الروسي ميخائيل بولغاكوف من طبيب أرياف إلى رائد في الأدب

           

أندبيندت/ سامي عمارة:رواياته ومسرحياته لم تحظَ بالتقدير المناسب في حينه. لم يتحمس لها النقاد، وحالت قيود المسارح دون ظهورها، لكن ما إن قال الزعيم السوفياتي يوسف ستالين كلمته حتى فتحت الأبواب، وإن ظلت محفوفة بقدر من التحفظات.

كان مفتوناً بدراسة الطب قبل أن يهجره إلى عالم الأدب والمسرح، على الرغم من كل ما كان يكتنف ذلك من متاعب وهموم وفاقة، نالت من استقراره وأمانه. التفاصيل يتابعها اليوم الملايين في روسيا وخارجها في إطار الاحتفالات الرسمية والشعبية بالذكرى الثلاثين بعد المئة لميلاد ميخائيل بولغاكوف الأديب والمسرحي، التي تعيد للأديب الكبير اعتباره ومكانته التي يستحقها بين أساطين الأدب العالمي.

   

ميخائيل بولغاكوف كاتب ومسرحي ثمة من يعتبره واحداً من أهم رواد "الواقعية"، فيما يعتبره آخرون تجسيداً لـ"مصير محزن لفن رفيع كان يبحث عن الاعتراف العادل". وكان الكثيرون من متابعيه اعتبروه في حينه طبيباً موهوباً أبلى أحسن البلاء خلال عمله في المستشفيات الميدانية على الجبهة الجنوبية الغربية في آخر سنوات الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك طبيباً في الأرياف، قبل تحوله إلى عالم الأدب بكل ما حفل به من هموم ومتاعب، ليسجل بداياته وما تلاها من سنوات الثورة والحرب الأهلية في "مذكرات طبيب شاب"، وهي كانت أقرب إلى السيرة الذاتية. وفي رواية "مورفين" سجل الكثير من لحظات تجربته مع الإدمان. ولم تقتصر إبداعاته على عالم الأدب، حيث تجاوزها إلى عالم المسرح ليقدم العديد من المسرحيات التي كان منها مسرحية "الإخوة من عائلة توربين" التي تحولت لاحقاً إلى "أيام عائلة توربين"، فضلاً عن " موليير" و"شقة زويا"، وغيرهما من الأعمال المسرحية.

الروسي الأصيل

ميخائيل بولغاكوف اعتبر نفسه، وربما عن حق، "كاتباً صوفياً"، قد يكون الأجدر بخلافة الأديب الروسي الشهير نيكولاي غوغول في عالم النثر الروسي، والذي يعتبره المؤلف "أستاذه"، وإن رآه آخرون قريباً أكثر من عوالم فيدور دوستويفسكي، وأندريه بيلي وسالتيكوف - شيدرين، لكن المثير والطريف في آنٍ، هو ما يتمثل في استناد الكاتب في الكثير من أعماله الأدبية إلى سيرته الذاتية بما استوحاه منها من أحداث ومشاهد نجح في نقل مفرداتها إلى رواياته. حتى "المعلم ومارغريتا" أشهر أعماله، كان نسج أحداثها وشخصيات أبطالها، من واقع حياة عشرينيات القرن الماضي في أشهر مناطق قلب العاصمة في منطقتي "باتريارشيه برودي"، و"مالايا برونايا" حيثما كان يقيم، بما أضفى عليها الكثير من المصداقية والواقعية.

وفي هذا الصدد أشار البروفسور بيوتر نيكولايف العضو المراسل لأكاديمية العلوم السوفياتية في مقدمته التي كتبها للترجمة التي قام بها السوري يوسف حلاق لرواية "المعلم ومارغريتا" إلى العربية، والصادرة عن دار نشر "رادوغا" في موسكو عام 1990، إلى أن "مارغريتا - الملاك الحارس للمعلم" في هذه الرواية المستوحاة من شخصية يلينا سيرغييفنا، زوجة الكاتب ورفيقته المخلصة في عمله السامي والصعب، وبما تتراءى معه على أكثر نحو من الوضوح، صورة جرأة بولغاكوف الإبداعية وتحديه الجريء لقوانين علم الجمال الراسخة. هذ الترجمة اعادت طبعها دار التنوير، بينما نشرت دار الجمل ترجمة أخرى أنجزها الكردي السوري هفال يوسف..

وما دام الشيء بالشيء يذكر فإننا نستشهد هنا أيضاً بما رصده نيكولايف في "المعلم ومارغريتا" حول النزعة الفلسفية لدى بولغاكوف، ورؤيته لتصارع الخير مع الشر بين ثنايا هذه الرواية، على ضوء ما أراد المؤلف أن يقوله حول أن "انتصار الشر على الخير لا يمكن أن يغدو النتيجة النهائية للمواجهة الاجتماعية الأخلاقية، لأن ذلك أمر لا تقبله طبيعة الإنسان ويجب إلا أن يسنح به مجمل سير الحضارة".

ونظل مع "المعلم ومارغريتا" لنقول إنها ولدت من رحم ما عاشه المؤلف من تجارب وأحداث، وما عايشه من قصص وحكايات في مرتع صباه وشبابه. وكان بولغاكوف ولد في 15 مايو (أيار) 1891 في مدينة كييف الأوكرانية، لأب يعمل في أكاديمية اللاهوت والعلوم الدينية، أستاذاً ومؤرخاً لنظريات الأديان، وأم ثمة من قال إنها كانت معلمة، فيما قال آخرون إنها كانت تعمل في صالة ألعاب رياضية. اختار بولغاكوف الطب منذ صباه تخصصاً عمل به لسنوات طويلة كما أشرنا، سرعان ما أعقبتها تلك اللحظات الفارقة في حياته بما حفلت به من أحداث عكست أصداء ما عاشه من أحداث مصيرية في عشرينيات القرن الماضي.

طبيب الجبهة والأرياف

في صالة الألعاب الرياضية، نظم الشعر ورسم الصور المتحركة، وكتب القصة، لكنه لم يتخل عما اختاره لنفسه من تخصص. التحق بولغاكوف بكلية الطب في جامعة كييف، ليلتحق قبل تخرجه في عام 1916 بالعمل متطوعاً في الصليب الأحمر، حتى انتقاله بعد التخرج إلى العمل طبيباً في المستشفيات الميدانية بالجبهة الجنوبية الغربية، لكن النقص في عدد الأطباء في المستشفيات الريفية والنظام الحكومي الخاص بتكليف خريجي الطب، كانا سبباً في انتقاله للعمل طبيباً في الأرياف. أجرى عمليات الولادة، وخبر الكثير من حالات الطوارئ. عايش الكثير من الحالات الإنسانية التي كانت له خير زاد لتنمية مواهبه الأدبية، وما كان موضوعاً للكثير من "ملاحظات طبيب شاب"، سجلها في عشرينيات القرن الماضي، وكانت مقدمة لانصرافه عن الطب صوب الأدب والمسرح.

ولم يكن لينجو من قبضة الرقابة ومراجعة الأجهزة التي قالوا إنها سجلت له خلال السنوات العشر الأولى لنشاطه الأدبي والمسرحي 298 "مراجعة سلبية"، من مجموع مفردات نشاطه التي بلغت ما يزيد قليلاً عن الثلاثمئة. على أن مثل هذا التقدير السلبي في معظم جوانبه، لم يحل دون أن يسعد بولغاكوف حظاً بإعجاب الزعيم يوسف ستالين الذي نقلوا عنه ما سبق وقاله حول أن "بولغاكوف ليس منا". وعلى الرغم من ذلك فقد قام ستالين ولما يقرب من 15 مرة بزيارة "المسرح الفني" لمشاهدة رائعته "أيام عائلة توربين"، وقوله لم يتيسر التحقق منه. ومع ذلك فقد كان مقدمة لعلاقة حاول بولغاكوف الاستفادة منها في وقت لاحق، للفرار من براثن الملاحقة وحظر النشر والمنع من العمل. وقد بعث برسالة إلى الحكومة السوفياتية يرجوها الإذن بالسفر إلى الخارج بحثاً عن العمل، وهو ما علم به ستالين، الذي قالوا إنه، وبعد مكالمة هاتفية مباشرة مع المؤلف في 18 أبريل (نيسان) 1930، أمر بتوفير فرصة له للعمل في المسرح الفني في موسكو.

حياته الشخصية عامرة بالمطبات والمفارقات. ينقلون عنه نجاته من السقوط ضحية ما شهدته البلاد من أحداث درامية، إبان ثورة أكتوبر 1917، وما تلاها من تطورات إبان سنوات الحرب الأهلية التي صب عليها لعناته، في الوقت نفسه الذي لم يتوقف فيه عن رصد ما أصاب "الحرس الأبيض" من هزائم وإخفاقات كانت موضوعاً للكثير من إبداعاته ومسرحياته التي كانت الرقابة لها بالمرصاد، فلم تجد أي منها طريقها إلى النشر أو العرض.

ويقال إنه كان أدمن تعاطي مخدر "المورفين" منذ سنوات عمله في المستشفيات الميدانية، ما يبدو تفسيراً لارتباك حياته وما اتسمت بها من عنف وعدوانية انعكسا على زيجاته الثلاث، وكانت الأولى مع تاتيانا لابي التي اضطرت إلى إجهاض حملها لعدم تحملها تصرفاته، فضلاً عما كانت تعانيه الأسرة من فاقة وارتباك في أحوالها المالية. ومن المفارقات في هذا الصدد أن بولغاكوف كان من تولى القيام بعملية إجهاض زوجته ليفقد استمرارية الذرية.

"المعلم ومارغريتا"

ونعود إلى رواية "المعلم ومارغريتا" التي تظل الأشهر والأكثر إثارة للجدل بلا شك، ضمن قائمة أعمال الأديب الراحل. فقد استغرق العمل لإنجاز هذا العمل الفلسفي الأدبي البديع قرابة 12 عاماً، شهدت نهاية الأول منها إقدام الكاتب على إضرام النيران في ما خطته أنامله، وكان ذلك في عام 1930، لكن يقينه من أهمية ما كتبه دفعه إلى العودة ثانية إلى استذكار مفرداتها ليخطها مرة أخرى على اعتبار أنها "فاوست"، أي الكتاب الرئيس لحياته، مسجلاً على هامش إحدى صفحاتها بخط يده: "لن أموت قبل الانتهاء منها"، بعيداً عن تكرار ما سبق وأقدم عليه من تجربة كانت الأقرب إلى ما فعله أستاذه نيكولاي غوغول، مع الجزء الثاني من رائعته "النفوس الميتة"، وما جرى تفسيره بعدم رضا المؤلف عما كتبه تارة، وسقوطه فريسة حالة نفسية مضطربة في تفسير آخر، لكن تجربة استعادة واستذكار ما جرى إحراقه، كان تأكيداً لقوله المأثور "المخطوطات لا تحترق"!

ومن المفارقات في هذا الصدد أن زوجته الثالثة يلينا شيلوفسكايا التي استوحي منها ميخائيل بولغاكوف شخصية مارغريتا بطلة الرواية، هي التي حرصت على الاحتفاظ بمخطوطات "المعلم ومارغريتا" لتنشرها على حلقات في مجلة "موسكو" الأدبية في 1966-1967، أي بعد وفاة زوجها يما يزيد على ستة وعشرين عاماً، وإن شاب ما جرى نشره عدد من الاختصارات التي فرضتها الرقابة قالوا إنها تبلغ ما يقرب من 12 في المئة من مجمل صفحات الرواية، وإن وجدت في وقت لاحق من ذلك التاريخ من ينشرها في الخارج كاملة. ولم تجد النسخة الكاملة طريقها إلى النشر إلا في عام 1989 بعد إعلان الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف عن سياسات "البيريسترويكا والغلاسنوست".
ويبقى أن نقول إن هذه الرواية تنم عن ثقافة موسوعية متعددة الاتجاهات، وعن إدراك ومعرفة عميقة بتاريخ أديان الشرق، وبنصوص "الكتاب المقدس"، والكثير من محظورات وتحفظات ما عاشه من لحظات تاريخية مثيرة للجدل، وما كان يشوب النظام الاجتماعي الستاليني من قصور أمطره بهجائه وانتقاداته. كما كشفت الرواية عما يمتلكه الكاتب من موهبة فذة، ساهمت في ما أورده من عرض تاريخي ساخر لمجتمع عشرينيات القرن الماضي، استعرض فيه سائر ما كان يعج به من متناقضات، على نحو يجمع بين "الواقعية"، و"الرمزية"، من واقع زيارة افتراضية يقوم بها الشيطان "فولاند" إلى العاصمة السوفياتية موسكو، وما جرى خلال تلك الزيارة من تفاصيل استمد الكاتب بعضها من وحي سيرته الذاتية.

وذلك كله أو بعضه، يضع الكاتب في المكانة المرموقة التي يستحق بين صفوف "أساطين" الأدب الروسي الكلاسيكي العالمي جنباً إلى جنب مع فيدور دوستويفسكي، وليف تولستوي، ونيكولاي غوغول وغيرهم من نجوم العصر، وإن لم يحظَ بالشهرة العالمية التي يتمتع بها نجوم ذلك الزمان.

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

562 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع