فيلم "القداس الأسود": تحفة "اجرامية" جديدة
نموذج "سينمائي" للشر الخالص!
في سبعينات القرن الماضي يقنع عميل الاف بي آي جون كونولي (جول أدجيرنون) المافيوزي الخطير وايتي بولجر (جوني ديب)، يقنعه للتعاون معه للتخلص معا من العدو المشترك: المافيا الايطالية...تخوض هذه الدراما الاجرامية بتفاصيل التحالف الغير مقدس، الذي يخرج عن حدود السيطرة، فيسمح للمجرم الشرير "وايتي" بالتملص والتهرب من الضوابط والقوانين وامتلاك النفوذ والسلطة، ومن ثم المباشرة بتصفية كافة الأعداء والمناوئين وكل اللذين يشك باخلاصهم له ولعصابته، هكذا يقدم هذا الفيلم قصة حياة واحد من كبارعتاة المجرمين المتنفذين بتاريخ مدينة بوسطون الأمريكية، هذا الشريط الشيق من اخراج سكوت كوبر، وتمثيل كل من بينديكيت كومبرباتش، روري كوشران، كيفين باكون، جيسي بليمونس، كوري ستول، بيتر سارسجارد وداكوتا جونسون.
يدخلنا "سكوت كوبر" من أول اللقطات باجواء العنف والاجرام، ويدلنا على مرجعية القيم الكاثوليكية للايرلنديين المغتربين وعنصريتهم البغيضة، كما يشطح بنا بتفاصيل اجرام المدعو "بولجر" بالسبعينات والثمانينات من القرن الفائت، أما المغزى الفلسفي لثيمة الفيلم، فتتطرق لكيفية "عدم اختفاء اشياء، حيث أنها تصبح غير مرئية فقط"، ويشرح ذلك بتباهي لابنه الصغير ذي الثمان سنوات على مائدة الفطور قبل ذهابه للمدرسة قائلا: "المهم أن لا يراك أحد عندما تسدد قبضتك بوجه زميلك...ولا تشعر بالسؤ ان ضربت احدا، بل احرص على أن لا يراك أحد"!
هكذا يخوض الفيلم بمفهوم "عدم الرؤيا" او "مشاهدته متلبسا بالجرم"، معتقدا أنه "اذا لم يشهد أحدا ما على الجريمة ، فهي لم تقع عمليا، ولا يمكن اثباتها"!
"جوني ديب" يتقمص هنا شخصية هذا المجرم كما بحالة "القرصان المهرج" بسلسلة "قرصان الكاريبي" بحيث أنك لا تتذكر أنه "جوني ديب"، فهو هنا مجرم عنيف لا يرحم أحدا حتى اقرب اصدقائه، انه يقدم هنا "نموذجا دراسيا بنمط التقمص المذهل"، ويتناقض كليا بطريقة ادائه مع الآخر زميل طفولته عضو الاف بي آي "جون كونولي" الساخر المتبجح، الذي يركز على الطموح والمال والطمع والحقد والغدر.
اسم الفيلم مشتق من الكتاب المقدس، مستعرضا هؤلاء المتنفذين "الأوغاد" القادرين على فعل اي شيء رضوخا لغرائزهم ولمغريات الحياة، هكذا بالحق يدهشنا هذا الشريط بمحتواه الاجرامي الحافل والمعقد والمتداخل، ويدخلنا بمتاهة العلاقة الاشكالية للشخصيتين الرئيستين وتناقضهما احيانا، كما يتجلى التناقض ما بين "فكرة عدم المشاهدة" التي أعلن عنها بولجر، وواقع مشاهدة زميليه بالاجرام لحالة "خنق الفتاة" الواشية بالشقة التي استخدمها كوكر لأعماله الاجرامية، كما أن نفس الأشخاص كانوا شهودا على تعذيبه وقتله لأحد المخبرين المندسين...تبدو شخصية "المجرم" بهذا الفيلم "مرعبة وقاسية وطاغية"، عكس الانطباع "الطريف" الذي ولده (جوني ديب) بالكثير من افلامه التاريخية والغرائبية والبوليسية والكوميدية، وهذا يدل على مهارات عالية بالتقمص وفن التمثيل، وهو هنا اول ما يخيف العاملين معه، بل ويسخر منهم ومن قذاراتهم وعائلاتهم، وحيث يتحول نقاش عادي حول "طريقة اعداد ستيك شهي" الى جلسة "تخويف" مقصودة لأقرب أصدقائه والمتعاونين معه...ويبدو كما لو أنه لا يكن لأحد الحد الأدنى من الاحترام والثقة الا فيما ندر، عكس ممارسات زعماء المافيا بالأفلام المماثلة اللذين يتبادلون الحد الضروري من الاحترام والتقبل فيما بينهم، بل انه يتجرأ على زوجة أعز أصدقائه (جون كونولي)، ويلاطفها بل ويتحرش بها وتبدو وكأنها تتجاوب مرغمة وخائفة مع حركاته الغريبة مع انها تحتقره في قرارة نفسها وتكره كل علاقات زوجها المشبوهة معه، كما أن علاقته بزوجته وخاصة أثناء وبعد فقدهما لابنهما الوحيد بدت غريبة مع جرأة الزوجة واستهتارها به...وهناك العديد من اللقطات التي تتماثل مع أفلام المافيا الخالدة "كالعراب والأصدقاء الطيبون"، كحالة الضرب المبرح الذي تعرض له "أزعر" لتأديبه انتقاما بعد ان استدرج لركوب السيارة، ثم لطريقة قتل احد المخبرين بوحشية بواسطة طلقات بندقية في وسط الشارع بعد ان اخرج من سيارته، ثم لاسلوب اغتيال أحد مدراء الشركات المناوئين بمنتجع سياحي بحري.
تكمن أهم نقاط الضعف بالسيناريو في العلاقة الباردة بين المجرم بولجر وشقيقه السيناتور المتنفذ (الممثل بينديكيت كومبرباتش)، فهي تفتقد للتفاعل والكيمياء.
بدا لي "جوني ديب" احيانا وكأنه يخرج (كمارلون براندو) من النص المكتوب ويستأثر بالمشاهد والحضور ويرتجل، وخاصة مع براعة "المكياج والميك آب" الذي منحه "لوك" اجرامي مختلف معبر، كما بدت عنصرية الايرلنديين متجلية بتعاطفهم مع بني جلدتهم (لدرجة دعم الجيش الايرلندي بتهريب السلاح) وكراهيتهم الشديدة للايطاليين، مع تأكيد البعد الديني لدور الكنيسة، ودماثة سلوكيات "بولجر" مع النساء العجائز وتقديسه الكبير لوالدته، حيث بدا وكأن وفاة والدته وابنه الصغير ذي الثمانية أعوام قد أثرا عليه بشكل دراماتيكي محبط، بحيث أنه أصبح "يوغل" بالاجرام والعنف وبلا ضوابط مع انعدام المشاعر الانسانية.
يبدأ الفيلم بمشهد لافت عنيف يتمثل بضرب مبرح لحارس الملهى الليلي الذي يملكه "بولغار" لأنه تجرأ ومنع ثلاثة "زعران" من دخول الملهى لقرفه من سلوكياتهم ووقاحتهم، ثم تركز اللقطات التالية على طريقة احد المرافقين المقززة بتناول الطعام مما أثار استياء "بولجر" وقرفه، والمشهد يتناقض مع مثيله بفيلم العراب حيث نرى بالبدء (ولكنه يتشابه بطريقة التصوير القريبة المكبرة) "دون كوروليوني" وهو يداعب باسترخاء قطة اليفة على حضنه ويصغي لشكوى احد عملائه المقربين!
المشهد الأخير بهذا الفيلم اللافت يستدعي "التأمل والدهشة"، فبينما نشاهد فرق "الاف بي آي" وهي تنطلق بحملة مفاجئة لاعتقال زملاء بولجر المتواطئين والمشاركين والشاهدين على اجرامه واحدا تلو الآخر، نراه يجلس هادئا ووحيدا في كاتدرائية ضخمة، ثم يغادر خلسة دون أن يتمكن أحد ما من القبض عليه!
يؤكد هذا الشريط الشيق مقولة ادونيس: "ان الناس تنذهل بشخصية القاتل اكثر مما ينذهلون بشخصية القديس"...كما ان الربط المجازي المعبر بين الاجرام والفساد والقداسة كان معبرا!
مهند النابلسي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
655 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع