مقهى الزهاوي ، واحة من واحات الفكر والادب
لبعض الاماكن وان زالت او تردت ولبعض الناس وان بعدوا, مستقر دائم في القلب. والذكريات البغدادية .
مقهى " الزهاوي " التي تطل على ساحة مهمة من ساحات بغداد هي الميدان، اكتسب هذا المقهى شهرته من الشاعر والفيلسوف العراقي المعروف جميل صدقي الزهاوي (1863 - 1936).
وقد عرفت بغداد كما سائر المدن العربية اسماءا لامعة لمقاهي خلدها الزمان .
المقهى هو مكان عام يجلس الناس فيه لشرب القهوة أو الشاي أو النارجيلة اوالشيشة, ويعتبر بمثابة مجلس او منتدى للاجتماع وتبادل الأحاديث .
كانت المقاهي فيما سبق هي الملتقى الوحيد للناس للتعرف على أحوال البلاد وتخصصت بعض المقاهي حسب موقعها بأنها مقاه أدبية يجلس عليها الأدباء ويلتقون عليها.كما تخصصت مقاه أخرى بكونها مقاه يجلس عليها فئة معينة من الناس.
يقول الفنان الراحل فخري الزبيدي في كتابه " بغداد أيام زمان " يقول : الى أن (جغالة زادة سنان باشا)-الذي سمي خان جغان باسمه- أمر بفتح أول مقهى في بغداد سنة 1586.
ويؤكد قول الفنان(الزبيدي)،إن أول اشارة وردت عن وجود مقهى في بغداد جاءت في كتاب "كلشن خالفا" لمرتضى نظمي زادة في عام 999هـ (1590)م. وقد كانت تدعى آنذاك قهوة جغالة زادة وقد اكد الباحث يعقوب سركيس في دراسته عن موقع هذا المبنى انه كان في موضع "خان الكمرك" الحالي، كما ذكره فيلكس جونس في منتصف القرن التاسع عشر بهذا الاسم أيضاً .
ومن أولى مقاهي بغداد العريقة بعد الإحتلال البريطاني للعراق عام 1917 مقهى الخفافين، و مقهى الشط، و قهوة القلعة، و قهوة البلابل، حتى قامت بعد ذلك مقاهي استقرت في الباب الشرقي، وفي شارع الرشيد بداية من ساحة الميدان وحتى نهايته .
فكانت المقاهي ولا تزال تشكل اقامة شبه جبرية للأدباء والشعراء والفنانين وجمهرة كبيرة من متذوقي الغناء والموسيقى.
مقهى الزهاوي:
يعود تاريخ تأسيس المقهى الواقع في بداية شارع الرشيد من جهة الباب المعظم بين الميدان والحيدرخانة الى ما قبل 1917 بسنوات عديدة قبل فتح شارع الرشيد.ايام الوالي (ناظم باشا).
اذ كان على شكل سقيفة بسيطة تولى ادارته كثيرون منهم: احمد الخطيب، سلمان الكندير، واخرهم قيس عبد الجبار، في البدء سميت المقهى باسم صاحبها”امين اغا “ قبل ان يتحول الى اسم الزهاوي الشاعر جميل صدقي .
ويعد المقهى من أشهر المقاهي البغدادية، فضلاً عن مقهى (حسن عجمي) و(البرلمان) و(عارف اغا) و(البلدية) و(الشابندر)
سبب تسميتها بمقهى الزهاوي:
دعا يوما نوري السعيد الشاعر الزهاوي للالتقاء به. فلم تكن هناك نواد او فنادق محترمة فسأله الزهاوي ، وين نلتقي؟؟؟؟.
قال له رئيس الوزراء في قهوة امين. التقيا هناك . رئيس الحكومة و الشاعر الفيلسوف.
ليس فيها من متاع الدنيا غير بضعة مصطبات و كراسي قديمة و(فونوغراف) ابو الزمبرك. نعم رئيس الحكومة، نوري السعيد، يجتمع في مثل هذه المقهى.
وعندها اعجب الزهاوي بها فاتخذها مقاما له. وسرعان ما تحولت الى منتدى للادباء و المفكرين.واصبح اسمها (مقهى الزهاوي).
رواد المقهى:
يقولون العراق مهد الشعراء و ملاذهم. و له يدين الادباء العرب بميلاد الشعر الحديث الذي شاع على السنة بدر شاكر السياب و نازك الملائكة و عبد الوهاب البياتي. بيد ان هذه الاسماء مثلت الجيل الثاني من شعراء العراق في العصر الحديث . سبقهم فحول اوائل، الزهاوي و الرصافي و الشبيبي .
فهناك عدة أجيال أدبية وثقافية وسياسية وصحفية ارتادت هذا المقهى..
كان الزهاوي يدبّج فيها ردوده الشهيرة على عباس محمود العقاد ،تلك الردود التي نشرتها صحف بغداد والقاهرة في الثلاثينيات.. وفيها أيضاً استقبل الزهاوي شاعر الهند الكبير (طاغور) عام 1932م.
وكان للزهاوي عاداته المعروفة في المقهى، فاذا أبدى أحد الجالسين اعجابه بشعره، صاح الزهاوي على صاحب المقهى: أمين ـ لا تأخذ فلوس الچاي ـ ويروى ان المناقشات الحادة بينه وبين منافسه الشاعر الرصافي جرت على تخوت المقهى التي كانت بتحريك من المرحوم أحمد حامد الصراف حين اطلع الزهاوي على ملاحظات وهوامش الرصافي المدوّنة بخط يده على صفحات ديوان الزهاوي، كما ان الدكتور أحمد سوسة كتب مباحثه عن محلات بغداد القديمة..
ضم المقهى طائفة كبيرة من الشعراء والمثقفين والمفكرين من نخبة المجتمع خلال تاريخه واحتضن على مر السنين الادباء والسياسيين كونه منتدى لمختلف الافكار السياسية والشعرية وملاذا فكريا وادبيا تطرح فيه الآراء واخبار السياسة والثقافة والادب، وملتقى من لعبوا دورا وطنيا في تاريخ البلاد
كما تعاقبت عليه اجيال ادبية وثقافية وسياسية وصحفية كثيرة ومن الصحفيين ورؤساء تحرير الصحف:
نوري ثابت، عادل عوني، توفيق السمعاني، اسماعيل الصفار، ولم يختص المقهى بهؤلاء فقط، بل شمل ايضا بعض الساسة والوجوه المعروفة من رجال الدولة امثال: فاضل الجمالي، عبد المسيح وزير، عبد الرزاق عبد الوهاب، واخرون.
ومن رواد المقهى (أعضاء فرقة الزبانية للتمثيل) كانوا يأمونها للراحة والاستجمام والتداول في شؤون الفرقة وهم: الحاج ناجي الراوي وفخري رسول والمطرب ناظم الغزالي وحميد المحل وحامد الأطرقچي وجميل الخاصكي ومحمد القيسي وغيرهم من الشعراء والأدباء والصحفيين الذين كانوا يرتادونها لقرب ادارات صحفهم ومطابعهم من المقهى.
اما اهم حدث سياسي في المقهى كما يصفه المرحوم (يحى الدراجي) الحاكم (القاضي) المنتدب للتحقيق في مقر مديرية الاستخبارات العسكرية عام 1958 كان خلال محاكمات المهداوي(المهزلة) يقول الدراجي:
بعد ان منعت سلطات التحقيق وادارة السجن العسكري عن العقيد(رفعت الحاج سري) وصول كل مايتعلق بلوازم الكتابة من اقلام او ورق لتحول دون كتابته مرافعة الدفاع عن نفسه !! فما كان من محامو الدفاع عنه إلا ان يجتمعوا في مقهى الزهاوي ويكتبوا لائحة الدفاع بعبارات تطّير منها المهداوي والحزب الشيوعي ودهشوا كيف تم ذلك رغم التوصيات بمنع كل شيء عنه... يجيب المرحوم الدراجي بعد الانتهاء من اعداد لائحة الدفاع فكرنا كيفية ايصالها للمرحوم رفعت وكانت الفكرة ان ندسها تحت عمامة صهره المرحوم (ابراهيم الايوبي) الذي اوصلها له وكانت ابلغ لائحة في تاريخ المحاكم العراقية.(راجع ج19من محاكمات المحكمة العسكرية الخاصة).لتقف على فحواها.
من اجمل طرائف الزهاوي في المقهى
كان بينه وبين الشاعر معروف الرصافي خلاف مستحكم،لايتفقان على شيء ويصح فيهما المثل البغدادي(الحية والبطنج).
ففي احد الايام انطلق الرصافي لانشاد قصيدة طويلة فأخذ الزهاوي يتضايق منها و من صاحبها. متربصا لفكرة كيف يستطيع اسكاته وعدم مواصلته الانشاد. وحالف الحظ الزهاوي حين دخل المقهى صبي يبيع الحب. فقاطع زميله الرصافي متوجها الى بياع الحب.
"يا ولد عندك قميص شبابي على كدي؟" استغرق الحاضرون بالضحك. و ضاعت القصيدة على الرصافي فخرج غاضبا و لم يعد الى ذلك المقهى ابدا. وعندئذ تربع الزهاوي في جلسته وقد نصب من نفسه اميرا على المقهى.
ذهب الرصافي، واذا بمحله يأخذه شاعرآخر في مقتبل العمراسمه (الجواهري) فاراد ان يجرب حظه العاثر ليتلو شيئا من شعره في المقهى هو حتى قاطعه الزهاوي " افندم تتراهن؟" استغرب الشاعر الشاب . كان عمره سبعا و عشرين سنة، استغرب من هذا السوآل. أعاد الكرة :" نتراهن على أي شيء استاذ؟"
قال على ان اقطع نفسي و انت تقطع نفسك، و خلي نشوف منو يخلص نفسه بالأول!
ولكن الجواهري الشاب لم يشأ ان يعترض على سيده وهو في السبعين. فمسك نفسه. و فعل مثله الزهاوي. بعد برهة من الوقت استسلم الجواهري. " يا استاذنا كفاية!" فكسب الزهاوي الرهان و حق على الجواهري ان يدفع عنه اجرة المقهى : آنة.
يقول المثل البغدادي: ديكين على مزبلة واحدة ما يعيشون.
هكذا كان مقهى الزهاوي ، واحة من واحات الفكر والادب ارتبط باسماء مشاهير تلك الحقبة. يوسف عز الدين، عبد الرزاق الهلالي، ماهر حسن فهمي، عبد الحميد الرشودي. انضم اليهم عبد القادر المميز صاحب جريدة ابو حمد. فاستقبله الزهاوي بهذين البيتين:
قد جاءنا ابوحمد – يمشـي كمشـية الاســد
قد طابت القهوة لي – صب يا ولد!صب يا ولد!
وفيما كان يوما محلقا بأفكاره الفلسفية ، اقتحم المقهى رجل يتطاير الغضب من عينيه، وتوجه فورا الى الزهاوي قائلا: كلب ! كافر! زنديق! تنكر خلقة الخالق؟ تقول اصل الانسان قرد! آني ابويه قرد؟!
مسك به الزهاوي و قال له : لا، ابني. انا ما قلت ابوك انت كان قرد. حاشا. انا قلت، ثم كشف الشاعر عن رأسه الاصلع و وجهه المكرمش و اسنانه المنخورة ، و مسك ذقنه بيده و قال: انا قلت ، آني ابويه كان قرد! فضج الجالسون بالضحك
حافظ المقهى طوال عقوده الاخيرة على رواده من المثقفين والحلقات الادبية التي توصف بالمجاميع التقليدية من شعراء العمود وكتاب المقالات والادباء المحافظين وانصار التراث من المتشددين الذين يقفون في الصف الرافض للادباء المجددين الشبان وتطلعاتهم في الحداثة والتغيير، من الذين كانوا خارج فضاء الزهاوي غالبا ما يلتقون في مقاه اخرى، كالبرلمان وحسن عجمي وغيرهما كأمكنة حافظت على ترابط الاجيال الادبية.
اعتبار المقهى تراثيا
واجه المقهى في اواسط الثمانينيات تحديات واخطار كادت تذهب به الى الزوال او يؤول مصيره كباقي مقاهي بغداد الادبية التي اغلقت ابوابها وتحولت الى محال تجارية واعمال اخرى، حيث حاول مالك العقار بيعه الا ان المثقفين من رواده قاموا بالدفاع عن كيان المقهى ووجوده فطالبوا بكل حماس ببقائه ملتقى ادبيا واثرا ثقافيا وذاكرة اجيال لن تنسى، وعلى اثر ذلك بيع المقهى الى امانة بغداد التي اقدمت على شرائه واعيد تأهيل الزهاوي المقهى ليصبح صرحا ثقافيا وحضاريا في طراز يحمل سمات الاصالة والتجديد ،وكان الشاعر أنور عبدالحميد السامرائي، المدافع النشط عن المقهى قد نظم قصيدة كان مطلعها هذين البيتين:
يا زائراً هذه المقهى ترى عجبا
فيها من العلم والتاريخ فرسانا
الطب فيها وموسيقى وفلسفة
والذاكرون مساءً ربي أحياناً
على الرغم من امتلاك المقهى من قبل الامانة ،لكنها خانت الامانة بعد الاحتلال واهملت شؤون المقهى وجعلته عرضة للمزايدات التجارية،لمحوا الذاكرة التأريخية للعراق وتراثه.
سيصدم القاريء بعد مشاهدته( الفلم) المرفق ليجد الحقيقة المرة لهذا المقهى العريق بتراثة واناسه، سيجده يخلوا من نقاش كاتبا أو شاعرا أو فنانا، إلا من بعض المتقاعدين الذين راحوا يتقاذفون بالقوانين أيها أنسب لهم وهل هناك زيادة كما وعدت الحكومة بذلك ؟ كما سيرى وجوها غير التي كان يالفها قبل عقود من السنين، وجوه متعبة، حائرة، تنفث سم دخان السيكارة والأركيلة فتتوه في عالم آخر غير الذي تعيشه، تبحث عن شيئ ربما عن أمل يزيح الهموم عن صدورها.
لكنه رغم النسيان والاهمال ظلت ابوابه مشرعة، يستقبل من يرتاده، فمثل هذا الاثر الذي يعد تاريخا حافلا بالتواصل والتحدي لحكاية اكثر من قرن عاشها المقهى بين عهود مختلفة، اختفت خلالها مقاه وظهرت اخرى، لكن الزهاوي من مقاهي بغداد الادبية التي ظلت مركزا ثقافيا واجتماعيا عصيا على الزمن وعوامل الزوال والاختفاء. يجب الحفاظ عليها.تلك كانت من ايام الخير، يوم طاب الحديث حرا دافئا في مقاهي بغداد و مجالسها. مجالس الخير في ايام الخير ، ذهبت وراحت مع اهلها للأسف.
الگاردينيا: نرحب بالأخ الأستاذ/ الشهاب الحسني البغدادي في حدائقنا.. وننتظر منه المزيد...
2118 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع