رائد القصة العراقية عبدالملك نوري
ولد عبد الملك نوري في مدينة السويس بمصر عندما كان والده في رحلة خارج العراق واكمل دراسته في الجامعة الامريكية في بيروت حيث اجاد اللغة الإنكليزية وعاد الى بغداد ودخل كلية الحقوق وتخرج عام 1944
الجامعة الامريكية في بيروت
مشتغلا في المحاماة فترة من الزمن واوخر الاربعينيات وانتظم في السلك الدبلوماسي وكان قائما بأعمال السفارة العراقية في جاكارتا وبعدها في طوكيو وبراغ ونشر انذاك العديد من القصص القصيرة في الصحف والمجلات العراقية قبل ان تفوز قصته (فطومة) بجائزة مجلة الاديب اللبنانية عام 1948
وكانت اول مجموعة قصصية هي (رسل الانسانية) عام 1946 و (نشيد الارض) عام 1954 وله مسرحية من تأليفه بعنوان (خشب ومخمل) عام 1972،
تناولت مجموعة عبدالملك نوري الرائدة ( نشيد الارض ) نقد الضعف الذي تسببه الظروف غير الاصلية. ان اشخاصها غير راضين عن حياتهم، غير مناسبين. يعرفون المسافة الحساسة بين رغباتهم وبين تحققها الفاشل. لا يمكن النقاش عن مصائرهم التي لا تقبل الاستئناف، فهي مخططة اجتماعياً ونفسياً ويلزمهم الحل من خارجهم: طفل ينذر طفولته للرجولة، ريفي تثيره المدينة وتصطاده، رجل يحكم المبغى حياته الجنسية، نادلة مقهى متهيبة من انوثتها، مدمن خمرة يجمع اسباب ادمانه بولع، رجل متعطل اجتماعياً يحفر ثغرات جديدة في عطالته… ضحايا ضعفاء يقيس بهم النظام قوته
تجتمع في شخصية عبد الملك نوري اوصاف النموذج الثقافي، مثلما يمثل عينة ادبية التقى فيها ضدان سياسيان ليشكلا خطوط الشذوذ والاستواء والتقاطع في حالة العراق الادبي. هو ابن وزير من الضباط الشريفيين الذين شاركوا في تأسيس الدولة العراقية. ولكنه بدأ حياته الادبية والسياسية ماركسياً مواجهاً ومتحدياً العوائل والنخب التي خرج من بين صفوفها واكتسب العلم والمعرفة بين احضانها. تلك المفارقة شكلت، كما نتخيل، سبباً مهماً في محددات سيرة عبدالملك نوري الابداعية بين تألقه الادبي السريع وانتكاسته وانطفاء وهج ابداعه في وقت مبكر. وهي حالة لا تخصه وحده، بل هي احد اسباب الاشكالات السيكولوجية والاجتماعية والابداعية لمجموعة من الادباء والفنانين العراقيين ابان الاربعينات والخمسينات. فخلف خطوط التقاطع بين ثقافة النخبة وثقافة الشعب، كانت تكمن عوامل الشد والتوتر في شخص الاديب او الفنان وتتبين من خلالها شيزوفرينيا ثقافية كانت من اهم اسباب تعرج مسار الثقافة العراقية في صعود وانتكاس، بين فورات ابداعية من جهة وعجز وخيبات من جهة اخرى
وعبد الملك نوري كان كاتبا مقلا في مجال الكتابة والنشر ولكنه رياديا متميزا في نحت القصة القصيرة خلال الخمسينيات مع كبار كتاب القصة امثال جعفر الخليلي وذنون ايوب وفؤاد التكرلي ... اضافة الى انه كان كاتبا اجتماعيا فقد اعتنى بكتاباته بالجانب السايكولوجي... وهذا يدل على قلقه المستمر ازاء حياته المعقدة
له كتاب مهم جدا اسمه (قصائد ومقالات) فيه وعي ثقافي متجل ودراسات نقدية راقية، اثارت في حينها الكثير من الضجيج في قضايا الفكرية والادبية تحدث عن هموم الماركسية وحزب الشعب اضافة الى عمله كمحامي انساني لايرد احد يطلب مساعدته
كان مناضلا يوميا حتى اعتكف في داره مع اخته بعد سلسلة من القضايا والمماحكات السياسية التي تعرض لها
عبد الملك نوري شخصية مغايرة ومختلفة بين الادباء. اثبت بانه الرائد الحقيقي للقصة القصيرة
كما تحدث الروائي حسين الجاف حيث قال: في عام 1949 ذهبت لزيارة عبد الملك نوري مع الشاعر الكردي عبد الرزاق بريماني فقلت مع نفسي كيف لهذا المبدع ان يكتب وهو يعيش حياة مترفة وميسورة.. والذي لايعرفه الادباء عن ابداعاته كان محبا للانسانية فكان يعد برنامج اذاعي اسمه (الارض الطيبة) فكان حقا اديبا ومثقفا وانسانا وكان احد سراق النار من جيل الخمسينيات فهو سليل عائلة برجوازية محبا للعزلة مقلا للكلام اضافة الى وضوح أناقته، فهو فنان كان يعزف ويرسم وينحت ويغني فكانت اجمل ثلاث ساعات عشتها بصحبة عبد الملك نوري
الاستاذ عادل كامل
يستعرض الاستاذ عادل كامل لقائه مع الروائي عبدالملك نوري حيث يقول
كان لدينا ـ أنا وميسلون هادي ـ حذرنا ونحن نذهب، بلا موعد، إلى عبد الملك نوري! كنا نعتقد ـ كما قيل لنا للأسف ـ ان الرجل لن يستقبلنا ، وإذا استقبلنا فلن يتكلم.. على ان هذه التصورات لم تكن إلا وهما ً مؤلما ً لا نعرف كيف تكون وغدا مثل الحقيقة
السيدة ميسلون هادي
لقد استقبلنا بابتسامة مشجعة، مرحبا ً بنا كأنه يعرفنا منذ زمن، وكانت كلمته الرقيقة تفصح عن محبة رفيعة المستوى، ومتحررة من الهواجس، بل وتعرب عن صداقة عميقة
السيدة حياة رشيدة التركي ارملة فؤاد التكرلي
كان ذلك في اللقاء الأول، وفي اللقاء الثاني، تكلم بحرية وعندما دار الحوار عن لقاء كانت أجرته معه رشيدة التركي، ذلك اللقاء الوجيز الذي لم يتكلم فيه إلا قليلا ً ـ نشر في آفاق عربية
ـ قال انه لا يعرف لماذا يتكلم الآن.. بل حتى ان شقيقته استغربت من الأمر. ولكنها همست لنا " انه أحبكما كثيرا ً.." وعلى كل قال في آخر هذا اللقاء، مبتسما ً " آمنا بالقضاء والقدر " قالها مازحا ً بالتأكيد.. والحال أني لم أفكر بإجراء حوار مطول، على الرغم من استعداده لذلك وقد جاء الحوار عفويا ً، آمل ان نستكمله في حوار آخر، بعد ان وعدنا بذلك
قصة "ريح الجنوب" لماذا تترجم دائما ً، دون سواها؟
ـ ربما لأنها تمتلك طابعا ً شرقيا ً، أو محليا ً على وجه الدقة، اعتقد ان قصة "غثيان" أفضل فنيا ً، ان لم اقل أفضل قصصي، لكنهم يصرون على ترجمة :ريح الجنوب" لأن الأجانب يبحثون عن الأشياء المحلية، ولكني أتساءل: ترى لماذا لا يترجمون "الولد الصغير" وهي قصة، في نظري، جيدة؟ الغريب ان الناشرين لا يستشيرون الكاتب عند اختيار نص له، وخاصة على صعيد المختارات، واعتقد من الأفضل استشارته مع مراعاة حقوقه! ثم ان الناشر يستطيع الاتصال بالكاتب، حول اختيار القصة، لأن هذا التقليد نوع من التحضر، وضرب من التقاليد السليمة المعمول بها في العالم
كيف، أو ما الذي جعلك تكتب قصة "ذيول الخريف"؟
ـ استوحيت هذه القصة من الخبازات اللائي كنت اذهب إليهن، فانا أحب رائحة الخبز، كم هي طيبة، وهي تخرج من التنور.. لقد كنت أقف عندهن، وكن يقدمن لي رغيفا ً حارا ً وهن يرحبن بي، وان رائحة الخبز الحار مازالت تأتي إلى هنا حتى الآن.. خصوصا ً في الخريف
وماذا عن قصة "صديقتان"؟
ـ كتبت هذه القصة بفعل فيضان بغداد في الخمسينات.. كان ثمة فضاء.. ومياه.. وفقراء.. وكانت هناك بقرة وحيدة.. تخيلت أنهم ابعدوا عنها صديقتها.. باعوها.. وكان موضوع العزلة هو الذي دفعني إلى كتابتها
من قصصك الأخيرة "معاناة" ماذا عنها؟
ـ لم أضع اسما ً لهذه القصة.. وقد كانت عند فؤاد التكرلي.. وعندما سألني عن اسمها.. قلت له: "معاناة" وهي في الواقع محاولة جديدة لدي ّ.. حيث كنت اصف حياتي أثناء الكتابة
ثم تحدث عن حياته
ساعتان تكفي من النوم
فعبد الملك نوري يستيقظ في الفجر، يعمل في الحديقة بمعدل ست ساعات، ويستمع إلى الموسيقى
بعدها راح يحدثني عن القصة،
ـ لا تعجبني التفاصيل، على الفنان ان يأخذ اللب، إلا الذي يفكر بكتابة كتب كبيرة، وأنا أفضل ذلك: ثم أنني لم اكتب رواية. القصة القصيرة أصعب من الرواية ومن الأعمال الطويلة، لأن القصة بحاجة إلى حبكة فنية دقيقة جدا ً، فانا اكتب القصة خلال ثلاثة أشهر، أو أكثر، أغيرها وأنقح، واختزل، حتى أرضى عنها
كيف تصف لنا رحلتك مع القصة، هل كانت سعيدة ..؟
ـ كانت سعيدة، لكن صاحبتها معناه، لأنني لا أرضى بسهولة عن الأشياء التي اكتبها.. فانا أول من ينتقد نفسي.. والكاتب لا يتطور إلا اذا كان ناقدا ً لنفسه.. فانا اذا لم اقتنع بقصتي ترى كيف اقنع القراء.. فالقصة تعني ـ لدي ّـ إيهام القراء بأنها واقعية ـ أي ممكنة ان تحدث ـ ولابد من إقناع القاريء بهذا
ترى لماذا اخترت هذا الفن؟
ـ انه محض ميل لهذا النوع من الكتابة.. فانا كتبت القصة في كلية الحقوق (الأربعينات) .. قصص تعتمد السرد.. بعد ذلك كتبت أشياء فنية.. ولم أكن، على أية حال، راضيا ً عنها.. واعتقد أني نشرت قصة منها تحمل عنوان "الديك الملحد" نشرت في مجلة المجلة
أول من أعجبك من الأدباء؟
دستويفسكي، بلزاك، همنغواي، جيمس جويس
وتحدثنا عن أضرار التدخين، فقد كان مصابا ً بالتهاب اللوزتين،
ومع ذلك كان يدخن.. لماذا ؟
أجاب بمرح
لا ادع الدخان يمر على الأجزاء المريضة
حسنا ً، كيف تبدأ فكرة القصة لديك؟
تأتي مثل البرق.. ربما تأتي من العقل الباطن.. من الماضي.. أو بفعل التراكمات والخبرة.. أو بسبب الانطباع الحاد، الخاطف، مثلا ً ذات مرة شاهدت "وشما ً" في وجه امرأة.. فكتبت "ريح الجنوب" أحيانا ً الشخصية توحي بهيكل القصة وليس على الكاتب إلا ان يكسوها باللحم.. كتابة القصة متعبة، وأنا بحاجة إلى صحة جيدة من اجل كتابة قصة قصيرة
ولم تجرب كتابة الرواية؟
لا.. على الرغم من انها أسهل من القصة
ثم قال بدقة تخص رؤيته لفن القصة
لكني أحب ان اكتب حدث القصة على مدى صفحات القصة.. أي ان يكون زمن القصة متطابقا ً مع زمن القراءة، لا أحب ان يمتد الزمن
لهذا تبتعد عن التفاصيل؟
لا أحب الوصف، ولا أحب الزوائد
اعتقد انك لا تحب قراءة أميل زولا
ـ يقال انه "علمي" ترى هل أميل زولا عالم أم فنان؟
هل تحب ان تظهر في شاشة التلفزيون؟
ـ دعني أكون طبيعيا ً.. لا أريد ان اطلع في التلفزيون.. أريد، في الكلام، ان اخذ حريتي، ففي التلفزيون لا بد ان تحسب حساب كل كلمة
ثم سألته ميسلون هادي: هل كنت مغامرا ً..؟
ـ كنت أحب الخيول.. واركبها.. وكان ذلك بسبب والدي.. ولكن دون علمه طبعا ً.. أي انه وفر لي الخيول.. ثم بعدها تعلمت سياقة السيارة.. ودون علم والدي أيضا ً .. وللحق كنت مغامرا ً.. فقد كنت ارمي نفسي من العربية وهي تجري.. ثم اصعد إليها.. وهكذا .. بلا خوف .. انها مغامرة لذيذة وممتعة جدا ً
ما أحلى فترات حياتك ؟
هناك فترات حلوة وأخرى مرة
وفترة الخمسينيات؟
ـ فترة جيدة، فيها شعور حماسي للابتكار، وفي الخمسينيات ظهر عدد من المبدعين في الرواية والرسم والنحت.. كانت مرحلة نهضة في العراق قبل باقي الأقطار العربية، وكنا متحمسين، وكنا نأخذ الأمور بجدية، ونعمل على انجاز أشياء جيدة، ولم نكن نقتنع بما ننجز لأننا كنا نقارن أنفسنا بالكتاب العالميين. كانت بدايتنا من لاشيء.. إلا انها كانت مثل نبتة عنيدة
ترى هل اخترت عزلتك بنفسك؟
أنا الذي اخترت هذه العزلة
رحم الله عبدالملك نوري رائد القصة العراقية الذي رحل بصمت
المصادر
عبدالملك نوري - جريدة الاتحاد
عبدالملك نوري - جريدة الحياة
1751 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع