مذكرات مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين / د.صادق عبدالمطلب الموسوي/ ح٣

             

مذكرات د. صادق عبد المطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء / الحلقة الثالثة

           

الكساد في كربلاء :
مَن يتوقع أن هذه المدينة التي هي كعبة التضحية والإيمأن ومركز استقطاب المسلمين من كل أرجاء العالم الإسلامي تمر بفترات كساد! إنها تعيش على الوافدين من الخارج ومن كل أنحاء العراق, هذا في المناسبات الدينية وما عداها فالمدينة تكاد آنذاك أن تكون شبه خالية إلاّ من سكانها وهنا يعمها الكساد والفقر وخاصة للعمال والكسبة.

ولم يكن والدي أحسن حظا منهم فقد كان يعاني كثيرا من شظف العيش, كان يتقاضى أجرا يوميا زهيدا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من الدراهم!!! أي ما تساوي ربع دولار أو أقل في ذلك الوقت , مإذا يصنع بها والدي؟ ! وهنا ليس لي إلاّ أن أعود إلى " زهرة " والدتي المحرومة المظلومة, كنت أنقل لها من والدي أربعة دراهم فقط ويحتفظ والدي بدرهم واحد مصروفا له, كانت الوالدة تطعمنا وتدفع الإيجار وتقيم مجلس عزاء شهري للحسين "ع" من هذه  الدراهم الأربعة, كانت "حسينية" حتى النخاع, وأتذكر أنها كانت تصطحبني معها مساء لحضور مجالس العزاء في الصحن الشريف من جهة باب "السدرة"  فليتصور القارئ الكريم كم كانت هذه المرأة مجاهدة وصبورة وعلى درجة عالية من عزة النفس!! لم تمد يدها يوما حتى لشقيقتها التي كانت في رغد العيش والرفاه لدرجة كانت خالتي رحمها الله  تطعم الفقراء وتتصدق على المساكين لا بل ترمي الطعام في القمامة لكثرته , ولا توحي والدتي لها بالحاجة  بل ننام جياعا!!!

اكتشاف العشيرة!
بعد أن اكتشفت اسمي, فرضت ظروف شظف العيش على والدي في كربلاء أن يستنجد بأهله وأسرته في النجف الأشرف, فما كان منه إلاّ أن يصدرني إلى هذه المدينة بصحبة أحد أصدقائه من السواق من زبائن الفندق وأنا في سن العاشرة من العمر واعتمرني بعمامة خضراء, وبما أني راكب مجاني, فقد حشرني السائق مع الركاب حشرا, لأتوجه بعد ذلك في طلب المساعدة من أخيه الكبير ونصف الشقيق السيد هادي أبو سعيدة في المشخاب, انتابني القلق وأنا في السيارة متوجها إلى النجف وحدي, لا أعرف أحدا وفيها عشرات البيوت من أسرتي ولكن لم أكن أعلم بهم بعد, لم يعطني والدي مصروفا أستعين به في الطريق! ثم كيف سأصل المشخاب!! كان والدي قد زودني بعنوان السيد جواد أحد وكلاء الحاج مهدي البهبهاني في النجف لمساعدتي في تسهيل مهمتي في استقبالي وتسفيري إلى المشخاب, وفعلا توجهت إليه بعمامتي الخضراء وقدمت نفسى إليه فدهش الرجل لصغر سني في القيام بمهمة كهذه!!! قدم لي إفطارا بسيطا ثم أرسلني بصحبة ولده ضياء إلى الكراج وأركبني إحدى الباصات القديمة المتوجهة إلى أبو صخير فالمشخاب بعد أن دفع الأجرة وعاد.. كنت في سفرة نحو المجهول ! لا أعرف شيئا من حولي لا المكان ولا الزمأن ولا الناس الذين كانوا يتعاطفون معي .

        

سارت بنا السيارة في طرق غير معبدة حتى وصلنا جسرا هزيلا وضعيفا "أمر على السراط  ولا عليه" كما يقول أحمد شوقي, وهنا طلب منا سائق الباص النزول ليعبر الجسر من دون الركاب كإجراء وقائي لاحتمال انهيار الجسر وسقوطنا في النهر. وبعد أن اجتاز الجسر بسلام ركبنا الباص ثانية حتى وصلنا المشخاب وسط بساتين النخيل والطبيعة الخلابة, وبما أن المدينة صغيرة فلم أجد صعوبة في السؤال ومعرفة مكان عمي الذي لم أكن أعرفه من قبل!! وعند الوصول فوجئت به رجلا  مغمورا "قصير القامة" وسط دكان صغير لبيع السكائر والتبوغ ولكنه شبه فارغ كان إلاّ من بعض علب الكبريت ولفائف من سكائر المفرد.. كانت دهشة المرحوم عمي السيد هادي كبيرة جدا عندما رآني!!  قائلا "ها ولك اشجابك؟ جا شنه عبود مسودن؟" أي مجنون.. ثم أظهر لي محصوله من البيع في ذلك اليوم ولم يكن يتجاوز بضعا من الدريهمات! ثم قال:

هذا الذي عندي ! مإذا يريد مني أبوك ؟ ما عندي شي أعطيه!.

كانت خيبة أملي كبيرة وانتابني الخجل من هذا الاستقبال القاسي لطفل تجشم أخطار الطريق الطويل ويستقبل بهذا الازدراء!!
على كل حال, استوعبت امتعاض عمي وسكت وبقيت واقفا بحزن إلى جانب دكانه حتى جاء ولده صالح ابن عمي وقال له خذه إلى الدار. عندئذ تنفست الصعداء. أمضيت تلك الليلة مع أولاد عمي وفي الصباح الباكر مررت على عمي للسلام عليه فدس في جيبي بعض الدريهمات ثم اصطحبني  ولده إلى الكراج في العودة إلى النجف ثم كربلاء.

وهنا اكتشفت أن عشيرة والدي من النجف.. وكربلاء هي مسقط رأسي ورأس والدي أما كيف؟ فهذا ما سارويه في السطور التالية... نقلت لوالدي تفاصيل رحلتي وموقف عمي, فقال أنا أعرف هذا الموقف ولكن أردت أن ألقي الحجة عليهم. عز علي خذلان والدي فاعتمرت العمامة الخضراء وتوجهت إلى مرقد لإمام الحسين "ع"  لأكون أصغر الخدم في تسهيل مراسيم الزيارة للوافدين إلى الحسين من خلال تلاوة الزيارة لهم.. منذ عام 1953, مقابل مكافآت بسيطة أساعد بها الوالد الذي تركه أهله وحيدا في مجابهة مصاعب الحياة.
ثمرة العلاقة بين النجف وكربلاء:
سفرتي إلى النجف دفعتني في البحث عن أصولي وجذوري حيث أسرتي موزعة بين النجف وكربلاء, أردت أن أعرف أين مكاني بين هاتين المدينتين المقدستين؟ بدأت أواصل العلاقة مع أقربائي في النجف فعلمت أني من أسرة عريقة تنتمي إلى الدوحة المحمدية من نسل الإمام موسى الكاظم "ع" تلقب بـ"أبو سعيدة" نسبة إلى جدي السابع السيد عباس الذي حمل اللقب بسبب تنخيه باسم ابنته "سعيدة" وعلمت بأني الحفيد الثاني والعشرون للإمام الكاظم "ع" حسب شجرة النسب أدناه، وبعد البحث والتنقيب والاستفسار من الأعمام وأبناء الأعمام في النجف, عرفت أن جدي السيد عزيز أبو سعيدة  كان تاجرا للخيول في النجف وكان هذا الرجل يزور جده الحسين في كربلاء كل ليلة جمعة , وتعرف على الكثير من الأصدقاء في كربلاء, ورغم أنه كان متزوجا وله أولاد في النجف, فقد تزوج سرا في كربلاء وبواسطة صديقه "التتنجي" المرحوم محمد علي فروخ من إحدى بنات السيد علي الوهاب من أجل المصاهرة وتأمين سكن ثان له في كربلاء. كانت العلوية "رحمة" زوجته في ربيع العمر لم تتجأوز السادسة عشرة, أمضى جدي معها أحلى أيامه خلال زيارته للإمام الحسين في ليالي الجمع وما أن أنجبت له بنتا وولدا الذي هو والدي عبد المطلب "عبود" إلاّ أنه وبعد أن علمت زوجته الأولى "تاضي" في المشخاب أقامت الدنيا ولم تقعدها ومارس أهلها الضغوط القاهرة على جدي فاضطر مرغما لطلاق إلى العلوية "رحمة" وهي في عز شبابها! هذا القهر والإكراه في فصله عن زوجته الثانية "جدتي" أدى به إلى المرض فالموت.. وهنا بدأت مأساة الأطفال: والدي وعمتي. والمهم هنا ما حل بوالدي؟

المصدر: المشرق

للراغبين الأطلاع على الحلقةالثانية:

http://www.algardenia.com/ayamwathekreat/20332-2015-11-26-19-29-36.html

         

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

919 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع