكون وعلامة إستفهامٍ كبيرة ترتسم على وجوههم الحائرة!، لِذا بقوا واقفين كالمسطولين وهم ينتظرون قرار وأوامر مفوض الشرطة الذي وصل بسيارة جيب وترجل منها وعصاه الغليظة في يده. كان يتضح من شكله أنه أبن ذوات، قصير القامة، يميل الى البدانة، أحمر الوجه، مُنتفخ الأوداج، وكرشه الصغير يتهدل بكسل فوق نطاقِهِ الأسود اللماع العريض.

أكثر ما كان يثير الضحك في ذلك الرجل هو صوته الأنثوي الرفيع النبرة، ولهجته المصلاوية، وصلعته اللماعة التي تجلس على مقدمتها وفوق الجبهة بالذات خصلة شعر مشعثة حمراء.
كان الناس قد تجمهروا في الشارع خلال دقائق!، فهذا حدث خطير وكبير ومثير في تأريخ محلتنا، وحتى عرس الملك لن يكون أكثر إثارةٍ منه!.
تقاطر الناس من كل حدب وصوب، وتحول الشارع الفرعي الهادئ خلال وقتٍ قياسيٍ قصير الى مهرجان محلي!، فهذا بائع الكبة وقد نفدت بضاعته بسرعة فهرول على عجل ليأتي بأحتياطي الكبة المخزون في بيته، وهذا بائع اللبلبي (الحمص) يقف بفرح قرب “عربانتهِ” الخشبية المزوقة بألأمثال الشعبية والتعاويذ الدينية (محروسة سبع الدجيل) وهو ينادي بأعلى صوته (يلبلبي ويلبلوب .. وبعانة ترس لجيوب)، وهنا بائع العمبة (أم الشريس) والصمون، وهناك بائع السميط، وهذا أبو الفشافيش وقد عسكر بمنقلته وأدواته فوق رصيف الشارع الفرعي ومهفته تتسارع يميناً ويساراً فوق جمرات فحم المنقلة التي تشبه جمرات عيون العفاريت التي كانت ترافق ليل طفولتنا،وهذا بائع الشلغم الذي يُسارع خطواتهِ وهو يتذمر لأن بائع اللبلبي قد سبقه بمدة نصف ساعة على الأقل وهذه خسارة، بيروح صوته يصدح عالياً: (مايع وطيب هل شلغم .. دُوة للكحة والبلغم)!!، وها هم شباب المحلة ومُراهقيها وقد إرتدوا أجمل دشاديشهم وعيونهم تحط بشراهة ونهم فوق أجساد شابات المحلة وهن يتمايلن ويتغنجن بدلال بصحبة أمهاتهن.

 أما أنا وأطفال المحلة فقد أحضرنا من بيوتنا دفوف ودنابك ومقارع وتنكات وقدور وأواني نحاسية مختلفة الأحجام والأنواع ورحنا نقرع عليها ونغني ونصفق ونرقص ونتقافز كالسعادين على لحن الإهزوجة الشعبية الشهيرة التي رحنا نكررها بلا ملل:
حمزة كُمز كَمزة ضرب طوب كِتل خمسة
حمزة كُمز كَمزة ضرب طوب كِتل خمسة
وكان رجال الشرطة الأربعة يحاولون إسكاتنا كي يصغوا لأوامر مفوض الشرطة الذي راح وبصوته الأنثوي المُضحك ولهجته المصلاوية يأمرهم بالدخول الى البيت المسكون وإلقاء القبض على حمزة صارخاً بهم:
- إدخلوا علينو، إبسطونو .. وقتلونو .. وِفْجِخونو .. وجغجغونو .. وبهذلونو .. وِنعَلو إمو وأبونو!.
إجتمع رجال الشرطة فيما بينهم، كانوا مرتبكين وقد تطيروا هلعاً وخوفاً من فكرة إقتحام بيت أبو النبكة!. وبسرعة قرروا الأحجام عن الدخول الى البيت المسكون، تقدم العريف (مهاوش) من مفوض الشرطة وأبلغه خوف ورفض رفاقه للخطة المرسومة!. ضاق مفوض الشرطة برفضهم ذرعاً، فلجأ الى اللين ووعد كل واحد منهم مبلغ 100 فلس إذا هم نفذوا أوامره. ومرة أخرى يجتمع العريف مهاوش مع رجاله المفزوعين ويتقدم بعدها من مفوض الشرطة ليخبره بأن كل شرطي سيتبرع للمفوض بمبلغ 150 فلساً إذا هو تقدمهم في عملية الأقتحام!.
تثور ثائرة مفوض الشرطة الذي راح يكيل لرجاله كل أنواع الإهانة وبلهجة (القيق والقاق) المصلاوية وبصوته الأنثوي الذي أثار ضحك الناس حول مسرح الأحداث
ومرةً أخرى يحتل المشهد أطفال المحلة وهم يترنمون بأهزوجتهم الشعبية التي اضاف لها أحد شيوخ المحلة مقطعاً جديداً يليق بالمناسبة فصارت:
حمزة كمز كمزة ..... ضرب طوب كِتل خمسة
حمزة إنكلب جني ..... طارت روحة وبقة رمسة.
وأخيراً يحل المساء، ويقرر مفوض الشرطة إنقاذاً لماء وجهه محاصرة البيت المسكون الى صباح اليوم التالي!، عسى أن يعض الجوع معدة حمزة ويخرج مستسلماً، لكنه لم يكن يدري بأن (ساندويجة فلافل بالعمبة وصراحية ماء) كان قد تم تهريبها الى حمزة قبل حلول الظلام!.
مر الليل ببطئ شديد لأننا لم نستطع النوم، كنا فوق سطوح بيوتنا نتمدد على أسرتنا تارة، ونراقب مفوض الشرطة وأزلامه يفترشون بطانياتهم فوق رصيف الشارع تارةً أخرى، بينما راح حمزة يعكر صَفوَ وهدوء الليل وهو ينهق كالحمار مرة، ويُمعمع كالخراف مرةً أخرى ويصرخ ويعفط ويولول بأصوات مُضحكة محاولاً إرعاب وتخويف رجال الشرطة طمعاً في إحتمال هربهم خوفاً.
قرابة الفجر يئِسَ حمزة من محاولاته البائسة لتفريق الحصار حول البيت المسكون، وإلتجأ الى آخر سهمٍ في جعبته فراح يغني ويسب الحكومة ربما إيماناً منه بالمثل الشعبي (لمبلل ميخاف من المطر)، وراح صوته يعلو من باطن البيت المسكون ليشق سكون الليل:
أنعل أبو الحكومة ..... آمين
وبجاه الله وسماعين ..... آمين
موت الكرف شرطتنة ..... آمين
نكْسَوا والله عُكلنة ..... آمين
بعد أن كرر حمزة تلك الكلمات عدة مرات، راح الناس من سكنة البيوت المجاورة ينهضون من أسرتهم الصيفية فوق السطوح ويطلوا بدشاديشهم على المشهد، وشيئاً فشيئاً بدأوا صِغاراً وكباراً يشاركون حمزة غنائه ولعنته وتحديه للحكومة وشرطتها، وراحت أصواتهم تنتقل مع نسيم الليل العذب المشبع بالرطوبة والندى، لتصل الى شوارع مجاورة ومحلات قريبة:
أنعل أبو الحكومة ..... آمين
وبجاه الله وسماعين ..... آمين
موت الكرف شرطتنة ..... آمين
نكسوا والله عُكلنة ..... آمين
لا أعرف ماذا كان شعور حمزة في تلك اللحظات وهو يسمع أبناء محلته ووطنه يساندوه ويتعاطفون معه وهو في موقفه المُحرِج داخل ظلمات البيت المسكون!!، لكنني أتصوره اليوم ومن خلال تلك اللحظات الحرجة العصيبة من حياته، مستعداً لمواجهة كل سرايا شرطة الحكومة وكل جحافل الجن والعفاريت والسعالي والغيلان، وكم هو شيء كبير ولا يُقدر بثمن حين يعرف الإنسان في مواقف حساسة وخطيرة بأنه ليس لوحده، حتى لو كان ذلك الإنسان حمزة .. ذلك الرجل المتواضع المسكين.  
ضاع الصوت الأنثوي لمفوض الشرطة بين أصوات غناء الناس وهو يصرخ طالباً منهم أن يكفوا عن سب الحكومة والشرطة ويتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور. وعندما يئس من ذلك عمد الى مسدسه الكبير وأطلق في الهواء عدة عياراتٍ نارية أخرست كل الأصوات التي كانت قبل لحظات تُساند حمزة وتشترك معه في الغناء، وبقدرة قادر إختفت كل الرؤوس المُطلة من فوق سطوح المنازل بسرعة عجيبة وقف على أثرها مفوض الشرطة بزهو وهو يتلمظ إنتصاره الميمون بعد نهارٍ حاشدٍ بالخيبات. زَمَّ شفتيهِ وأعاد مسدسه الى قرابه وهو يجيل نظره فوق السطوح يميناً ويساراً بتحدي، وراح يصرخ وبكل ما أسعفه صوته الأنثوي وبحدة وعنجهية مُعززاً إنتصاره الباهت:
- كليب ولاد الكليب ... ينعل أبوكِم وبو الخَلَفكِم، مَخينيث.
لم يتجرأ على إجابته أحد، إلا أن رقية صغيرة (مَكِية) هوت من حيث لا يدري وإستقرت مهشمة على أرضية الشارع قرب قدميه!. بعدها ساد الشارع صمتٌ عميق شامل لم يكن يقطعه غير نقيق الضفادع بين الحين والأخر، ولم يُسمع صوتٌ آخر الى أن إنبلج الصباح.
تجمهر الناس -مُغبشين- على جهتي الشارع وحول سياج البيت المسكون قبل أن تشرق الشمس بقليل، وكأن سوق عكاظ قد تحول الى شارعنا الفرعي!. كان جميع الباعة المتجولين يتوقعون يوماً دسماً وكما يقول المثل (مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ).
أما مفوض الشرطة فكان يحاول وبكل أدب الطلب من أصحاب البيوت المُجاورة السماح له بأستعمال مرافقهم الصحية لقضاء حاجته الصباحية، إلا أنهم رفضوا طلبه بتعمد وبحجة وجود نساء في بيوتهم، مما إضطره وعلى عجل للذهاب الى أقرب جامع لقضاء حاجته، بينما البعض يقهقه تشفياً.
إنتصف النهار ومفوض الشرطة لا يزال يفكر بطريقة يُخرج بها حمزة من بيت (أبو النبكة). وفجأةً … توقفت سيارة شرطة ثانية وترجل منها ضابط شرطة وقور الملامح أبيض الشعر متجهم الوجه وعلى أكتاف بدلته الكاكية اللون تنام عدة نجمات لماعة. كان برفقته ثلاثة شرطة كبار الأجسام مكفهري الوجوه تنم ملامحهم عن شرورٍ  وسوء نية.
تقدم الضابط الأنيق عدة خطوات وهو يضع يده اليسرى خلف ظهره بينما يتدلى من يده اليمنى سوط قصير رفيع مصنوع من الجلد الأسود اللماع، هرع مفوض الشرطة وازلامه مرتبكين ووقفوا أمام الضابط وقدموا له التحية العسكرية بحزم وقوة وبساطيلهم الثقيلة تدق أرضية الشارع بشكل مبالغ بهِ وهم يصرخون: سيدي.
سألهم الضابط بهدوء وعنجهية واضحة عن الحادث ككل، وراح مفوض الشرطة يشرح (بالقيق والقاق) ما حدث يوم البارحة، وأوضح بأن شرطته خافوا من إقتحام البيت المسكون خاصةً لأن الوقت كان ليلاً. إغتاظ ضابط الشرطة وصرخ بأعلى صوته: ولك لو جايبين حَساوي (بغل) هم جان دبرهة أحسن منك، ولك يا جن يا عفاريت؟، عرب وين وطنبورة وين يا كِديش إبن الكديش؟.  
راح الناس يضحكون ويقهقهون بتعمد واضح تشمتاً بمفوض الشرطة، وعندما إلتفت الضابط نحوهم بغضب سكتوا وتراجعوا عدة خطوات إلى الخلف.
عاد الضابط الى هدوئه وراح يتكلم بصوتٍ عالي أظن أراد إيصاله الى كل الناس وإلى حمزة بالذات. أمر أتباعه أن يُنزلوا عدة صفائح من النفط الأبيض من سيارته ويرشوها فوق جدران البيت المسكون وحديقته.
بعد دقائق إنتهوا من رش المكان بالنفط الأبيض، تقدم الضابط من سياج الحديقة الواطيء وراح يخاطب حمزة بصوتٍ عالِ:
- إسمع لك، كلب، تطلع بالعيني والأغاتي تطلع، ما تطلع راح إنطلعك مشوي مثل التِكة والكباب، عندك خمس دقايق .. وقد أُعذِرَ من أنذَر، وإذا ما طِلَعِت ما راح يتلحكلك لا طنطل ولا سعلوة، ولا لينين ولا ستالين.
إنتهت فترة الخمسة دقائق ولم يخرج حمزة، تقدم بعدها الضابط وبيده حزمة يابسة صغيرة من أغصان الأشجار راح يُضرم فيها النار من ولاعته، ثم دخل الى حديقة البيت المسكون بكل بطء وتثاقل.  ساد بين الناس صمتٌ عميق لم نكن نسمع في خلاله غير صوت طقطقة إحتراق حزمة الأغصان اليابسة بيد الضابط ، وأصوات إبتلاع كل واحدٍ منا لريقه. لم يكن أحدٌ من كل الناس المتجمهرين يُصدق بأن الضابط سيُنفذ وعيده!.  
رفع الضابط يده بالأغصان المحترقة عالياً وبدأ يعد بصوته الجهوري: واحد ... إثنين ...، وقبل أن ينطق بالرقم الثالث ظهر حمزة على عتبة الباب الداخلي للبيت المسكون بثبات ورأسه مرفوع الى الأعلى بشموخ مبالغ فيه وبطريقة مسرحية أجبرت بعض الناس المحتشدين الى إفلات ضحكات قصيرة حاولوا أن يكتموها بسبب جدية الموقف وخطورته!.  
تعجب أغلب الذين يعرفون حمزة، حيث لم تكن هذه الأمور من صفات شخصيته، وخاصةً لأنه يقف أمام واحد من عتوية الحكومة الملكية يومذاك. مشى حمزة بكل هدوء ووقار عبر حديقة البيت المسكون، مجتازاً ضابط الشرطة الذي إرتسمت على وجهه إبتسامة ساخرة. وقف حمزة على رصيف الشارع، وأدار وجهه لعدة جهات متفحصاً جموع الناس الذين إبتلع الصمت ألسنتهم، وفجأةً صرخ بأعلى صوته: يحيا الوطن !.
وكأن نبياً حل بين جموع الناس الذين راحوا يصفقون ويهتفون ويهزجون ويتقافزون طرباً لهذه الشجاعة وهذا التحدي، بينما النساء يهلهلن ويصفقن ويلقين أشعاراً شعبية من بقايا هوسات ثورة العشرين!. وفجأةً ينهال مفوض الشرطة بعصاه الغليظة ضرباً عشوائياً على رأس وجسد حمزة، ويحذو حذوه عدة أنفار من الشرطة ، حيث القوا المسكين أرضاً وأشبعوه ضرباً ورفساً وتكديماً وبكل قسوة لم يكن لهم بها حاجة!.
ثارت ثائرة الناس وجن جنونهم وإشتبكوا مع رجال الشرطة بالأيدي، وراحت الحجارة تنهال فوق رؤوس الجميع من كل الجهات، وعلت أصوات الناس بكل أنواع الشتائم وأقذعها، وبدأت بعض النسوة يهزجن بغضب: الخاين شعبة نكص إيدة ..... الخاين شعبة نكص إيدة.
مرت دقائق قصيرة ساد فيها الهرج والمرج، تحركت سيارة الجيب مبتعدةً عن الجموع، كان يعتليها أحد العرفاء الذي أزاح قماشاً كاكياً من فوق مدفع رشاش وراح يُطلق خرطوشاً من العيارات النارية في الهواء، أصاب الهلع الشديد الناس المدنيين، وكان صراخهم يصم الأذان ويُثير الذعر، وخلال بضعة ثواني تبخروا كلهم ولم يبق في الشارع غير الشرطة وضابطهم وحمزة الممدد فوق أرضية الشارع وهو يسبح بدمه غائباً عن وعيه!، وعلى بعد أقدام منهم .. كان البيت المسكون يجثم بهدوء في مكانه المعهود تظلله شجرة النبق العملاقة، يحيطه صمتٌ مُطبق. حتى الجن والعفاريت ربما هالهم ما شاهدوه في ذلك اليوم العصيب!.
وتمر الأيام .......
تم الإفراج عن حمزة بعد إندلاع ثورة الرابع عشر من تموز. يقول سُكان منطقة ال (سبع قصور) التي تحولنا منها قبل الثورة بأن حمزة عاد الى محلته، وكان أقاربه يأخذوه دائماً ليجلس في مقهى المحلة لساعاتٍ طويلة، صامتاً هادئاً كئيباً لا يُكلم أحداً ويلوذ بصمتٍ أبدي بينما عيناه تحملقان أبداً في أفقٍ بعيدٍ غير مرئي، وكأنه شبحٌ أو روحٌ تجلس بين الناس من دون حياة!، وفوق جسده الضئيل كانت تنام بضعة ندوبٍ وأخاديد لجروحٍ قديمة!.
يقول بعض الناس أنه فقد عقله في تلك الليلة المرعبة الرهيبة التي قضاها داخل البيت المسكون، ويقول آخرون أنه فقد إتصاله بالحاضر عبر كل عذابات السجون، وكما تقول الأغنية القديمة:
نوبة يكولون إنصدع ...... نوبة يكولون إنجن
نوبة يكولون صابِتة ...... بالراس جنية.

             *******************
أما اليوم ... فيقول القادمون من العراق الى مهاجرنا في كل أنحاء العالم بأنه لم تعد هناك بيوتٌ مسكونة بعد أن صَعَدَت أسعار الأيجارات والعقارات حد الذروة. وهكذا نجد ان الجن والعفاريت والسعالي والطناطل وأرواح الموتى لم تكن إلا خيالات وسخافات أوجدها جهل الناس عبر عصور الجهل والغباء، وإن الجن والعفاريت الحقيقيين هم نحنُ البشر ولا أحد غيرنا!، فعندما يعبر أي كائن بشري حدود إنسانيته يتحول الى عالم الجن والعفاريت داخل النفس البشرية التي تميل للشر أكثر من ميلها للخير!.
اليوم وبعد مرور أكثر من 60 سنة على ذلك الحادث المُضحك المُبكي، أتذكر كيف كُنا نقف متأملين غموض ذلك البيت المسكون، بيت (أبو النبكة)، الذي كان واحداً من بيوت شارعنا وحارتنا، وأتذكر كم من المرات سال لُعابنا لنبق شجرته العملاقة.
كُنا نقف صغاراً خارج أسوار البيت المسكون، لا نتجرأ على دخول حديقته وإعتلاء نبقتهِ، كُنا نتصور أن فيالق الجن والعفاريت تسرح وتمرح في غرفه وأروقته على هواها!.
واليوم نقف كِباراً خارج أسوار وحدود الوطن المهجورالنازف من كل موضعٍ في جسدهِ، نحمل جنية حبه التي أقفلنا عليها رؤوسنا، ونراه ... تعيثُ فيالق الجن والعفاريت في مدنه وقراه، وتُقدَمُ القرابين البشرية في طقوسٍ وثنية على مذابح آلهته الغبية التي لم تبكِ من أجلنا ولو لمرة واحدة.

 أه يا أنتَ ... يا وطني ...
يا جذري … يا عِرقي … يا عَصبي
يا اُمي ....
يا جرحي الأزلي ....
يا ألمي .....
يا شجرةَ النبق العملاقة ....
أيها الوطن المسكونُ بالشر ....
نحنُ مسكونون بكَ الى الأبد.

المجدُ للإنسان.

طلعت ميشو. كاتب وناقد عراقي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1203 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع