ليلى الجزائرية فنانة من زمن الأبيض والأسود الحلقة الثانية

  

     ليلي الجزائرية  فنانة من زمن الأبيض والأسود ـ ح2

         

من ولاية شلف إلى العاصمة باريس دروس أولى في تعلم لغة الجسد...

                        

   

  

نوافذ:

**مع "عزيز الشاذلي" وقعت أول عقد عمل جرى بمقتضاه الاتفاق على أداء ألوان من الرقص الشرقي خلال فترة ليلية محددة البداية والنهاية
**جسدي طاوعني في هذا الامتحان العسير ومنحني ثقة في مواصلة المغامرة في فن لم أكن أتقنه البثة، ولا هو مندرج في حياتي
**فنان عالمي:« أنت لن ينفعك هذا الرقص، لأنك بدأت مسارك في سن متأخر بعض الشيء.. لكن سأساعدك على تجاوز هذه الحواجز بعد أن أرى  كيف ستتطور الأمور برفقتك…»


                                                  

                       

في باريس، العاصمة الفرنسية التي كانت منبع فكر الأنوار، انتهى بي السفر.. وبأحد أحيائها الشهيرة كانت الإقامة. بلاد تبهرك في كل شيء وهي الخارجة من حرب عالمية ثانية بعد أن اجتاحها النازيون. بدأت أستأنس بالمكان وبأهله، وأربط علاقات وصداقات لمداواة حرقة الغربة. أخذت في الاشتغال وتقديم العروض المسرحية... لا أخفيك، أيها القارئ العزيز، أن ذلك لم يكن بنفس الحماس الذي كان عليه الأمر في وطني الأم الجزائر. امتلكني شيء من القلق والتوتر إلى درجة أني قررت رفع الراية البيضاء والاستسلام أمام نار الغربة. طلبت من محتضني الفرنسي السماح لي بالعودة من حيث أتيت. هذا الرجل، ذو الحكمة والتروي، حاول أن يقلل من مشاعر الضيق التي بدأت تسكن دواخلي يوما بعد يوم. كان كل كلامه يصب في ضرورة التحلي بمزيد من الصبر، وأن البدايات تكون دائما متعثرة ومرعبة، والمستقبل أبوابه مفتوحة أمام نجمة صاعدة مثلي…إلى غير ذلك من العبارات التي تشحن فيك عزيمة البقاء هناك والاستمرار في نسج خيوط النجومية. حوار طويل جرى بيني وبين محتضني الفرنسي حتى أنني طلبت منه أن أغير نوعا ما اتجاهي الفني؛ أي الانتقال من عالم التمثيل إلى عالم الرقص…!!.

      

ربما جاء هذا الانقلاب في مساري الفني بفعل أن الفرنسيين كانوا عاشقين حتى النخاع لفن التمثيل والمسرح وخاصة فن الكوميديا الذي لهم فيه باع طويل.. لا أدري على الإطلاق ما الذي حدث حتى أني طلبت ذلك ممن قادني إلى عاصمة الأنوار.  غالبا ما أفسر هذا الذي حدث بالعودة إلى الجزائر مرة ثانية، وإلى السنوات الأولى التي كنت أرافق فيها جدتي إلى المسرح . كانت هناك سيدة تعتبر من الوجوه الوطنية في التمثيل والرقص .. شهرتها جابت كل ولايات الجزائر.. في رصيدها أفلام عديدة؛  إنها الممثلة والراقصة "كلثوم". حدث أن التقيتها ذات يوم من أربعينيات القرن الماضي بالمسرح بمناسبة نهاية السنة الدراسية.. طُلب منا أن نؤدي[ذكورا وإناثا]، أمام عائلاتنا كل ما نعرفه من ألوان فن التمثيل. في اللحظة التي كنت فيها رفقة شاب من جيلي، من أجل أداء محاورة خاصة بعرض مسرحي، أخذتني السيدة "كلثوم" وطلبت مني أن أؤدي أمام عينيها رقصة. قلت لها:« كيف لي بذلك وأنا لا أعرف الرقص.. ولا أعرف أي شيء عن عالمه.. حتى رقصة"البوغي" [Buggy dance]، لم أكن أحسن ترجمتها إلى حركات جسدية». لم تأخذ كلثوم بجوابي، وأصرت على أن أبدل أقصى ما يمكن من المجهودات. فجأة وجدت جسدي على خشبة المسرح.. الخجل يسيطر علي.. جبيني يتصبب عرقا.. التفت يمينا ويسارا، فالتقط بصري ممثلا واقفا على نفس الخشبة. أخذ عازف البيانو يعزف مقطعا من موسيقى الجاز.. اقترب مني الممثل وضمني إليه بطريقة تنم عن كونه عارفا بأبجديات الرقص. جسدانا دخلا في انسجام وتفاهم، كما لو أننا ثنائي يرقص من زمان.. أنقذني هذا الممثل من ورطة السيدة "كلثوم".. ولم أعرف كيف أن جسدي طاوعني في هذا الامتحان العسير ومنحني ثقة في مواصلة المغامرة في فن لم أكن أتقنه البثة، ولا هو مندرج في حياتي. لو فضلتموني بين الرقص والتمثيل، لاخترت الثاني ورميت الأول في بحر لا شط له. إن الذي جرى فوق ذلك اليوم ألقى بي في ركام من الأسئلة الداخلية والسيناريوهات، وكان أقواها هذه الخلاصة: لقد نسجت لي "كلثوم" فخاولن أنسى لها ذلك».. ثم أعلنت في حوار مع نفسي ممزوج بنبرات التحدي والمقاومة:« سأكون لك بالمرصاد.. و سأرقص أحسن منك وفوق أعتى خشبات الرقص»... كان طلبي بالعودة إلى الجزائر عبارة  عن كلام فرضته الأيام الأولى للغربة وصعوبة التأقلم مع الحياة الجديدة، خاصة أني قادمة من بلد عربي إسلامي ومن منطقة جزائرية محافظة جدا، ومن أسرة "على قد الحال"..

  

في باريس الأربعينيات، التحقت بأحد المعاهد الفرنسية الخاصة بتلقين دروس في الرقص الكلاسيكي. وللمرة الأولى التي أحمد فيها الله عز وجل على أن البداية لم تكن مليئة بالحواجز والأشواك.. دعم منقطع النظير صادفني داخل هذا المعهد المتخصص.. فنانون من مختلف مشاربهم، أخذوا بيدي وكأنهم أحسوا أن طاقة ما في جسدي يجب أن تستخرج بالطريقة المثلى والسليمة. كنت أسمع من بعضهم:« إذا استطعت أن تتعلمي الرقص الكلاسيكي، فإنك ستتمكنين من تكوين جسدك حتى يصبح قابلا لممارسة أي نوع من أنواع فن الرقص»… درس مهم وأساسي بالنسبة لموهبة صغيرة في عالم لسيت كل طرقه مفروشة بالورود.  في الأوبرا الفرنسية، أخذت أولى دروسي في فن الرقص. هناك التقيت بعلامة بارزة تحمل اسم"لو ماركي دوكويباس". أستاذ لفن الرقص بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. موسوعة في علم تحريك أعضاء الجسد.. خلفه رصيد فني طويل.. عندما حظيت بشرف ملاقاته وأنا القادمة من  جنوب المتوسط، اقترب مني وقال لي جملة تحمل بين أصوات حروفها حكمة فنان عالمي:« أنت لن ينفعك هذا الرقص، لأنك بدأت مسارك في سن متأخر بعض الشيء.. لكن سأساعدك على تجاوز هذه الحواجز بعد أن أرى  كيف ستتطور الأمور برفقتك…». أما الشخصية الثالثة التي صادفتها في بداية إقامتي بالعاصمة الفرنسية، فتدعى "ليلى بارشيديرا"..مسلمة من أصل جزائري.. وهي من أوائل الراقصات المسلمات بفرنسا. نصيحتها لي كانت هي:« تعرفين يا ليلى، إن أحسن شيء بالنسبة إليك هو أن تتعلمي الرقص الشرقي». لم أتمالك نفسي فأجبتها:« أنا لا أعرف ذلك، وهذا من أسباب مغادرتي للجزائر والإقامة بفرنسا». أجابتني بكثير من الاقتضاب:«الأمر بسيط جدا».

 

لم يكن أمامي سوى الانتظار حتى يأتيني مفتاح هذا"الأمر البسيط"   الذي تخبئه لي السيدة "ليلى بارشيديرا". علمت أن الراقصة الجزائرية قد اتصلت بزميلة لها اسمها "بديعة"[جزائرية الجنسية وراقصة قبايلية]، تدير ملهى بباريس. هذا الفضاء يخصص كل ليلة لسهرات موسيقية وغنائية ويكون فيها للرقص الشرقي نصيب، بمشاركة وجوه لها تجربة طويلة في هذا المجال الفني.  فكرت مع نفسي، كما هي عادتي دائما، وقلت:« لماذا لا أقبل مقترح ليلى وأذهب إلى هذا الملهى من أجل دروس أولى في الرقص الشرقي؟».  رويدا رويدا، بدأت في عشق الرقص الشرقي، وأخذت أقترب منه مع مرور الأيام وكثرة التداريب.. جسدي ساعدني كثيرا لأنه انصاع لإيقاعات وحركات هذا الفن الجسدي.. أنا اليوم أنخرط في عالم فني جديد و سأمارسه في بلد ليس منشأه.  لم تكن رقصاتي الأولى سيئة إلى درجة تثير الاشمئزاز و التهكم.. حركاتي تعبر فعلا عن أني شابة في بداية الطريق.. أول فضاء اشتغلت به كان عبارة عن ملهى جزائري  في ملكية شخص يدعى "الشرادي" . واصلت بديعة تلقيني دروسا إضافية مع ضرورة الاعتماد على نفسي في كثير من الأحيان بغية التجديد في بعض الحركات والإيقاعات. اشتد عودي وانطلقت في وشم اسمي في كل مكان أرقص فيه، وأتلقى من زبنائه أو جمهوره التشجيع تلو التشجيع. قادتني قدماي إلى فضاء ثان. لم يكن ملهى بقدر ما كان مدرسة موسيقية تحمل اسم "الجزاير".. مالكه مواطن جزائري اسمه" عزيز الشاذلي ".. صحيح أن الخدمات التي كان يقدمها الملهى تدخل ضمن خدمات فضاء راق، لكن الموسيقى والغناء والرقص شكلوا ثوابت أساسية ومحورية في تنشيطه. اختار له صاحبه اسم  "الجزاير" دلالة عن أصل بدله الجزائر. مع "عزيز الشاذلي" وقعت أول عقد عمل جرى بمقتضاه الاتفاق على أداء ألوان من الرقص الشرقي خلال فترة ليلية محددة البداية والنهاية. وبموزاة ذلك، سمح لي بمواصلة تعلم الرقص الكلاسيكي.

                

للراغبين بالأطلاع على الحلقة الأولى.. النقر على الرابط أدناه:

http://www.algardenia.com/ayamwathekreat/7584-2013-12-02-12-42-05.html

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

739 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع