يقول صاحب مكتبة (المثنى) التي كانت تعد سيدة المكتبات العراقية في شارع المتنبي لاكثر من نصف قرن قاسم الرجب عن صلته بسوق السراي إلى سنة 1930 – 1931 يوم ترك المدرسة وكان في الصف السادس الابتدائي، بسبب فقر حال اسرته، واضطر الى البحث عن عمل رغم صغر سنه.
وكانت اسرة الرجب ترتبط مع نعمان الأعظمي صاحب المكتبة العربية بصلات قربى وجوار، مما مكن الطفل الصغير قاسم الى الالتحاق بمكتبة الاعظمي والاشتغلال فيها باجرة يومية قدرها (20) فلساً أي 600 فلس في الشهر زيد بعد فترة الى (750) فلساً ثم الى (900) فلس، وبقي يشتغل لمدة سنتين بهذا الراتب الضئيل.
كان سوق السراي آنذاك زاخراً بالمكتبات، الصغيرة منها والكبيرة، ومنهم من يعرض بضاعته على الرصيف. وكانت المكتبة العربية كبرى تلك المكتبات في السوق والعراق كافة، وصاحبها نعمان الأعظمي، كان عارفاً بالكتب، ذواقاً باختيار ما ينشره ويطبعه من الكتب القديمة، عالماً بالكتب الخطية، بل كان الوحيد الذي يفهم هذا الفن، ويعتني بتسويق الكتاب المخطوط وعرضه.
وكان سوق الكتب ضعيفاً، والمطبوعات قليلة، والأمية متفشية، كما أن الكتب الخطية لا تتحرك فلا سوق لها. فإذا أحرز نعمان الأعظمي بعضها حزمها وسافر بها إلى مصر ليبيعها، أو يبدلها بالكتب المطبوعة. وكان نعمان إذا باع كتاباً يتغزل به، ويطرقُ مجلداً بمجلد ليُظهر له صوتاً كما يفعل باعة الأحذية، ويصيح كل (كل الصيد في جوف الفرا.
دأب الفتى قاسم الرجب على العودة إلى بيت عائلته في الأعظمية ماشياً لتوفير بعض النقود لشراء كتب يحبها وكان اول كتاب يقتنيه هو: كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني، واليه يعود الفضل في إذكاء روح المطالعة في نفسه.
كان يتردد على سوق السراي كثير من العلماء والأدباء والشعراء، أمثال العلامة طه الراوي، الذي كان أكبر مُشجع ومُرغب للكتاب في جميع مجالسه الرسمية والبيتية، والباحث والمؤرخ عباس العزاوي المحامي وكان أكبر زبون للسوق وللكتاب، فكان يتردد على السوق أربع مرات أو أكثر في كل يوم، فلا يفوته كتاب مطبوع أم مخطوط، ومن زوار السوق الفضلاء العلامة الفقيه الشيخ أمجد الزهاوي، وهو يقتني كتب الحديث والفقه والتفسير وقليلاً من كتب التاريخ والأدب. وإذا أراد الشيخ أمجد الدخول إلى المكتبة، فإنه لا يدخلها قبل أن يخلع نعليه ويضعها تحت أبطه، وهو بهذا يتحاشى أن يدوس ورقة، إذ ربما كان في تلك الورقة لفظ الجلالة، أو أي اسم مقدس آخر.
وفي أيام الجُمع، كانت تُقام سوق للمزاد، تُباع فيها الكتب بطريقة الهرج، ويتبنى هذا البيع عبد الحميد زاهد بصوته ونبراته اللطيفة؛ إلا أن ما يُعرض في هذا المزاد لم يكن في الغالب إلا من سقط المتاع، وما يبور عند أصحاب المكتبات فيدبروا مؤامرة على الزبائن في إقامة المزاد.
ومن طريف الأمور يومذاك، أن كثيراً من اليهود كانوا يتاجرون بالمصاحف ولوحات الآيات القرآنية، منهم إلياهو دنكور، وإسحاق معلم،
وكان اغلب باعة الكتب لا يعرفون القراءة أو الكتابة، والبعض الآخر دخل المدارس الليلية وتعلم قليلاً، ومن كان يعرف القراءة والكتابة لم تكن عنده الرغبة في قراءة شيء.
وأكثر أصحاب المكتبات لا تجد بينهم من يفهم الكتب سوى حسين الفلفلي فهو متوقد الذكاء، كثير الوسواس. ومن الأدلة على ذلك أنه لا يسمح لأحد بدخول مكتبته مهما كانت منزلته وصداقته معه، بل لا يسمح بدخولها حتى لأولاده، ولذا تراه دائماً واقفاً بباب المكتبة، مكدساً كثيراً من الكتب المدرسية المستعملة لتكون حائلاً دون الدخول لمن يريد ذلك؛ وحتى لو ذهب لقضاء حاجة أو عمل فإنه يغلق المكتبة ولو كان هناك في بابها عشرات من الأصدقاء.
وشاهد سوق السراي بيع مكتبات شخصية مهمة منها مكتبة العلاّمة السيد محمود الآلوسي، وغيرها من المكتبات المهمة التي كان من الواجب الاحتفاظ بها.
وكان سوق الكتب يعتمد كثيراً على إيران، فكانت المصاحف المستوردة من مصر تشحن بأجمعها إلى إيران إذ أن المصاحف لا تكون مرغوبة إلا إذا كانت (مشيرزة) من قِبل الصحّاف، وكان لون قماشها أحمر، وكانت بخط الخطاط الشهير الحافظ عثمان، وكان عدد سطور الصفحة (11) سطراً فقط.
وكانت أسواق الكتب في بغداد تعتمد أيضاً على الهند وباكستان، فالهندي حينما يصل إلى بغداد يتساءل عن المنجد وأقرب الموارد ومؤلفات الشيخ عبد القادر الكيلاني ومناقبه. أما الكردي فلا يشتري كتاباً ما لم يكن ورقه أصفر من النوع النباتي.
وكان موزعو الكتب يحملون ما وصل حديثاً أو ما تحتاج إليه المقاهي، واشتهر منهم يهودي اسمه أبو حمرة الذي لم يكن يجاريه أحد بصوته وندائه وتنقلاته المكوكية وسرعة جريه ونشاطه.
يضيف قاسم الرجب كنت كلما وجدت فراغاً أذهب إلى المكتبة العامة، وكانت حينذاك في باب المعظم، لأطلع على الغريب مما حوته من الكتب المطبوعة باعتناء المستشرقين ومطبوعات الهند وغيرها مما لم يكن يصل إلى سوق الكتب في حينه. وقد خلت تلك المكتبة الآن من أكثر تلك الكتب فقد تبعثر بعضها وسرق البعض الآخر وتلف جانب آخر لعدم تجليده.
وكانت شرط الإعارة بالمكتبة العامة غير رادعة مما أدى إلى بعثرة الكتب والاستهانة بإعادتها، حتى التفتت إدارة المكتبة ومنعت خروج النادر من الكتب.
وكانت المكتبات العامة في أنحاء العراق قليلة جداً، فاشتهرت في البصرة مكتبة الرشاد، وكانت تضم نفائس كثيرة مما تبرع بها هواة الآثار من الأجانب والحكام الإنجليز والمستشرقين الذين اتصلوا بالبصرة. ولبثت الحال دونما تغيير يذكر حتى تأسست مكتبة المتحف العراقي في بغداد. وقد شاهدتها سنة 1935 فكانت عبارة عن دولاب صغير فيه بعض الأجزاء من كتب باللغة العربية والإنجليزية لا تزيم على مئة مجلد، فلما عُين كوركيس عواد فيها ملاحظاً اهتم بتنميتها وأخذ يشتري إليها كل ما يتمكن من الحصول عليه من المصادر والكتب النادرة بمختلف اللغات، وكان مدير الآثار ساطع الحصري، فبذل مجهوداً كبيراً، وعزز رغبة كوركيس عواد، فتضافرت الجهود، فنمت المكتبة حتى أصبحت الآن أكبر وأنظم مكتبة في العراق.
وكانت المجلات المستعملة ترد الى السوق إما بطريقة الاستيراد من قِبل نعمان الأعظمي أو محمود حلمي، وإما عن طريق الأسكجية – اليهود الذين يمرون في الأزقة والبيوت معلنين شراءهم إياها بأعلى أصواتهم وإبدالها بالألبسة المستعملة وبالصحون والنقود. وكانت كافة المجلات تُطبع وتصدر بمصر، إذ لم تكن لبنان اهتمت آنئذ بإصدار الجرائد والمجلات وحتى الكتب، وكانت المجلات مليئة بالمقالات الأدبية والسياسية والطرائف والأخبار.
استمر قاسم الرجب يشتغل في مكتبة نعمان الأعظمي عاملاً حتى سنة 1936، وعانى فقرا وتعبا وبؤسا وعدم تقدير، وظل يفكر بالخروج منه الى ان سمع بان احدى قريباته قد جمعت مبلغاً لا يقل عن عشرة دنانير، وقلّما وجد بين أفراد عائلتنا سواءً أكان من جهة الأم أو جهة الأب من كان يملك مثل هذا المبلغ الكبير الجسيم. فطلب منها متوسلاً متضرعاً أن تقرضه أربعة دنانير ونصف الدينار، ولا يعرف كيف وافقت قريبته ووثقت بي حين أقرضته ما طلب.
وعلى كل حال أخذ الفتى قاسم وكان عمره 17 عاما المبلغ وذهب به مسرعاً إلى المصرف العثماني وحوله بواسطته إلى شركة الكتبي (لوزاك) بلندن، في مقابل أن تبعث إليّ بنسخة كاملة من كتاب (معجم الأدباء) تأليف ياقوت الحموي الرومي، وهو يقع في سبعة مجلدات، وبعد خمسة وعشرين يوماً وصلت النسخة، فأخذها وذهب بها إلى كلية بغداد للآباء اليسوعيين في الصليخ، وكان مديرها آنذاك الأب رايس، فلما رأى النسخة استمهلني وطلب الانتظار دقائق ريثما يتأكد من سعرها من فهارس المكتبات التي كانت بحوزته، فلما رأى ثمنها وتأكد منه وافق عليه ودفعه إليّ سبعة دنانير ونصف الدينار. وبذلك ربح راتبه في يوم واحد. وهكذا صار كلما باع نسخة طلب غيرها فيحصل على ربح قدره ثلاثة دنانير. وبقي الحال على هذا المنوال ثلاثة أشهر. إلى أن طلبه خاله عبد الرحمن وعرض عليّ أن يفتح مكتبة معه بعد أن كان قد باع داراً يسكنها. فوافق الرجب على ما عرضه رغم سوء العلاقة معه.
وقد تسلم من خاله مبلغ قدره خمسة وعشرين ديناراً، فأرسل بعضه إلى مصر وأوروبا طالباً به ما عرفتُ من مختلف الكتب، ووجد أحد الدكاكين الفارغة مساحته مترين مربعين في وسط سوق السراي واجره بمبلغ زهيد.وقد شد أزره وساعده كثيراً بعض من كان يعرفه خلال سنوات عمله عند نعمان الأعظمي، ولم تمض مدة قصيرة حتى وصلت إليّه كمية كبيرة من نفائس ما طُبع في أوروبا من مؤلفات عربية قديمة. وكانت تصل إليّه باسم مكتبته التي اطلق عليها اسم مكتبة (المعرّي).
وكان من أصدقائه عبد الستار القره غولي فأشار عليّ بأن أُغيّر اسم مكتبتي وأجعله (مكتبة المثنى)، نسبة إلى (المثنى بن حارثة الشيباني) أحد قادة الجيش العربي الذي فتح العراق في صدر الإسلام. وفي هذه الأثناء نشر الأستاذ القره غولي كتابه المسمى (المثنى بن حارثة الشيباني)، وطبع على غلافه (يُطلب من مكتبة المثنى)، وكان هذا أول كتاب يُذكر اسمي عليه.
ولما وصل بعض ما طلبته مكتبة المثنى من الكتب من ألمانيا وهولندا وباريس ولندن والهند قد أحدث وصولها دوياً في جميع الأوساط الثقافية والعلمية في بغداد، حتى ان بعضهم دهش وتحير مما رأى وهو غير مصدق، إذ لأول مرة تصل هذه المطبوعات إلى سوق بغداد فيراها الناس في أصغر مكتبة وعند أصغر كتبي.
وقبل أن تصل الكتب التي طلبها من مصر، إذ بخاله الذي اعطاه 25 دينارا يطلب منه أن يعيد إليه المبلغ بعد ان حسّن له بعضهم تربية الخيل وأغروه بأرباح خيالية.
لقد فتحت مكتبة (المثنى) الطريق واسعة إلى التعريف بالكتاب العربي لدى جميع الجامعات المعنية بالاستشراق وبيعه في مختلف أنحاء العالم، واعتمدت لدى المكتبات العامة الهامة كمكتبة المتحف البريطاني ومكتبة نيويورك العامة ومكتبة الكونغرس ومكتبات الجامعات كافة، وسبب ذلك يعود الى أن مكتبة المثنى لا تهمل طلباً، ولا تتأخر عن الرد على أي رسالة تصل إليها من كافة أنحاء العالم.
وفي خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها أخذت تزيد طلبات الكتب من الخارج، وأُنشئ قسم خاص ملحق بالمكتبة للتغليف والشحن وتلبية طلبات الجامعات. وقد أخذت تصل إلينا طلبات كبيرة ومهمة وأغربها ما تطلبه جامعات اليابان من الكتب الدينية والمصادر التاريخية والمعاجم اللغوية المختلفة، ومثلها جامعات كندا وكوهانسبرك واستنبول التي كانت لا يدخل إليها كتاب عربي.
واتسعت معلومات قاسم الرجب في عالم الكتب كثيراً، وزادت مطالعاته، فشملت مختلف التآليف الباحثة في التاريخ والتراجم والآداب والبلدان وغير ذلك من كتب التراث العربي خاصة، وصار لا ينقطع يوماً عن القراءة، وكثيراً ما راجعه مشترون وراغبون وبعض الزبائن ليرشدهم إلى المصادر المطلوبة للموضوعات والقضايا التي يبتغون دراستها.
ويستذكر الرجب ان أحد المؤلفين قد بعث إليه بنسخ من كتاب صغير اسمه (القضية الكردية) طبع في بيروت، وعند إرساله قائمة الحساب التي بموجبها سنسدد قيمة النسخ المُرسلة، سجل في آخرها قيمة الطوابع التي صرفها على إرسال هذه الرسالة. وهذا أغرب ما رأيت من بخل المؤلفين الذين نرى بعضهم إذا أهدى إلينا نسخة من مؤَلفه، ولم نشترِ منه يعود فيطالبنا بإعادة النسخة المهداة بالرغم من وجود عبارة الإهداء وتوقيعه عليها. ومن المؤلفين من يُعلن على غلاف كتابه أو في الجرائد، أن كتابه يُطلب من داره المرقمة بكذا والواقعة في المحلة الفلانية، وبهذا يتحاشى أن يعطي خصماً (عمولة) إلى الباعة من أصحاب المكتبات.
449 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع