رجل مـن زمـن الثائرين / مذكرات العقيد الركن هادي خماس مدير الأستخبارات العسكرية الأسبق/ الحلقة الأخيرة
تنفيذ الخطّة:
1. سافر العميد عارف عبد الرزاق إلى الموصل ليلة 29/30/حزيران/1966 بسيارة عديله مدير الشرطة حسين المختار الذي كان يقودها ، ووصل الموصل في ضحى 30 حزيران. وفي الساعة الثانية من اليوم المذكور ذهب إلى معسكر القوة الجوية بصحبته كل من الطيار الرائد ممتاز السعدون والطيار النقيب صباح عبد القادر، ومن سوء الطالع وجد أكثر الطيارين الذين يعتمد عليهم مجازين اجازاتهم الشهرية حيث غادروا الموصل إلى بغداد. فاضطر عارف أن يتصل بقاعدة كركوك وطلب من الرائد نعمة الدليمي تنفيذ الواجب والطيران نحو بغداد ثم النزول في مطار معسكر الرشيد وسيجد العقيد طه سيطر عليه وسيزوده بالوقود والعتاد.
2. نفذ نعمة الدليمي الواجب وعند ظهور الطائرات في سماء بغداد انطلقت والأخوان صبحي عبد الحميد، نهاد فخري، رشيد محسن، فاروق صبري، محمد مجيد، احمد الحديثي إلى أبو غريب.
3. سيطرنا على المرسلات في أبو غريب وقطعنا البث عن الإذاعة فأذعت البيان الأول بنفسي ثم أعدته ثانية وأعقبته بالبيان رقم 2.
البيان رقم 2
بناء على ما تقتضيه المصلحة العامة قررنا ما يلي:
يمنع التجوال في جميع أنحاء العراق اعتباراً من إذاعة البيان وحتى إشعار آخر.
البيان رقم 3
بناء على مقتضيات المصلحة العامة قررنا ما يلي:
تغلق جميع المطارات في كافة أنحاء العراق وحتى إشعار آخر وعلى القوات المسلحة والأمن تنفيذ هذا البيان.
البيان رقم 4
أيها الشعب الكريم. أيها الجيش العراقي الباسل – تلازم كافة القطاعات العسكرية معسكراتها ولا تتسلم أوامرها إلا من قبل مجلس قيادة الثورة عدا القطعات الباسلة العاملة في الشمال حيث تنفذ ما يصدر لها من قياداتها حسب الاختصاص والصلاحية ولأغراض الحركات العسكرية فقط.
وقد أخذت برقيات التأييد تنهال على مركز عمليات الثورة وكنت أذيعها تباعا مع إعادة وتكرار البيانات السابقة. وقد اقترح علي العقيد الركن محمد مجيد توجيه النداءات التالية:
النداء الأول
نداء إلى اللواء عبد الرحمن محمد عارف
إننا نناشدكم باسم الوطنية وحقناً للدماء أن تأمروا قوات الحرس الجمهوري بالانصياع لأوامر مجلس قيادة الثورة وهو يحكم باسم الدستور ويحافظ على حياتكم لأن الثورة لا تريد إلا الخير للجميع وما عليكم إلا الذهاب إلى داركم والخلود إلى السكينة.
النداء الثاني
إلى كافة أفراد الحرس الجمهوري
يا أخواننا في السلاح والعقيدة ندعوكم إلى عدم مقاومة قوات الثورة لأنها منكم واليكم وإن ما يقوم به الجيش هو جهد أمتكم وسيسجله التاريخ بأحرف من نور وليست الثورة موجهة ضد الشعب أننا نناشدكم أن تنضموا إلى قوات الثورة حقناً للدماء.
النداء الثالث
أيها الشعب العراقي العظيم أيها الجيش العراقي الباسل والذي شهدت له بطاح العراق وساحات فلسطين بسالته وشجاعته لقد ثار جيشكم أيها الشعب الكريم ملبياً رغباتكم ومنفذاً لطلباتكم وهو ملتزم بسياسة العراق التحررية وسياسة الابتعاد عن الأحلاف وعدم الانحياز وعليه فان مجلس قيادة الثورة يبارك هذا الجيش الذي سيدك صروح الغدر لغد مشرق للعراق.
النداء الرابع
نداء إلى كافة ضباط وجنود لواء الحرس الجمهوري
يا أخواننا في السلاح ندعوكم بعدم مقاومة الثورة لأنها منكم واليكم إننا نناشدكم أن تنضموا إلى قوات الثورة.
وبعد هذا النداء انقطع التيار الكهربائي وحاولنا تشغيل المحولة فوجدناها عاطلة وبهذا انقطع البث الإذاعي وخسرنا نصف المعركة، أما النصف الثاني فستقرأه فيما بعد. أما نظام عبد الرحمن عارف فتحول رجاله إلى مرسلات الحرية وأخذوا يبثون بياناتهم على الموجة المتوسطة ضد الثورة والثوار.
لقد انقطع البث الإذاعي وبقي الأمل في نجاح الثورة مرهوناً بالطائرات والارتال المدرعة التي انطلقت من معسكراتها تجاه بغداد وفقدنا الاتصال، وهذا ما حدث:
أولاً: رتل المقدم الركن عرفان عبد القادر تقدم باتجاه بغداد والتقى قرب مطار المثنى بالرتل القادم من التاجي وفي هذا الوقت المتأزم جاءه من يخبره بان العميد الركن عارف عبد الرزاق يطلبه لأمر هام في برج المراقبة ولما ذهب وجد أن لا صحة لهذه المكالمة بل هي خدعة دبرت بذكاء واتقان.
سبق وكان عرفان قد أرسل قبل ذهابه إلى برج المراقبة رعيلاً من الدبابات لاستطلاع الموقف في دار الإذاعة لمحاولة احتلالها وكان عليه في هذه الحالة أو في حالة عجزه أخبار الرتل بكلا الحالتين وفي هذا الأثناء تقدم رتل الدبابات المؤيد للرئيس عبد الرحمن محمد عارف فأمر عرفان ضباطه بفتح النار على الرتل القادم فامتنع الضباط من تنفيذ الأمر تجنباً لسفك الدماء فهم لم يكونوا يؤيدون اقتتال الجيش بعضه مع البعض.
ثانياً: كان موقفنا في أبي غريب يحوطه الغموض إذ لا نعرف ما حل برتلي الدبابات المتقدمين نحو الإذاعة والقصر الجمهوري ، وفي هذه الحيرة التي وقعنا بها حضر عبد الوهاب الخطيب فاخبرنا أن المقدم الركن عرفان عبد القادر فشل في تنفيذ واجبه كما ذكرت فطلبنا من المقدم الركن رشيد محسن الذهاب لمعرفة الموقف ومعاونة عرفان إلا أنه لم ينفذ ما طلب منه. وفي هذه الأثناء تقدم رتل الدبابات المؤيد للنظام باتجاه المرسلات فتأكد لنا أن العملية بكاملها فشلت.
ثالثاً: ما حدث في الموصل بعد انقطاع البث أنْ اتصل الرئيس عبد الرحمن عارف بقيادة الموصل وطلب منها إلقاء القبض على كل من شارك في المحاولة وعلى رأسهم عارف عبد الرزاق. تحرك العقيد الركن عبد الكريم شنداله رئيس أركان الفرقة مع قوة استطاعت أن تعتقل العميد عارف عبد الرزاق والعميد يونس عطار الذي قاوم الحركة قبل إذاعة البيان الأول ثم اتفق مع عارف بعد إذاعة البيان وجيء بهما إلى بغداد.
رابعاً: موقف الطائرات التي قصفت بغداد: هذه الطائرات مداها محدود لابد لها لإكمال واجباتها أن تتزود بالوقود من القاعدة الجوية في معسكر الرشيد وعندما هبطت الطائرات لم يجدا طه الدوري وسعدون حسين اللذين تعهدا ضمن الخطة بالسيطرة على القاعدة وتزويد الطائرات بالوقود والعتاد.
خامساً.. لقد فشلت الحركة. وقد تم ألقاء القبض على كل من:
عارف عبد الرزاق
عبد الكريم فرحان
محمد مجيد
نهاد فخري
صبحي عبد الحميد
رشيد محسن
فاروق صبري
شهاب احمد
نعمة الدليمي
ممتاز السعدون
عامر عبد الله.
مع نخبة من الملازمين والملازمين الأولين الذين ساهموا بالحركة.
سادساً: أما أنا والعقيد الركن عرفان عبد القادر وجدي لم يستطع النظام القبض علينا حتى صدور العفو العام.
سابعاً: لقد زج جميع المعتقلين في فوج الحرس الجمهوري وشكل مجلس تحقيقي برئاسة العميد أحمد النعيمي وعضوية الحاكم أكرم الخضار والعقيد كمال الراوي وبعد انتهاء التحقيق نقل المعتقلون إلى معتقل مدرسة المشاة في معسكر الوشاش.
ثامناً: لقد بقي المعتقلون في سجنهم.
وفي نهاية نيسان 1967 حضر إلى بغداد السيد زكريا محيي الدين رئيس الوزراء في الجمهورية العربية قبل نكسة حزيران ليطلع القيادة السياسية العراقية على الوضع العسكري الإسرائيلي وقابل الرئيس عبد الرحمن محمد عارف وأخبره إن لدى المخابرات المصرية معلومات أكيدة بان إسرائيل ستهاجم مصر في 5 حزيران 1967 الأمر الذي يضع على العراق مسؤولية وحدة القوى القومية وذلك لرص الجبهة الداخلية وهذا يتطلب أطلاق سراح المعتقلين من الضباط القوميين الذين ساهموا في انقلاب 30 حزيران 1967 لإمكان الاستفادة منهم كقياديين عسكريين في الوحدات العراقية. كما طلب من السيد الرئيس إرسال قطعات عراقية للمشاركة في القتال إذا ما نشب بيننا وبين إسرائيل مما يعزز موقف العربية المتحدة سياسياً وعسكرياً كما وصل سرب من الطائرات الحربية من نوع "ماجر" بصحبة العقيد الطيار حسني مبارك، وحطت هذه الطائرات في مطار الحبانية.
لقد اقتنع الرئيس عبد الرحمن محمد عارف بوجهة نظر السيد زكريا محيي الدين وأمر بإطلاق سراح كافة المعتقلين والمشتركين في حركة 30 حزيران وذلك في 31 مايس 1967 وقد أعيد كافة الطيارين الذين كانوا رهن الاعتقال إلى الخدمة وساهموا مساهمة فاعلة في حرب حزيران مع أشقائهم طياري مصر.
الكلمات الاخيرة من قصر النهاية
وعلى هذا النحو أُسدل الستار على صراع مرير عشناه طيلة حياتنا السياسية علنا نحقق آمالاً طالما تمنيناها وأهدافاً سعينا إليها في الحرية والوحدة والاشتراكية، والذي سقط على مذبحها شهداء قبلنا خلال معاركنا وسيسقط الكثير بعدنا، إلا إن هذه الأهداف قد انتكست وتبددت لا لضعف في قوتنا وعوز في مواردنا بل بسبب التناحر والتخاصم ، إما عن قصد لمصالح شخصية آنية ، أو لعمالة حيث تبع ذلك صراع مرير بين الأخوة والزملاء يهدف إلى رغبة بعض الفئات بالسلطة، وما يؤلم ويثير في النفس الحسرة أن هذا الصراع كان الغالب نهاية المطاف ، فلم تتحقق الوحدة ولا تمتعنا بالحرية ولا ذقنا خيرات الاشتراكية رغم إخلاصنا وتضحياتنا نحن القوميين لتحقيق هذه الأهداف.
وكلمة أخيرة أقولها من أعماق قلبي بصدق وإخلاص، تلك هي أنني في مذكراتي هذه ما قصدت الإساءة لأحد أو الانتقاص من قدر أحد، بل كل ما قصدته هو الصدق وذكر الحقيقة كما شاهدتها وعشتها مساهماً أو مخططاً أو منفذا دون زيادة أو نقصان، تلك الحقيقة التي عز قائلوها وخاب ناكروها.
نفي وتشريد وسجن وتعذيب
بعد فشل حركتنا ضد عبد السلام عارف في عام 1965 لجأت إلى القاهرة.. وفيها أصدرت بياناً اعتزلت فيه العمل السياسي، وحصلتْ بعد ذلك أحداث أجبرتني على أن أكون طرفاً فيها وأهمها حركة عارف عبد الرزاق الثانية في 30 حزيران عام 1966 ضد الرئيس عبد الرحمن عارف ففشلت ، وتم اعتقال قادة الحركة، عارف عبد الرزاق، ومحمد مجيد، وعرفان عبد القادر، ورشيد محسن، وفاروق صبري، وأحمد الحديثي. أما أنا فاستطعت الإفلات وبقيت مختبئاً في بغداد.. حتى إصدار العفو عن القائمين في الحركة بعد نكسة 5 حزيران 1967. ومن هذه الفترة وحتى قيام حركة البعث في 17 تموز 1968 وإسقاط النظام العارفي المتمثل بشخص رئيس الجمهورية عبد الرحمن محمد عارف كنت عاطلاً بلا عمل.. وعند استلام البعث الحكم أحسست أن ضرراً سيصيبني دون أن أعرف هذا الضرر وفعلاً تم ذلك، كما يأتي:
أولاً: في 22/9/1965 أُحلت على التقاعد مع حجز أموالي المنقولة وغير المنقولة لأسباب سياسية مما اضطرني للهروب لاجئاً سياسياً مع الأخوة عارف عبد وعرفان عبد القادر وجدي ومبدر الويس.
ثانياً: بعد 5/حزيران/1967 صدر عفو بإطلاق سراحي، وذلك في 29/مايس/1967 من قبل الرئيس عبد الرحمن عارف.
ثالثاً: في عهد الحكم البعثي الثاني.
تدل الأحداث التي سأرويها على أن حزب البعث كان حاقداً عليّ وينتهز الفرص لينتقم مني وذلك لسببين:
1. اشتراكي كقيادي بارز في حركة 18/ت2/1963 حيث ساهمت في احتلال مرسلات أبي غريب لإذاعة بيانات الحركة منها ، وقد وصلت المرسلات برفقه الرئيس عبد السلام محمد عارف ومرافقه عبد الله مجيد. وبعد أن تم لي احتلال المرسلات قدمت الرئيس عبد السلام محمد عارف لإذاعة البيان الأول.. وأذعته ثانية بصوتي مع بقية البيانات الأخرى. ولم ينس قادة البعث عملي هذا في إجهاض حكمهم بعد ثورة رمضان في عام 1963.
2. بعد نجاح حركة 18/2/1963 عُينت مديراً للاستخبارات العسكرية أشرفت وأعددت كتاب "المنحرفون" وطبعته على حساب المديرية ووزعته على الدوائر الرسمية ومختلف شرائح الشعب، والكتاب وثائقي مصور فضح الأعمال اللا أخلاقية التي قام بها الحرس القومي ومنتسبو المخابرات. وكان أمر إلقاء القبض على صدام حسين عام 1964 بتوقيعي. لهذين السببين، قرر الحزب الانتقام مني.. وما أن استلموا الحكم ثانية حتى نفذوا ما اضمروه لي من نفي وتشريد وتعذيب وحتى ما لا عين رأت أو أذن سمعت ، وكما يأتي:
أولاً: في 27/أيلول/1968 اعتقلت في القصر الجمهوري بتهمة التآمر على الحزب وحقق معي القاضي عبد القادر الجنابي.. ولعلاقتي الشخصية المتينة به أطلق سراحي بعد اعتقال دام خمسة أشهر.
ثانياً: 23/تموز/1968 أرسل علي مدير الأمن العام ناظم كزار مع كل من الأخوة العقيد الركن محمد مجيد والعميد نهاد فخري واللواء الركن محمد خالد وطلب منا مغادرة العراق خلال 24 ساعة وإلا يسلمنا مفاتيح قبورنا وسافرنا إلى القاهرة كلاجئين.
ثالثاً: 29/ت1/1970 اتصل بي وأنا في القاهرة عدنان أيوب صبري وزير المواصلات، واخبرني بأن الرئيس احمد حسن البكر قرر إعفائي وعودتي إلى بغداد.. وقد صدقت هذه المخابرة ورزمت أمتعتي وعدت إلى بغداد. وبعد عودتي.. أثبتت الأحداث أنها مؤامرة لاستدراجي وعودتي إلى بغداد ثم سجني.. وهذا ما حدث..فعند وصولي إلى مطار بغداد قدم لي المسؤولون كافة المساعدات وباحترام وتقدير وهُيئت لي سيارة أوصلتني إلى داري.
رابعاً: بعد وصولي إلى بغداد وفي يوم من أواخر أيام 1970 اتصل بي الصحفي عبد الوهاب البياتي تلفونيا وطلب مني مقابلته فاعتذرت، فقال لي: كيف عوملت عند استقبالك في المطار؟ أجبته بجملة واحدة "استُقبلت استقبال الأبطال...". وبعد نصف ساعة تقريباً رن جرس الباب.. فإذا أنا وجها لوجه مع الصحفي.. فأدخلته وأشرت إليه بأني غير مستعد لأن أقول أكثر مما ذكرته له تلفونيا فخرج.
خامساً: بعد أسبوعين احضر لي الصحفي مجلة الصياد، وكان فيها الحوار بصورة لي وتحت عنوان (هادي خماس غيرت رأيي بعد اتفاقية 11 آذار).
سادساً: اتصلت بعدنان أيوب صبري، وهو صديق لي، وقلت له: خدعتني بدعوتي للعودة إلى بغداد وإني أرى أياماً سودا تنتظرني مع أن بإمكاني الاختفاء والهرب. فأجابني: لا تعقد الأمور بهذا التشاؤم وإني أتعهد بأن لا يمسّك سوء.. وإن اعتُقلت فإن اعتقالك لا يتعدى اليومين، ومن الواضح أنه قد كذب.
سابعاً: في 30/حزيران/1971 حضرت إلى داري ظهراً زمرة بقيادة الملازم عماد، وهي تحمل أمراً باعتقالي وبأمر وتوقيع مدير الأمن العام ناظم كزار.
أخذوني وهناك حققت معي لجنة برئاسة طه ياسين رمضان وعضوية ناظم كزار وحسن المطير. وقد تولى تعذيبي سالم الشكره ومعه اثنان أحدهما عرفت أن اسمه فنجان والثالث لم أعرف اسمه. وقد تلقّيت على يد هؤلاء أنواعا من التعذيب الذي لا يتصوره بشر من تعليق بالمراوح وضرب بالصوندات "كيبل كهرباء" إلى التجويع والحرمان من الأكل، كما عشت في غرفة انفرادية بأبعاد 1.5×2 متر خالية من الكهرباء، ومنع الأهل من زيارتي. حدث ذلك كله في قصر النهاية الذي تشاء الأقدار أن يكون القصر الذي شهد نهاية حياتي السياسية، هو نفسه قصر الرحاب الملكي الذي عشت فيه ما يزيد على تسع سنوات قريباً من العائلة المالكة وفيه بدأتُ الحياة السياسية.
في تشرين الثاني 1973 وبعد ما يزيد عن عامين من السجن والتعذيب في قصر النهاية تم إطلاق سراحي مع الأخ العقيد الركن علي حسين جاسم وذلك بعد فشل اغتيال القوميين والموجودين بالقاهرة والمعروفين بجماعة عارف عبد الرزاق وعقد الصفقة، التي اشرنا إليها سابقاً. فقد تم إلقاء القبض على الزمرة البعثية برئاسة العقيد الركن حامد الورد الملحق العسكري في القاهرة التي حاولت اغتيال صبحي عبد الحميد وعرفان عبد القادر وعارف عبد الرزاق ومبدر الويس ورشيد محسن، في مصر، ولم يصب فيها أحد عدا عرفان عبد القادر الذي أصيب بطلقتين غير قاتلتين. فسافر صدام حسين للتوسط بإطلاق سراح المعتقلين، وقيل أنه قد تبرع بمبلغ ستة ملايين دولار لإعفاء زمرة الاغتيال. وجرت مفاوضات أدت إلى أن يكون إعفاء الزمرة مقابل إعفاء المعتقلين القوميين في قصر النهاية. وهكذا وفقاً لهذه الصفقة تم أطلاق سراحي فعلاً في 29/11/1973.
مقابلة مثيرة مع صدام حسين:
بعد إطلاق سراحي، حصلت محاولة لتخفيف الآلام النفسية التي تعرضت لها في السجن في عملية اسميها جبر الخواطر. وضمن ذلك اتصل بي جاري الأخ خلدون الجنابي وبارك لي إطلاق سراحي، وقال لي إن طارق عزيز مسؤول الطلبة العرب يرغب في مقابلتك. وتم ذلك حين حضرت سيارة وأخذتني إلى موقع أجهله.. وإذا أنا وجها لوجه مع سكرتير صدام حسين، وأظنه كان حاتم العزاوي، وبما يعني انني على وشك مقابلة صدام حسين نفسه. وكان ذلك في تاريخ كان مسجلاً عندي، لكنه فُقد مع كثير من أوراقي في مداهمات الأمن الكثيرة، ولكن الذي اذكره هو أنه كان في تاريخ نزول القوات التركية في جزيرة قبرص لإثبات أحقية الأتراك في جزيرتهم. المهم أن سكرتير صدام حسين.. قال لي: هناك ثلاثة شروط للمقابلة:
1. لا تقاطعه إذا تكلم.
2. لا تتكلم إلا أن يؤذن لك.
3. لا تعتذر عن قبول ما يعطيك.. وأن تلتزم بالوقت.. لأن لصدام مواعيد أخرى.
دخلت، وهنا للحقيقة والتاريخ أقول إن الرجل نهض من مكتبه وتلاقينا في منتصف الغرفة وقادني وجلست وإياه على كنبة واحدة. ثم افتتح المقابلة بسؤالي: لِمَ انقطعت عن الكتابة في جريدة الثورة؟
الواقع أني مارست الكتابة الصحفية هوايةً.. ولي مقالات من الصحف البغدادية حزبية وغير حزبية.. فأجبته: لقد أنقطعت عن الكتابة لسببين:
الأول: أنا عسكري آمنت بأنه إذا كسر السيف اختفى القلم.
الثاني: لا حرية للصحفي في الكتابة حيث علمت أن مقالاتي تُعرض أولاً على ناظم كزار وهو الذي يأمر بنشرها.. ولدي دليل قاطع على ذلك.. إن لي مقالاً أكاديمياً حول الحرب الطويلة.. كتبته بعد نكسة حزيران بمدة طويلة ولا زال مركونا في مكتبه ولم ينشر.
بعد هذا بدأ يتحدث ليصل إلى ما يريد من جبر الخواطر في هذه المقابلة. قال لي: لقد عرفت ما لاقيت في اعتقالك من تعذيب وتجويع وأنك كضابط مخابرات تعرف إن أمن الثورة اقتضى ذلك..
أجبته: أبا عدي.. إن ما حدث لي داخل المعتقل يؤكد أن هناك ضعفاً قاتلاً في أمن واستخبارات الحكم الذي كان يجب عليه أن يعرف من كان معه ومن كان عليه ومن كان على الحياد لكي لا يقع في مشاكل تؤلب الرأي العام عليه وهو في غنى عنها. وإني أؤكد لك أني أتحدى كل بعثي أو أي مواطن أن يقول إني أسأت إليه ولو بكلمة "ولك".
أجابني مبتعداً عن الحقيقة التي أثارت المواجع مبررا بالقول: "إني لم أكسر عظم مع القوميين"، وفي الأسبوع الماضي أعدمت كذا شيوعياً، وأروي لك حدثاً لتأييد قولي هذا: بعد نجاح الثورة حصل اجتماع في مطار المثنى في بغداد، وحضرت الاجتماع لأتباحث مع الرفاق في مستجدات الحكم وأمنه، فطالب المجتمعون بدون استثناء إلقاء القبض على المقدم الركن رشيد محسن، فقلت لهم: كونوا على اطمئنان من أن رشيد محسن هو عندي وفي أيد أمينة.. هل تدري ما فعلت برشيد محسن؟ ولا تعجب مما أقوله لك، جهزته بجواز سفر وسفرته إلى القاهرة. والآن كن واثقاً.. إنك عنصر وطني قومي مخلص في عملك، وأعتبر ما حصل لك كأنْ لم يكن وإنك ستكون في المنصب الذي يليق بك وتحديد ذلك مسألة وقت ليس إلا. وصافحني مودعاً آمراً بسيارة لإيصالي إلى داري.
وهكذا انتهت المقابلة التي اعتبرتها، كما أسلفت، جبراً للخواطر، ودون تنفيذ لما وعد به من "منصب يليق بك" وهو يعلم جيداً أنني حفيٌ عن مثل هذه الوعود. لقد قضيت من عمري واحداً وعشرين عاماً في تولي مناصب مهمة وحساسة في مختلف عهود العراق، ولكني قضيت أيضاً نصف عمري السياسي لاجئاً سياسياً ومنفياً وسجيناً محكوماً بالإعدام. فهل كان صدام يعتقد إني كنت من طلاب المناصب؟
هذه هي شهادتي.. اللهم فاشهد.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/ayamwathekreat/21915-2016-02-20-12-46-50.html
750 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع