تمتوعة بغدادية ..
الخيرة والتفاؤل عند العراقيين ..
خذت الجدر للماي رديته خالي
من جابوا اسم هواي انشده بالي
بغداد / الگاردينيا – كريم هاشم العبودي *
تزخر ذهنيات شعبنا الطيب والبسطاء منهم خاصة بمعتقدات الخيرة والتفاؤل في امور كثيرة في حياتهم واعمالهم ومهنهم وعلاقاتهم مع بعضهم، وهذه المعتقدات تعتبر تراثا لدى جميع شعوب العالم، وكل شعب يختلف عن الاخر.. وربما تلتقي شعوب كثيرة في بعض هذه المعتقدات.. وينفرد العراقي سواء كان في الجنوب او في الوسط او في الشمال من بين الشعوب الاخرى بالاحتفاظ بالكثير من هذه المعتقدات..
ونتناول اليوم موضوعا طريفا وممتعا لدى اغلب العراقيين البسطاء هو موضوع (الخيرة والتفاؤل) لدى عامة الناس في بغداد والمحافظات باعتبارها من العادات الشعبية التي ما زال البعض متمسكاً بها وخاصة نساء بغداد.
تتناول الحاجة نبيهة احمد الزبيدي بعض جوانب الخيرة وانواعها قائلة:
هنالك انواع من الخيرة كان يلجأ اليها الناس لمعرفة وتقرير وجهة تصرفهم ازاء المشاكل التي كانت تعترض حياتهم، النوع الاول طابع ديني كان يلجأ له الانسان بالتقدم والتوسل الى الله سبحانه وتعالى لارشاده للطريق التي يجب ان يسلكها لحل مشكلته المستعصية، وهناك عدة طرق اهمها :
(خيرة المسبحة الحسينية) و(خيرة القرآن الكريم)، فالاولى تكون بواسطة مسبحة يكثر بيعها في المدن الدينية المقدسة كالنجف وكربلاء والكاظمية، تصنع بواسطة التربة الحسينية، ويستخير الله عادة، بدلا من الشخص صاحب المشكلة احد رجال الدين بالطلب من الشخص الذي يريد الاستخارة ان ينوي في قرارة نفسه ما يريد ان يستشير به ربه، وبعد ذلك يتناول مجموعة لا على التعيين من حبات المسبحة، واثناء قراءته لبعض الآيات القرانية، يقرر ان كانت الخيرة لصالح طالبها او ضده، والطريقة المرتبطة باستعمال القرآن الكريم لهذا الغرض لا تختلف عن الاولى سوى بالوسيلة المستعملة في استخارة الله، فبدلا من المسبحة الحسينية يكون القرآن الكريم هو الاداة التي يعرف بواسطتها حكم الله سبحانه وتعالى في حل المشكلة المعينة، وتتم هذه الطريقة بفتح القرآن الكريم واخراج احدى صفحاته كيفما اتفق وقراءة اول اية قرآنية من تلك الصفحة وتفسير حكم الله بالارتباط مع مضمون تلك الآية، وهناك تفسير يقول ان اصل استعمال الطريقة الاولى (الخيرة بواسطة المسبحة) يعود الى السيدة فاطمة (عليها السلام) بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كانت تسبح بحمد ربها بعد الصلاة بواسطة مسبحة لها، وكانت النسوة يجتمعن بعد الصلاة عندها ويطلبن منها استخارة الله سبحانه وتعالى في حل شؤون ومشاكل حياتهن اليومية، واذا كان هذان النوعان من الخيرة يسودان بصورة عامة المدن الدينية،
فان هناك نوعا اخر يمكن اعتباره جزءا من عادات شعبية نشأت تاريخيا في الاوساط الشعبية وبالطبع ينبغي ان نستثني من ذلك الطرق التي يتوسل بها مستغلو سذاجة بسطاء الناس لغرض ابتزاز المال، كقراء الكف وغيرهم، وتضيف الحاجة نبيهة: بان (الخيرة الشعبية) التي تقوم بها النساء لمعرفة حظوظهن وسبل حل مشاكلهن الملحة، ويسمى النوع الاول من هذه الخيرة الشعبية باسم (حجارة الدرب) وتعتقد النساء بان افضل يوم للعمل بها هو مساء يوم الخميس فقط (ليلة الجمعة) وتتلخص تفاصيلها بان تذهب امرأتان في تلك الليلة وتجلسان عند مفترق شارع متقاطع من كل جهة، بحيث يشكلان قطرا للتقاطع، ويجب ان لا يغفل عن اذهاننا كون الشوارع انذاك ضيقة ومتقاربة يطلق عليها اسم (العكد) ثم تنوي صاحبة (الخيرة) بعد ان تأخذ حجارة صغيرة من الارض تنوي عليها (نيتها) وترميها في الطريق وهي تقول: (ياالله.. يا محمد.. يا علي.. يا حجارة الدرب.. اعلميني اشما بالگلب) ثم تجلس صامتة منتظرة مرور السابلة في الطريق وهي تنصت باهتمام لكل كلمة يتفوه بها العابر الاول، واذا صادف ان مر عدد من الاشخاص دون ان يتكلموا فتبقى جالسة حتى يأتي من يصادف ان يكون معه شخص اخر وهم يتكلمون فتحفظ كلامهم، وكذلك بالنسبة لصاحبتها، الجالسة قبالتها في الشارع، وعند ذلك يفسر التفاؤل بالنية او التطير منها على ضوء الكلام المسموع..
الشعر الشعبي وعلاقته بالدعاء او الخيرة، اما النوع الثاني من الخيرة الشعبية فتحدث عنه الباحث التراثي محمد جواد الغرابي قائلا:
النوع الثاني من (الخيرة الشعبية) يسمى (فال حافظ) ويصح العمل بها مساء يوم الجمعة فقط (ليلة السبت). وينبغي التأكيد بان (فال حافظ) فولكلور اصيل تقترن به مجموعة من الشعر الشعبي المفعم بالاصالة والمعاناة لم تحفظها ذاكرة الاجداد لولا ارتباطها بهذا النوع من الخيرة الشعبية، وخيرة (فال حافظ) تكون عندما تعاني امرأة من مشكلة كبيرة ومستعصية مثلا زواج ابنها او معاملة زوجها القاسية لها، او اصابة عزيز لها بمرض عضال فانها تذهب الى صويحباتها اللواتي يعرفن اخذ الخيرة الشعبية المعروفة بـ(فال حافظ) وتطلب منهن اخذ هذه الخيرة لها ثم تنوي في نفسها ما تريد معرفته او ايجاد حل له او استكشاف سر يهم حياتها دون ان تخبر صويحباتها عن تلك (النية) التي استقرت نفسها عليها وعند ذلك تعقد هؤلاء النسوة اجتماعا خاصا لهذا الغرض، والوقت كما قلنا ينبغي ان يكون ليلة السبت وتقوم احداهن بمسك مسبحة تخفيها تحت عباءتها او فوطتها، ثم تعزل عنها (32 حبة) من حبات تلك المسبحة ويكون عزل هذه الحبات وفقا لهذه الطريقة، تعد عشرة ازواج ثم تضيف اليها ثلاث حبات وهي تقول: يا الله.. يا محمد.. يا علي، وينبغي عليها ان تكون طيلة الفترة المعينة بأخذ هذه الخيرة صامتة، اما زميلاتها فمهمتهن تنحصر انذاك فقط في اسماع زميلتهن صاحبة المسبحة بالتناوب بعبارة او جملة مميزة من صدر كل بيت من الشعر الشعبي المعروف بينهن ومع الانتهاء من القاء كل جملة تنقص صاحبة المسبحة حبة واحدة من المجموعة المختارة، وما ان تصل المرأة التي تعد حبات المسبحة وهي تستمع الى زميلاتها المسؤولات عن القاء مقاطع من الشعر الى (الخرزة) الاخيرة التي بقيت في يدها حتى تخرج عن صمتها وهي تطلب من المرأة الاخيرة اكمال بيت الشعر، معلنة بذلك انتهاء مجموعتها من حبات المسبحة، وهنا تقوم زميلتها باكمال بيت الشعر، وبعد ذلك تقوم النسوة الجالسات بتفسير ذاك البيت من الشعر، وتفهم المرأة المعنية بالخيرة هذا المضمون بالارتباط مع ( نيتها ) التي قالتها مع نفسها في بداية الامر، وهكذا تنتهي خيرة (فال حافظ) وتستبشر او تتشاءم صاحبة الخيرة من هذه النتيجة تبعا لانسجام او تناقض معنى البيت الاخير مع مشكلتها وهدفها من اخذ (الخيرة)
ويضيف الباحث الغرابي بان من الجدير قوله بان اختيار وانتقاء هذه الابيات من الشعر الشعبي للغرض الذي ذكرته لم يجر اعتباطا من قبل نساء الجيل السابق بل ان ذلك جرى بالاقتران مع مضامين تلك الابيات الشعرية التي تتضمن ابرز الامور والمشاكل العاطفية والاجتماعية والاقتصادية ومثال على ذلك نقدم هذه المجموعة المختارة من الشعر الشعبي المكرس لهذا الغرض:
* استنطر الله ونام يا گلبي هوّد
رب العرش موجود بلكت يعوّد
* وينج ووين النوم يا يمه اگعدي
صبح عگال هواي بالگلة عندي
* يا مسير العصرين روح الهلك روح
يا من وراك سياك بس تسحن الروح
* وعلى السدر تركيب يا دلّة فوري
والسمرة طخت جاي والبيضة قوري
* يا يمة لا تشورين شورج ما اريده
وارد اخذ المحبوب واتوسد ايده
* يا لشايل الفانوس واعدل اللاله
بس اسمعت فزيت شوفة خياله
* گلبي ركن بغداد سوك الهرج بي
ميلو الولد ليغاد لا يغتلي بي
* خذت الجدر للماي رديته خالي
من جابوا اسم هواي انشده بالي
* من حنطة الغراف استخيريتج
عفت الكواني وجيت شيلم لكيتج
* شيشة ورد يا هواي حطني ابعبك
باچر يصير فراك حبني واحبك
* يا عيني لا تبجين حطو جريبين
مشية سنة على الخيل ما هم بعيدين
الادوات المستخدمة في طقوس الدعاء
اذن هكذا كانت (الخيرة) في نفوس العراقيين لاسيما النساء، اما حالات التفاؤل عند العراقيين فيتحدث الباحث اكرم ناصر عن ذلك قائلا:
كثيرة هي حالات التفاؤل والتشاؤم عند اهل بغداد، فمثلا اذا شاهدت النسوة او رب الاسرة ان العصافير تتصارع في ساحة الدار تفاءلوا بان سيطوفهم ضيف عزيز لديهم، ربما خاطب لبناتهم، وهذا الاعتقاد جاء رمزا لحادثة كونت علاقة ربطت بين صوت العصافير وحضور الضيوف واستقرت صورة هذه العلاقة في عقل بعض الناس كما عللتها بعض النسوة المسنات الواعيات هي قبل ان تظهر مكائن صقل الرز (هبش التمن) كانت النسوة يقمن بذلك بانفسهن بواسطة (الهاون والميجنة) في باحات الدور، ويسرعن في (الهبش) اذا ما طرق البيت الضيوف، فيتطاير بعض الحب هنا وهناك في ساحة الدار المنشورة، فارتبط هذا المشهد ارتباط المسبب بالسبب في عقل المرأة اشاعته بين الاخريات (فان تصارع العصافير في ساحة الدار دليل قدوم ضيف ). كذلك اذا جنحت الدجاجة اي مالت بجناحها نحو الارض دل على ان في الطريق ضيوفا كثيرين قادمين الى الدار يكلفونهم اكثر من طاقتهم، وهذه الحالة ايضا تشبه السابقة، ذلك بان الدجاج يذبح بكثرة وسرعة عند قدوم الضيوف الكثيرين الغرباء الذين يخشى من (الغيبة) الذم اذا لم يبالغوا في اكرامهم، ومن الطبيعي ان الدجاج بعد ذبحه يستمر في الخفقان بجناح واحد ويخط الارض بالاخر فارتبط مشهد الدجاجة بجناحها في الارض بحضور الضيوف الكثيرين فتحول الرمز الى عقيدة.
اما حالات التشاؤم فكثيرة منها، اذا ظهرت البومة في الليل فيصيحون عليها:
(كش.. سجينة وملح) او (سجينة وفاس.. لا عدنا مريض ولا فرخ انفاس) بدعوى ان صوت البومة شؤم على المرضى والاطفال، فيردون على شؤمها بالدعاء عليها، بالسكين تقطع رقبتها، وبالملح الذي اذا فرقع في النار (طرد الشر)، وعلى ذكر الملح، فان اكثر النساء يعتقدن بان مخلوط حب الحرمل والملح اذا حرق تحت اذيال المريض (تبخر المريض) اطرد عنه المرض والشر والحسد، وكذلك تعلق اكياس من الحرمل والملح في مهود الاطفال والبيوت..
كذلك يتشاءم اهل بغداد من غسل الملابس في نهار يوم الجمعة فيقولون (ما يصلح على اهل البيت غسل الهدوم بالجمعة) فالمفروض على كل مسلم ان يكون نظيف الملابس والجسد منذ يوم الخميس ويستقبل الجمعة بهما، اذن فلا غسيل نهارالجمعة كما وان اليهود يقومون بذلك نهارالجمعة استقبالا منهم ليوم السبت الذي لا يعملون به اي عمل ..
*مدير تحرير جريدة الشرق
الگاردينيا: نرحب بالأستاذ / كريم هاشم العبودي.. نورتم حدائقنا أستاذ كريم.. ننتظر جديدكم
984 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع