بغداد في ايام الزمن الجميل/الحلقة الأولى
خرجت بغداد من ركام الحرب العالميه الاولى وهي خراب وظلام قاتم واحتلال اخر وهي تأن من الحروب وعدم توفر اي خدمه تذكر من مواصلات الى تعليم الى مياه صالحه للشرب الى طرق معبده الى سكن مناسب لم تكن بغداد تعرف ماهية منظومة الصرف الصحي وكل شيء فيها بدائي ,, لقد كانت بين المطرقه والسندان في تلك الحرب وهي كما يصفها المؤرخون اشبه بقريه مهجوره ومدينة اشباح تفتقر الى كل شيء وبعيده عن الحضاره كثيرا .. ثم هيأت لها الظروف السياسيه ان يتوج عليها فيصل الاول ملكا وهي في هذه الحاله المزريه وخزينتها خاويه ولايزال القانون العثماني ساريا فيها ,,,
ولكن فيصل كان كما يصفه الكثيرون رجل شجاع وذا خبره سياسيه وطموح بأنشاء دوله عصريه حديثه تحاكي دول اوربا وكان بالتاكيد ان تكون البدايه في بغداد والبصره والموصل ..
لقد عمل فيصل الكثير حتى وفاته وترك الحمل لمن بعده يواصل المهمه وعندها كانت بغداد قد قطعت شوطا كبيرا في مجال التقدم والنمو والحداثه واستمر العمل على هذه الوتيره بالرغم من تذبذب الاوضاع السياسيه ونشوب الحرب العالميه الثانيه ولكن بغداد اصبحت منارا في مطلع الخمسينات حيث كان الدول المجاوره تتطلع اليها وتمني نفسها بان تكون على شاكلتها ,, جميع دول الخليج لابل جميع الدول العربيه باستثناء مصر ولبنان كانت متخلفه عن العراق باشواط بعيده وحتى ايران ..
لقد بدأت بهذه المقدمه لكي اعطي انطباع مختصر لما كانت عليه الاوضاع في بداية الحكم الملكي وما الت اليه الاوضاع لاحقا وخاصة بعد انقلاب 14 تموز 1958 .. بامكان القارىء ان يقارن بعد قراءة المقاله بين الاوضاع التي كانت سائده والاوضاع التي عليها بغداد وهي التي تعتبر النموذج الذي يؤخذ عليه القياس ,,
ولابد ان اشير الى اني اخترت مناطق معينه من بغداد لوصف ما كانت عليه وهذا لايعني انه حال جميع مناطق بغداد ولكني اخترت الافضل الذي يفترض تعميمه على الاخرين وهو النموذج الجيد ولنبدأ بالمواصلات التي كانت في بغداد و تتالف من النقل العام وهو (مصلحة نقل الركاب ) او كما يسميها اهل بغداد (الامانه) او الباص الاحمر المشابه للباص الانكليزي والذي كان يغطي بغداد وضواحيها وبامكان الفقير قبل الغني من استخدام هذه الخدمه ..
كان سعر الجلوس في الدرجه الاولى 14 فلس وللدرجه الثانيه 10 فلوس ولسفره واحده اي من نقطة البدايه الى نهاية الخط .
وكان الفرق بين الدرجه الاولى والثانيه هو تغليف مقاعد الدرجه الاولى بالجلد والاسفنج ..
كان الجباة يرتدون قيافه شتويه وصيفيه تصرف لهم من المصلحه بدون ثمن وهي كسوه سنويه وكان اللون الشتائي رصاصي غامق قليلا والصيفي بني فاتح اقرب للترابي وكان الجابي يحمل حقيبه جلديه معلقه بحزام جلدي على كتفه يضع فيها النقود ودفاتر التذاكر للدرجتين ويرتدي القبعه (الكاسكيت) ونظام القيافه لايطبق على الجباة فحسب بل على السواقين والمفتشين ايضا وكان السائق يعمل بامرة الجابي عند الشروع بالحركه بواسطة جرس يستعمله الجباة فقط كان التدخين داخل الباص ممنوع منعا باتا هكذا كانت تقول الافته المكتوبه داخل الباص ويكتب معها ايضا عباره (ساعد الجابي باصغر نقد كافي ) وهي لتسهيل عمل الجباة وكان نظام الوقوف مسموحا ولركوب الباص واستخدامه اسلوب وتقليد فان من الملاحظ ترك الرجل او الشاب كرسيه للمراه او للرجل المسن وكان كفيف البصر معفيا من الاجره ولم يكن يسمح بوقوف الباص الا في المحطات المخصصه كما لايجوز تبديل خط السير مهما كانت الاسباب الابموافقة مسؤول السير والتفتيش على تتم عملية تبديل رقم الخط الى الرقم الجديد ..
كان المفتشون لهم الصوت العالي في مراقبة العمل وخاصة عملية قطع التذاكر وعدم اغفال اي شخص دون ان يدفع الاجره وكانت قيافة المفتش جميله ونظيفه وهيبه وكانه قائد عسكري ويحاسب الجباة والسواقين على قيافتهم ونظافنها ... اليوم عندما نستذكر تلك الايام نرى كم كنا متطورين ومتقدمين وملتزمين بالنظام .. نعم كانت دول الجوار تأتي لتتعلم من بغداد كيف تاكل وكيف تلبس وماذا لديها من تطور ..
كان نظام العمل في تسيير الباصات دقيق جدا وبامكان الراكب معرفة خط سير اي مركبه بسهوله من خلال الرقم الذي تحمله في واجهتها العليا والخلف وكذلك مكتوب على لوحة المحطه وكانت كل الامور تسير بالطريقه الانكليزبه عندما زرت لندن مرت بخاطري كل هذه الصور وكاني في بغداد ..
نادرا ما كان يتأخر الباص عن موعده الا بسبب قاهر وكانت مفارز التصليح جاهزه باستمرار لتصليح العطلات وهيئة السير والتفتيش لتبديل الباص باخر من الاحتياط ,,
كان كل شيء يسير بنظام دقيق واسلوب رائع ومريح بالاضافه الى مصلحة نقل الركاب كانت هناك سيارات الاجره العائده للقطاع الخاص وكانت على نوعين الاول وعددها 200 سياره تحمل (باجات ) خاصه تخولها الدخول الى شارع الرشيد والعمل فيه اما الثانيه فهي تعمل في عموم بغداد ولكن لايحق لها الدخول الى شارع الرشيد والسبب هو المحافظه عل مظهر خاص لشارع الرشيد وكانت السيارات تخضع لشروط وفحوص فنيه وارقام خاصة كانت باللون الاسود ولكن تم تبديلها في بداية الخمسينات الى اللون الاحمر وجعل الاسود للخصوصي ,, كان سائق العجله الاجره ملزم ان يعلق تفاصيل السنويه في اطار حديدي زجاجي يبين فيه سنوية السياره ومالكها وكذلك الحال مع الدرجات الناريه والهوائيه واضافة لسيارات الاجره كانت هناك العربات التي تجرها الخيول وهي محدد باماكن اكثرها شعبيه.. كان القانون هو السائد والنظام هو المطلوب !!! هكذا كانت بغداد ايام الخير والمحبه .....
والى لقاء اخر مع تحيات عبد الكريم الحسيني
1409 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع