شخصية كلدانية من السليمانية ميخائيل عبد الرحيم علكة 1913 ـ 1996.
المقدمة :
لنبدأ الحكاية من مدينة السليمانية،الراوي لهذه الحكاية شيخ جليل يستمد اعتزازه وفخره من عبق التاريخ وذكريات الماضي يحن قلبه لها ، يتذكر الأحداث على مر الايام كأنها وقعت أمس ،
كان اليوم شتاء قاسيا على المدينة ، اتجهتُ نحو اقدم شوارع المدينة الى " شارع صابونكران" عند مفرق محلة كويژة حيث يقبع مقهى شعبي صغير ، جلس شيخنا في المقهى خلف طاولة خشبية قديمة و بالقرب من مدفأة نفطية يضع على كتفه معطفه ينتظرني اسمع منه الحكاية.
بعد الترحيب والسلام جلستُ مقابله لأسمع ما يروي لي وتعود به ذكريات السنين التي قضاها في المدينة ، لقد تعلق قلبه بالماضي وما يحويه من ذكريات رائعة ، فلم ينسى الايام ما فيها من ذكريات حلوها ومرها ، رفع يده ونادى على نادل المقهى قائلا له :
كاكا يك دشلمة ،( قصده شاي واحد للضيف)، (والدشلمة شرب الشاي بوضع قطع السكر في الفم وليس بخلطها مع الشاي نفسه).
سألته عن سنة مواليده هز رأسه نافيا وامتنع عن ذكر عمره ، قائلا بهدوء وثقة : " الاعمار بيد الله ولا تدري أي نفس بأي أرض تموت " ، يدخن ال سبيل (الغليون) يلف سيجارته ويحمل معه كيس تبغه الكردستاني.
قال مبتسما والسعادة على وجهه : هذا التبغ من منطقة كردجان في سهل بتوين قضاء رانية انه احسن انواع التبوغ ، وبيده سبحة خرزاتها من حبة الخضراء يداعبها ويلفها على اصابعه كأنها مبرمجه لا تحتاج للتفكير ، ولديه لحية خفيفة على ذقنه تزيده وسامة ،يداعب لحيه البيضاء الانيقة بأطراف اصابعه احيانا قبل أن يتحدث .
قال لي بغبطة وفخر متسائلا: ـ هل تعرف لماذا اخترتُ هذا المقهى لأحكي لك حكايتنا ؟
لحظات صمت ، ودارت الافكار في رأسي ثم قلت له : لا اعلم . ربما المقهى قريب لمنزلك.
قال بنبرة جدية وهادئة : ـ هذه المقهى يقع عند مدخل محلة لها اصول للمسيحيين من خلال احتفاظ احد ازقتها الضيقة بكنيسة مريم العذراء هي اقدم الكنائس في السليمانية ، وأقدم الأحياء ومنها بدأ بناء بيوت المدينة ومعظم سكان الحي من المسيحيين ، وأزقة الحي مازال البعض منها يحتفظ بوقار التاريخ ، ومنها البيوت التراثية التي نقلت لنا ابداعات البنائين والمعماريين السابقين ، الرجل الذي تريد سماع حكايته ولد ونشأ وترعرع في هذا الحي ،كان والده الياس أهل مواقف مشرفة وعادات طيبة وقلب رحيم ،
ولأخيه عبد الكريم علكة الوزير في حكومة الشيخ محمود الحفيد ، دور كبير عرف بسخائه وكرمه من خلال سنوات القحط التي ألمت بالمدينة إذ كان له الفضل في تجنب الكثيرين من اهل المدينة الموت جوعا انه زمن سفر برلك. هناك بيوت لشخصيات كردية في نهاية هذا الشارع تجد بيت الشيخ محمود الخال وهو احد كبار علماء السليمانية ، ودار مصطفى باشا رئيس المحكمة العرفية في اسطنبول وكثيرين مجاورة لبيوت المسيحيين ، وفي قلب الحي وقربه من معظم البيوت المسيحية تجد مسجد الحاج الشيخ حسن الذي تتضح معالم قدمه من تآكل بعض جدرانه ، مازال يؤمه المصلون ، ودرس فيه العلوم الاسلامية الامير عبد الرحمن بابان ،
ويقابل المسجد بناية حمام المفتي وهي من الحمامات القديمة ويستخدم من قبل نسوة الحي الان ، وفي بداية الشارع عند ساحة السراي مازالت دكان جرجيس وأخيه متي شامخة ولها كيان وهيبة وتعود جذورهما الى الموصل ، انها العلاقة الاخوية المبنية على محبة الاخرين من واقع العيش المشترك كأرقى نموذج للتعايش.
سألته مستفسرا : هل عاصرت سفر برلك ؟
تنهد واخذ نفس عميقا من سبيله ونفث دخانه قائلا : ـ سفر برلك يعني النفير العام (الترحيل الجماعي) ، حسب تفسيرها من اللغة التركية كلمتان تدب الرعب في قلوب سكان المدينة ، تاريخ أسود ونكبة حلت بأهل السليمانية الآمنون ، انتشر الفقر والبؤس والجهل والقتل . الجنود الاتراك بطرابيشهم الحمراء والبنادق المتدلية من أيديهم تقدموا نحو المدن والقرى يسوقون الرجال والشباب وحتى الصبية عرضه للسوق ،روايات كثيرة ، مؤلمة محزنة ،يجمعون المؤن من التجار والعوائل ولم ينجو من حممها إلا القليل ، كان عمر والدي سنتان وسمعت قصصها من جدي الذي عاش زمنها لأنه استطاع الهروب من ايدي الجنود .
قلت له بتهذيب ونبرة تميل للطلب : معنى هذا سيكون لنا لقاء اخر للحديث عن سفر برلك .
قال بجدية وثقة : ـ اشكرك على هذا الطلب ، من زمان وأريد شباب جيل المعلومات الرقمية يعرفون ما حل في السليمانية اثناء سفر برلك فقد كانت سنوات عجاف .
قلت : ـ نعود الى موضوعنا ماذا تعرف عن عبد الرحيم علكة .
قال بهدوء : ـ سمعت الحكاية من جدي الذي كان يملك دكان صغير في هذا الشارع يبيع فيه الأحذية النسيجية (الكلاش ، الكيوات) والزي الكردي وجلود الحيوانات الثمينة والنادرة التي تستعمل في الملابس الفلكلورية والأقمشة ، وكان عبد الرحيم علكة يتردد على هذه الشارع يشتري قماش ملابسه محتفظا بزيه المسيحي اثناء خياطته، يلبس الزبون واليلك والشروال تحت الملابس ويضع فوق رأسه الطربوش ، ويتردد على الدكانين الاخرى لشراء العسل الطبيعي والجوز الهورماني والجبن الكردي بالإضافة للصابون الذي جاءت تسمية الشارع من اشتهار اهل الحي بصناعته وسميه باسم صابون كران وتعني باللغة الكردية حي (الصابونجية) . ويعد الشارع من التراث الذي مازال يعبق برائحة التاريخ وصور الفلكلور الكردي .
وأنا حزين جدا فقد انقرضت بعض المعالم التراثية بتوالي الازمنة والحاجة لتوسيع المدينة وخسرنا البيوت ذات الطراز الشرقي التي تزين أغلب واجهاتها النقوش والريازة المعمارية الكردية الجميلة ، فقد هدمت بعض البيوت تحولت الى مواقف للسيارات داخل هذه الازقة وفقدت المدينة تراثها المعماري وضيعنا الخيط والعصفور،و لا يوجد من يوقف هدم وتدمير التراث والمعالم التراثية والفلكلورية التي تعكس اخلاقيات ثقافية واجتماعية خلال حقبة زمنية لكنها تكاد تندثر في السليمانية بسبب الاهمال وغياب المتابعة وأدعو ايقاف الهدم العشوائي للدور والأبنية التراثية في المدينة وتحويلها الى ساحات لإيقاف السيارات وإيجاد البدائل لهذا الهدم .
مستفسرا منه:اعتقد ان منزل عائلة الياس علكة ما زال قائما في هذه الحي .
قال بحزن ومرارة : ـ نعم لقد كان المنزل تحفة معمارية شارك فيه تصميمه مهندسون معماريون ايرانيون و تنوي محافظة السليمانية استملاك المنزل لصالح الاثار وتحويله الى متحف ، المنزل يحتوي على شبابيك مزخرفة بزخارف تأخذ أشكال هندسية بالرسم على الزجاج الملون ، وله نكهة خاصة صنعتها يد تلك البيئة الكردستانية فيه إحساس مرهف بالجمال فالجمالية تظهر في الزخرفة بأشكالها المختلفة ، ونفاذ أشعة الشمس من خلال الزجاج الملون ، تضيف الاشعة على البيت جمالاً وتلويناً ، ونقوش جميلة على الجدران والمنزل من طابقين ووقوعه في هذا الحي تهيمن عليه روح التقاليد والعادات والتراث ، تجدها متجسدة في سكان المنزل الاصلين ، لكنه فقد الكثير من تراثه واخشى ان يفقد اكثر من قبل المستأجرين سكان المنزل .
جاء النادل ووضع امامي طبق صغير فيه قطع من السكر واستكان الشاي بدون ملعقة . شكرته وابتعد عن مجلسنا .
قال شيخنا الجليل مشيرا الى الطبق الصغير فوق الطاولة :
ـ هذا السكر اسمه سكر قَنْدُ ( شكر كله ) و(ألقَنْدُ هو عسل سكر القصب) .
سألته باستغراب وتعجب : ـ ما علاقة تاجرنا عبد الرحيم علكة موضوع حكايتنا بسكر ألقَنْدُ ؟
أخذ نفسا عميقا ونفث دخان سبيله واعتدل في جلسته واسند ظهره على الكرسي وقال :
ـ كنا اطفال صغار نسمع حكايات قبل النوم من جدي ، نلتف حوله ونسمعه بشغف وهو يحكي قصصاً رائعة و نقاطعها لنستفسر عن اشياء لا يستوعبها عمرنا الصغير . تبدأ الحكاية أنه كان فيما مضى من قديم الزمان قبل مائة وثلاثين سنة تقريبا ، كان في مدينة السليمانية تاجر جملة كبير (حبوب وصوف وأقمشة .. الخ ) من عائلة كلدانية اسمه الياس علكة وله من الاولاد اربعة صبيان وبنتان ، وعبد الرحيم هو الابن الثالث لعلكة ، اشتهرت تجارة الياس وازدهرت صادرته ووارداته ، واهم ما قام به في تلك الحقبة الزمنية فتح له فروع تجارية في مدن اخرى وخاصة بعد وصول التلغراف ، أرسل ابنه عبد الرحيم ليستقر في بغداد وكان محق بذلك ، لعدة اسباب اهمها تجنب قطاع الطرق واللصوص والحفاظ على سلامة ابنه الذي كان يتردد بين بغداد والسليمانية مرافقا للقافلة وبدأ الابن يبيع ويشتري البضائع والسلع مع تجار في بغداد وجنوب العراق . كان للتلغراف دور مهم ، على سبيل المثال يرسل عبد الكريم برقيه من مكتب تلغراف السليمانية مدون فيها ما يحتاج من بضائع يستلمها مكتب تلغراف بغداد ثم تسلم الى عبد الرحيم الذي يجهز القافلة ويرسلها بصحبة حراس لها ومع اصحاب الحيوانات ،
تخرج القوافل من بغداد متجهه نحو السليمانية من البغال والحمير محملة بأكياس تدلى على جانبي الحيوان بداخلها قوالب مخروطيه مغلفة بورق ازرق انه سكر ألقَنْدُ (شكر الكله ) وهو اول من جلبه للسليمانية بالإضافة لبقية البضائع المستوردة مع الالبسة والأمتعة الاخرى تتوقف القافلة في احد خانات كركوك لمدة يومين او ثلاثة بغية الحصول على مفرزة من الجنود النظامين الاتراك لحمايتها من اللصوص وقطاع الطرق اثناء مرورها بقضاء جمجمال وبازيان و الجبال التي تقع غربها . تتحرك القافلة من كركوك مع شروق الشمس وفي مقدمتها الجنود يمتطيا جيادهم مهيأين وكل جندي مسلح ببندقية ومسدس وخنجر ويلفان على اكتافهما الخراطيش . عند الظهيرة تحط القافلة في قرية قره هنجير الواقعة في بطن الوادي جنوب الطريق للاستراحة وتناول الغذاء مما يحملون معهم من زاد ، وفي مساء اليوم تصل القافلة قضاء جمجمال وإذا بدأ المطر ينهمر والقافلة في الطريق تلتجئ القافلة الى احد القرى وتستأجر مكانا مسقفا ربما تكون واجهته مكشوفة لمدة يوم او يومين لحين وقوف المطر ثم تتابع القافلة طريقها الى السليمانية . قبل مرور القافلة بمضيق بازيان وعلى جانب الطريق الايمن تمر القافلة على اثار دير يحتضن في كنفه كنيسة تحاكي كنيسة المدائن التي تعتبر من أوائل ما شيد في العراق وتعد كنيسة بازيان غرب مدينة السليمانية والواقعة في سهل بين جبلين من الكنائس القديمة في العراق والمنطقة ، وهي من الكنائس القديمة في المشرق ويعود عمرها الى ستمائة وخمسين عاما تقريبا مما يدل على تواجد المسيحيين في المنطقة ، وتدل اثارها على أنها كانت كنيسة عامرة ، وخاصة الأعمدة المنتشرة في أطرافها ، ويحيط بهيكل الكنيسة عدة (قلايات) اي غرف صغيرة لسكنى الرهبان ، وهذه المنطقة و مناطق السليمانية و شهرزور كانت تابعة في السابق لرئاسة اسقفية بيث كرماي ومركزها كركوك .
لا اعلم سنة انتقال التاجر عبد الرحيم علكة ذو الخبرة التجارية الجيدة الى بغداد لكنه خلال مدة زمنية قليلة وسع الخان الذي استأجره وأصبح من كبار تجار الجملة وبدأ يستورد الاقمشة والبضائع من بومباي ودول اخرى عبر بواخر ترسو في البصرة وتنقل الى بغداد ثم توزع على منطقة كردستان . وسهل له وجود مصرف يستطيع تحويل المبالغ المالية فقد قام العراقي اليهودي خضوري زلخة بفتح مصرف يهودي أهلي عراقي في بغداد عام 1899 ، كما أسس خضوري شبكة مالية في لندن وبيروت ودمشق والقاهرة ،مع العلم إن خضوري قد غادر مع عائلته العراق عام 1941 ، وتم مصادرة أمواله والبنك الذي أسسهُ من قبل الحكومة العراقية في العهد الملكي. كما تأسست غرفة تجارة بغداد عام 1910 فكانت أول غرفة تجارية بالمعنى الصحيح . ونلاحظ بعد سيطرة اليهود على الغرف التجارية العراقية فرضوا هيمنتهم على السوق ، عن طريق منح الوكالات لليهود العراقيين أو فتح فروع للشركات الأجنبية بالعراق ، وتحديد أسعار البضائع المصدرة إلى الخارج ولاسيما الحبوب والتبغ ، إذ شكلوا الأغلبية العظمى في لجان تحديد التسعيرة. وانعكست سلبيا على بقية التجار .
كما كان يرسل علكة الاب الابن الصغير للعائلة فرنسيس الى مدينة التون كوبري لتجارة الصوف والجلود ، حيث كثير من العشائر الكردية كانت حياتهم تعتمد على الترحال بين شمال و جنوب جبال كردستان وسهول الجزيرة بحثاً عن المرعى لماشيتهم طول أيام السنة. ولأن تربية الأغنام باتت المهنة الأساسية التي يزاولونها وفق معايير توارثوها عن أجداهم،وابتداء من منتصف نيسان من السنة وكعرف متداول في المنطقة يبدأ جميع مربي الأغنام بجز صوف الأغنام بمقص خاص ويتميز الرعاة بأنهم يعرفون طريقة جز الصوف و أصبحا لهم اسلوباً يتوارثه الابن من الأب ،بعد جز الاغنام يعبأ الصوف في اكياس.
يقوم فرنسيس بشراء الصوف من الرعاة وينقل الى شواطئ نهر الزاب في مدينة التون كوبري وتبدأ مراحل التنظيف وغسله لأنّ تنظيفه يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه لا يوفرها غير النهر ، تقوم النسوة التي يستأجرها فرنسيس بغرق الصوف في الماء حتى يتبلل تماماً ومن ثم يتم وضعه على حجر مسطح الشكل ودقه بواسطة عصا خشبية غليظة خاصّة يسمى الخاطور الذي كان يستعمل لخطر الملابس اي ضربها بهذه الاداة الخشبية قبل ظهور مساحيق الغسيل لغرض تنظيفه ، ويستمر العمل بهذا الشكل حتى يتم الانتهاء من غسل كامل الصوف ، و يتم نشره على حبال متينة مشدودة على اعمدة مثبته على شاطئ الزاب تحت الشمس حتى ينشف تماماً ، بعد مرحلة جفاف الصوف تقوم النساء بتنظيفه من بقايا الأشواك والقش المتعلق به يدوياً ،يعبأ الصوف بأكياس خاصة ويستغرق هذا العمل عدة اشهر ، وكان فرنسيس يشتري كميات كبيرة من الصوف ،
بعدها ينقل الى بغداد بواسطة الكلك وهو من وسائل النقل النهري القديمة التي بقيت إلى منتصف القرن الماضي في المدن العراقية الواقعة على الأنهر ، والوسيلة السهلة للنقل من المدن الواقعة شمال نهر دجله إلى جنوبه ، والكلك عبارة عن مسطَّح من سيقان الأشجار مربوط بشدة ، يحمل الأشخاص والبضاعة فوقه ، ويسير بواسطة تيار النهر ، ومنها ما هو مصنوع من جلود الماعز المنفوخة التي تربط سوية بأعمدة وتُغطى بأحْصِرَة اي بساط منسوج من الخوص ، تنحدرُ هذه "الأكلاك " إلى بغداد بالمئات تنقل الصوف ، والجلود. يستلمها عبد الرحيم في بغداد وتباع الى معمل نسيج ( العبَّخانه ، وهي من "العباءة خانه" او محل صنع العباءات )
وهو أول مؤسسة بسيطة للصناعة أقامها مدحت باشا 1868-1871 في بغـداد ثم أعقب ذلك ما عُـرف ( بمدرسة الصنايع ) حيث تلقى البغداديون أوائل العلوم عن الصناعة الحديثة ...ثم تحول الى معمل فتاح باشا لصناعة البطانيات .
سألته بتواضع مستفسرا : ـ هل لديك معلومات عن التجارة في تلك الفترة وكيف كانت ؟
أجاب موضحا : ـ يصنف التجار الى ثلاثة اصناف تجار الجملة وهم يعدون بعد اصابع اليد وأصحاب الدكانين المنتشرون في الاسواق الذين يبيعون الالبسة والأقمشة في دكاكينهم بالإضافة لمواد البقاله والأدوية والتوابل فقد كانت بعض هذه الدكاكين تبيع بالجملة لبائعين يتجولون في القرى حاملين كميات من البضائع على اكتافهم او على البغال والحمير واشتهر بهذه الطريقة اليهود .
ترتبط تجارة الحبوب بتسديد التاجر المبلغ قبل موسم الحصاد حيث يعقد الفلاحين صفقات مباشرة مع تاجر الجملة مقابل تجهيزهم باحتياجاتهم من بضائع خلال فترة الشتاء ولا يحق للفلاح بيع محصوله لغير التاجر.
سألته مستفسرا : هل كان لمسيحيين السليمانية دور في التجارة ؟
أجاب : نعم .. في تلك الفترة الزمنية وأثناء الحكم العثماني ومن ثم تأسيس الدولة العراقية كانت عائلة علكة هي التي امتهنت التجارة ولها ثقلها التجاري في المدينة .ولم يبقى اي فرد من هذه العائلة في السليمانية جميعهم هاجروا ، اما بقية العوائل امتهنوا الاعمال الحرة ومنهم من عمل في مؤسسات الدولة . اما الان فيوجد بعض العوائل تعمل في التجارة .
سألته : ـ ماذا تعرف عن الحياة الاجتماعية لعبد الرحيم علكة .
قال بثقة وجدية : ـ ان الارث الثقافي الذي حافظ عليه مسيحيو السليمانية يتميز بخصوصيته رغم مشاركتهم المجتمع الكردي في كثير من الاعراف والتقاليد . ويعتبرون الموروث الشعبي جزءاً مهماً من تاريخهم وثقافتيهم بدءاً بلغة السورث فهم يتكلمون فيما بينهم هذه اللغة ويكتبون الحرف الآرامي اللذان يمتد عمرهما الى الحضارات الاولى في وادي الرافدين ، ويعتزون بالموروث الشّعبي الذي يحمل رؤية الشّعوب لأصولهم وتاريخهم ، حيث أن تراثهم يمثّل قوّة دفع ومصدر ثقة مروراً بطقوس الزواج والميلاد والأعياد والعادات والأزياء التي ورثوها من اجدادهم . فتراثهم باقٍ وخالد ، لأن العادات والتقاليد وكل الممارسات التي اكتسبوها تنقل من جيل الأجداد الى الآباء ولا تزال يمارسها الابناء . وعبد الرحيم هو احد الابناء الذي تمسك بالتراث .
في بغداد تزوج عبد الرحيم حسب الطقوس الكنسية والعادات والتقاليد الموروثة من السيدة ريجينا تيسي ورزق منها اربعة صبيان (عزيز درس الهندسة ، ميخائيل دكتوراه في الانواء الجوية ، لطيف طبيب اختصاص امراض نسائية ، فيكتور ضابط طيار سقطت طائرة اثناء التدريب ) ، وثلاثة بنات هن (سيسيل ، ماري ، مادلين ) انتقلن للسكن الى امريكا . وبعد وفاة زوجته الاولى تزوج من السيدة انجيلا بهلوان ورزق منها بنتان (يفيت ، وبرناديت) .
سألته : ماذا تعرف عن ابنه ميخائيل عبد الرحيم علكة ؟
أجاب والابتسامة على وجهه : كنت طالبا في الاعدادية عندما جاء ميخائيل علكة الى السليمانية ليدرس الفيزياء كان ذلك في عام 1944 وجلب انتباهي انه كان مولعا بظواهر الطقس والمناخ مع بداية العام الدراسي الجديد اتذكر حديثه وتوقعاته حول الانواء الجوية ويعرف متى تهب الرياح وتنخفض درجات الحرارة وتهطل الامطار وتسقط الثلوج ، جاء مدرسنا في احد الايام الى الصف وقال كنت اراقب من الفجر ظهور نجمة كلاويژ( نجمة سهيل ) ، كلاويژ في الفلك هو ألمع نجم في مجموعة النجوم والتي تظهر مع نهاية شهر اب وبداية شهر ايلول في الفجر ويعني ظهوره بداية التغير الفصلي ،حيث سيبدأ النهار تراجعه ويبدأ الليل يطول ، ويشهد الطقس خلال هذا الشهر انخفاض في درجات الحرارة خصوصا في الليالي و ينكسر قيض الحرّ وتهب نسمات عذبة بعد منتصف الليل قادمة من الشمال ، وتشتد برودة الجو كلما اقتربنا من الصباح دلالة على حلول فصل الخريف ، فهبوب الرياح التي يصحبها تساقط الأوراق أشجار تسمى بالكردية رياح ( خه زان ) ، وكان يتوقع موعد تجمع كتل الغيوم وظهورها في السماء ، وانخفاض درجات الحرارة ويقول لنا نحن اقتربنا من فصل البرودة والثلج و يتوقع موعد سقوط الثلوج وكم ويوما يستمر تساقطها وسمكها . وأتذكر كلامه عن الرياح الشمالية الغربية القادمة من البحر المتوسط المحملة بكتل الغيوم والتي تسبب هطول الأمطار الغزيرة ، وعند اجتياز الرياح لكردستان يتوقف سقوط المطر ، وتهدأ الرياح ، ويصحوا الجو ، واعتقد انه سافر للخارج وأكمل دراسة الانواء الجوية . يا ليت يعود العمر مني للوراء وادرس هذا العلم لأننا نفقده وكم بحاجة اليه .
قلت له ـ نعم لقد سافر ميخائيل للخارج وأكمل دراسته ، ماذا تعرف عنه اكثر؟
قال بهدوء : ـ لا اعرف اكثر مما قلت عن هذه الشخصية الكلدانية من السليمانية .
سألته مستفسرا : كيف كانت الحياة الاجتماعية لسكان السليمانية خلال فترة تغير المناخ في تلك السنين الماضية ؟
أجاب بهدوء وتوضيح : فصل الخريف هو فصل كئيب بشكل عام ومن مناظره المألوفة ، هبوب نوع من الرياح التي يصحبها تساقط مستمر لأوراق أشجار الغابات والبساتين والحدائق و أفضل من ظروف فصل الصيف فتشد حرارة الجو وتزداد حالات الملل عند الناس ويكثر البعوض وينشغل الفلاحين بالحصاد وبيع محاصيلهم ، اما الشتاء في كردستان يمتاز بثلوجه وبروده الجو ويتشاءم الفقراء لتوقف الاعمال ، وعلى الفلاحين الجلوس في بيوتهم حول مواقد النار وشرب الشاي والتدخين والاستمتاع بالأحاديث وانتظار انتهاء فصل الشتاء والمباشرة في الربيع لزراعة الحقول. أما أطفالهم فينشغلون عادة برمي البلوط في مواقد التدفئة ثم تناول لبها المشوي. أما النساء فأنهن ينتهزن حلول الشتاء لمزاولة أعمال الحياكة والنسيج.
ويأتي فصل الربيع فتزدان الطبيعة بحلتها الجميلة ، ويعتدل الطقس وتبدأ كتل الثلوج بالذوبان ، وتنمو الحشائش وتتفتح إزهار النرجس والرياحين .
ودعت شيخنا الجليل وشكرته على امل ان نلتقي بعد يومين لكي يحكي لي ذكرياته عن زمن سفر برلك .عدت للسويد بعد انتهاء اجازتي ، وخلال اسبوع حصلت على بقية المعلومات عن الدكتور ميخائيل علكة .
ميخائيل عبد الرحيم علكة :
من مواليد 26 حزيران 1913 في بغداد ، يحترم الآخرين و يحافظ على الإصغاء الجيد ومناقشة الموضوع المطروح وعدم الخروج عنه يعمل بتوجيه الحديث إلى الهدف المنشود ، هادئ و بشوش وتتميز أعصابه بالاسترخاء ، طيب القلب ، ومنذ طفولته نبغ وظهرت عليه سمات الذكاء ، يتكلم العربية والكردية والتركية والكلدانية والفرنسية والانكليزية وقليل من الاسبانية .
ظهرت سمات حبه للطقس وأسباب تغير المناخ منذ صباه ، عندما يزور مدينة السليمانية مع عائلته كان ذلك ايام الصيف والعطل المدرسية الربيعية ، جلب انتباه ميخائيل هبوب الرياح التي تهب على السليمانية والتي تسمى بـ الرشبة (الره شه با) أي الرياح السوداء التي تداعب المدينة بقوة وشراهة بين فترة وأخرى والتي تحدث نتيجة تخلل في الضغط الجوي وتغير درجات الحرارة ، حيث السليمانية محاطة بالجبال والرياح تأتي من الوديان . وهذه الرياح قوية وسريعة تكسر الاغصان وتخلع الأشجار ، وتسقط لوحات المحلات وتقلع سقوف البيوت القديمة المبنية بالطين والقصب ، ترافقها أحيانا زوبعة تسمى بالكردية ( كيژة لولكة ) تدور الرياح في مكان واحد كما تجعل الإنسان لا يستطيع السير ضدها ، و (باو بوران) الرياح القوية المصحوبة مع مطر غزير تختلف عن (فرته نيا ) السريعة المطر هذه الرياح تحدث في الربيع والشتاء والخريف ، كان ميخائيل يسأل عنها وكيف تحدث ،كما كان يسأل عن المطر الربيعي الذي يؤدي الى طوفان المدينة نتيجة سقوط الحالوب والمطر السريع الذي يرفع مستوى المياه في الشوارع . ومن الملاحظ انه كان يقف على سطح المنزل يراقب هبوب النسيم العليل وخاصة في الصيف وقت المساء عندما تقوم بنات العائلة بعد المغرب مباشره برش السطح بالماء حتى يبرد فقد كانت جميع بيوت المدينة شعبية مبنية من الطين و الحجر ، هذه العوائل تنام في السطوح لعدم وجود مكيفات انذاك ، يتنبأ بموعد هبوب (الره شه با) على المدينة بالإضافة الى التغير الذي سيحصل بدرجات الحرارة او سقوط الامطار وكان اهله يتعجبون من ما يقول لهم وهو صبي .
التحق في الجامعة الامريكية في بيروت عام 1925 وفي سن مبكرة لاحظ المدرسون نبوغا غير عادي على الصبي واهتماما زائدا منه بالمواد العلمية وانهى الصف الاول والثاني بسنة واحدة ، وسرعان ما أدهش الجميع بذكائه الحاد وقدرته على تذكر جميع المعادلات الرياضية والنظريات العلمية وكانت دهشة مدرسيه بلا حدود وانهى صفي الثالث والرابع بسنة واحدة اي انهى الثانوية بسنتين وانتقل للجامعة سنة 1927 بعمر الخمس عشر سنة وأصبح مدرسا للمدارس الابتدائية في سن السابعة عشر وأدرك المدرسون أن هذا الشاب سيكون له شأن عظيم في المستقبل وازدادوا اهتماما به وتشجيعا له .
في عام 1938 سافر الى انكلترا وتلقى التدريب على الارصاد الجوي الاولي وعاد للعراق وعمل متنبئ جوي في دائرة الارصاد الجوي .
في عام 1941 حصل على بكالوريوس رياضيات بدرجة شرف من الجامعة الامريكية في بيروت . عاد وعمل متنبي الارصاد الجوية العراقية في عام 1942 استطاع ميخائيل تكمله مشروع اطلس الانواء الجوية العراقية المتوقف ورسم العدد الاكبر من خرائطه مع تدوين المعلومات المناخية عليها للعراق باسم (Metrological service Climatogical Atlas for Iraq ) الذي طبع بمطابع المساحة لحساب وزارة الدفاع العراقية . حيث كانت الهيئة العامة للأنواء والرصد الزلزالي احدى تشكيلات وزارة النقل تأسست عام 1923 من قبل القوات البريطانية حينذاك تحت اسم مصلحة الانواء الجوية وأنشأت ثلاث من دوائر الرصد الجوي لخدمة اغراضها العسكرية في كل من الموصل والحبانية والشعيبة . وفي عام 1936 انتقلت ادارتها الى ايدي عراقية تحت ادارة الطيران المدني وضمن تشكيلات وزارة الدفاع .
في عام 1944 عمل مدرس للفيزياء في السليمانية فقد روى شيخنا جزء منها ،لكن كان انشغاله ودراسته الرصد الجوي لا تتوقف وخاصة في مجال استخدام التنبؤات الجوية ،كالتحذيرات الجوية لحماية الأرواح والممتلكات من الكوارث الطبيعية ، والمحافظة على البيئة ، وتحسين الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لجميع قطاعات المجتمع في مجالات الأمن الغذائي ، وموارد المياه ، والنقل. واستخدام الأرصاد الجوية في الخدمات العامة في مجال الطقس، والزراعة، والطيران ، والملاحة ، والبيئة ، وقضايا المياه ، والتخفيف من آثار الكوارث الطبيعية وعلى معرفة تغيرات درجة الحرارة واحتمال هطول الأمطار لصالح المجال الزراعي .
سافر الى امريكا بعد حصوله على زمالة من الحكومة العراقية لمدة سنتين وفي عام 1949 حصل على شهادة الماجستير بعلم الظواهر والأحوال الجوية من جامعة شيكاغو ، بعدها عاد للعراق وأصبح نائب لمدير الارصاد الجوي لغاية ايلول في عام 1950 ثم سافر و تابع دراسته في جامعة شيكاغو وفي عام 1954 تزوج من السيدة لوسيل التي كان قد التقى معها في نفس الجامعة ، أكمل دراسته وحصل على شهادة الدكتوراه .بعدها انتقل في عام 1955 الى جنيف وأصبح المسئول الفني ونائب رئيس قسم التحقيقات في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) وهي وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة ، عملها يتعلق بحالة وسلوك الغلاف الجوي للأرض ، وتفاعله مع المحيطات ، والمناخ الذي ينتج عنه ، وتوزيع موارد المياه الذي ينجم عن ذلك ،ومنذ إنشائها قامت بدور فريد وقوي في المساهمة في سلامة البشرية ورفاهتها . ولها مساهمة كبيرة في حماية الأرواح والممتلكات من الكوارث الطبيعية ، والمحافظة على البيئة .
عاد الى امريكا في ديسمبر 1960 ، الى مركز بحوث للأرصاد الجوي في المشروع القومي للبحوث إعصار في ميامي ، فلوريدا حتى عام 1964 وكان له بحوث واسعة في الرصد الجوي ونشرت الصحف دراسته حول الطقس والحمل الحراري بواسطة الرادارات الرقمية لمعرفة حالة الغلاف الجوي .
عام 1967 انتقل الى واشنطن وشارك في اعمال عدة ولجان وطنية ودولية وشملت اعداد خطط وطنية على المستوى الدولي ،كان يعتبر رائدا في بحوث الغلاف الجوي وعضوا في الجمعية الملكيه للرصد الجوي الامريكي. انتقل في عام 1981 الى كاليفورنيا واستقر هناك مع زوجته حتى وافته المنيه في 7 مارس 1996 عن عمر ناهز الثانية والثمانون وله من الاولاد ثلاث بنات .
له عدد من الكتب والمؤلفات ادرج ادناه مؤلفاته :
1.Short range thunderstorm forecasting for aviation (FAA-RD report) by Mikhail A Alaka (1975(.
2.The occurrence of anomalous winds and their significance (National Hurricane Research Project ; Report) by Mikhail A Alaka (1961(.
3. Climatology of Atlantic tropical storms and hurricanes (ESSA technical report) by Mikhail A Alaka (1968(.
4. A case study of an easterly jet stream in the tropics by Mikhail A Alaka (1955(.
5. Aviation aspects of mountain waves (World Meteorological Organization. WMO [publications]) by Mikhail A Alaka (1958).
6. Problems of tropical meteorology. A survey (World Meteorological Organization. Technical Note. no. 62.) by Mikhail A Alaka (1964).
في الختام
ميخائيل احدى الشخصيات المسيحية التي كان له دوراَ كبيراَ في خدمة ثقافة شعبهم ، الذي كرس نفسه لخدمة أبناء جلدته مدافعاَ عن حقوقهم في بناء العراق المعاصر. ولكنه بقى بعيداَ عن الأضواء . خدم الفقيد العراق خدمات لا ينكرها احد وخاصة الاطلس الجوي ، في النهاية اود اقول ان اعماله وحياته هي انعكاس لنظريته في الحياة ، رحم الله الفقيد الدكتور ميخائيل عبد الرحيم علكة .
المصادر :
1.معروف جياووك ، هه زار به ندو به ند ، بغداد ، مطبعة النجاح 1980
2.مهدي خال ، به ندى بيشينان ، ط 2 ، 1971
3.الاثار الكاملة ..الجزء الاول .. توفيق وهبي بك
4.الكرد .. توما بوا
966 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع