علي الحديثي..الخارج من أسوار النار
بغداد / الگاردينيا - عبدالرضا غالي الخياط *
يمكن للروائي حينما يسعى بعد ما تنضج في عقله نظرية جمالية إلى السعي في محاولة من استكشاف الحقيقة عبر الذاكرة المصدومة. فإذا ما قدر للإنسان المعزول بحكم القوانين الموضوعية التي صاغها الواقع واشتراطاته الزمانية والمكانية المفروضة على الذات المحاصرة ان يتحول الى شيء ذي قيمة؛ فأنه يحتاج الى قدر من الحيوية والإصرار يفوق الحد الاعتيادي، وهو يحتاج فضلاً عن ذلك الى دافع قوي راسخ يحثه على نقل رسالة سامية أو إيصال حقيقة غائبة عن الأذهان والإسماع، ليس بالإمكان تركها تتلاشى في غياهب النسيان، وعدا ذلك يحتاج الى مقدار من الكبرياء والاتزان تصل قوته حداً لا يدع للكاتب مجالاً للشك من تبيان تلك التفاصيل الحميمة والصغيرة التي تنطوي على قدر كبير من الأهمية للعالم على نطاق واسع.
ففي العمل الفني كما في مستوى الفكر نجد اليوم العديد من الأسئلة التي تواجهنا بنوع من التحدي والإصرار على الوجود والبقاء مع إصرار الآخر على ان يجعل من هذا الوجود والبقاء تابعاً له رهيناً بأفعاله مستلباً استقلالية الذات المعزولة عن فعلها المرتبط بوجودها الطبيعي. ولعل أكثر الأسئلة وضوحاً هي تلك التي تقول الحقيقة التي يراد بها لمصائرنا ان تتشكل والكيفية التي تتم بها امتحان التجارب والأفكار، والحيوات الإنسانية فيما إذا كان ينبغي علينا ان نظل في استمرايتنا التاريخية أم علينا ان نغاير؟ فإن كثرة الملابسات والتناقضات الحادة التي جاءت بعد موجة التغيير الذي أصابنا ما بعد العام 2003 وما أحدث من تأثير كبير على مصائرنا وعلى خراب البنى التحتية؛ فضلاً عما أصاب المنظومة القيمية بالتشظي ومن دمار مقصود، كل ذلك ولد جملة من الاتجاهات السردية التي حاولت الاقتراب من رحم الواقع والالتصاق بشكل مباشر مع الهامش المعطل والمغيب عن روح الحياة الدنيا وفعاليتها الواسعة. وهذا ما جعل الروائي علي الحديثي من نقل التجربة فنياً عبر لغة السرد، فالرواية انبثقت ضمن سيرورة تجربة مؤلمة للبطل نهاد، وتحديداً في سجن " بوكا " حيث جمعت في فضائها الضيق عمق المأساة وكارثية التجربة الإنسانية، والإعلان صراحة عن موت ضمير العالم المتحضر! كما أعطت صورة مضيئة عن معنى الذاكرة الحيّة والتي سرعان ما ارتفعت وارتقت بها الرواية الى مستوى عالٍ من الإبداع، ما أعطاها عملاً خلاقاً واضح الرؤية وملموس بشكل جلي، وبلغة بسيطة تلقائية وحاذقة في استيعاب الأشياء والمرئيات والمسموعات وبمشاعر وأفكار صادقة، وكانت المشاهد المؤثرة عن المكان بديعة أيضاً وساعدت على إعادة ما يكتنف الرواية من أسرار غريبة ومواقف عجيبة لصيقة بالوجود الإنساني المحض، عبر صياغة التجربة الأشد إيلاماّ، وتكمن براعة الكاتب في رسم وتشكيل المبنى السردي العالي والشكل اللغوي الذي ارتقى بها مما جعلها إيقونة زمانها، وهي بالفعل أول عمل روائي يوثق تجربة سجون الاحتلال الأمريكي في العراق وتشتبك مع تاريخ الاحتلال للعراق. لذا ينبغي علينا الاقتراب منه واللقاء به في حوار عن واقع التجربة التي عاشها في روايته الأخيرة " ذكريات معتقة باليوريا " الصادرة عن دار فضاءات للنشر- عمان 2015، والتي أخذت مساحة واسعة في المدونة النقدية العربية بعد ما أشاد بها النقاد والقراء على السواء.
س: ذكريات معتقة باليوريا"، هل هي رواية أقرب ما تكون منها إلى السيرة، أم هي رواية تصنف لأدب السجون ؟
- هي الاثنان معا، فهي سيرة كتبتها بشكل روائي، نقلت فيها أحداث قلما يعرفه الآخرون عن جانب من داخل المعتقلات الأمريكية في العراق.. وتم تصنيفها على أنها من أدب السجون.
س: الرواية إمامنا، فقد جسد فيها البطل نهاد عذابات السجون والمعتقلات للاحتلال الأمريكي في العراق، إلى أي مدى ما ورد فيها كان قريباً من الواقع ؟
- الأحداث كلها واقعية، فالروائي عندما ينقل أحداثا واقعية وثائقية لا يحق له أن يتلاعب بها ، فهي تاريخ يجب قول الحق فيه والإنصاف في نقله، وتبقى مهمة الروائي في جودة الصياغة وقوة اللغة وسعة الخيال التي يمكنه من خلالها إضفاء الجمالية على أحداث تاريخية جامدة، وهذه هي مهمة الروائي الأولى وهي رسم الواقع - سواء كان جميلا أو قبيحاً بألوان المشاعر التي تشدّ القارئ للحدث، وتجعله يتفاعل معه..
س: هل يمكننا ان نعد " ذكريات معتقة باليوريا" وثائقية من جهة ومشتبكة مع تاريخ الاحتلال الأمريكي للعراق من جهة أخرى ؟
- الحديث عن مكان وزمان محددين ، وفي ظرف معين، لامحالة إنه توثيق لما جرى حينها، وروايتي " ذكريات معتقة باليوريا" تحدثت عن معتقلين داخل المعتقل الأمريكي في العراق في سنتيه ألأوليتين ، فهي وثيقة عن وجه من وجوه الأمريكان أثناء احتلالهم للعراق، وكذلك رسم واقع المعتقلين وهم مسجونون في بلدهم، فمما لا شك فيه أن مشاعر الإنسان عندما يكون سجينا في بلده من قِبَل الغريب لها وقع أشدّ في نفسه..
س: نلاحظ بوضح الرؤية لدى البطل نهاد في التعبير عن المغالطات الأخلاقية بالنسبة للمحتل الأمريكي في تعامله مع المعتقل، كيف كانت روح الاستجابة والمقاومة لبطل الرواية مع ذاته ؟
للأمريكان سياستهم وأهدافهم، وما يفعلونه ليس ناتجا عن مغالطاتهم، ولكن يفعلونه وفق ما يخدم مصالحهم، فعندما نجد شيئا جميلا وجيدا منهم في بلد خُرّب على أيديهم فهذا يعني أن هناك مصلحة وفائدة تعود عليهم.. وماذا بيد بطل الرواية ليفعله وهو مع آخرين كثر محاطون بأسلاك شائكة وجدران وطائرات ودبابات.. و.. و.. فأهم وأعظم ما كان يستطيع البطل فعله هو أن يخلق روح المحبة والأخوة لمواجهة المساعي الأمريكية في تشتيت أبناء الوطن الواحد في المعتقل.. وإذا كنت أتحدث عن المعتقل، فهذا هو أيضا ما نحتاجه اليوم خارج أسوار المعتقل..
س: ذكريات معتقة باليوريا " نالت استحسان القراء والنقاد على السواء ، ما الذي يميزها ؟
من الجميل الذي يسعدني أن روايتي نالت الاستحسان من القراء والنقاد، ولكن هذا السؤال يجب عنه القرّاء أنفسهم، فربما هو الحدث الذي سلط الضوء على مكان وفي فترة يجهل كثير من الناس تفاصيلها.. وربما هي اللغة التي أثنى عليها من قرأ الرواية.. وربما.. وربما.. فلكل قارئ زاويته التي ينظر بها للنص فتعجبه تلك الزاوية..
س: في مجموعتك القصصية الأولى "المعبث" والتي تضم 21 قصة قصيرة، ما القاسم المشترك الذي يجمع بينهما معاً ؟
- برغم فارق السنوات التي بين قصص "المعبث" إلا أن ثيمتها المشتركة هي شخصية البطل في كل نص والتي تتسم بالانهزامية ، وتعيش صراعاً وجوديا ، حتى قال لي أكثر من شخص بأن قصص المجموعة لما فيها من قاسم مشترك كان بالإمكان أن تجعلها رواية.
س: يؤكد الفن ومنه الأدب على أنه ما من تعذيب أبشع مما يجلبه المرء على نفسه بتجاهل ما يرى ويسمع برغم ان ما يحدث قائم بالفعل، نشاهده دون أن نقرأ الواقع، فإن ما حدث وما يحدث اليوم أبشع بكثير من كل أفعال الاحتلال الأمريكي ، كيف تقرأ ذلك ؟
يقول الشاعر
وظلـم ذوي القربـى أشــدُّ مضـاضـة - على المرء من وقع الحسام المهند
برغم البشاعة التي مارسها الأمريكان ضد العراق من قتل وتخريب ودمار، إلا ان ما يفعله اليوم أبناء لغتنا أو حتى جلدتنا أكثر إيلاما في النفس، فليس غريبا أن يسرقك اللص ، فهو هنا قد أتى جرما واحداً وهو السرقة.. ولكن أن يسرقك من تأمن جانبه ، وتنتظر أن يكون عونا لك، فهذا قد أتى جرمين، جرم السرقة وجرم الغدر بمن وثق به.. وليس من الممكن ان نغض الطرف عما يحدث ، فللمثقف صوت صارخ يمكنه أن يقلب الموازين به، ولكن.. متى يصرخ المثقف صرخة تلمّ شتات هذا الوطن الذي لم تهدأ السكاكين الداخلية والخارجية من تمزيقه ؟
س: هل الإنسان مرهون بأفعاله، أم أنه يتصرف نتيجة ارتباطه بالآخر، وما حجم هذا الارتباط الذي يدفع بالمرء بأن يغامر بنفسه من أجل تصديق هذا الارتباط واثبات كينونة الآخر؟
الإنسان كائن اجتماعي، فلا يستطيع مهما اعتزل ان يتجرد من الآخر، وهل كان اعتزاله إلا ردّ فعل من الآخرين؟ فكل شيء حولك يشارك في بناء ذاتك شِئت أم أبيت، ولكن هذا لا يعني أن نترك أنفسنا طينة بيد الآخرين، ولكن نستفيد منهم ومن مواقفهم وكلامهم في صنع ذاتنا التي نريد، وأن نوازن قدر المستطاع بين الأمرين، بين ذاتنا والآخرين، فنعطي لكل ذي حق حقه..
*مدير مكتب الگاردينيا في بغداد
437 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع