الحلقة الثانية: الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى: من الحياد الى مواجهة بريطانيا

       

صورة تظهر نيقولا الثاني إمبراطور روسيا ودوق فنلندا وملك بولندا مرتديا زي أميرال بريطاني في مستهل الحرب العالمية الأولى حيث أمر القوات الروسية بدخول الحرب في 30 يوليو 1914 (أ.ف.ب) , ممتلكات الأمير فرانز فرديناند تعرض في المتحف الحربي في فيينا (أ.ف.ب)

  

لندن: يعقوب يوسف الإبراهيم:قبل قرن من الزمن، أعلنت الإمبراطورية النمساوية - المجرية الحرب على صربيا، لتنطلق سلسلة أحداث أدخلت العالم في الحرب العالمية الأولى وحددت ملامح القرن العشرين. ويصادف يوم غد الذكرى المئوية لاعلان روسيا انضمامها للحرب.

جاء إعلان الحرب على صربيا بعد شهر من اغتيال ولي عهد النمسا والمجر الأمير فرانز فرديناند في ولاية سراييفو في 28 يونيو (حزيران) 1914، لتمتد وتتسع كنار شرسة حصدت الملايين من الأرواح وغيرت خريطة العالم وتوازن القوى فيها. وجاء إعلان السلام بتوقيع معاهدة فرساي في 28 يونيو 1919، بعد خمس سنوات تماما من انطلاق الشرارة الأولى. ومع التطورات السياسية الخطيرة التي يشهدها العالم اليوم لا بد من العودة إلى الوراء والنظر في تفاصيل الحرب التي انعكست على ما نعيشه اليوم.

و«الشرق الأوسط» ترصد من خلال حلقات تنشر عبر الأيام المقبلة مجريات تلك الأحداث وتداعياتها في إعادة رسم خرائط قارات عدة.


* الدولة العثمانية

* أعلنت الدولة العثمانية في بداية الحرب العالمية الأولى يوم 3 أغسطس (آب) 1914 حيادها، وهو ما صرّح به الصدر الأعظم للسفير البريطاني على الرغم من وجود بعثة عسكرية لإعادة تنظيم قواتها المسلحة على مستوى مشابه للنسق الألماني، وأنيطت المهمة بالجنرال ليمان فون ساندرز عام 1913. وكانت نصيحة الإمبراطور (القيصر) فيلهلم (غليوم) الثاني له: «اجعله من أجلي جيشا قويا يطيع أوامري».

ولقد نتج عن ذلك معاهدة سريّة للتعاون العسكري بين الدولة العثمانية وألمانيا، وكان أنور باشا، وزير الحربية، من أوثق الزعماء الأتراك علاقة بألمانيا، وزادته انتصاراته في بدايات الحرب ثقة، ما شجّعه على إعلان الحرب على روسيا في أكتوبر (تشرين الأول) 1914. وفي المقابل أعلنت بريطانيا وفرنسا وروسيا دخولها الحرب في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1914. وعندها أعلن العثمانيون النفير العام، وحشد في جميع أنحاء السلطنة ما يقارب ثلاثة ملايين متطوع قتل منهم خلال القتال نحو 300 ألف وقضى نحو نصف مليون جندي بأسباب مختلفة كالأمراض والإصابات وسوء التغذية ونقص العتاد ورداءة الألبسة وقلة ملاءمتها لجبهات الحرب الشمالية.

أما في منطقة الخليج، فقد أبرق المقيم السياسي الميجر ستيوارت نوكس يوم 20 أغسطس 1914 إلى اللورد هاردينغ، نائب الملك في الهند، يبلغه فيها بأن الوقت حان لإرسال حملة عسكرية للحفاظ على حقول النفط في مسجد سليمان ومستودعات تخزينه في عبادان بمنطقة شط العرب حسب الخطط المرسومة لذلك. وبالفعل أصدر نائب الملك أوامره يوم 6 يونيو (حزيران) بتعبئة قوة مشكّلة من الفرقة السادسة (مقرها في مدينة بونا الهندية) المكونة من الألوية 16 و17 و18، وكانت تشكّل الجزء الذي أطلق عليه الرمز «إيه» قوامها خمسة آلاف جندي، غادرت كراتشي (في باكستان اليوم) في طريقها إلى الخليج بتاريخ 16 أكتوبر (تشرين الأول) بقيادة البريغادير ديلامين ونقلتها أربع سفن مصحوبة بحراسة. ووصلت القوة إلى البحرين يوم 23 أكتوبر.

وفي مستهل شهر نوفمبر انتشرت الشائعات في البصرة وتأزّمت الأمور بين العثمانيين الأتراك والبريطانيين، ما دعا لمغادرة البريطانيين البصرة.

السفير البريطاني في الآستانة (إسطنبول) كان قد تقدم يوم 31 أكتوبر بطلب استرجاع جوازات السفر له ولعائلته وطاقم الوزارة، وجرى قطع العلاقات الدبلوماسية.

وكما سبقت الإشارة أعلنت بريطانيا الحرب على الدولة العثمانية يوم 5 نوفمبر، وتم إنزال للقوات البريطانية قرب الفاو في الساعة السادسة صباحا. وخاض البريطانيون ثلاث معارك صغيرة ضد العثمانيين وهم في طريقهم إلى البصرة هي السنية وسيحان وكوت الزين أيام 7 و15 و18 نوفمبر على التوالي.

في 13 نوفمبر وصلت تعزيزات بريطانية جديدة بقيادة الجنرال باريت كانت عبارة عن لواء مدفعية وفوج مشاة نورفولك وراجبوت ومهراتا وسريتي خيالة وفيلقي بغال وفيلق مواصلات مكون من 1200 جمل ومستشفى ميداني وسرية هندسة. وأدت المواجهات إلى انسحاب القوات العثمانية من البصرة يومي 21 و22 نوفمبر مخلفا فراغا أمنيا فيها شهد سرقة مخازن الجمارك وبعض الأسواق، وعمّت الفوضى، فسلّمت المدينة للقوات البريطانية التي دخلتها فعليا يوم 23 نوفمبر فعملت على ضبط الأمن وبدأت المدينة عهدا جديدا.

السير بيرسي كوكس كان قد تأهب للعب دور جديد حينما اقتربت نيران الحرب من الاندلاع، وذلك عبر الاتصال لاستمالة الشخصيات الحاكمة في شمال الخليج، وبمحاذاة جبهة جديدة تنوي بريطانيا فتحها والاستحواذ على مواردها وأسواقها، بالإضافة إلى استراتيجية مواقعها. وحقا جرى إبلاغ الشيخ مبارك الصباح عن إعلان الحرب، كما أبلغت القنصل البريطاني عن نشاط معادٍ لبريطانيا يقوم به بعض الكويتيين في البصرة، ووعدته بإعفاء جميع ممتلكاته من بساتين النخيل في البصرة من دفع مستحقات رسومها. يومذاك كان اللؤلؤ - غوصا وتجارة - عماد الحياة الاقتصادية وقوامها في الكويت، آنذاك. وكانت الهند تشكل لها منفذا وسوقا، لا سيما، في عاصمتها الاقتصادية بومباي (مومباي اليوم)، التي كانت من أكبر أسواق اللؤلؤ وأهمها في العالم. وحين بدأت أجراس الإنذار تقرع في أوروبا منذرة بقرب اندلاع حرب عالمية ستؤدي إلى إغلاق أسواق اللؤلؤ فيها، توجّس الشيخ جاسم آل إبراهيم، أحد كبار تجار اللؤلؤ الكويتيين، في أغسطس عام 1914، قرب حدوث أزمة اقتصادية عارمة ستعصف بالكويت، فأرسل برقية تحذيرية طلب فيها التوقف عن عمليات بيع اللؤلؤ وشرائه إلى أن تستقر الأمور.

المقيم السياسي في بوشهر (ساحل إيران) الكولونيل نوكس أبلغ الشيخ مبارك الصباح يوم 25 نوفمبر باحتلال البصرة - الذي حصل يوم 23 منه - كما سبق -. وفي مستهل عام 1915 بدأت جمعية سانت جون لرعاية جرحى الجيش البريطاني العمل، فتبرّع بها الشيخ بمبلغ 50 ألف روبية حولها على وكيله في بومباي محمد بن سالم السديراوي. وفي فبراير 1915 زار اللورد هاردينغ (نائب الملك في الهند) الكويت، غير أن الشيخ خزعل شيخ المحمّرة الحضور، وذلك بسبب عصيان قام به بعض القبائل من بني كعب وبادية ربيعة وبني لام وبني طرف تدعمها ثلة من متطوّعي الجيش العثماني ومجتهدي رجال الدين. وارتأى الشيخ مبارك الذي كان يزور المحمّرة مساعدة الشيخ خزعل فكتب لابنه الشيخ جابر طالبا إرسال قوة من الكويتيين لهذا الغرض. غير أن الكويتيين امتنعوا عن تنفيذ الأمر استجابة لدعوة الشيخ محمد أمين الشنقيطي وحافظ وهبة المدرّسين في المدرسة المباركية للوقوف ضد البريطانيين ومساندة العثمانيين. ومن ثم لما رجع الشيخ مبارك إلى الكويت تتبّع آثار مثيري العصيان ففرّوا للالتحاق بأرهاط المجاهدين الذين شاركوا مع العثمانيين في القتال ضد البريطانيين في معركة الشعيبة يوم 10 أبريل (نيسان) 1915.

كان الوضع العام في البصرة قبل الحرب العالمية الأولى قليل الاستقرار، تشوبه مشكلات معقّدة جمّة، وخلافات مستمرة مع النظام العثماني الجديد الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني وعزله عام 1909، وبدأت الخلافات بإغلاق الصحف والاعتقالات ثم النفي، ومن ثم ساءت الأمور وتراجع الأمن وكثرت السرقات والاغتيالات العشائرية. وكان من أبرزها مقتل فريديريك القائد العسكري لحامية البصرة وكذلك متصرف لواء المنتفك بديع نوري الحصري - شقيق المفكّر العروبي ساطع الحصري -.

وتطوّر الأمر إلى اتهام البريطانيين بإثارة القلاقل والمشكلات، فأغلق البريد الهندي واعتقل مترجم القنصلية البريطانية واتهم أفراد من مسيحيي البصرة ويهودها بالتجسّس. وفي الوقت نفسه ارتفعت أسعار السلع وضعفت القوة الشرائية وتناقصت فرص العمل. وعلى المستوى العسكري غدت البصرة مفتوحة من دون تحصينات أو وسائل دفاع وهذه إن وجدت فقد كانت ضعيفة. وبالتالي، تخوّف سكان البصرة من تعرضهم لهجمات من العشائر القاطنة على تخومها، والانقضاض على المدينة نهبا وسلبا.

انتشرت الشائعات بعد اندلاع الحرب في أوروبا في أغسطس 1914 عن قرب إرسال حملة بريطانية لاحتلال البصرة، فقرّر أعيان الولاية ومعظمهم من وجهاء الزبير ذوي الأصول النجدية بالإمام (لاحقا الملك) عبد العزيز آل سعود تزعمهم عبد الوهاب المنديل وعبد العزيز المكينزي وعبد الكريم الدخيل وأحمد الإبراهيم الراشد، ثم انضم إليهم طالب النقيب، لكن اتصالاتهم مع البريطانيين لم تصل إلى نتيجة. وغادر وفد البصريين الزبير عن طريق الكويت يوم 5 نوفمبر متوجها إلى نجد، ووصل إلى بريدة يوم 18 منه وكان الإمام فيها. وهناك أقاموا بضيافته وتعهد من جانبه ببذل كل ما يستطيع بذله من جهد لحماية الأرواح والأموال إذا ما تعرضت البصرة لسوء، وعزم على شد الرحال إليها لنجدتها. غير أن أخبار احتلال البريطانيين للمدينة الذي جرى خلال يومي 21-22 نوفمبر غيّر كل الترتيبات وعاد الوفد أدراجه وسلّم النقيب نفسه للبريطانيين فنفي إلى الهند.

مع هذا لم تنته علاقة عبد العزيز آل سعود بتلك المنطقة بعد ذلك، بل كان دائم الاتصال لمعرفة ما يجري من أحداث، ويقدّم يد العون والتطمينات قدر الإمكان.


* بريطانيا

* في تمام الحادية عشرة من مساء الاثنين 4 أغسطس 1914 توقفت عربة تنقل أحد موظفي تشريفات وزارة الخارجية البريطانية أمام مبنى السفارة الإمبراطورية الألمانية في شارع كارلتون هاوس تراس بحي سانت جيمس الراقي في وسط لندن، القريب من قصر بكنغهام الملكي، وكان الأمير ليجنوفسكي يقيم في الطابق الأعلى من المبنى منذ تعيينه في أكتوبر (تشرين الأول) 1912 سفيرا لدى بريطانيا.

الموظف سلّم السفير طردا كبيرا مختوما بالشمع الأحمر يحتوي على رسالة من وزير الخارجية البريطاني السير إدوار غراي، فيما يلي نصها:

«وزارة الخارجية 4 أغسطس 1914»



* صاحب السعادة

* نتيجة للاتصال الذي أجراه في برلين سفير صاحب الجلالة (أي السفير البريطاني) استرجاع جوازات السفير، يشرّفني أن أبلغ سعادتكم بأنه حسب شروط الإبلاغ Terms of Notifications الذي قدّم إلى الحكومة الألمانية اليوم، فإن حكومة صاحب الجلالة اعتمدت أن حالة الحرب وقعت بين البلدين اعتبارا من الساعة الحادية عشرة مساءً (منتصف الليل بتوقيت برلين). ولي الشرف أن أرفق لكم جوازات السفر العائدة لسعادتكم وعائلة سعادتكم وطاقم السفارة».

من أشهر مقولات هارولد ويلسون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، «أن أسبوعا في السياسة وقت طويل»، لكن الحقيقة أن «يوما في السياسة وقت طويل أيضا». وفيما يخص السفير الألماني المشار إليه والمعني بمغادرة لندن فورا كان قد تناول وجبة الإفطار في صباح يوم 2 يوليو (تموز) ملبيا دعوة رئيس الوزراء هربرت آسكويث بمكتبه في الدار الرقم 10 داونينغ ستريت.

تلك كانت أشهر الجنون التي سبقت الإعلان النهائي للحرب يوم 4 أغسطس، وكانت بوادرها قد خيمت لأمد غير قصير على أجواء السياسة في أوروبا وكانت مرشحة للانفجار، إلا أن ما عجّل بتفجيرها اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند يوم 28 يونيو 1914، مع الإشارة إلى أن حدة ذلك التوتر ما كانت قد وصل إلى بريطانيا. أما السبب فكان اتفاق كل الأطراف المؤثرة في الحلبة السياسية، عموما، ممثلة بحكومة آسكويث الليبرالية (آسكويث من حزب الأحرار) والرأي العام والصحافة على التهدئة، يقابل ذلك بعض الأصوات التي تفضل نسبة ما من التدخل محدودة وكان في طليعتها غراي وزير الخارجية ووينستون تشرتشل (كان يومذاك من الأحرار) وزير الأسطول.

وفي نهاية المطاف استقر رأي الحكومة الليبرالية أنه ما لم تدخل بريطانيا الحرب فإن حزب الأحرار الحاكم سيخسر الانتخابات المقبلة، وكان هذا رأي رئيس الوزراء آسكويث، يدفعه الوزيران غراي وتشرتشل اللذان هددا بالاستقالة، في حال رفض دخول الحرب، يوم 2 أغسطس. ويذكر هنا أن وزير الداخلية ريجينالد ماكينا قد صرّح بأن وضع بلجيكا هو ما يقرّر الموقف لأنه سبق لبريطانيا ضمان حياد بلجيكا في «معاهدة لندن» الموقعة عام 1839، وكان هذا الغطاء القانوني يعطي بريطانيا الحق في التدخل. وكان مفهوما أنه في حال غزو بلجيكا فإن الرأي العام البريطاني سيقف داعما حكومته في نصرة الضعيف. كذلك كان مفهوما أن بريطانيا لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي في حال هزيمة فرنسا أمام ألمانيا وسيطرة الألمان على أوروبا وجميع موانئ بحر الشمال، وباختصار سقوط أوروبا كلها تحت سيادة دولة واحدة.. كما حدث إبان الحروب النابوليونية.

وبالفعل، يوم 4 أغسطس غزت ألمانيا بلجيكا، ثم فرنسا، وكانت فرنسا قد أعلنت التعبئة العامة وحشدت نحو 800 ألف جندي فعلي و2.8 مليون من جنود الاحتياط. وكانت ألمانيا قد أعلنت التعبئة العامة يوم 31 يوليو (تموز)، وهو ما فعلته أيضا روسيا من منطلق التحسّب والحذر.

في الواقع ما كانت بريطانيا، لا شعبا ولا حكومة، مهتمة جدبا بما يحدث بين صربيا والنمسا. وكانت تلك أمور، بنظر البريطانيين، شبه عادية سياسيا في منطقة البلقان وتخومها. كذلك كان الشعور الشعبي العام في بريطانيا غير معادٍ لألمانيا، التي تعود أصول العائلة المالكة البريطانية إليها.

وكانت تسعة من الأسماء البريطانية اللامعة في المجال الأكاديمي قد كتبت في صحيفة «التايمز» يوم 28 يوليو «نحن نعد ألمانيا دولة رائدة في مجالات الفنون والعلوم، ونحن طالما تعلمنا ونتعلم من أساتذتها. وإن الحرب ضدها من أجل روسيا وصربيا خطيئة بحق الحضارة. أما إذا تحتّم علينا أداء الواجب فإننا لا نجد أنفسنا سعداء لأدائه عبر المشاركة بحرب (.....) إننا في هذه الحالة نجد أنفسنا جاهزين للاعتراض على دفعنا لمحاربة دولة نتشارك معها بالكثير من المثال والقيم».

وحقا عبر عدد كبير من الصحف عن مشاعر مماثلة، وأنحت تلك الصحف باللائمة «على بلغراد وبطرسبورغ (أي سلطات كل من صربيا وروسيا)» وفق مجلة «الإيكونوميست» يوم 30 يوليو، التي عدت «أن التحرشات إنما بدأتها صربيا وأن استمرارها من عمل روسيا وما حالة التعبئة التي أعلنتها إلا سبب مشابه».

أما رئيس تحرير «الديلي نيوز» فكتب يوم 29 يوليو «إن أفضل ما يمكننا فعله لخدمة العلم أن نعلن على الملأ أنه ليس لبريطانيا أن تقدّم ولو ضحية واحدة من رعاياها من أجل خدمة المشروع الروسي الهادف لنشر الهيمنة السلافية في أوروبا»، وأضاف في افتتاحية للصحيفة بعنوان «لماذا يجب رفض الحرب؟» «أين في هذا العالم الفسيح اصطدمت مصالحنا بألمانيا؟ ليس في أي مكان. بينما مع روسيا فإن هناك أماكن كثيرة مهيأة للصدام بيننا مثل جنوب شرقي أوروبا وجنوب آسيا».

أضف إلى ما سبق أن غالبية أعضاء البرلمان، وخاصة من كتلة نواب حزب الأحرار الحاكم، كانت تحبذ بقاء بريطانيا على الحياد. وكتب السفير البريطاني لدى فرنسا يوم 27 يوليو تقريرا قال فيه «إنه لأمر غير قابل للتصديق أن تعمد روسيا إلى تدمير أوروبا في حرب طاحنة لكي تنصّب نفسها حامية للصرب». ومثله تساءلت شخصيات سياسية وفكرية مهمة كثيرة عن «الحكمة من تدمير السلام الأوروبي من أجل إنقاذ صربيا الضئيلة القدرة» على حد تعبيرهم.

كان قوام القوات المسلحة البريطانية عام 1914 سبع فرق عسكرية فقط، وهو حجم يعد صغيرا نسبيا بالمقارنة مع حجم جيوش ألمانيا وفرنسا وروسيا، غير أن بريطانيا كانت تتمتع آنذاك بميزانية طائلة ولديها أسطول ضخم. ولقد وصف شاهد عيان من طاقم البارجة «كريسنت» عن تجمّع للأسطول البريطاني، يوم 26 يوليو، برعاية الملك جورج الخامس، فقال إن «البحرية الملكية تجمّعت قرب الميناء الرئيس لها وهو بورتسموث، بجنوب إنجلترا، قبالة جزيرة وايت في مياه مضيق السولنت The Solent، بين ميناء بورتسموث وميناء كاوز في الجزيرة اللذين تفصل بينهما مسافة تبلغ نحو 15 كلم. وجمع هذا التجمع للقطع البحرية كل أنواع السفن من بوارج وطرادات ومدمرات وفرقاطات وقوارب طوبيد وغواصات وبواخر نقل وإسناد وإنزال حتى إنه ما كان بمقدور المرء أن يرى مياه البحر من كثرة عددها».

من جهة أخرى، كان ونستون تشرتشل، وزير الأسطول (أو البحرية) - الذي صار لاحقا رئيسا للحكومة بعدما ترك حزب الأحرار وانضم لحزب المحافظين - يظن خطأ بأن الحرب - التي كان من المتحمّسين لخوضها «ستكون قصيرة منخفضة الكلفة، يمكن خوضها وتحقيق النصر فيها بقوة الأسطول». وهذا هو الرأي الذي ساد لاحقا داخل مجلس الوزراء البريطاني وهو أنه لن تكون ثمة حاجة إلى إرسال جيوش برية إلى أوروبا. ولكن الإمبراطور الألماني فيليلهم الثاني علّق على هذا التوهّم بذكاء وسخرية «ليس لبوارج الدريدنوت عجلات» Dreadnoughts have no wheels.

في أي حال بمجرد إعلان بريطانيا الحرب شاع بين الناس أن الحرب ستنتهي خلال فترة قصيرة. وكان هذا توقع كثيرين على امتداد القارة الأوروبية، وبالأخص في شرقها، غير أن أحد المفكرين السلاف البارزين قال «الآن ستصلون إلى الله شاكرين إذا انتهت هذه الحرب بعد ثلاث سنوات». وفيما يخصّ فرنسا، التي فقدت قواتها لاحقا نصف مليون جندي خلال الأشهر الثلاثة الأولى من القتال وتراءى أمامها الانهيار الذي تعرضت لها عام 1870، فإنها كانت تأمل بأن تقف بريطانيا إلى جانبها فتدعمها وتقاتل معها، وبالفعل صار لبريطانيا قوة عسكرية كبيرة بحلول عام 1916 ما خفف الضغط كثيرا عن الفرنسيين. وكانت بريطانيا قد أرسلت قوة استكشافية إلى فرنسا تضم أربع فرق عسكرية بقيادة الجنرال دوغلاس هيغ لأخذ مواقعها في القطاع الشمالي من الجبهة التي تقاتل فيها القوات الفرنسية.

* مؤرخ وباحث كويتي



             



* فيينا تحيي ذكرى إعلان الحرب على صربيا

* فيينا - لندن: «الشرق الأوسط»

* في الثامن والعشرين من يوليو (تموز) 1914، أعلنت النمسا - المجر الحرب على صربيا وتحملت بذلك مسؤولية الشرارة الأولى للنزاع العالمي. لكن في عاصمة الإمبراطورية فيينا التي كانت واحدة من المنارات الثقافية في أوروبا مطلع القرن العشرين، سادت أجواء احتفالية. وبدأ الإمبراطور فرانز يوزف في إعلانه بالألمانية الذي ترجم بعد ذلك إلى المجرية والتشيكية ليعلق في جميع أنحاء هذه الأرض الشاسعة الموحدة منذ 1867، بالقول «إلى شعوبي».

أعلن النبأ في فيينا في الساعة 19.00. وانتزعت الحشود التي تجمعت لساعات أمام إدارات تحرير الصحف الأعداد الخاصة التي صدرت، بينما ساد الفرح شوارع المدينة التي كانت واحدة من كبريات مدن أوروبا بسكانها البالغ عددهم مليوني نسمة.

وسمعت هتافات فرح وأناشيد تمجد بالحكم الملكي وألقيت قبعات في الهواء. ومن نوافذ بيوتهم كان سكان يلوحون برايات. أما إجراءات تبديل الحرس أمام هوفبورغ أكبر قصور فيينا، فقد سادت خلالها احتفالات شعبية رافقتها موسيقى الفرقة العسكرية.

وتوالت التجمعات الوطنية التي شجعتها الدعاية الإعلامية منذ الثالث والعشرين من يوليو يوم وجهت النمسا - المجر إنذارها إلى صربيا.

ويقول مدير المتحف العسكري في فيينا كريستيان أورتنر لوكالة الصحافة الفرنسية إن الأجواء «كانت أقل فرحا» في القرى والأرياف.

وأضاف أن «الطبقات الوسطى والبرجوازية كانت وطنية جدا وتدعم الحرب لكن الفرح كان أقل في المناطق الريفية». وتابع: «في الريف كانوا يفكرون بالخيول والأبناء الذين سيرحلون والكارثة التي أعلنت للزراعة».

كل هذا، لم يظهر منه شيء في الصور التي نشرتها الصحف التي ركزت على صور جنود يضحكون ونساء يبدين إعجابهن بهم..

فالحرب كانت مقررة قبل الإنذار الذي يطالب بلغراد بالسماح للسلطات النمساوية بالتحقيق في صربيا في الاعتداء الذي أودى بحياة ابن شقيق فرانز يوزف وولي العهد الأرشيدوق فرانز فرديناند.

وهذا الاعتداء أقنع النمسا - المجر بأنه يجب القضاء على صربيا المستقلة التي يشتبه بأنها تغذي الاضطرابات القومية للشعوب السلافية في الإمبراطورية، وخصوصا في البوسنة التي ضمتها النمسا في 1908.

وكان من أسباب هذه الحرب قضية القوميات المتنوعة في إمبراطورية النمسا - المجر. وستؤدي هزيمة الإمبراطورية بعد أربع سنوات إلى تفككها إلى دول عدة بموجب المعاهدات التي وقعت في نهاية الحرب. وعاد الجنود والضباط إلى فيينا بين 1918 و1920 يملؤهم شعور بالهزيمة والمرارة.

وبالنسبة للضباط الذين ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية، تحول الأمر إلى دمارهم، إذ إن ممتلكاتهم وراء حدود أخرى جديدة.

وكل هؤلاء المنهكين أصبحوا فرائس سهلة للتشدد في اليمين أو اليسار في أوضاع اقتصادية كارثية. وفي الذكرى المئوية للنزاع، نظمت النمسا سلسلة نشاطات تاريخية وفنية ودشنت معرضا جديدا دائما في متحف الجيش في فيينا. وفي 28 يونيو (حزيران) أحيا نحو مائة من أحفاد عائلة هابسبورغ ذكرى اعتداء سراييفو في القصر الذي دفن فيه فرانز فرديناند وزوجته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

925 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع