نوري جاسم
سرديات بغداد الثقافية الصامتة
في بغداد، المدينة التي تشبه قصيدةً لا تنتهي، تصحو الأرواح القديمة كل صباح مع صوت الأذان في المساجد، واصوات القراء في التكايا، وبعد بزوغ الشمس تسمع موسيقى الباعة المتجولين، حيث تمتزج أصوات الحياة اليومية برماد الكتب المحترقة وصدى الشعراء الذين مرّوا ذات يومٍ من بين أزقتها، هنا لا تحتاج إلى دليلٍ لتقرأ التاريخ، الجدران تتكلم، تهمس، تصرخ أحيانًا، تروي لك حكايات عن بغداد التي كانت ولا تزال، وإن أرهقتها السنون وداهمها النسيان، واتعبتها صولات الحروب العبثية،
وليست الجدران في بغداد أحجارًا صامتة، بل هي دفاتر مفتوحة كتبت عليها يد الزمان أسمى تجليات الروح الثقافية، خربشات شاعرٍ حالم على جدار قرب المتحف، رسم طفلٍ في الكرخ او الرصافة، اسم شهيدٍ على جدار مدرسة، قصيدة معلقة في مقهى شعبي، كلها تشكّل فصولًا من كتاب بغداد المفتوح على الأوجاع والانتصارات، على الذكريات والمستقبل، وفي شارع المتنبي وحده، يمكن لك أن تستمع إلى حوار غير مسموع بين الراحلين والحاضرين، المتنبي نفسه يُحدّق من تمثاله بنظرة فيها كبرياء الشعراء وقلق المفكرين، تميل واجهات المباني العتيقة وكأنها تنحني على همسات الكتب وهي تُقلَّب على الأرصفة، الجدران هنا كأنها تصغي، بل وتحفظ ما يُقال، وترتّب على طريقتها ما لا يُقال، ثمة ذاكرة سرّية في بغداد تحفظ الأشياء حتى تلك التي أرادوا محوها، وفي الأزقة القديمة لباب المعظم، وفي دهاليز الكاظمية، في بقايا الأرصفة المهجورة خلف أبو نواس، تروي الجدران حكاية المدارس القديمة، النوادي الأدبية، المجالس الثقافية البغدادية، السينمات التي أُطفئت شاشاتها يومًا، المسارح التي كانت تشتعل بالتصفيق والضوء، وكلها اليوم تحنّ إلى زمنٍ لم يكن مثاليًا لكنه كان عميقًا، ثريًا، نابضًا، بغداد، حين تتكلم جدرانها، لا تفعل ذلك بمرارة فقط، بل تُعلّمنا دروسًا عن البقاء، عن الكرامة الثقافية، عن الإصرار على الحلم حتى ولو تكسّرت أجنحته، كم من شاعر وقف عند جدار مدرسة أو مكتبة وقال في نفسه: هنا بدأتُ، وهنا انتهيتُ، وهنا سأعود، كم من فنان خبّأ حلمه على حائط دارٍ قديمة، وعاد ليجده في عيون الناس الذين لم ينسوه،
وفي ظل كل ما مرّ عليها، بقيت بغداد مدينةً للثقافة لا فقط لأن فيها كتبًا ومكتبات، بل لأن روح الثقافة تقطن جدرانها، تتشبث بالأماكن، تهرب من الخراب لتحتمي داخل حجرٍ نقشت عليه يد فنان اسمه نُسي، لكنها لم تُنسَى، هذه الجدران الصامتة، هذه التي مررنا بجانبها سريعًا دون أن نمنحها نظرة، تحتفظ بأسرار جيلٍ كامل، بأمنيات امرأة كانت تدرّس الفلسفة في الجامعة، بخطوات أول صحفي حمل كاميراه إلى الساحات، بنداء أول مظاهرة طالبت بالحرية، بقصائد مُنعت ثم علّقت سرًّا على باب حانوت، وحين تتكلم الجدران في بغداد، فإنها لا تطلب شيئًا، لا تشكو، بل تذكّرنا فقط أننا من طين هذه المدينة، من حبرها ودمعها، وأنها رغم ما بها، لا تزال تسكن فينا كما نسكن فيها،
والصمت في بغداد ليس خواءً، بل هو لغة عميقة، منقوشة على الجدران، لا تحتاج إلى ترجمة، فقط قلب حيّ يسمع، وضميرٌ لا ينسى، وبغداد التي تتكلم بصمت، تمنحنا فرصة أن نصمت نحن أيضًا، لا يأسًا، بل احترامًا لصوتها العميق الذي لا يُسمع بالأذن، بل يُفهم بالوجدان
فهل ما زلنا نستمع؟
وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ...
489 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع