تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة - ٩( ج٢) اليهود في التجارة والمؤسسات المالية

   

تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة - ٩( ج٢) اليهود في التجارة والمؤسسات المالية  من كتاب: تاريخ يهود العراق المعاصر

    

نستمر بنشر فصول من كتاب تاريخ يهود العراق المعاصر للباحث الإسرائيلي المعروف د. نسيم قزاز والذي أصدرته رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل في 2020.

في الفصل الثامن (ج2) يتطرق المؤلف الى بداية التمييز ضد اليهود في المجال الاقتصادي في العراق وفي دوائر الدولة في الثلاثيات من القرن المنصرم وكيف ان أحوال اليهود تغيرت تغييراً جذرياً بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد اندلاع الحرب بين الدول العربية وإسرائيل عام 1948 حيث مارست السلطات العراقية سياسة الإرهاب والإجحاف بحق المواطنين اليهود. واستغنت المؤسسات المالية التي أقيمت في العراق بعد الحرب العالمية الثانية عن خدمات الموظفين اليهود.
ويعرض د. قزاز نماذج من التحريض ضد اليهود الذي قامت به الصحف القومية كاليقظة والنهضة. كذلك يتطرق الى تقرير من السفارة الامريكية في بغداد في 1949 بحدوث مشاكل خطيرة في جميع مجالات الاقتصاد العراقي إذا ما تم خروج اليهود من البلاد. ثم يذكر موقف بريطانيا السلبي من اليهود وكيف تحولت معاداة البريطانيين للتجار اليهود إلى حرب علنية. ويضيف د. قزاز كيف لم تتفهم زعامة يهود العراق أن استبعاد اليهود من المجالات الاقتصادية هو أمر لا مفر منه وأنه سيحدث عاجلاً أو آجلاً.
الفصل الثامن -(ج 2) اليهود في التجارة والمؤسسات المالية
" لا سامية" واضطهاد في المجال الاقتصادي

تضعضعت ثقة يهود العراق بمستقبل زاهر بعد انتهاء الانتداب البريطاني ورحيل الملك فيصل الأول عام 1933، الذي تمتع بشعبية كبيرة وكان محبوباً من قبل الجميع. خلفه بعد رحيله نجله الملك غازي الذي كان شخصية ضعيفة، ولم يكن في وسعه كبح جموح السياسيين الذين دهوروا البلاد في صراعاتهم وانقلاباتهم. وهيمنت الأوساط القومية المتطرفة على زمام الأمور في المملكة. وراجت الدعاية النازية مستغلةً الوضع في فلسطين ومعاناة اللاجئين السوريين والفلسطينيين المتواجدين في العراق. وكان لهذه الدعاية صداها الإيجابي لدى الأوساط السياسية والحكومية في العراق مما أدى إلى تصاعد التحريض ضد اليهود والتنكيل بهم.
تحت قناع حماية الاقتصاد اتخذت الحكومة العراقية، في الثلاثينات من القرن المنصرم، إجراءات إدارية تهدف إلى ضعضعة ممارسة اليهود لأعمالهم في مجالات عدة وخاصة بإقصائهم من الوظائف الحكومية، وتجلى ذلك بصورة فردية ومتقطعة في بادئ الأمر ثم بصورة جماعية.

                  

لم تنل الأحداث، التي تلت رحيل الملك فيصل الأول وخاصة بعد الانقلاب الذي قام به بكر صدقي عام 1936، من هيمنة اليهود على اقتصاد البلاد. فبين تشرين الأول/ أكتوبر 1936 وآذار/مارس 1941، حصلت ست انقلابات أو شبه انقلابات عسكرية أُبعدت على أثرها سلطات من دست الحكم وحلت حكومات أخرى محلها. زعزعت هذه الانقلابات النظام السائد في مرافق عديدة بالبلاد، ولكنها لم تصب اقتصاد البلاد بضرر ولم يتعرض له أحد أو يتخلله خلل. وعندي أن السبب وراء ذلك يعود إلى انعدام منافسة لليهود في هذا المضمار، من قبل التجار ورجال الأعمال المسلمين في ذلك الحين، إضافةً لذلك لم يتنازع رجال السياسة وضباط الجيش، الذين قاموا بتلك الانقلابات، على المجال المالي والاقتصادي في البلاد وإنما دارت تلك المنازعات حول خلافات سياسية وحول تسنم مقاليد الحكم، التي لم يكن لليهود ضلع فيها ولم يرنو إليها، لذلك مرَّت تلك الأحداث من دون التعرض لهيمنة اليهود في هذا المجال.
لكن الأحوال تغيرت تغييراً جذرياً بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد اندلاع الحرب بين الدول العربية وإسرائيل عام 1948، حينذاك تنامى الشعور ضد اليهود لدى أوساط واسعة من سكان البلاد، ومارست السلطات العراقية سياسة الإرهاب والإجحاف بحق المواطنين اليهود. فعند نشوب الحرب أُعُلنت حالة الطوارئ في البلاد وتم توقيف العديد من اليهود باتهامات واهية لا أساس لها من الصحة. ووضعوا رهن التحقيق والتعذيب الجسدي والنفسي، وكان من ضمن هؤلاء تجار كبار.
يمكننا التعرف على حجم الأضرار الاقتصادية التي تعرض إليها اليهود من جراء ممارسة الضغوط والتمييز العنصري ضدهم، من خلال المذكرة التي بعثت رئاسة الطائفة اليهودية إلى نائب رئيس الحكومة في 28 تشرين الأول/أكتوبر 1949، رافعة شكواها ومتذمرة من الحالة المزرية التي حلت بأبناء جلدتهم من جراء تلك الممارسات ".
استغنت المؤسسات المالية التي أقيمت في العراق بعد الحرب العالمية الثانية عن خدمات الموظفين اليهود. فعندما أقيم فرع لـ"البنك العربي" في بغداد عام 1945، عُين طالب مشتاق مديراً له وإلى جانبه عدد من الموظفين الذين كان وإياهم في معسكرات الاعتقال بعد فشل حركة أيار/مايس 1941.
لم يستغن هذا البنك عن خدمات الموظفين اليهود فحسب بل تعداها إلى عدم السماح ببيع أسهمه لليهود. ويشهد على هذه السياسة العنصرية طالب مشتاق بنفسه في مذكراته عندما يتكلم عن الأسس التي اتبعها في إدارة البنك. يقول -:
"...أن لا يكون في عداد موظفي البنك أي شخص يهودي، كما أنه لا يجوز لليهودي أن يكون مساهماً في البنك ".
ساد قلق كبير في الأوساط العربية الاقتصادية من اتباع هذه الممارسات ضد اليهود، ورموا الشك في نجاح "البنك العربي" الذي قرر الاستغناء عن خدمة اليهود، وفي هذا الصدد يقول مشتاق -:
"ولما اطلع الناس على هذين المبدأين الأساسيين توجسوا الفشل للبنك واستبعدوا أن ينجح في أعماله المصرفية...وكيف يكون النجاح متيسراً والبنك يفتقر إلى أيدٍ يهودية ماهرة؟.. وهل يمكن أن تدار أمورٌ حسابية بدون إيدٍ يهودية؟.. وهل يكتب النجاح لمؤسسة مالية يناصبها اليهود العداء ".
بذلت الأوساط القومية المتطرفة كل ما في وسعها لعرقلة نشاط المؤسسات المالية التي كانت تحت سيطرة أو إدارة اليهود. فمثلاً، في عام 1949 منع طالب مشتاق تحويل مبالغ مالية لحساب الجامعة العربية في القاهرة بواسطة "بنك زلخة"، وأحبط صفقات استيراد كان لليهود ضلع فيها. استعان طالب وزملاؤه بالصحف المحلية التي مارست التحريض ضد اليهود من دون وازع أو رادع. وفي نهاية المطاف كان له أن يتفاخر ويتباهى، بقوله:
"وزالت من الوجود الخرافة القائلة: إنه لا نجاح في الصيرفة إلا على أيدٍ يهودية، ولا إتقان في العمل الصيرفي إلا بدماغٍ يهودي؟ ".
كذلك "البنك المركزي العراقي"، الذي افتُتح في أواخر عام 1948، كان خالياً من اليهود ما عدا إبراهيم الكبير الذي عُين، كما أسلفنا، عضواً في هيئة إدارته. لقد تم ذلك نظراً لظهور جيل جديد من المثقفين المسلمين ذوي مؤهلات ملائمة وكفاءات مناسبة لإشغال جميع الوظائف في هذا البنك وفي سائر المؤسسات المالية التي أُقيمت بعد الحرب العالمية الثانية. ويقول إبراهيم الكبير أنه فوجئ عام 1949، حينما وجد، عند عودته من لندن، أن لمحمد چلبي أصبح تأثيراً حاسماً في إدارة بنك الرافدين الحكومي أثناء غيابه، وأضاف مُشيداً: لقد تبين أن للچلبي إمكانيات واسعة في الشؤون المصرفية وأحرز نجاحاً كبيراً في تطوير وتصعيد البنك.
الصحف القومية بين أمرين شائكين

كانت الصحف العراقية، وخاصة القومية المتطرفة منها، في أربعينات ومستهل الخمسينات القرن المنصرم في معضلة ذات شائكين بكل ما يتعلق بخدمة اليهود في فروع المؤسسات الاقتصادية في البلاد. فمن جهة نادوا بشدة لطرد اليهود من البلاد ومن جهة أخرى توجس كتاب تلك الصحف من كارثة اقتصادية إذا ما استُجيب نداؤهم. والدليل الساطع على ذلك هو ما كتبه سلمان الصفواني محرر جريدة "اليقظة"، المعادية لليهود، تحت عنوان "اخرجوا اليهود من دوائر الدولة". ففي هذا المقال يشكو الصفواني ويتذمر من تقصير مديرية السكك الحديدية، التي -:
"لم تحاول تدريب العراقيين الوطنيين خلال ثلث قرن على الأعمال الفنية فيها إلا ما ندر منها...وما حدث لدائرة السكك اليوم سيحدث مثله غداً في دائرة الميناء ودوائر الدولة الأخرى، كالبرق والبريد والمحاسبات العامة" ومصرف الرافدين" والمواصلات والأشغال. ولا ريب أن الحكومات العراقية المتعاقبة هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن هذا الوضع السيء...لقد بحت أصواتنا من القول بأن اليهود لا يمكن اعتبارهم مواطنين صالحين... ".
وعلى نفس الوتر عزفت، في أواخر الأربعينات ومستهل الخمسينات، الجرائد المعادية لليهود بعناوين ومقالات محرضة على البغضاء والكراهية ضدهم. وكلها تشهد على تغلغل الحسد على اليهود وهيمنتهم على الفروع الاقتصادية في البلاد. فعلى سبيل المثال، لا للحصر، أعلنت جريدة "اليقظة" في مقال افتتاحي في 24 نيسان/أبريل 1949، عن تذمرها من سيطرة اليهود على اقتصاد البلاد، وشكت من الحالة في بغداد حيث يشعر كل من يمر بشوارعها وأسواقها في أيام السبت كأنه موجود في تل أبيب، وطالبت بتأسيس شركات وطنية للاستيراد والتصدير ومؤسسات مالية وطنية لتحل مكان اليهود.
وكذلك الإمام محمد الخالصي، حرض ضد اليهود ودعا في مقال له في جريدة "اليقظة" إلى عطلة الجمعة ومقاطعة اليهود، وقال موجهاً شكواه إلى المسلمين -:
"هذه بغداد المسلمة معطلة أسواقها يوم السبت، ومفتحة يوم الجمعة ولم تغلق حوانيتها، لماذا تتبعون اليهود وأنتم مسلمون؟.. .ماذا تنتظرون؟ أتنتظرون أن يمتلك اليهود عليكم بلادكم وقد ملكوها بالاقتصاديات وقد دسوا بينكم الدسائس والحيل. ألم يحاربكم اليهود؟...".

توقعات السفارة الأمريكية

بتقرير من شهر آذار/مارس 1949، توقعت السفارة الأمريكية في بغداد حدوث مشاكل خطيرة في جميع مجالات الاقتصاد العراقي إذا ما تم خروج اليهود من البلاد وفي مقدمتها تجارة الاستيراد والتجارة في داخل البلاد (بالجملة والمفرد)، كما تتضرر شركات إسلامية وأجنبية من جراء فقدان كادر الموظفين. وقد يؤدي الضرر بالاقتصاد إلى عدم الاستقرار في الدولة. وجاء في هذا التقرير -:
"...القسم الأعظم من تجارة الاستيراد (حوالي 85%) في أيادي شركات يهودية. وإذا ما توارت هذه الشركات فستحصل في البلاد فوضى في مجال الاقتصاد وتستمر لعدة سنوات على الأقل. إذ أن هناك عًدداً ضئيلاً من المسلمين في العراق يمتلكون الثروة المالية والمؤهلات الكافية، والرغبة في تمويل طويل الأمد نسبياً، كما يتطلب فرع الاستيراد...أما فيما يخص التصدير فمن المحتمل أن يقل التأثير، لأن منتوجات أغلبية هذا الفرع زراعية وتمارسه أيادٍ عربية وأجنبية...قد يتضرر أيضاً، بقدر خطير التسويق الداخلي للبضائع المستوردة. لأن نسبة عالية (50%) من المستوردين، وتجار الجملة والمفرد الذين يسوّقون البضاعة المستوردة هم من اليهود...ولأن أغلبية التجارة الداخلية تتم بمساعدة الصرافين الذين يقدمون المال المتداول إلى أصحاب المحلات الصغيرة، وأصحاب الحوانيت، وإلى المنتجين الزراعيين وما إلى ذلك. قد يتم انهيار مصادر رزق هؤلاء إذا ما هاجر الصرافون اليهود من البلاد...إن قسماً كبيراً من أصحاب الدور العصرية ومحلات التجارة والأعمال في بغداد هم من اليهود. فإذا ما أرادوا التخلص منها بشروط مُرغِمة، سيحل بسوق الأموال الغير منقولة هبوط وتدني".

"...ظن الكثير من المسلمين، حتى نشوب المعارك في فلسطين، أن اليهود ملائمين بصور مميزة لمهنة التوظيف، وعدّ تواجدهم ضرورياً لإدارة القطاع الوظيفي بصورة سهلة ومنتظمة. وكانت أكثرية الموظفين، في البنوك وفي المنظمات التجارية وشركات النفط، من اليهود. ومنذ 15 من شهر أيار/مايس 1948 فُصل الكثير منهم وعُين محلهم مسيحيون ومسلمون (حسب هذا الترتيب)، فمن حيث المؤهلات وخاصة مؤهلات المسلمين فهي أقل وأدنى من مستوى مؤهلات وكفاءة الموظفين اليهود. ولم يزل بعض الموظفين اليهود يمارسون أعمالهم في شركات تجارية تعود لليهود ولغير اليهود. وإذا ما هاجروا إلى فلسطين فستتضرر جدا نجاعة تنظيم الجهاز الاقتصادي في العراق".

 "خلاصة الكلام"، يقول التقرير، "إذا ما تركت الطائفة اليهودية البلاد فاقتصاد العراق قد يتضرر. إن التجار اليهود، من ذوي الشأن، أكثر كفاءة وذكاءً في البلاد ويشكلون طائفة اقتصادية متقدمة على بقية الفئات الاقتصادية العراقية ".

ويشير التقرير إلى ستة فروع اقتصادية معرضة للضرر في العراق -:

- نظام الاستيراد سوف يتضرر جداً لمدة عدة سنوات وسيكون لذلك تبعات كثيرة قد تهدد استقلال البلاد بصورة خطيرة
- تعاني تجارة التصدير من ضرر أقل.
- يتضرر التسويق الداخلي للبضائع المستوردة.
- يصعب على أصحاب المحلات الصغيرة تمويل نشاطاتهم.
- تهبط أسعار الأموال الغير منقولة هبوطاً حاداً.
- فقدان الموظفين اليهود وذوي الياقة البيضاء سيؤثر سلبياً على شركات كثيرة، إسلامية وأجنبية.
وخلص التقرير إلى القول، إن لكل هذه العوامل سيكون تأثيراً كبيراً ليس فقط على اقتصاد البلاد، بل سيتعداه إلى استقرار الأمن في العراق.
طفا التوجس والخوف من انهيار اقتصادي على السطح وبصورة جلية واضحة في شهر آذار/مارس من عام 1950، بعد يومين من تصديق لائحة إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود في مجلس النواب ومجلس الأعيان. وعبرت عن هذا الشعور صحيفة "اليقظة" بالمانشيت الصارخ الذي وسمت به مقالا افتتاحياً تناول تداعيات هجرة اليهود. تضمن هذا العنوان ثلاث جمل -:

                          مات اليهود والسلام
                         ليس العراق في خطر
                 لِمَ هذا الخوف من خروج اليهود؟

وفي المقال نفسه عدد كاتبه المناقب التي يتميز بها هذا القانون وأشاد بنجاح الإجراءات الذي اتخذها هتلر بإخراج العلماء والتجار اليهود من ألمانيا:

"...سنتخلص من الرتل الخامس الذي هو أشد فتكاً في البلاد من جنود مدربين ...ولا شك أن ذهاب اليهود إلى فلسطين قد يزيد في قوة اليهود ولكنهم إذا لم يذهبوا فسيذهب غيرهم من يهود أوروبا المثقفين إلى رقعة إسرائيل المحدودة، فإشغال يهود العراق لإسرائيل خير لنا من إشغال يهود أوروبا لها لما نعرفه من جبن أولئك ولما يعوزهم من تدريب عسكري وفنّي بالنسبة ليهود أوروبا المدربين الذين اشترك أكثرهم في الحرب العالمية الأخيرة...فليسمح لي المتخوفون من هذه اللائحة والذين يشُكّون في نجاح دور انتقال النظام الاقتصادي من يد اليهود إلى العرب أن أقول لهم ’مات اليهودً والسلام’...كفاكم أيها القوم خوفاً من خروج هذه الطفيليات الفتاكة في جسم هذا الوطن العزيز، فقد كان أمثالكم كثيراً ممن حذروا هتلر في سماحه للعلماء اليهود ورجال الاقتصاد منهم في الخروج من ألمانيا خوفاً من اضطراب الحالة فيها، فقد أراد هتلر أن يعتمد الألمان المواطنون على أنفسهم في إدارة بلادهم في شتى النواحي العلمية والاقتصادية والتجارية...الخ، وقد نجح الشعب الألماني فعلاً في ذلك ".
حصل في شهر مارس من عام 1951 ما توجس منه سلمان الصفواني وأتباعه، واعترفت السلطات العراقية بارتباك وركود الأسواق المحلية في البلاد بعد القرار الذي اتخذ بإغلاق متاجر اليهود إلى حين منح الهويات الجديدة لليهود الذين لم يسقطوا جنسياتهم العراقية، كما اعترفت بالشلل الذي أصاب المصارف العراقية لانسحاب الموظفين اليهود، المسقطة عنهم الجنسية العراقية، من هذه المصارف. ووقعت الحكومة في حيرة وارتباك. فحين سن قانون إسقاط الجنسية، في شهر آذار/مارس 1950، لم تتوقع السلطات العراقية أن الأكثرية الساحقة من اليهود سوف تهاجر. ولم يتجاوز تقدير عدد الذين سيتخلون عن جنسيتهم العراقية 35 ألفاً. وافترضوا أن اقتصاد البلاد سوف لا يتضرر كثيراً، ولكن عندما تجلى لهم أن الطائفة اليهودية، بأكملها تقريباً، شدت رحالها، بدت عليهم علامات الحيرة والارتباك.
لحسن حظ العراق بدأت عوائد النفط تتدفق على خزينة العراق بتزامن مع تلك الأزمة، مما أنقذ البلاد من انهيار تام ودمار شامل.

موقف بريطانيا من أزمة يهود العراق

بعد أن نال العراق استقلاله أخذ تأثير البريطانيين بالتقلص وحاولوا إخفاء علاقاتهم مع اليهود، وأحياناً أظهروا عدم التعاطف معهم. وحاول أصدقاء ومعارف قدماء غض الطرف عن أصدقائهم اليهود أو على الأقل التستر عليهم.
ويقول إبراهيم الكبير إن بعض الموظفين البريطانيين الذي خدموا في دوائر الدولة أظهروا بعد أن نال العراق استقلاله ميولاً لا سامية. وتفاقمت هذه الميول مع تفاقم الشعور القومي اللاسامي داخل البلاد ولدى مستَخدميهم العراقيين. ولم يحاول البعض منهم إخفاء هذا الشعور أمام أصدقائهم وزملائهم في الخدمة من غير اليهود. وتجلى هذا الشعور بصورة أوضح في أربعينات القرن المنصرم وخاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
أما حسقيل الكبير فيتهم السفارة البريطانية في بغداد بوضع حجر عثرة لمستوردين يهود كانوا قد استوردوا بضائع من روسيا السوفيتية إبان الحرب العالمية الثانية وذلك بعد أن استشاروا السفارة البريطانية وحصلوا على موافقتها. لكنهم ولدهشتهم وجدوا أنفسهم بعد حين منساقين إلى المحكمة العسكرية بتهمة التعامل مع روسيا السوفيتية، وحكمت عليهم المحكمة بالحبس لمدة ثلاث سنوات وغرامة مالية قدرها 10.000 دينار لكل متهم. وفيما بعد، يقول حسقيل الكبير، تحولت معاداة البريطانيين للتجار اليهود إلى حرب علنية. وجاء في الصحف البريطانية أن الحكومة البريطانية طلبت من الشركات البريطانية المختلفة تحويل أعمالهما التجارية إلى أيادٍ عربية، وأن ضغوطاً من السفارة البريطانية في بغداد أرغمت شركة لندنية على إبطال عقود مع شركات ووكلاء يهود في بغداد، سبق أن تعاملوا معها على مدى أكثر من مائة عام، وأرغموها على الاتصال بوكلاء غير يهود.
فمن المنطلق الاقتصادي لوحده بارك البريطانيون على تخلي اليهود عن الكثير من الفروع الاقتصادية في البلاد وخاصة من فرع الاستيراد.
وأشار المستشار الاقتصادي للسفارة البريطانية في بغداد بتقرير له، أن قانون إسقاط الجنسية وقانون المراقبة على البنوك أحدثا ضرراً جسيماً ومباشراً للأوساط التجارية اليهودية وزعزعا الاستقرار الاقتصادي لبعض الشركات اليهودية في البلاد، كما أحدثا صدمة قوية للأسواق المحلية. وتوقع المستشار نجاحاً كبيراً للمصدرين البريطانيين في عام 1951، وأضاف، أن بإمكانهم أن يترقبوا أسواقاً مزدهرة لجميع أصناف البضائع.
لم تتفهم زعامة يهود العراق أن استبعاد اليهود من المجالات الاقتصادية هو أمر لا مفر منه وأنه سيحدث عاجلاً أو آجلاً، وأن جذور هذا التحول تكمن في تغييرات بعيدة المدى التي حدثت في المجتمع العراقي منذ تأسيس المملكة العراقية عام 1921 وحتى الهجرة الجماعية لليهود من العراق عام 1951 . ففي هذه المدة انتشر التعليم بين المواطنين المسلمين وأتقن الكثيرون منهم اللغات الأجنبية مما أتاح لهم توطيد علاقات مع بلدان خارج العراق. وفي هذه المدة أيضاً تصاعد تأثير القوميين المتطرفين وتفاقم الوضع من جراء الأحداث والتطورات في فلسطين. وكان واضحاً انه من غير الممكن أن يستطيع اليهود في مثل هذه الظروف الحفاظ على سيطرتهم في المجال الاقتصادي الذي كان مفترَضاً في الماضي أنه ميدانهم.
ولم يكن بوسع التفوق الاقتصادي الذي تمتع به اليهود إبان الحكم الملكي أن يوفر لهم الصمود أمام التيارات القومية المتطرفة، لأنه لم يكن مدعوماً بقوة سياسية أو حزبية من شأنها أن تقف في وجه المتآمرين ضدهم والمنكلين بهم.
لم تسعَ الزعامة اليهودية، وربما لم يكن باستطاعتها، إقامة ورعاية قوة سياسية داعمة، وتجنبت استغلال إمكانياتها الاقتصادية لأهداف سياسية. فمثلاً، لما دعا حاخام باشي أورشليم-القدس، في ثلاثينات القرن المنصرم، إلى مقاطعة البضائع الألمانية، لم يستجب الحاخام ساسون خضوري، رئيس الطائفة اليهودية في بغداد، لهذه الدعوة، على أساس، أن مقاطعة اقتصادية ليست مجرد عملية اقتصادية بل هي أيضاً عملية سياسة، وإن اليهود كأقلية يجب عليهم الابتعاد عنها. وهذا ما قاله وزير ألمانيا المفوض في العراق فون فريتز غروبا(Fritz Grobba) بهذا الصدد -:
"...ولما ناشد حاخام القدس الأكبر يهود العالم على مقاطعة البضائع الألمانية، زارني الحاخام ساسون خضوري، رئيس الحاخامين في بغداد، وأخبرني أنه شجب هذه المقاطعة، لأن المقاطعة ليست إجراءً اقتصادياً فقط، بل هي دائماً إجراء سياسي أيضاً، وأن اليهود في العراق أقلية صغيرة ضمن أكثرية عربية كبيرة، وأن عليهم أن يتجنبوا النشاط السياسي. وبناءً على نصيحتي تكلم مع الأعضاء اليهود في غرفة تجارة بغداد، وكانت نتيجة محاولاته، ومحاولات رئيس غرفة التجارة قاسم باشا الخضيري - الذي كنت قد كلمته أيضاً - أن توقفت المقاطعة اليهودية للبضائع الألمانية في العراق بعد مدة قصيرة".

  أليقظة، 27 شباط 1950

      

تتمة اليهود يدمرون

     

اليقظة، 22 كانون الأول 1949

   

تتمة ضرورة تطهير الجهاز الاقتصادي

  

اليقظة، 12 آذار 1950

     

تتمة مات اليهود والسلام

    

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/51888-2021-12-13-11-57-39.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1030 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع