الدكتور إسماعيل سراج الدين : مكتبة الإسكندرية.. مؤسسة مستقلة ولا أحد من الرؤساء المصريين جندها لأهداف شخصية

 

الدكتور إسماعيل سراج الدين: مكتبة الإسكندرية.. مؤسسة مستقلة ولا أحد من الرؤساء المصريين جندها لأهداف شخصية

    

             

            حاوره: لحسن وريغ الدار البيضاء /المغرب

    

تحتل مكتبة الإسكندرية مكانة جد متقدمة في لائحة المؤسسات الثقافية العالمية التي تعمل على حماية وصيانة الذاكرة الإنسانية. فهي اليوم، تعتبر واحدة من المكتبات العالمية التي تقوم بتقديم خدمات جليلة إلى الثقافة الإنسانية ورقيا ورقميا. ورغم الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي عرفتها مصر خلال السنوات الأخيرة، فقد خرجت المكتبة سالمة من كل تخريب لمرافقها أو تدمير لمحتوياتها أو اقتحام لمقراتها، مما يؤكد أنها مؤسسة قومية تحظى باحترام كل فئات الشعب المصري قيادة وقاعدة.  الدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير المكتبة، يتحدث في هذا الحوار، عن الدور الذي تلعبه هذه المؤسسة في خدمة الثقافة الإنسانية. كما يشرح لنا كيف أن المكتبة خرجت سالمة من تداعيات الربيع العربي الذي ضرب مصر وأدى إلى سقوط نظام الرئيس حسني مبارك، مؤكدا على أن الثوار الشباب الذين أحرقوا ودمروا المؤسسات الأمنية، هم أنفسهم من حمى هذه المؤسسة وجعلها في منأى عن أي اعتداء.. كيف ذلك؟.. الجواب عن هذا السؤال وعن أسئلة أخرى، نقرأه في الحوار التالي:

   

المكتبة الورقية، المكتبة الرقمية.. أي مستقبل؟!
*بداية، أود أن أطرح عليكم، دكتور إسماعيل سراج الدين، سؤالا عاما: أي مستقبل ينتظر المكتبات العمومية الورقية في سياق التحولات التي يعرفها الكتاب الورقي، وأمام الاجتياح الذي تمارسه المعرفة الإلكترونية على كل مجالات الطباعة الورقية…؟

            

أولا: مازال للمكتبة الورقية دور في مجال نشر المعرفة الإنسانية. وهذا الدور، سيستمر لفترة زمنية ليست بالقليلة؛ فرغم السرعة التي نتحول  بها إلى العالم الرقمي، ثمة مؤشرات هامة تقول إن عدد الكتب التي كانت تنشرها دور الكتاب الرقمي سنويا، عرفت ارتفاعا خلال أربع أو خمس سنوات متتالية، حيث وصلت النسبة إلى عشرين في المائة من كل الكتب المطبوعة، غير أننا سجلنا، في الفترة الأخيرة، حصول نوع من الاستقرار(stabilisation)، مما جعل نسبة المطبوعات الإلكترونية لا تتراوح نسبتها 20 أو 21 في المائة.

ثانيا: ما زلنا نشهد ارتفاعا في عدد العناوين الجديدة التي تصدرها دور النشر الورقية.

ثالثا: مازال جزء كبير من الكتاب التراثي لم يتم خضوعه لعملية الرقمنة.

رابعا: ما زالت قوانين الملكية الفكرية تمنع عملية الاستنساخ الرقمي، بسبب وجود بعض المشاكل التي تحتاج إلى حل حتى يتم الانتقال من النسخة الورقية إلى النسخة الإلكترونية… في خضم كل هذا، الذاكرة الإنسانية تتطور من ناحيتين اثنتين: الناحية الورقية والناحية الرقمية. فعدد التقارير وعدد الصور التي تصدر إلى غاية اليوم، ليست كلها رقمية. لكنه على المدى البعيد، سيكون العالم الرقمي هو عالم المستقبل.

* طيب، كيف تتعامل مكتبة الإسكندرية مع هذه الوضعية التي يواجهها الكتاب الورقي؟

** هذه المكتبة لها دور رائد في العالم الرقمي. وفي هذا الصدد يجب أن أشير إلى وجود مؤسسة تسمى «المكتبة الرقمية العالمية»[تأسست المكتبة الرقمية بناء على خطاب وجهه أمين مكتبة الكونغريس جيمس ه. بيلنغتون في يونيو 2005 إلى اليونسكو يقترح فيه تأسيس فضاء رقمي للمعرفة الإنسانية. وفي سنة 2009، تم افتتاح موقع هذه المكتبة الرقمية العالمية أمام الجمهور دوليا بمحتوى شَمْلِ كل دولة عضو في اليونسكو]. بدأنا الاشتغال بهذه المؤسسة منذ حوالي خمس سنوات تقريبا. فهي تضم حوالي مائتي مكتبة وطنية تنتمي لعدد كبير من الدول العربية والأجنبية [حسب قانون هذه المكتبة الرقمية العالمية، يتشكل أعضاؤها من  مكتبات أو أراشيف أو مؤسسات أخرى لديها مجموعات من المحتوى الثقافي تساهم به في المكتبة الرقمية العالمية، إضافة إلى مؤسسات ومنشآت وشركات خاصة تساهم في مشروع المكتبة بطرق أخرى]. وقد اختارت «المكتبة الرقمية العالمية» مكتبة الإسكندرية رئيسا لها؛ الرئاسة ليست تكريما لنا بقدر ما هي اعتراف بالعمل الذي تقوم به مكتبتنا. ثم لا ننسى أننا جد متقدمين في كل ما له علاقة بالعالم الرقمي، وبصفة خاصة رقمنة اللغة العربية. في عام 2015، تم تنظيم لقاء آخر من لقاءات المكتبة الرقمية العالمية التي ترعاها بنفسها، وأعيد انتخاب مكتبة الاسكندرية لمدة زمنية أخرى رئيسا للمكتبة الرقمية العالمية.  إن قيمة هذه المكتبة الرقمية العالمية لا تكمن في كونها مجرد كم هائل مما تحتوي عليه من عناوين، وإنما قيمتها تتجلى في نوعية المادة المتوفرة لديها؛ فعدد المواد المتوفرة ليس هائلا، غير أنها تحظى باهتمام شديد جدا نظرا لأنها تعرض لكل الثقافات العالمية المختلفة والموجودة في المكتبات العالمية، كما أنها تقدم أعمالا ترى أنها تمثل الثقافة العالمية، وتعتمد على متخصصين تابعين لها في شرح وتفسير هذه الثقافة العالمية.  إن مكتبتنا الرقمية تحتوي على حوالي نصف مليون مادة ثقافية، نقدمها للقارئ والزائر بسبع لغات عالمية، حيث نجعل من الترجمة إحدى أهم مجالات اشتغالنا في تعزيز رصيد مكتبتنا الرقمية إضافة إلى أشياء أخرى. عندما نضع مادة باللغة العربية، مثلا، مخطوطة أبي بكر الرازي في الطب، أو مخطوطة ابن الهيثم في «ضوء القمر»… يجب أن نترجمها إلى سبع لغات عالمية حتى تصبح في متناول كل من يريد قراءتها بغير لغة الضاد. لذلك فهذه 14 ألف موضوعة، يقوم بزيارتها والإطلاع عليها إلكترونيا أكثر من ربع مليون زائر، وربما الرقم أكبر من ذلك بكثير، حيث تشير الأرقام المتوفرة لدينا إلى أن ثلاثة وربع مليون سهم من مقالات أخرى على شبكة الأنترنيت تحيل في مراجعها إلى هذا العمل. إذن، العمل الرقمي يتضمن ثلاثة مستويات من العمل: المستوى الأول: هو مسألة محاولة رقمنة الرصيد الموجود في المكتبة، ومحرك «غوغول» يلعب دورا كبيرا في هذه العملية الرقمية، ونحن هنا نشتغل على غرار الكثير من المكتبات الرقمية الأوروبية والعالمية كما وكيفا. المستوى الثاني: نجتهد كثيرا من أجل جعل مكتبة الإسكندرية الرقمية تقدم أفضل وأحسن ما يوجد في الصفحات العالمية المختلفة، ويبدو أن القراء مهتمون بهذا الذي نقدمه لهم. المستوى الثالث: يرتبط بكل ما يضاف على الأنترنيت. وهنا أيضا ستجدون أن مكتبة الإسكندرية لها مساهمات كبيرة جدا، حيث أننا نحافظ على ذاكرة الإنسانية عن طريق أرشيف الأنترنيت، وذلك من خلال تصوير كل صفحة متاحة في مواقع الشبكة العنكبوتية المختلفة أربع مرات في السنة. فإلى غاية سنة 2008، كانت المكتبة تتوفر على النسخة الكاملة من أرشيف الأنترنيت، غير أن المادة زادت كثيرا، فحاولنا أن نركز اهتمامنا فقط على مواقع اللغة العربية. أي أنه لدينا اليوم حوالي مليون موقع إلكتروني، ونقوم بتصوير الصفحات أربع مرات في السنة.  
•••• فلسفة التعاون بين المكتبات الوطنية
 * زيارتكم الأخيرة إلى المغرب، توجت بالتوقيع على اتفاقية شراكة مع المكتبة الوطنية بالرباط، ماهي أهم بنود هذه الشراكة بين المكتبتين؟، وأي قيمة يمكن لمثل هذه الشراكة أن تضيفها للمكتبة الورقية؟.

**إن الخطوة الأولى التي تتحقق من خلال إبرام شراكات مع مكتبات عربية أو عالمية هي إعلان النية: النية في التعاون. لذلك، نحن في النهاية يلزمنا أن نكرس ونعزز مبدأ التعاون مع المؤسسات التي تقوم بهذا الدور، سواء كانت مكتبات وطنية، أو مكتبات الأرشيف القومي، أو دور الوثائق، أو دور المكتبات الكبرى… لأن هذه الشركات ستمكننا حتما من مواجهة بعض المشاكل ومن تحقيق خدمة أفضل. واسمح لي أن أقدم لك مثالا على ذلك في إطار المكتبة الرقمية العالمية: في المكسيك، هناك كوديكس [codex] عن «الأزتيكس»، غير أن أحسن وأقدم كوديكس خاص بهذه الحضارة يوجد في ألمانيا. وقد تمكنا، بفضل المكتبة الرقمية العالمية، أن نجعل الدولة الألمانية تقدم لنا الكوديكس المتوفر لديها، ثم أقنعنا الدولة المكسيكسية بتمكيننا من المجموعة الكبيرة المتوفرة لها بخصوص «الأزتيكس». فعندما نضيف الكوديكس الأول إلى الثاني، نحصل على مادة كاملة وشاملة حول حضارة «الأزتيكس» القديمة، مما يسمح لقارئ المكتبة الرقمية أن يعتمد على مرجع تام وغير ناقص. هذا مثال للتعاون الذي نسعى إليه، بحيث نسطيع أن نصل إلى أن نضع أشياء متباينة شاء الدهر أن يفرق بينها؛ دورنا هو أن نعيد تجميعها وعرضها في فضاء رقمي جديد. الشيء الثاني الذي أنجزناه داخل مكتبة الإسكندية، لا يقل أهمية عن عملية رقمنة المادة العلمية والمعرفية؛ إنها عملية الربط بين المتاحف العالمية داخل متحف واحد: إنه موقع «المتحف المصري العالمي» (the Global Egyptian Museum ) [يشير موقع مكتبة الإسكندرية على الأنترنيت إلى أن هدف المتحف هو العمل على جمع القطع الأثرية في متحف افتراضي عالمي يمكن الوصول إليه في أي وقت ومن أي مكان. كما يمنح المتحف خدمة خاصة بالأطفال حيث يقدم لهم معلومات تناسب مراحلهم العمرية (8 إلى 12 سنة)، ويتيح لهم التفاعل مع كل المعروضات الأثرية]    اليوم تتوفر مكتبة الإسكندرية على شراكات مع مجموعة من المتاحف العالمية وخاصة الأوروبية، وصل عددها إلى سبعة متاحف، من المنتظر أن تتعزز الحصيلة بوصول الرقم إلى تسعة متاحف[يضم الموقع حاليا أعمالا فنية في ملكية 13 متحفا أوروبيا]. هدفنا من هذه الخدمة، يتجلى أساسا في الوصول إلى المحتويات التراثية المتوفرة لدى هذه المتاحف العالمية وتجميعها في متحف رقمي واحد.

* كيف ذلك دكتور إسماعيل سراج الدين؟

** إذا كنت تبحث، مثلا، عن تمثال من تماثيل الأسرة الفرعوية26 ، سيخبرك دليل المتحف الرقمي بأن هذا التمثال موجود في متحف تورينو بإيطاليا، أو في متحف من المتاحف الفرنسية، أو في متحف مصري، أو في أي متحف أوروبي آخر…، مما يعني أنك تستطيع أن تشاهد مكان عرض وتخزين التحف الأثرية التي تبحث عنها، بل إن هذه الخدمة الإلكترونية تمنحك، باعتبارك باحثا أكاديميا أو زائرا متخصصا، إمكانية المقارنة بين التماثيل المتاحة هنا وهناك. أعتقد أن هذا النوع من التواصل مهم جدا بين المكتبات العالمية. فهو يبدأ أولا بالتوقيع على الاتفاقيات، ثم بالبحث ثانيا عن صيغ التعامل بين الأطراف الموقعة على هذه الاتفاقيات: معرفة الرصيد المتوفر عليه من المادة التراثية، معرفة الأنشطة والبرامج الثقافية التي يقوم بها المتحف أو ذاك، البحث عن نقط الالتقاء بين المتاحف المرتبطة باتفاقية الشراكة الموقعة فيما بينها، حيث إننا يمكن أن نتعاون في تفعيل هذه القضايا بناء على ما تم الاتفاق عليه وفق الاتفاقية المشار إليه أعلاه.

* ما هو البرنامج العام المتفق حوله مع المكتبة الوطنية؟

** تجدر الإشارة ، بداية، إلى أن لقائي بالمسؤولين داخل المكتبة الوطنية بالمملكة المغربية ليس الأول من نوعه. فهذه المكتبة المغربية هي اليوم تتحمل مسؤولية رئاسة الشبكة الفرنكوفونة الرقمية (Réseau francophone numérique) [ تأسست هذه الشبكة سنة 2006 بدعم من المنظمة الدولية للفرنكوفونية في بيان بوخاريست الختامي أثناء القمة الفرنكوفونية الحادية عشر. ولم يتم العمل ببوابة الشبكة الرقمية إلا في سنة 2008 تزامنا مع انعقاد الدورة الثانية عشرة لرؤساء الدول والحكومات الفرونكوفونية في الكيبك. هذه الشبكة تضم  حوالي 25 مؤسسة وثائقية تراثية منبثقة عن 18 دولة وحكومة فرنكوفونية. وفي سنة 2014 تم انتخاب السيد إدريس خروز مدير المكتبة الوطنية للمملكة المغربية كاتبا عاما للشبكة الفرنكوفونية الرقمية]. إن مكتبة الإسكندرية عضو في هذه الشبكة الرقمية. وهذه أول شراكة تجري بين المكتبتين المصرية والمغربية، وبفضلها نعزز رصيد شراكاتنا السابقة التي نحدد من خلالها الأسس والمعايير التي على ضوئها تتم عملية فهرست الكتب والمخطوطات، حتى نتمكن من الوصول إلى وحدة منسجمة في عملية تنظيم رفوف المكتبات وفهرست الكتب المتوفرة هنا وهناك. أي أننا نشتغل جميعا على قضايا الفهرست والبحث عن أدوات مشتركة في العمل لتسهيل الولوج إلى المحتويات المعرفية سواء كان ذلك ورقيا أو إلكترونيا. في نهاية الأمر، نحن مؤسسات خدماتية تهدف إلى خدمة الباحثين وجمهور القراء أينما حلوا وارتحلوا.  ••••
 مكتبة الإسكندرية ما بعد .. الربيع العربي !!
* هل أثرت الأحداث الأخيرة التي شهدتها مصر منذ أزيد من ثلاث سنوات على حركية ووظيفة مكتبة الاسكندرية؟

** لا.. أنا أتصور أن هذه الأحداث السياسية التي شهدتها مصر خلال السنوات الماضية، أكدت على دور مكتبة الاسكندرية في الحياة الثقافية المصرية والعربية والعالمية على حد سواء.. أي أنها [الأحداث السياسية] أثرت بشكل إيجابي، وليس سلبيا كما يريد البعض أن يعتقد.  إن مكتبة الاسكندرية، التي هي موضوع حوارنا هذا، تابعة قانونا للسيد رئيس الجمهورية المصرية، وهو من يرأس مجلس أمنائها إلى جانب من يختاره بنفسه. ومنذ فترة، برزت عدة تساؤلات عما يمكن أن يحدث لهذه المكتبة في ظل التحولات السياسية التي كانت مصر مسرحا لها..؟؟ غير أن الثوار الشباب، هم الذين قاموا بحماية المكتبة، حيث تشابكت أياديهم دفاعا عن هذا الحصن الثقافي والحضاري المطل على البحر الأبيض المتوسط، وعملوا سلاسل بشرية حولها، ثم لفوها بعلم وطني ضخم جدا.خلال الفترة التي قامت فيها الثورة والاضطرابات التي صاحبتها، لم يحدث أن أصاب حجر واحد مبنى المكتبة، عِلْما أن كل واجهات المؤسسة الخارجية من الزجاج. نفس هؤلاء الثوار، هم الذين قاموا بإحراق مبنى المحافظة، ومبنى الشرطة، ومبنى الحزب… وهي كلها مؤسسات توجد غير بعيد عن مكتبة الإسكندرية. شيء آخر لا بد من ذكره في سياق حديثنا هذا، وهو أن القيادات السياسية بمختلف أنواعها وتوجهاتها السياسية، اعتبرت المكتبة مؤسسة قومية لا يجب أن يمسها أي تيار سياسي أو تنجذب إليه. صحيح أن مكتبة الإسكندرية بنيت أيام الرئيس المصري حسني مبارك، فكانت السيدة سوزان مبارك هي رئيسة مجلس أمناء المكتبة آنذاك، قبل أن يتحمل نفس هذه المسؤولية كل من: المجلس العسكري، الرئيس محمد مرسي، الرئيس عدلي منصور، الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي نجده اليوم على رأس مجلس أمناء المكتبة. إذن، هناك اعتراف شعبي وسياسي على أن هذه المؤسسة تبقى مؤسسة قومية ليس لها أية علاقة بالتطورات السياسية أو الحزبية. أكيد أنها مؤسسة علمية ومعرفية وثقافية تابعة لرئاسة الجمهورية، بحكم قانون تأسيسها، كما قلت من قبل، لكنها ستظل مكتبة تدافع، عن قيم إنسانية عديدة من بينها: حرية التعبير، التعددية، نشر المعرفة، الحوار بين الشعوب والحضارات، ولن تنخرط بتاتا في مجالات العمل السياسي تحت يافطة أي حزب من الأحزاب السياسية أو أي اتجاه سياسي مهما كان لونه، سواء كان حزبا حاكما أو حزبا معارضا.  إن الذي حصل مع الشباب الذين قاموا بالثورة، يبين أنه ثمة قناعة وقبول لدى جميع فئات الشعب المصري، سواء كانوا قيادات سياسية أو شعبية… لذلك، استطاعت مكتبة الإسكندرية أن تخرج سالمة من الأحداث التي عشناها خلال السنوات الماضية، وأثبتت أنها مؤسسة قومية مقبولة من طرف الجميع.

* هل هذا نتيجة لكونها توجد في مدينة بعيدة عن القاهرة التي شكلت رحم ثورة الشباب بمصر؟ مع العلم أن بعض المؤسسات الثقافية لم تسلم من عبث المحتجين والثوار ومثال ذلك المتحف المصري بميدان التحرير؟

**  لا..لا.. ليست الأمور بهذا الشكل، ولا علاقة لهذا بذاك.. هذا التصور غير سليم، وأشرح لك ذلك على الشكل التالي: [الدكتور إسماعيل سراج الدين يحتفظ في ذاكرة هاتفه النقال بمجموعة من الصور التي تؤرخ لنجاة المكتبة من أحداث ثورة 25 يونيو التي شهدتها الإسكندرية، إضافة إلى صور تذكارية لمجلس أمناء المكتبة مع كل الرؤساء الذي حكموا مصر منذ حسني مبارك حتى عبد الفتاح السيسي]. لاحظ هذه الصورة التي تعكس حجم المظاهرات في القاهرة وخاصة بساحة التحرير.. نفس المظاهرة شهدتها الإسكندرية.. أنظر إلى الشباب الثوار كيف وقفوا سدا منيعا ضد من أراد أن يعبث بهذه المؤسسة.. في نفس الآن، أنظر إليهم وهم يحملون بين أياديهم لافتة ضد الرئيس حسني مبارك.. ثم أنظر معي إلى هذه الصور التي تقول كل شيء: مؤسسات أخرى كانت تابعة لوزارة الداخلية أحرقت عن آخرها ولم يبق منها إلا بعض الجدران التي صمدت في وجه نيران الثورة.. لم يكن هناك أي مانع أمام هؤلاء الشباب من إحراق مبنى المكتبة بالشكل الذي أحرق به مبنى المحافظة أو مبنى مركز الشرطة.. بالعكس، كل جهات المكتبة الأربع ظلت في منأى عن أي اعتداء أو تدمير، علما أنها كانت قريبة من المؤسسات الأمنية التي تعرضت للتخريب. إن الذين اختاروا أن يحرقوا محافظة الإسكندرية هم الذين اختاروا أن يحموا مكتبة المدينة بسلاسل بشرية متشابكة الأيادي، بل إنهم أبدعوا حتى في ذلك من خلال رسم لوحة تعتبر من أجمل إبداعاتهم خلال أيام الثورة.. لقد كتب شباب 25 يناير على أحد جدران المكتبة من الجهة الشرقية: إلى شهداء شباب الثورة.. ثم رسموا ثلاثة أهرامات وصورة للمكتبة باعتبارها رمزا لهرم مصر الرابع.. ورسموا رمزا للكنيسة والمسجد جنبا إلى جنب.    إذن، معنى هذا أنه كان لهؤلاء الشباب الثوار فهم لما تمثله مكتبة الإسكندرية من رؤية قومية بالنسبة لمصر.  هذه الصورة جعلت كثيرا من الكتاب، وخاصة في أمريكا، يعجبون بما قام به الثوار حتى أنهم جعلوا منها قصصا للأطفال. وحينما قامت المظاهرات ضد الرئيس مرسي، وقعت مظاهرات في مختلف شوارع الإسكندرية، لكن لم يحدث أن تجرأ أحد على إلحاق الضرر بالمكتبة.. هذه صورة لرصاصتين أصابتا بوابتين زجاجيتين عند مدخل مقر المكتبة. غير أنه بعد التحقيق، تأكد لنا أنهما رصاصتان طائشتان انطلقتا من سلاح مجهول لم يكن يقصد إساءة مبنى المكتبة.[ الدكتور يواصل عرض قائمة الصور باعتبارها أدلة على ما نجاة المكتبة من نيران الثورة والثوار]. أنظر معي إلى هذه الصور التي يظهر فيها الرئيس حسني مبارك في صورة تذكارية مع مجلس أمناء المكتبة أيام افتتاحها. ثم هاهو الرئيس محمد مرسي إلى جانب أمناء مجلس الإدارة، ونفس الشيء مع الرئيس عدلي منصور الذي زار المكتبة والتقط صورة تذكارية مع  مجلس أمنائها. وعلى نفس النهج يسير الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي شرف المكتبة بزيارة لها والتأريخ لهذا الحدث بصورة تذكارية مع المجلس. إنه دليل على أن المكتبة معترف بها كمؤسسة قومية، وأن الذي حماها، لم يحم محافظة المدينة، ولا مركز الحزب، ولا مركز الشرطة، ولا مركز الأمن المركزي…!! إن شباب الثورة هو الذي قوَّم بنفسه وبحماسه مكتبة مدينته أكبر تقويم مما جعلها محمية من أي عبث أو تخريب على امتداد أيام الثورة وما تلاها من أحداث.

* بعض التقارير الإعلامية المصرية انتقدت بشدة وضع سياجات حديدية أمام المكتبة مما يجعل الولوج إليها صعبا جدا..؟؟

**فعلا، كانت هناك سياجات حديدية تحيط بمبنى المكتبة، وذلك يعود إلى سبب أمني بالدرجة الأولى. في الفترة الأخيرة، تقرر عدم ترك السيارات قريبا من مقر المكتبة. وهذا شيء طبيعي، لأن المنطقة توجد بها مؤسسات دبلوماسية (السفارة الإيطالية) ومؤسسات فنية (متحف الفن الإسلامي)… وقد حدث أن انفجرت سيارة مفخخة هناك، فتأثرت مباني هذه المؤسسات نتيجة الانفجار، ولذلك أصبح ممنوعا ركن أية سيارة بهذه المنطقة؛ وضع السياجات هي طريقة لجعل السيارات بعيدة بعض الشيء عن مبنى المؤسسة. ورغم هذه السياجات، المكتبة ظلت دائما مفتوحة في وجه آلاف الزوار.   ••••
 مكتبة الإسكندرية ووثيقة التسامح
* في خضم هذه الأحداث التي أثرت على المشهد السياسي بمصر، أود أن أسألكم، دكتور إسماعيل سراج الدين، عن مصير وثيقة الإصلاح العربي التي أصدرتموها من داخل  مبنى مكتبة الاسكندرية؟

**في الحقيقة، نحن بدأنا العمل بهذه الوثيقة في لقاء من اللقاءات العديدة التي تنظم داخل المكتبة. وللإشارة فقط، فنحن لدينا أكثر من ألف لقاء على مدار السنة. خلال هذه اللقاءات، التقينا مع عدد كبير من المثقفين من العالم العربي كله، فكتبنا وثيقة الإصلاح العربي التي تحمل اسم «وثيقة الإسكندرية» وطالبنا فيها بـ: الإصلاح السياسي، الإصلاح الاقتصادي، الإصلاح الاجتماعي، الإصلاح الثقافي. ففي مجال الإصلاح الاجتماعي، جرى النقاش بشكل كبير حول قضايا عديدة أبرزها قضيتا التعليم والمرأة…، أما في مجال الإصلاح الثقافي، فتركز النقاش حول تغيير الخطاب الديني، وتغيير الخطاب الإعلامي، وتغيير الخطاب السياسي. ثم تابعنا العمل، ليس فقط بإرسال الوثيقة    إلى الرؤساء العرب وإلى الجامعة العربية، وإنما بعقد ندوات ومؤتمرات وورشات عمل وتقديم دراسات حول الأوجه المختلفة لهذه القضايا.  * ماذا كانت نتيجة هذا العمل؟ **  ترتب عن كل هذا الذي قمنا به، منذ توقيع الاتفاقية، أن قمنا بعقد عدة مؤتمرات كبيرة يتوجه فيها خطابنا إلى فئتين إثنتين من خلال مؤتمرين اثنين؛ فئة الشباب الذين يقل عمرهم عن 25 سنة (المؤتمر الأول)، وفئة المثقفين بصورة عامة والشخصيات العامة التي تفوق أعمارها 25 سنة (المؤتمر الثاني). وكل سنة تكون لنا لقاءات نحقق خلالها نتائج أكثر من طيبة. ولكن الناس كانت تقول لي: دكتور، نحن نلتقي كل سنة ونتكلم ولا يحدث شيء…!!  هذا السؤال كان مطروحا حتى سنة 2010، غير أن لا أحد سألني نفس السؤال [لا يحدث شيء..؟] في سنة 2011.. [الدكتور إسماعيل سراج الدين يضحك] كنت أقول، دائما، لهؤلاء الناس: إن الفكر يسبق الحركة؛ من الضروري أن يتأسس تيار فكري، ويتأسس النقاش، ويصبح الناس أمام الرأي والرأي الآخر.. نحن متفقون جميعا على أنه ثمة مشاكل كثيرة في العالم العربي، ونريد جميعا إصلاحها. عندما وضعنا بعض الأهداف الخاصة بقضايا الإصلاح والتغيير، لاحظنا أن الوضعية داخل دول العالم العربي تعيش على إيقاع التفاوتات المتنوعة والمتعددة. فهناك، مثلا على مستوى التعديل الدستوري، دول استطاعت أن تعدل دساتيرها، بينما دول أخرى لم تتمكن من ذلك، بل ليس لها دستور أصلا. لذلك لا يمكن أن تضع خطة للإصلاح والتغيير تناسب اليمن والصومال والإمارات العربية المتحدة والمغرب ومصر… هذه الدول مختلفة، وطلباتها ستكون مختلفة تماما.  إن الاختلاف بين الدول العربية اضطرنا إلى إنجاز دراسات استطاعت، من وجهة نظري، أن تحقق نتائج ورصيدا من المقترحات. بعض من هذا الرصيد ينفذ اليوم داخل مجموعة من الدول العربية.  لكنه من الواضح أن الحكام العرب لم يستجيبوا بالقدر الكافي للمقترحات التي طلعت من هذا العمل، إلا أنهم استطاعوا أن يتفادوا الصدام الذي حصل بعد سنة 2011، وبالتالي نحن اليوم، نشتغل في هذه القضايا، لكن التركيز حاليا حول الخطر الداهم الجديد الذي هو الفكر المتطرف وما يولده من عنف لم نشهد له مثيل…   ••••
خيارات ثلاث لمواجهة فكر التطرف
 * أي دور تقوم به مكتبة الإسكندرية في مواجهة هذا الخطر الذي يهدد أمن واستقرار شعوب العالم؟

** صحيح أنه لمواجهة هذا التيار المتطرف، يجب أن يكون هناك تحرك عسكري، وأن يكون هناك تحرك أمني، لكن في النهاية، أنا في رأيي، وهذا قلته للسيد رئيس الجمهورية، إن الفكر لا يهزم إلا بالفكر، وبالتالي من الضروري تحقيق مجابهة ومواجهة فكرية مع هذه الأفكار المتطرفة.  في الحقيقة، رئيس الجمهورية ساندنا في هذا الاقتراح ورفعنا تقريرنا الأول، في شهر يناير من السنة الماضية، إلى الجامعة العربية. الآن نقوم بمجموعة من اللقاءات مع شبكات من المؤسسات التنويرية المهتمة بهذه القضايا، مثل ما نقوم به اليوم مع الرابطة المحمدية بالمغرب[اللقاء جرى منتصف شهر دجنبر من سنة 2015 بمقر رابطة علماء المغرب بالرباط بشراكة مع مكتبة الاسكندرية في موضوع:«في نقض أسس التطرف ومقولاته: مقاربات وتجارب» بمشاركة من الأكاديميين والمختصين والباحثين]، وإن شاء الله هم سيشرفوننا في مؤتمرنا بالإسكندرية الذي سيقام شهر يناير من السنة القادمة القادم. إن الجزء الذي أقمناه حول الإصلاح كان في فترة زمنية معينة، أما الفترة الحالية فهي تقتضي منا أن ننبري مدافعين عن قيم الدين الحنيف، وعن قيم حقوق الإنسان، وبالتالي يجب أن يتغير الخطاب الديني والخطاب الاجتماعي والخطاب العلمي، ومكتبة الإسكندرية مطالبة بأن تلعب دورا في هذا الموضوع باعتبارها مؤسسة ثقافية معتمدة في ذلك على تعاونها مع مؤسسات قومية أخرى، وها أنا اليوم بالمغرب من أجل هذا الهدف الذي نسعى إلى القيام به جميعا.  *صرحتم لإحدى الجرائد المصرية بأن العالم العربي يعيش أزمة عميقة، وهذه الأزمة لا يمكن حلها بالخيار الأمني أو الخيار العسكري فقط، وإنما بالخيار الفكري.. ما هو مشروعكم الفكري الذي ترونه مناسبا لمواجهة خطر فكر التطرف الديني المؤدي إلى القتل والعنف والإرهاب…؟

** بداية يجب أن أحدد شيئا مهما في سؤالك هذا. أنا لم أقل إن التعامل العسكري أو التعامل الأمني غير مطلوبين، ولكنهما غير كافيين في مواجهة هذا الفكر الظلامي. كنت في محاضرة بالولايات المتحدة الأمريكية، وكنت أقول لهم هذا الكلام، وقلت لهم أيضا: ها أنتم حاربتم القاعدة، وعملتم على تجريد لهذه الجماعة المتطرفة ولقُوتها العسكرية ولقوتها التجنيدية،و قَتلتم أسامة بن لادن… لكن خرج لكم تيار آخر هو داعش، وشخصية أخرى هي أبو بكر البغدادي. إذن، هل ستدخلون في حرب ثانية مع هذه الجماعة لمدة زمنية قصيرة أو طويلة؟، وهل ستهزمونها وتقتلون البغدادي…؟  المعركة الحقيقية تقتضي فعلا حماية أرواح الناس الغلابة الذين يُقتلون ويُجردون من ممتلكاتهم وهم يشاهدون ما يحصل في العراق وسوريا واليمن والصومال والسودان وليبيا.. وحماية الناس الغلابة الذين لا يجدون لا الغذاء ولا الدواء ولا أي شيء يقيهم شر الحروب، غير أنه بالإضافة إلى هذه الاستراتيجية العسكرية والأمنية، هناك المعركة الفكرية التي يجب أن تحظى بأولوية قصوى.
 المعركة الفكرية  في مواجهة التطرف
*كيف يمكننا الوصول إلى  المعركة الفكرية لمواجهة خطر الإرهاب والتطرف؟ وما هي أسلحتها؟ ومن هم جنودها؟

** يقوم دور المعركة الفكرية على ضرورة تهميش هذا النوع من الفكر المتطرف؛ إن الفكر سيستمر وسيبقى دائما موجودا بحكم الصدى الذي يجده في شباب المجتمع. المعركة الفكرية تهمش فكر التطرف وتمنعه من استقطاب المزيد من الشباب  وجعله ينخرط في كياناتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات المهزوزة، التي لا تعطي رؤية انتمائية لهذا الشباب حتى يشعر بأن له دور كبير في مجتمعه. أما إذا أحس  الشباب بأنه معزول ومهمش وفي حالة بطالة ودون رؤية انتمائية، فإنه سيتجه، حتما، نحو هذه الحركات المتطرفة.  لذلك، أريد أن أؤكد هنا على مسألة أساسية تتمثل في ضرورة وجود رؤى فكرية مختلفة تجعل الشباب يشعر بانتمائه إليها وتساعده على مقاومة كل فكر متطرف يحاول السيطرة عليه وتجنيده من أجل القيام بأي حدث إرهابي فظيع. وأضرب لك مثالا على هذا من داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. كانت هناك مجموعة من الناس غير مقتنعة تماما بأن حكومتهم حكومة خائنة، وأن الأمم المتحدة مؤامرة دولية… هؤلاء  الأمريكيين أصحاب فكر متطرف جدا لكنهم لا يشكلون خطورة على المجتمع الأمريكي. فهم أقلية مهمشة،  أفكارها لا تجد صدى في المجتمع الأمريكي، وغير قادرة على تجنيد واجتذاب أعداد كبيرة من الناس.. ولنتذكر أوكلا هوما سيتي، عندما قام شخص من بينهم بوضع قنبلة أدى انفجارها إلى مقتل مئات الأشخاص.  [أسفر الهجوم الذي استهدف مبنى «ألفريد مورا» الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي، بواسطة شاحنة محملة بالمتفجرات، في19  أبريل  1995 عن مقتل 168 شخصا، وإصابة نحو 680 آخرين بجروح. ونفذ الهجوم، الأمريكي «تيموثي ماكفي» المتعاطف مع طائفة دينية تطلق على نفسها اسم «الديفيديون» أو «الداوديون» كانت السلطات الأمريكية قد قتلت أفرادها في عملية مسلحة، وتم تنفيذ حكم الإعدام بحقه في يونيو ]2001.   إن محاربة الفكر بالفكر هي التي يجب أن تستمر حتى يبقى فكر التطرف مهمشا وغير قادر على التأثير على عقول الشباب، وغير قادر كذلك على الانتعاشة والصمود. جزء من هذا العمل هو الذي نقوم به في الندوة التي عقدناها بشراكة مع الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، حيث ننتقد أسس الخطاب الديني المتطرف. نحن كمثقفين متخصصين في هذه الأمور وكمؤسسات (مثال الأزهر والقرويين والزيتونة…)، نعرف تماما أن الدين الذي ينادي به المتطرفون  ليس هو الدين الإسلامي  الصحيح،  لذلك نحن نحاول أن نبحث عن كيفية الانتقال إلى فكرة «لا إكراه في الدين» من هذا الذي نحن فيه اليوم. لقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم دستورا للمدينة عالج به القضايا المختلفة التي كانت تواجهه آنذاك. وعندما خانته جماعة، أخرجها من المدينة وسمح لها بأن تأخذ كل أموالها، لكنه منعها من حمل السلاح. وعندما دخل رسول الله مكة قال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء… وورد في القرآن الكريم ما يدل على سماحة الدين الإسلامي مثل قوله تعالى:«لكم دينكم ولي دين».

*من أين لنا بهذا الذي يحصل اليوم؟ ومن أين لنا بهذه الدعوات التي تنادي بالقتل وبالذبح وبالسفح …؟  إذن، إذا كان هذا هو  وجه الخطإ في حاضرنا، فما هو وجه الصواب الذي تراه مفيدا لمواجهة هذا الذي يفتك بنا وبمستقبل مجتمعاتنا سواء كانت عربية أو غير عربية؟

** من المفروض علينا أن نقدم خطابا دينيا، وخطابا اجتماعيا، وخطابا اقتصاديا، وخطابا سياسيا، وخطابا ثقافيا... يكون انتمائيا ومتوافقا مع الواقع الذي نحن فيه. من بين الأشياء التي أقولها دائما للناس: أنا لا يهمني ما قاله الإمام الشافعي منذ ألف سنة.. أنا أريد أن أعرف لو كان الإمام الشافعي موجودا معي الآن، ماذا سيقول…؟  * معنى هذا أنك دكتور إسماعيل تريد من الإمام الشافعي أن يجيبك عن أسئلة حاضرك وحاضر الناس الذين يعيشون في زمنك وليس في زمن الإمام… ؟ ** نعم .. الإمام الشافعي في كل ما كتب، كان يجيب عن أسئلة عصره هو. هذا الإمام، إلى جانب الأئمة الأربعة الكبار، كانوا مثقفين ومنفتحين جدا ويعرفون معنى الحوار والرأي والرأي الآخر، حتى إنهم اجتهدوا في سياقهم الزمني.. ومع ذلك نحن لا نريد أن نأخذ أقوالهم ونكررها، وإنما  نستأنس بمناهجهم الفكرية ونربطها بالمناهج الفكرية الجديدة، والأدوات التحليلية الحديثة (إحصاء، واقتصاد، ديموغرافيا، أنثروبولوجيا…)،  ونطبق الثانية على الأولى حتى نتمكن من الوصول إلى خطاب وتصورات تتماشى مع الواقع الذي نعيشه.. هذا جزء من الأنشطة التي نقوم بها داخل مكتبة الاسكندرية.  وهناك شيء آخر يكتسي أهمية في ما نحن بصدد بلورته داخل هذه المؤسسة العلمية والمعرفية، ويجب أن أشير إليه هنا:  من اللازم أن نجعل الشباب يشعر بأن له دور في هذا البلد، وأنه يتحمل شيئا من المسؤولية، إذا لم تتضح له اليوم، فإنها ستظهر له في المستقبل.     للأسف، الخطاب السياسي العام لم يكن يهتم بهذا الموضوع، لأنه ظل مقتصرا فقط على دور المستثمرين ولا يخاطب الشباب ولا يحدد لهم الدور الذي يجب أن يتحملوه. من هنا، نرى أن كل هذه الأمور، تقتضي تطوير فكر جديد، وخطاب ديني جديد، وخطاب إعلامي جديد، وخطاب اجتماعي جديد، إضافة إلى خطاب ثقافي مختلف…أي خطاب يتماشى مع العصر الذي نحياه.

* هل تراجع المؤسسات العلمية والأكاديمية والدينية و المكتبات العمومية هو الذي ساهم في ظهور مثل هذا الفكر المتطرف الذي يستطيع أن يدخل بيوتنا بدون استئذان ؟

** إذا كنت تريد أن تناقش هذه النظرة بصورة تاريخية سليمة، اسأل نفسك عن شيء واحد: لماذا القيادات الكبرى مثل الحبيب بورقيبة في تونس، جمال عبد الناصر في مصر، سوكارنو في أندونيسيا، حزب البعث في المشرق [ليس بعث ميشيل عفلق وصلاح بيطار وليس بعث حافظ وبشار الأسدين]… كل هؤلاء الزعماء كانوا يمثلون خطابا وطنيا ضد الاستعمار؛ و هذا الخطاب الوطني استولى على كل التيارات الموجودة. في مصر، على سبيل المثال،  كانت هناك خطابات أقدم بكثير من هذا: كان الزعيم  سعد زغلول و حزب الوفد، وثورة 1919؛ هذه الثورة هي التي قادت إلى استقلال مصر من الاستعمار الإنجليزي، ثم جاءت بدستور سنة 1923،  وسيادة النظام الليبرالي، ثم بعد ذلك قامت الثورة بقيادة جمال عبد الناصر الذي مثل قمة الخطاب الناصري سنة 1952… لقد انهزم الخطاب القومي العربي الذي كان يقول، خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بتحرير العالم العربي كله من الاستعمار وتوحيده من المحيط إلى الخليج. هذا هو حلم المشروع القومي العربي الذي بدأت خطواته الأولى مع الاتحاد الذي حصل بين مصر وسوريا، غير أنه بداية من ستينيات القرن الذي فات،  جاءت سلسلة من الهزائم المختلفة التي ساهمت في حدوث انفصال بين مصر وسوريا، ثم نشوب الحرب في اليمن سنة 1962، وبعد ذلك هزيمة 1967 .  لقد تأسس  الخطاب القومي، الذي كان مستحوذا على قلوب وأفئدة و رؤى جيل كبير من شباب تلك اللحظة، وأنا واحد منهم،على ثلاثة أعمدة:  أولا: رفض الهيمنة الأجنبية ثانيا: الاهتمام بالفقراء  ثالثا: الدعوة إلى رؤية مستقبلية  *لكن، وبعد هزيمة هذا التيار القومي العربي وموت عبد الناصر وهزيمة 1967، حصلت الردة وسقط حلم توحيد العالم العربي من المحيط إلى الخليج، ولم يعد هناك حديث عن وجود دولة عربية واحدة ذات رسالة.. لقد انتهى هذا الخطاب القومي العربي إلى الفشل والهزيمة.. ماذا جاء بعد ذلك.. ؟ ** في مصر، كان عندنا أنوار السادات. هذا الرئيس المصري كانت له رؤية مختلفة مكنته من الحصول على سيناء و على أرض سيناء وعلى تحقيق الانفتاح… مقابل هذه الرؤية، سادت فكرة حول مشروعه السياسي تقول إن  الرئيس السادات يريد الاقتراب من الأمريكيين والتحالف معهم…إلخ. هنا، شكك الناس في كون السادات لا يستيطع أن يتصدى للهيمنة الأجنبية.  هذه الوضعية أكدت لنا أنه ليس هناك خطاب آخر قادر على أن يحل محل هذا الكلام .. أنظر معي إلى ما قام به الرئيس زين العابدين بن علي في تونس، أو حسني مبارك في مصر… ثمة  كلام عن مستثمرين أجانب سيأتون إلى بلداننا ويقومون بمشاريع استثمارية، لكن أين هو المشروع المجتمعي في كل هذا… ؟ دعني أتوقف معك  عند لحظات ذات دلالة عميقة في مسار تطور العالم  العربي والإسلامي. في سنة 1979، وبعد سلسلة الهزائم، التي تحدثت عنها باقتضاب شديد، جاء آية الله الخميني ومشروع الإطاحة بشاه إيران محمد رضا شاه بهلوي. لم يكن باستطاعة أي أحد أن يقول إن آية الله الخميني كان عميلا للأمريكيين، أو عميلا للسوفيات، بل العكس هو الذي حصل: رجل ضد الهيمنة الأمريكية.. رجل الشعب الذي اختار أن يعيش في مدينة قم الإيرانية.. رجل له مشروع مجتمعي…إلخ. شخصيا، أنا لست موافقا على هذا المشروع المجتمعي الذي قاده آية الله الخميني، تحت يافطة مشروع الدولة الإسلامية ودور ولاية الفقيه. غير أن الخميني استطاع أن يقود إيران، بعد الثورة، نحو هذا المشروع الذي نفعه كثيرا في حربه مع العراق، مرسخا بذلك فكرة أنه يدافع عن أرض الوطن و معززا قواعد الثورة الإيرانية الإسلامية.  إن المشروع العربي الذي كان مبنيا على الثقافة العربية، وتمكن من النجاح خلال الفترة الممتدة ما بين  نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان بطبيعته مشروعا غير عنصري وغير ديني. لقد كان هناك مسيحيون عرب ويهود عرب مساهمين في هذا المشروع، مما يعني أن العنصر الأساس فيه لم يكن هو الدين وإنما هي اللغة العربية التي وحدت وربطت بين الجميع.  إذن، هذا المشروع العربي كان مقابلا لمشروع إصلاح الخلافة العثمانية، وهو الذي استطاع أن ينجح على امتداد فترة زمنية من تاريخ الحضارة العربية الحديثة، وكانت من نتائجه ولادة المشروع القومي. لكن هذا الأخير سينكسر ولم تعد له قائمة مع نهاية الستينيات بفعل الهزائم المشار إليها أعلاه، فجاء المشروع الإسلامي الذي كان موجودا منذ أيام الإخوان المسلمين سنة 1928؛ هذا المشروع الإسلامي سيتعزز وجوده في الساحة العربية من خلال ما حصل في إيران، ومع أفول وضعف الخطاب القومي العربي.  إن الغلاة والمتطرفين داخل هذا المشروع الإسلامي كسبوا أرضية جديدة، وطرحوا تصورات جديدة، بينما التصورات الأخرى - وخاصة بعض مثقفيها- اكتفت بالنقد والمساءلة. من المؤكد أن لا أحد يجادل في كون المساءلة والنقد مطلوبين، لكن طرح البدائل أمر مطلوب كذلك. كما أنه لا يكفي أن تقول لنا المؤسسات الدينية إن هذا الذي نراه ونعيشه ليس هو الدين الإسلامي السليم، فتعيد لنا قصصا واستشهادات من 1400سنة أو من 1000سنة. * لكن أين هو المشروع الحضاري و التصور البديل لهذا المشروع الإسلامي؟ وأين هي الرؤى المختلفة التي تساهم في إنتاج فكر مقابل فكر ؟ ** هذه هي المعركة التي نسعى إليها والتي تساهم في إنتاج فكر مقابل فكر آخر، ثم السعي إلى تأسيس فكر للتعددية ولاحترام الاختلاف. عندما أستقبل مجموعة من الشباب أقول لهم: ألا تريدون الديموقراطية؟، يجيبونني: نعم. أقول لهم: الديموقراطية تقتضي التعددية، والتعددية تقتضي الاختلاف.. إذن، إذا لم تكن لنا اختلافات لن نحصل على التعددية التي نطالب بها. وبالتالي ليس الهدف هو احترام الاختلاف فقط، وإنما لا بد أن ترحبوا بوجود هذا الاختلاف وتشتغلوا على ضوئه؛ وغير ذلك سنبقى أمام سيادة لأحادية الرأي ويصبح الناس يتحركون مثل الإنسان الآلي.    التعددية هي التي تقود إلى الحوار مع الآخر، وإلى الحرية وإلى كل هذه المفاهيم… هذا التصور للتعددية لم يتجذر بعد في المجتمع العربي الإسلامي بالشكل الكافي، وهذه مسؤوليتنا باعتبارنا مثقفين؛ نحن مطالبون بأن نسأل أنفسنا: لماذا أصبحت مجتمعاتنا أرض خصبة لهذه الأفكار المتطرفة المؤدية للعنف؟. إننا مطالبون بمواجهة كل ذلك فكريا في الوقت الذي يوجد فيه طرف ثان يواجه العنف والإرهاب عسكريا وأمنيا.  في النهاية، معركتنا، نحن المثقفين، معركة فكرية، وهذه المعركة هي الأساس في بناء المجتمع الديموقراطي المستقبلي.
استقلالية المكتبة عن القرار السياسي
* ألا يعني هذا خوض المعركة الفكرية في مواجهة فكر التطرف والإرهاب، يفرض على مكتبة الاسكندرية نوعا من الاستقلالية عن القرار السياسي؟

** مكتبة الاسكندرية مستقلة عن أي قرار سياسي، وقد أثْبَثت لك ذلك بالصور[الصور المحملة على الهاتف المحمول]. فمنذ الرئيس حسني مبارك حتى الرئيس عبد الفتاح السيسي، كانت تتم زيارة المكتبة والاجتماع بمجلس أمنائها والقيام بعملها كما شرحت في بداية هذا الحوار. ألم تكن متخوفا أن تسير المكتبة في اتجاه معاكس لمشروعكم في ظل استمرار الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في الحكم؟ ماذا لو.. ربما.. هذه تساؤلات واحتمالات، ونحن لا يمكن أن نتوقف عندها  ونناقشها. غير أن الأمانة تقتضي أن نقول إن  الرئيس مرسي جاء إلى المكتبة واجتمع بمجلس أمنائها.. وكان بإمكانه أن يغلق المكتبة، لكنه لم يفعل…(!!!)، بالعكس، قام بجولة داخل المؤسسة وافتقد مجلس أمنائها وعقد الاجتماع الأول وغادر مقر المكتبة.. أنا لا أدري ماذا كان سيحدث لو استمر مرسي في الحكم.. أنت ستدخلني في متاهات لا أعرفها.. المكتبة حافظت على استقلاليتها منذ عصر مبارك نفسه، والدليل على ذلك أن الشباب الذين خرجوا محتجين على نظام حسني مبارك هم الذين حموا المكتبة بأياديهم المتشابكة وليس غيرهم. فكل القيادات السياسية تعترف بهذه المؤسسة وبأنها قومية تقوم بعمل قومي مصري وذات دور دولي ورسالة إنسانية شاملة، وهذا هو تعريفها الذي ينص عليه قانونها الداخلي؛مؤسسة لها مجلس أمناء يتكون من خمس شخصيات حكومية بحكم الوظيفة. ينتمون إلى الوزارات التالية: وزارة الخارجية، وزارة الثقافة، وزارة  التعليم العالي، إضافة إلى محافظ الاسكندرية ورئيس جامعة الاسكندرية. وكل شخصية تصل إلى كرسي هذه المسؤوليات، يصبح لها وجود فعلي وقانوني داخل مجلس أمناء المكتبة، ناهيك عن الشخصيات الدولية التي لها مكانة في إدارة المؤسسة. وفي هذا الإطار، أشير إلى أن اسم الدكتورة المغربية رحمة بورقية مدون في مجلس هذه المكتبة حاليا، وقبلها كان لدينا اسم الطاهر بنجلون واسم أسيا بنصالح…  إن مجلس المكتبة يتمتع باعتراف بما يقوم به محليا ودوليا، ولا أحد من الرؤساء المصريين الذين ذكرت لك  أسماءهم، حاول أن يجند المكتبة لأهداف شخصية. أما سؤالك: لو استمر الرئيس مرسي في الحكم ، هل كان سيغير من هوية ووظيفة المكتبة..؟، هذا سؤال يجعلني أدخل عالم التكهنات، وأنا أريد أن أتحدث بلغة واضحة وواقعية….

* هذه تخوفات وليس تكهنات، دكتور إسماعيل سراج الدين، لأن الإخوان المسلمين عودونا على لغة «لا يؤتمن جانبه»..؟!!

**  بصورة عامة، ونتيجة لكل ما حصل من طرف الشباب والقيادات العليا في البلد، هناك اعتراف بأننا نجحنا في أن نعطي لمكتبة الاسكندرية شخصية لها قدر من الاستقلالية، يسمح لها بأن تدافع عن قيم معينة في إطار معين، و ترفض أن تكون مستعملة في خدمة حزب من الأحزاب السياسية، سواء كان الحزب الوطني أيام حسني مبارك، أو حزب الإخوان أيام محمد مرسي، أو أي حزب من الأحزاب خلال الفترة التي مرت كلها.. هذه وضعية أنا حريص عليها أشد الحرص منذ أول يوم من أيام تأسيس مكتبة الاسكندرية سنة 2002.

    

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

550 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع