استذكارات/ ٥٤ عاماً على رحيله السياب والحنين الى بويب

     

 استذكارات /٥٤ عاماً على رحيله السياب والحنين الى بويب

      

   

" وتنضح الجرار أجراسا من المطر 

بلورها يذوب في أنين
بويب يابويب ! "
لم يكن بويب بالنسبة للسياب مجرد نهر يغيض ماؤه من حين لآخر . بل كان المرآة الأولى التي أبصر فيها ــ مثل نرسيس ــ وجه الشاعر المعذب . ولئن ظل نرسيس حتى اللحظة الأخيرة التي سبقت اضمحلاله مُتيما بوجهه، فإن بدرا أبصر في مرايا بويب روحا صغيرا مفعما بالإحساس وثّابا رغم هزال الجسد ،عاشقا لكل ما هو جميل .

النهر الأول
ليس غريبا في مدينة كالبصرة ان يرى النور طفل في بيت جنوبي الطراز، وسط بستان تطوقه شبكة انهار. كان بويب مجرد نهير أو جدول لا يتجاوز عرضه ثلاثة امتار، يمكن لرجل ان يعبره خائضا في مياهه أو يتجاوزه قفزا بالاستعانة بعصا. يقول عبد المجيد السياب عمّ الشاعر : " كان بدر يحب جيكور وبويب حبا عميقا جدا ، وقد تحول هذا الحب الذي ولد ونما مع الشاعر الى شيء من التقديس لهذه البقعة التي شهدت صباه وطفولته، حتى انها تحولت الى رموز في شعره رددها طويلا " ويمضي قائلا : " حتى أنني اذكر ان الشاعر حجّ الى جيكور ومعه احدى حبيباته في دار المعلمين العالية وبقي يطوف بها بين البساتين والقرى لثلاثة أيام ".

الفة المتناهي في الكبر
كتب فان كوخ مرة: " الأغلب ان الحياة مدورة " . لقد رسُخ ذلك النهر في ذاكرة الشاعر فكان لا يفتأ يناديه وينادي قريته ــ جيكور ــ كلما استفحل به المرض، واشتدت عليه وطأة السنوات. ان متابعة زمنية لحياة السياب توحي بإمكانية رصدها ــ أي حياته ــ بالمدورة التالية : بويب ــ الكون ــ بويب .
تمتد هذه الرحلة من بواكير صباه وحتى رحيله للدراسة في المدينة . في هذه المرحلة كان بويب يوحي بألفة المتناهي في الكبر.كان في عيني صبيّ صغير مثل بدر اكبر من مجرد جدول أو ساقية ماء ، كان دنيا بأكملها : زرد الموج يشبه جبالا زاحفة .الزوارق الورقية مراكب تغص بالكنوز والأحلام ،المحار كتل من الطوب تصلح لتشييد دار. وقد تشرق مرايا الماء بوجه حبيبة سمراء اسمها (وفيقة ) أويبزغ وجه أمه الغائب البعيد :
" هي وجه أمي في الظلام وصوتها يتزلقان مع الرؤى حتى أنام " غريب على الخليج .

الرعب المتناهي في الكبر
هنا تتسع دائرة اهتمامات الشاعر ، تتراجع الألفة القهقرى أمام سطوة الرعب المتناهي في الكبر، يتغرب الشاعر، يلج عوالم اللذة الممرغة بتبكيت الضمير، تحرقه وجوه الجميلات ويحترق لعدم وسامته . يتعاطف مع بائعات الهوى اللواتي تدوسهن سنابك الأيام وأجساد الرجال، وتتسع دائرة الشاعر من جديد الى فوكاي وتجار الفحم والحديد ، من الصراعات الحزبية الى سقوط المثالية ، من صمود بورسعيد الى بابل التي سوف تغسل خطاياها ، من نكسات الحب الشخصية الى احساس فلسفي طاحن بكونه ذرة رمل إزاء كون لا بداية له ولا نهاية ، يتقلب الشاعر عاري القدمين على حصى الفقر والجوع والعبودية والاستغلال ولا جدوى الأسئلة :
" جيكور .. ماذا ؟ أنمشي نحن في الزمن أم انه الماشي ، ونحن فيه وقوف ؟ " ديوان المعبد الغريق ــ قصيدة (يا نهر).

الفة المتناهي في الصغر
لم يكن مستغربا لكي تكتمل الدائرة ، ان يطلق السياب على قصيدته المكرسة لبويب اسم " نهر الموت " ، انه الحنين للعودة الى رحم الماء : الموت في النهر حياة تتجاوز الموت ، تخلّص ، تبدي وتعيد . والموت في النهر سفر مزدوج .. في الذات وخارج الذات ــ في الكون . والموت في النهر نرجسية كونية تتحد بالمياه الكونية والماء أمومة ، فالموت في الماء عودة الى الأمومة .الفة المتناهي في الصغر تزامنت مع انهماك السياب بهواجس انسان القرن العشرين، ومع نكوصاته الشخصية في الحب والسياسة . لقد كتب قصيدته " النهر والموت " في مطلع عام 1957 ، وبأكبر قدر من العفوية مما يعكس مقدار ما لديه في اللاوعي من مخزون شعري. يقول الشاعر خالد علي مصطفى: " سألت السياب مرة عن الصعوبة التي يجابهها اثناء كتابة الشعر، فذكر ان مثل هذه الصعوبة معدومة عنده، وضرب لي مثلا بقصيدته النهر والموت ".
ان نهر بويب يلتمع في ذاكرة الشاعر المستنزفة اقل اتساعا مما هو عليه ،وأشد نضوبا وأبعد ما يكون عن عاشقه، لكنه اقرب ما يكون اليه في الوقت نفسه. فهو لا ينقطع عن الحنين اليه رغم بعد الشقة واختلاط الأفكار. لكن الآن لا الفراشات هي الفراشات ولا الضفاف هي الضفاف ، ويكاد ان ينطمر تحت طمي الخيبات طعم القبلة الأولى على ثغر صبية سمراء في بساتين جيكور . الشاعر الآن جالس على حافة الكونٍ ، يطل على نهر بلا ضفاف .وكانت جيكور ملاذه الأخير ، أما بويب فكان حبلا سريا يمتد من رحم الماء الى سرّة الشاعر .

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

719 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع