عمرو موسى، سمير صبري، سليم بركات، نادية لطفي، فاروق حسني، مصطفى الفقي.. كتبوا مذكرات تدّعي الصدق
العرب/ممدوح فراج النابي:لم تتوقف المذكرات عن إغراء الأدباء والفنانين وحتى المفكرين والسياسيين والعلماء والرياضيين وغيرهم، فكتبها أغلبهم تحت شعار كشف مواطن خفية من الذات، التي كوّنت لها هوية جمعية. وغالبا ما يقبل القراء بشراهة على المذكرات، خاصة لما فيها من صدق وجرأة تصل إلى حدود كشف الأسرار وخلق الفضائح. لذا تبقى المذكرات من أكثر الأجناس الأدبية إثارة للجدل، في صدقها من عدمه.
في أغسطس 1929 نقل ابن أخ سيغموند فرويد (1856- 1939) عرضا إليه من ناشر أميركي قصد استمالته لكتابة سيرته الذاتيّة، كانت قيمة العرض المُقدَّم خمسة آلاف دولار، ومع القيمة المُغْرية للعرض آنذاك إلا أن فرويد سَخرَ من الفكرة نفسها، رافضا أن يفعل شيئا سخيفا للغاية – على حدّ وصفه – قائلا “هذا اقتراح مستحيل الحدوث تماما”.
كان رفض فرويد ناتجا عن قناعة خاصّة، فهو يرى أن كُتب السيرة الذاتية لا قيمة لها، لا لشيء إلا لاعتمادها على “الكذب والزيف والخداع”، ومن ثمّ فليس لديه “رغبة في القيام بهذا”، فالأمر لا يعدو – عنده – أكثر من كونه مغامرة، وأن مقدّم “مبلغ الخمسة آلاف دولار المعروض يعتبر أقل من واحد في المئة من المبلغ اللازم لإغرائه بالدخول في مثل هذه المغامرة الفضائحيّة الطائشة”.
تكشف هذه الواقعة حالة الشغف بكتب الاعترافات، والسير الذاتية والمذكرات لدى الناشرين؛ لما تحقّقه من أرباح طائلة، بجذبها للجمهور (الذي هو غاية الناشر) الذي يهوى الأسرار والخفايا التي تكشف عنها مثل هذه الكتابات، ومن ثمّ يُقْدم الناشرون بأنفسهم على إغراء الشخصيات السياسية والفنية وكبار الكتاب، من أجل كتابة مذكراتهم.
لا نجاة لأحد
تُعَدُّ كتابة الذّات (عموما) والسيرة الذاتية (تحديدا) بمثابة التطهير لو استعملنا المفهوم الأرسطى، و/ أو – أيضا – المفهوم الكنسي، وكأن الذّات تقف أمام المرآة أو تجلس أمام القس، تستجلي مسيرتها في منعطفات الحياة المختلفة بحلوها ومرّها؛ ولهذا يسعى الكثير من الكُتَّاب في مرحلة من سنيّ عمرهم إلى استجلاء حقيقة الذات بكتابتها وتعريتها قدر الإمكان.
على الجانب الآخر نجد السياسيين والفنانين يميلون إلى كتابة المذكرات الشخصية، حيث تأتي أحيانا كنوع من الرضا عن مسيرة هذه الذّات وما حققته رغم العقبات التي كادت – في لحظة من اللحظات – أن توقف مسيرتها، وأحيانا تأتي ككشفِ حساب عمّا تحقّق من آمالٍ وما ضاع من طموحات، وفي قليل منها تكون المذكرات وسيلة غير مباشرة للانتقام من الخصوم، والنيل منهم. لذا نرى كثيرا في المذكرات من الحقيقة وعكسها، أو أن للحكاية وجوها أخرى.
لا أحد يستطيع أن يَنسى ما كتبه عبدالرحمن بدوي في مذكراته «سيرة حياتي»، فقد هاجم فيها الكثير من الشخصيات، ووصفها بأوصاف ربما – أعظمها – يُحاسب عليه القانون، وأقلها أنها لا تليق بمفكر وفيلسوف بحجم بدوي، ففيها هاجم طه حسين واتّهمه بأنّه كان جاسوسا للأمن، يُبلِّغ عن زعماء الطلبة المعارضين، وطالت الاتهامات العقاد وزكي نجيب محمود وآخرين، بل وصل به الأمر إلى اتهام الرئيس عبدالناصر بالعمالة، وأنه ساعٍ للشهرة على حساب شعبه، ولذا أمّم قناة السويس، وقام بالعديد من المواقف الاستعراضيّة، وبالمثل علي صبري فهو عنده عميل روسيا الأول في مصر.
حالة السخط التي كان عليها بدوي كانت ناتجة عن إحساس بالقهر، وهو ظاهر في مستهل الجزء الثاني، حيث يقول “وداعا أيها الوطن المُكبّل بالقيود، الحافل بالجواسيس والمخبرين، فضاع صوت الأحرار من المواطنين بين جمهور المواطنين المستسلمين”.
البحث عن البراءة
وقد أثار عمرو موسى في الجزء الأول من مذكراته التي نُشرت بعنوان “كتابيه” (عن دار الشروق)، الكثير من الجدل وقت صدورها، بما تضمنته من إساءة بالغة للرئيس جمال عبدالناصر، فذكر أن طعامه كان يأتيه من برن عاصمة سويسرا، فحسب ما روى أن دبلوماسيّا مخضرما ذكر له أن السيد فتحي الديب السفير حينذاك في العاصمة السويسرية، كان يُرسل طعاما لمؤسسة الرئاسة بمواصفات معينة. وهو أمر يأتي عكس الشائع عن عبدالناصر، الذي شهد له كل من عمل معه بنزاهته وبساطته، فكيف تأتي صورته في مخيلة عمرو موسى، على غير ما يدعو إليه عبدالناصر، وهو الذي ارتبط بالفقراء، ودافع عن العدالة الاجتماعية.
إذا كان عمرو موسى اتخذ من هذه الرواية التي لا يصدقها أحد، دليلا على حياة البذخ التي يعيشها عبدالناصر، فهناك الكثير من المرويات التي تناقض هذا، على نحو ما روى مصطفى الفقي على لسان سامح سيف اليزل الذي كان يعمل في حراسة الرئيس، وهو ما يُعطي صورة غير حقيقية لما ورد في المذكرات.
وبالمثل تعامل بتعالٍ مع المستشار أسامة الباز، دون أن نعرف الأسباب الحقيقية وراء ذلك، فحقّر من مكانته وهيئته، فيرى أن الرئيس محمد أنور السادات رفض تعيينه وزيرا للخارجية، بسبب مظهره المتواضع. كما قلّل من علمه، وشكّك في شهاداته العلميّة بأنه لم يحصل على الدكتوراه.
أسرار أهل الفن والأدب لا تقل عن أسرار أهل السياسة في الحكايات الغريبة بغرامياتهم ومغامراتهم التي لا تنتهي
في الجزء الأوّل من المذكرات يُلمّح عمرو موسى إلى المكائد التي دُبرت بليل من وراء ظهره لإقصائه عن منصبه، سواء بالأقوال المرسلة دون أن يُصرِّح بأسماء، فهناك مَن رددّ أمام الرئيس بأنه “بيسافر كثير كده ليه؟ ده مبيقعدش في مصر يومين على بعض يا ريس“، أو بالتصريح بالاسم كما حكى عن صفوت الشريف (وزير الإعلام وقتها) أنّه دَعا مبارك لزيارة مبنى التلفزيون في عيد الإعلاميين، وقد وجّه الدعوة إلى جميع الوزراء باستثناء عمرو موسى، وبينما الرئيس يتجوّل في المبني فإذا بصفوت الشريف يشير إلى مبنى وزارة الخارجية على كورنيش النيل ويقول “هناك يا سيادة الريس، في هذا المبنى الضخم توجد إمبراطورية عمرو موسى”.
كما أنه يشير إلى صراعه الصامت مع مبارك بسبب ازياد نفوذ وشعبية موسى، ومحاولات مبارك تهميشه في مناسبات عديدة، أو قطع الطريق أمام بعض التكريمات التي وجّهتْ إليه الدعوات من الخارج كألمانيا وفرنسا، أو حتى من أبناء وزارته.
في الجزء الثاني من المذكرات الذي حمل عنوان “كتابيه: سنوات الجامعة العربية”، يقدم الكاتب رؤاه عن العمل في هذه المؤسسة، لكنه لا ينسى أن يغسل يديه من تسهيل مهمة الناتو للإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي، وهي التهمة التي طاردته، فلا يكتفي بسرد الأحداث وإنما يقدّم أدلة على براءته من خلال الوثائق التي ينشرها كمحضر اجتماع الجامعة، وغيرها.
وبالمثل صرخته في وجه الرئيس العراقي كي يُجنّب العراق الهجوم، بالاستجابة لقرار التفتيش إذْ يقول إنه كاد يفقد السيطرة على نفسه خوفا من ضربة أميركية قاصمة للعراق، وطالب صدام بضرورة قطع الطريق على ذلك، بالسماح لوكالة الطاقة الذرية بتفتيش المواقع المشكوك فيها، طالما أن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل.
حاول موسى في هذا الجزء – من المذكرات – غسل يديه من قضايا عديدة، بل حاول أن يَظهر بمظهر السوبر مان بتعبير نيتشه في مواجهة قضايا إقليمية ودولية، والأهم أنه أراد أنْ يُظهر نفسه الشخص الذي استطاع أن يُحرك دماء الجامعة العربية، بشخصيته القوية والكاريزما التي يتمتع بها.
هجوم استباقي
قبل صدور مذكرات الدكتور مصطفى الفقي (مدير مكتبة الإسكندرية) “الرواية رحلة الزمان والمكان” (الدار المصرية اللبنانية 2021) استبق علاء الابن الأكبر للرئيس مبارك، نزول المذكرات بهجوم شرس بعد صدور الغلاف واصفا الفقي بأنه “شخصية متلوِّنة يُجيد اللعب على كل الحبال حسب الظروف والتوقيت، وفَقَدَ كثيرا من الاحترام للأسف”. ثمّ عقَّب الدكتور الفقي على هذا قائلا “أترفع عن الإساءة إليك علما بأنني أعرف كثيرا لكنني لن أتحدث”. علينا أن نشدّد على العبارة الأخيرة، فما دام لن تتحدث، إذن فماذا ستكشف في هذه المذكرات؟
مذكرات الدكتور مصطفى الفقي جاءت في عشرين فصلا ومقدمة وخاتمة تسرد لرحلته الطويلة المهنيّة التي عاشها في أضابير السّياسة وأيضا في صراعات البرلمان، مازجا فيها بين حياته الشخصية والتطورات السياسية والاجتماعية في مصر، العجيب أنه يستهلها بميثاق أشبه بالميثاق السيري الذي أقره فيليب لوجون حيث “يتعهد بأن يكون صادقا حتى النخاع” بل ويسْتلهم كتابات سابقة اتخذت الصدق غاية لها، على نحو اعترافات جان جاك روسو وغاندي ولويس عوض وعبدالرحمن بدوي. مؤكدا أنه “يتوخى الصّدق بقدر ما يمكن” فهو لم يسجل إلا “ما شهده أو سمعه ولم يسمح لنفسه باختلاق واقعة أو ادّعاء بطولة أو التحامل على غيره”.
معيار الصدق – الذي ألزم نفسه به – كان تميهدا أو غاية لكي يُجْلي الغبار عن مواقف بعض الشخصيات في مسيرته العملية، خاصة مظاهر التشكيك في نزاهته وانتماءاته، وركوبه الموجة بعد الثورة، لذا – بداية – يعترف بأنّ ما نشره في الصحف بعد أحداث 25 يناير 2011 “يعكس صدقه مع نفسه” ومع هذه البداية يُعلن على الفور أنه لم يحظَ “بالرضا الكامل من رموز النظام الحاكم آنذاك!” (والتعجب من عندنا) بل يستمر في تمهيده لما سيُعلنه – لاحقا – من مؤامرات ضده قائلا “ليست هذه صفحات مطوية من مذكرات شخصية، كما أنها ليست سيرة ذاتية، بل تتجاوز ذلك كله لكي تكون تعبيرا أمينا عن طريق طويل سلكه صاحب الرواية مخترقا عهود عبدالناصر مراقبا، والسادات مشاهدا، ومبارك مشاركا”.
لا يخفى الفقي الشخصيات والدول التي وقفت ضدّ طموحاته كأمين عام للجامعة العربية وقطر والسودان فيذكرهم صراحة في الفصل المعنون بـ”على أعتاب الجامعة العربية”، ومن الأسماء التي يذكر أنها تخلت عنه عمرو موسى، فهو على حد قوله “لم يساعدني على الإطلاق”، أي إنه لم يزكّه كخليفة له. كما يسعى إلى غسل يديه من جناية التوريث، فيلمح إلى رؤية عكس الرؤية السائدة بأن ثمة قبولا لجمال مبارك في الدوائر النافذة للحكم، فيشير إلى أن عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات في عصر مبارك كان يفضّل خيار تولّي جمال خلفا لأبيه، لأن “ذلك أقصر طريق للاستقرار، فضلا عن أنه وفاء لوالده وما قدمه للبلاد”.
ويوجه أصابع الاتهام إلى كمال الشاذلي وزير الدولة لشؤون مجلسي الشعب والشورى، باعتباره مهندسا للعملية «لأن مبارك كان يضع كامل ثقته في الراحل (كمال الشاذلى)» ويحكي “داعبته ذات مرة في البرلمان لأستشف موقفه من التوريث في حالة وفاة الرئيس قبل حدوث ذلك، فضحك قائلا: عملية انتقال السلطة إلى جمال مبارك لن تأخذ من التفكير والتخطيط والعمل أكثر من ربع ساعة فقط، وربما لا تعلم أن الفضل يرجع إلىّ في عملية انتقال السلطة إلى مبارك نفسه عام 1981».
العندليب ولاعب النرد
فاروق حسني في مذكراته التي صدرت بعنوان “فاروق حسني: يتذكر زمن الثقافة” (نهضة مصر) هو الآخر غسل يديه من وزر الحزب الوطني، فنفى – بيقين جازم وقلب مطمئن – أيّة علاقة وثيقة تربطه بالنظام الحاكم، متناسيّا أنه ظل على رأس وزارة الثقافة فترة طويلة (23 عاما)، فيقول بكل صراحة إنه لم يكن عضوا بالحزب الوطني يوما ما، ولا في أمانة السياسات، كما أنه لا تربطه علاقة بأبناء الرئيس، كما يذكر عزوفه عن المنصب الذي جاءه بعد إلحاح من عاطف صدقي الذي استدعاه من باريس، وطلب منه قبول المنصب.
ولا ينسى أن يكتسي ثوب الجرأة والشجاعة فيتحدث لأوّل مرّة عن الشخص الذي روّج لحكاية شذوذه، ويشير إليه صراحة، وكأنّ هذه الصراحة كانت مُفْتقدَة عندما كان الرجلان في المنصب. وفي أزمة الحجاب التي دفعته إلى الاستقالة يشير إلى أن أعضاء في الحزب الوطني هم الذين دفعوا بالإخوان لإثارة القضية في مجلس الشعب.
كما ينأى بنفسه – مثل الفقي – عن المشاركة في مشروع التوريث، بل أوعز لأنس الفقي الذي كان وزيرا للإعلام وقتها، بأن الحل في الإتيان بمحلّل بين الرئيس وابنه، وبعبارته “طيب يا أخي يجي مُحلّل بينه وبين والده”، وأشار صراحة إلى السيد عمر سليمان، وكأن أحدا في هذه الفترة يستطيع أن يتجرأ ويتحدث عن الوريث أو يرفض الإشارات التي تُرفرف إيذانا بقرب وصوله.
وإذا كانت السياسة بئرا عميقا بأسرارها وصراعاتها، فإن أهل الفن والأدب لا يقلون عنهم في الحكايات الغريبة، بغرامياتهم ومغامراتهم التي لا تنتهي، وأسرارهم التي لا تنفد حتى بعد رحيلهم. حكاية زواج سعاد حسنى من عبدالحليم حافظ، واحدة من الحكايات التي تتكرّر في مذكرات الفنانين، ولكن بروايات مختلفة تجمع بين النفي والإثبات.
في مذكرات سمير صبري “حكايات العمر كله” (الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، 2020) والتي يروي فيها مسيرته الفنية وعلاقاته بالفنانين ونجوم المجتمع من خلال البرامج التي قدمها، يوقف جزءا من مذكراته ليسرد الجوانب الخفيّة في علاقة النجوم ببعضهم البعض، فيورد عن غَيْرة عبدالحليم حافظ على سعاد حسنى وبحثه عنها في أماكن السهر والتجمعات التي يحتمل أن تكون فيها.
وعن حكاية زواج سعاد بعبدالحليم يقول إنه لم يرَ وثيقة الزواج بعينه، وإن كان يُدرك المحبة التي كان يكنّانها لبعضهما البعض. كما ينفى انتحار سعاد حسنى دون أن يقدم بديلا آخر عن الانتحار مع أن الأمر معروف، لكنه على ما يبدو أنه آثر السلامة.
حكاية الزواج التي لم ير سمير صبري وثيقته، توثقها نادية لطفي في مذكراتها “اسمي بولا: نادية لطفي تحكي” (نهضة مصر،2021) وهي المذكرات التي يرويها أيمن الحكيم، الصحافي الذي لازمها حتى في غرفة الإنعاش، فتقول نادية إن قصة حب نشأت بينهما وليست مجرد نزوة عابرة أو علاقة عابرة إذ وجد فيها حنان الأم الذي حرم منه، وهي وجدت حنان الأب الذي حُرمت منه.
تكتب “حليم كان يرغب في الزواج الرسمي والعلني من سعاد ولكن كانت هناك موانع حالت دون تحقيق هذه الرغبة، على رأسها طباع حليم، فبعيدا عن الأضواء والكاميرات فإن حليم لم ينسَ أبدا أنَّه فلاح، تسكنه أخلاق الفلاحين المحافظة، وهو ما كان يظهر في عزله لأسرته بعيدا عن حياته العملية، فقسّم شقته إلى جزء مُحرّم غير مسموح الاقتراب منه، تسكنه أخته علية وبنات العيلة، وجزء يستقبل فيه أصدقاءه ويدير منه شغله ويُجري فيه بروفاته”.
أحيانا ما يرد في المذكرات يكون أشبه بالقنبلة الموقوتة فعندما نشر سليم بركات مقالا “محمود درويش وأنا”، وهو في الأصل مقتطع من حوار مطول بعنوان “سليم بركات: لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة” (الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، أشار فيه إلى سرّ أودعه إياه محمود درويش مفاده “أنه أبٌ لطفلة من امرأة متزوجة”، لم يذكر سليم بركات أية تفاصيل وهو ما أثار حفيظة محبي درويش، واعتبروا هذا الكلام تشويها لصورة شاعرهم، وهناك مَن أفرط في المبالغة واعتبر أنه تشويه لفلسطين والقضية الفلسطينية!
ما لا يحتمل الصدق في مثل هذه الكتابات هو ما يدفع بالهجوم ونقض ما جاء بها، على نحو ما حدث في مذكرات عمرو موسى بجزأيها الأول والثاني، وبالمثل ما آثاره سليم بركات عن محمود درويش، فالصدق الذي يُعلن عنه – مع الأسف – غائب، وغيابه يفتح الأبواب لتعدُّد الروايات التي تأتي متناقِضة في الكثير منها.
الخلاصة أن الصدق، وهو الجوهر في المذكرات، قليل، وتصفية الحسابات هي الغالبة، ولنا في مذكرات ضباط يوليو خير شاهدٍ، فالحقيقة الواحدة تاهت بين مذكرات وأخرى. مع أن قيمة المذكرات في كونها شهادة (أمينة) على عصر بكل ما له وما عليه. لكن ما طالعناه من كتابات يؤكد أننا لا نأخذ من الأشياء إلا مسمياتها وفقط، فلا توجد مذكرات بالمعنى الحرفي للمصطلح، بل هي كتابات أشبه بنميمة، وإن كانت على الملأ بعدما رحل شهود الوقائع، ومَن بإمكانه أن ينفي أو يثبت. فلِمَ لا ما دام المقابل المادي مغرٍ؟
857 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع