ليلى الجزائرية فنانة من زمن الأبيض والأسود/الحلقة الأولى
بداية البدايات
نوافذ:
** قضيت بالمسرح الجزائري سنوات عديدة، وأنا ممثلة صغيرة السن تكتب سيرتها الفنية في عالم لم يكن متاحا أمام أبناء وبنات جيلي
** والدتي اسمها "نادية بوكطاية".. جزائرية الأصل والمنشأ.. لم تكن امرأة استثنائية، ولكنها صورة طبق الأصل للمرأة الجزائرية التي جمعت بين كل صفات الحشمة والوقار والتواضع والتضحية
**النزعة القبلية المتشددة كادت أن تعصف بي وبحياتي يوم قررت عائلتي تزويجي من إبن عمي وسني لا يتجاوز الثالثة عشر(!!)
ليس من السهل أن تبقى الذاكرة محتفظة بكثير من التفاصيل الدقيقة لحياة كانت مليئة بالأحداث والوقائع.. ثمة أشياء في غاية من الأهمية وتستحق أن تحكى لأنها ستكون بعد ذلك شهادة تاريخية عن مرحلة حاسمة من تاريخ السينما والموسيقى العربيتين..
ثمة أشياء أخرى تافهة يمكن للرقيب الذاتي أن يحذفها أو يحتفظ بها للاستئناس ليس إلا.. ليست ذاكرتي قوية جدا حتى تأتيك، أيها القارئ العزيز، بتفاصيل ثمانية عقود من الحياة بآلامها وآمالها.. كما أن المجال المخصص لرواية سيرتي لا يسمح بذلك.. هذه السيدة التي قررت اليوم أن تأخذك معها، أيها القارئ العزيز، وتسافر بك إلى أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي...
اسمها: ليلى الجزائرية.. ربما أنت واحد ممن سمع بي.. أو قرأ عني.. أو شاهدني على الشاشة الكبيرة.. أيام كان للأبيض والأسود زمن فني جميل. وكما قال الراحل عبد الحليم حافظ في رائعته:« لو حكينا..نبتدي منين الحكاية؟»...
أبدأ الحكاية معك من بداية البدايات؛ يوم فتحت عيني وسط أسرة من الشرفاء الجزائريين. كانت ولادتي ذات يوم من سنة 1930 بولاية "شلف" التي تقع غرب الجزائر وعلى بعد 200 كلم من الجزائر العاصمة؛ منطقة زراعية بامتياز ومنطقة متوسطية لأن شمالها يحده البحر الأبيض المتوسط. وبخصوص اسم "الشلف" الذي تحمله هذه النقطة الجغرافية من بلادي، يحكى أنها سميت بذلك الاسم نسبة إلى أحد الأودية الذي يمر عبر ترابها، بل هناك من يدعي أن الوادي هو من استمد اسمه من الولاية.[شلف كلمة مشتقة من شليفان أو شيليماث من الفينيقية ومعناها إله فينيقي مختص بالخصوبة والخيرات].
ولعبت هذه الولاية الجزائرية دورا كبيرا في مواجهة الاستعمار الفرنسي نظرا لكونها منطقة عبور بين الوسط والغرب، كما أنها شكلت مأوى لكثير من العائلات الفرنسية.
والدتي اسمها "نادية بوكطاية".. جزائرية الأصل والمنشأ.. لم تكن امرأة استثنائية، ولكنها صورة طبق الأصل للمرأة الجزائرية التي جمعت بين كل صفات الحشمة والوقار والتواضع والتضحية..كانت ترى في زواجها من والدي، صاحب أراضي فلاحية وسليل عائلة ميسورة بعض الشيء، (ترى فيه) الحضن الدافئ الذي يقيها من شرور الحياة وتقلباتها. في الجزائر، كما كان في كثير من المناطق العربية، لم يكن الزواج من خارج القبيلة مسموحا به، وإذا حدث أن وقع العكس، فهي حالة استثنائية فرضتها ظروف خاصة جدا، مثلما حدث في زواج والدتي بوالدي. جدي من أمي [ كان قائدا] لم يستوعب كيف أن ابنته"نادية" خرجت عن أعراف القبيلة ودخلت السجن الذهبي لشاب من قبيلة جزائرية ثانية.. إنها وصمة عار ظلت راسخة على جبين العائلة، ولم تعرف كيف تمحوها: هل بالطلاق أم بالثأر؟ أم بماذا…؟!! لحسن الحظ أن هذا الزواج لم يعمر طويلا ولم يكن سببا في حدوث صراع دموي بين العائلتين. والدي رجل قبلي متشدد بعض الشيء.. كان يفرض على والدتي العودة إلى بلدتها والاستقرار بها. إذا كان الزواج جمع بين والدي و والدتي، فإن النزعة القبلية كانت سبب الطلاق بينهما. إذ بعد سنوات من الزواج، جاء الطلاق ليعلن أخيرا انتصار النزعة القبلية.
و ستشد والدتي الرحال إلى المهجر الإيطالي لتلاقي شقيقاتها هناك.وأتذكر جيدا أن هذه النزعة القبلية المتشددة كادت أن تعصف بي وبحياتي يوم قررت عائلتي تزويجي من إبن عمي وسني لا يتجاوز الثالثة عشر(!!)، مما دفعني إلى الهجرة نحو الجزائر العاصمة والاحتماء بأفراد عائلاتي الذين تقل لديهم نسبة هذه النزعة القبلية. حافظت على الوفاء لوالدتي وكنت أزورها كثيرا مثلما كانت هي الأخرى تزورني من أجل الاطمئنان على أحوالي.. غير أن كثيرا من الأسباب ساهمت في تجميد هذه اللقاءات حتى أن المسافة بيني وبينها ازدادت والهوة اتسعت ولم يعد حبل الوصال مشدودا بيننا. في الجزائر العاصمة ترعرعت، ووسط أجواء الاستعمار الفرنسي كبرت ؛ حظيت بكثير من الرعاية والاهتمام من طرف عائلة والدي، مما ساهم في تقليص بعض أحاسيس ومشاعر فقدان الأم وغيابها عني.في يوم من أيام رمضان الكريم، رافقت جدتي إلى مسرح المدينة لحضور حفلة صغيرة جدا. التقانا مدير المسرح الذي تعرف على جدتي في مناسبة سابقة، وقال لها:« لماذا لا تسمحي لهذه البنت بممارسة المسرح؟». وأنا طفلة تشق طريقها نحو السنوات الأولى من المراهقة، لم يكن المسرح من الفنون التي تستهويني أو تثير في بعض الفضول، ولا أفكر فيها آجلا أم عاجلا. في هذا اللقاء، سمعت من مدير المسرح الجزائري جملة باللغة الفرنسية ما زالت ترن في أدني بعد مضي عدة عقود:« réfléchissez, mademoiselle et me donnerez la réponse dans deux ou trois jours لم أكن أعرف حجم هذه الجملة، ولكن التفكير فيها أخذ مني بعض الوقت. جاء الجواب بالإيجاب وقررت، بعد موافقة العائلة طبعا، أن أنخرط في مملكة "أبي الفنون". وبعد فترات من التكوين والتأطير، وقفت على خشبة المسرح لأول مرة لأداء أول عمل مسرحي كان تحت عنوان"المجرم" خلال أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. مسرحية فتحت أمامي الباب لمواصلة التمثيل، حيث أقمت بأوبرا الجزائر والمسرح الجزائري فترات مهمة جدا. وفي جل المسرحيات التي شاركت فيها، كانت لي أدوار عديدة ومختلفة، مما ساعدني على تكوين رصيد مهم من ثقافة التمثيل واكتساب شخصية قادرة على سبر أغوار أبي الفنون.. لم يعد هناك مجال للخوف من الضوء والظلام وكل مكونات الفعل المسرحي. قضيت بالمسرح الجزائري سنوات عديدة، وأنا ممثلة صغيرة السن تكتب سيرتها الفنية في عالم لم يكن متاحا أمام أبناء وبنات جيلي..هل هي الصدفة؟ .. هل هي جدتي؟.. هل هو مدير المسرح ؟… أسئلة أطرحها الآن وأنا أستعيد أمامك، أيها القارئ العزيز، جزءا من شريط ذكرياتي، وكيف أني عثرت على مفتاح الدخول إلى هذه المملكة العظيمة والراقية والمتجذرة في تاريخ الفنون. بقيت منخرطة في المسرح الجزائري حتى خمسينيات القرن الماضي، ولم يكن مسموحا لي بمغادرة الجزائرالمستعمرة [5يوليو1830- 5 يوليو 1962] إلا بعد تجاوز سن الواحد والعشرين. وفي غمرة هذه البداية الفنية المسرحية، كان للصدفة هذه المرة يد في مصير حياتي. لقد التقيت بشخصية فرنسية كانت تواظب على حضور التظاهرات الفنية وخاصة المسرحية. جرى أن شاهدتني هذه الشخصية على خشبة المسرح أؤدي أحد الأدوار، فأعجبت أيما إعجاب بموهبتي في التمثيل.
قال لي المواطن[الشخصية] الفرنسي:« أنت ممثلة رائعة… لماذا لا تسافرين إلى العاصمة الفرنسية باريس؟». أجبته بكل لباقة:«لا يمكنني السفر إلى عاصمة بلادكم». رد عليه بجواب الواثق من نفسه والمطمئن لوعده:« أستطيع أن أحتضنك وأتكفل بك وبكل شيء يتعلق بسفرك إلى باريس». لم يكن هذا الفرنسي يتلاعب بمشاعري أو عاشقا لي أو ممن يطلق الكلام على عواهنه، وإنما هو "صاحب وعد و كلمة".. مرة أخرى وجدت نفسي في خضم تفكير طويل، لأن كل جواب يحتم علي تحمل مسؤولية عواقبه. السفر إلى فرنسا معناه الهجرة نحو بلد المستعمر.. الابتعاد عن الأسرة.. وعن المدينة.. وعن كل شيء تربطني به صلة… ثم لا أعرف مصيري هناك إن فشلت التجربة (!!!)..أنا شابة في طريقها نحو الحياة و كل شيء يأتني بسرعة، ولا أجد متسعا من الوقت للتفكير في أي مصير أختار... جاء جوابي بقبول الهجرة إلى فرنسا من أجل المسرح ولا شيء آخر غير المسرح.. هناك ربما ستكون بداية البدايات.. عندما أخبرت محتضني الفرنسي بجوابي، وجدته عند وعده فقام بكل الإجراءات التي ستسمح لي بمغادرة الجزائر نحو فرنسا وخاصة العاصمة باريس.
* السكرتير العام للتحرير بجريدة الأحداث المغربية
532 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع