ظاهرة الشقاوات ايام زمان....
ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله
واخو الجهالة بالشقاوة ينعم
عندما يغيب القانون وتضعف السلطه وتضيع هيبة الدوله ويكثر الفساد وتضيع الحقوق ولايوجد من يؤمن الحمايه للناس وخاصة الفقراء والاطفال والنساء ,, في مثل هكذا مجتمعات مرت بهذه الظروف في جميع انحاء العالم ادت الى ظهور اشخاص او جماعات لتكون بديلا عن القانون والدوله واستخدام اسلوب اخذ الحق ان كان حقا فعلا بالقوه وخارج القانون وقد يكون هناك جزءا من الاعراف العشائريه او الاجتماعيه او الدينيه تتدخل لكبح جماح هؤلاء الذين كثيرا ما يكونوا غير منضبطين وغير ملتزمين باية من الاعراف والقيم التي ذكرناها ...
لقد مرت بغداد في اواخر العصر العثماني وامتدادا لما قبله بضعف السلطه وعدم امكانيتها بسط نفوذ القانون الا ما ندر وتفشي الفساد والرشوه وتكليف قليلي الكفاءه والخبره في الاعمال الامنيه والاداريه الامر الذي تسبب في ظهور بعض الاشخاص يطبقون قواننيهم بايديهم وبالطريقه التي يروها مناسبه وقد تصل الى القتل او التعويق او التهجير ,,
سميت هذه الفئه من الرجال باسم (الشقاوه) ومأخوذه من كلمة الشقي وهو الشخص الذي يستخدم عضلاته واسلحته وغالبا ما تكون الخنجر او السكين ونادرا ماتكون المسدس لحل مشكلاته من خارج المحله وكان مدافعا عن محلته ومناصرا لاهلها ولايستخدم قوته وجبروته على اهل المحله بل تكون تلك خارجها ..
لاشك ان اصحاب المراكز والاموال يحتاجون بين الحين والاخر لهؤلاء ( الشقاوات ) اما لحمايتهم او لتنفيذ مآربهم وقد كانت نظرية الحمايه الشخصيه لم تكن قد تبلورت كما هي اليوم ( البدي كارد ) وكانت الحاله مقربه منها في تلك الايام ,, ولم يترك السياسيين والاحزاب هؤلاء الشقاوات في حالهم بل استخدموهم لاغراض حزبيه واصبح كل شقي على المذهب السياسي لمحلته فأن كانت المحله شيوعيه..
كان هو كذلك وان كانت قوميه صار كذلك ولان جلة هؤلاء اميين ولايملكون اي ثقافه عامه او خاصه ولاتتعدى ثقافتهم ما سمعوه من ( القصه خون ) في المقاهي اضافة الى ان الولاء الى المحله شيء اشبه ان يكون مقدسا لدى هؤلاء ..
اشتهر هؤلاء الاشقياء بعادات وتصرفات كانت تعتبر من المرفوضات في تلك الايام مثل شرب الخمر وملاحقة الغلمان وارتياد الملاهي والمومسات ولعب القمار واخذ (الوير ) وهي خاوه من الاعبين وكان بعضهم يعملون حمايه خاصه للملهى لمعالجة المشاكل والمشاجرات التي تحصل من الرواد كما ان للراقصات والمغنيات حماية ايضا من هؤلاء وكان بعضهم ( يستكعد ) المرأه اكلا شاربا ومصروفه جاري منها وهو يعيش معها بالحرام وعليه تأمين الحمايه لها .
كانت للاشقياء في بغداد طريقتهم الخاصة في الملبس تميزهم عن غيرهم من عامة الناس فالجراوية على الكتف او على الراس وهي ملفوفة كيفما اتفق من دون عناية ، وكذلك لبس (الكيوة ) البيضاء بالرجل واللباس الابيض الطويل الذي يصل الى نهاية الكاحل ، مع لبس (عرقجين ) ابيض مدبب الى الاعلى ، وطبعا مع سكين (ام الياي) في جيب (الشقاوة) والتبختر في المشية وابراز صدره الى الامام في حين يرتدي هؤلاء الاشقياء شتاءأ لباس الدميري الطويل ....
لم يخلوا من هؤلاء من هم اصحاب شهامه ومروؤه على غرار اللص الظريف ارسين لوبين ومنهم من كانت الوطنيه لديه في اعلى درجاتها ومساعده الملهوف والمرأه والطفل واستحصال حقوق ابناء محلته واستحصال الخاوه من الاغنياء ومساعدة الفقراء بها .وهم دائما من الشجعان الذين يضرب بهم المثل القائل ( يوكف على شواربه الصكر ) ولكن ينطبق عليهم حكم الطبيعه الالهيه ( كل قوي للزمان يلين ) .
ناظم كزار
ومن الشقاوات الذين ذاع سيطهم وسمعتهم في بغداد للفتره بين بداية القرن العشرين ولغايه عام 1970 الذي شهد نهايتهم بالكامل عندما جرت عمليات تصفية من بقي منهم على يد الامن العام في عهد ناظم كزار وسنذكر بعضهم في نهاية المقال وادناه نماذج من الشقاوات في تلك الفتره.
ابن عبدكه
هو ابراهيم ومن ابويين كرديين ولم يكن شقيا وهو من اهالي شهربان ولكن حصلت حادثه جعلته يتحول مرغما الى الشقاوه وهي كالاتي :
لخلاف بسيط تطور الى تشابك بالايدي بين جواد والفلاح عبد حسن وتطور الاشتباك الى ان سقط عبد حسن مضرجا بدمائه بعد ان قتله جواد . فر جواد تاركا عبد حسن يسبح بدمائه . ركضن النسوه والاهلين للنجده الا ان الوقت قد فات ومات عبد حسن .. وصل الخبر لاذهان ابراهيم بن عبدكه اخو عبد حسن واسرع الخطى ليرى اخيه مضرجا بدمائه فانهارت دموعه عليه و اقسم بان يقتص من جواد قاتل اخيه ..
عرف ابراهيم بن عبدكه بان جواد القاتل قد فر الى بغداد ليختبئ بين اقاربه في باب الشيخ ... ومحلة باب الشيخ كانت تسكنه اغلبية من الكورد الفيليين وبعض الافغان القادمين لخدمة مرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني .. وكانت ايضا هناك بعض بيوتات العرب من بيت الجاووش وبيت طبانه وبيت القراغول وبيت الجنابي وبيت علو وبيت الجلبي وغالبية هؤلاء من العرب السنه ...
امتطى ابراهيم حصانه وشد الرحيل نحو بغداد و وصل الى باب الشيخ وجلس في مقهى زينل عدة ايام ينتظر مرور جواد قاتل اخيه .. وقهوة زينل كانت مقابل الحضره الكيلانيه ومسقفه بقيصريه لحماية الاهلين من شمس بغداد .. جلس ابراهيم بن عبدكه على احدى القنفات وهو يرى يمنة ويسره فيسمع اصوات النركيلات والجالسين يشربون الشاي وبعضهم ملتهي بلعبة السيفون ..ظل ابراهيم بن عبدكه يراقب الدرب بكل دقة وما ان علم بمرور جواد نهض كالاسد الجائع وهو ماسك مسدسه ( الورور ) وقد اهتز جسمه وصرخ بالرجل القادم .. ولك جواد خذها هذا ثار ابو نجم .يقصد اخوه , انطلقت من مسدسه عدة اطلاقات استقرت في صدر جواد وارداه قتيلا بالحال .. ترك ابراهيم القهوة وامتطى حصانه الذي كان قد ربطه بجدار المرقد الكيلاني . وهرب مسرعا بين درابين باب الشيخ متوجها الى بعقوبه وانطلق الحصان به كالريح ...
واصبح طريدا وامتهن الشقاوه لامفر له الى هي وذاع سيطه في كل الارجاء بعد مقاراعات عديده مع الجندرمه الاتراك وقتل العديد منهم وصد الكثير من محاولات الثأر منه حتى اصابته الحمى وهو نائم يوما واذا بثمانية رجال اوقفوه وساقوه الى المحاكمه في عهد الاحتلال البريطاني للعراق حكمت محكمة جنايات بغداد حكما بالشنق حتى الموت على ابراهيم بن عبدكه .
وذلك لكثرة جرائمه وقتله الاشخاص و الشرطه ..سمعت السيده الانكليزيه مسسز بيل بحكم الاعدام على ابراهيم بن عبدكه فذهبت للمحكمه لترى من هو هذا الرجل الذي اخاف الانكليز ايضا؟؟ . واذ به بعد ان تمعنت في عينيه ونظراته الجريئه عرفته راسا فقالت: كيف تحكمون على هذا الرجل وهو الذي انقذني وحماني واكرمني و اوصلني سالمه بالقطار لبغداد ؟ اندهشت المحكمه من اقوال مسسز بيل .
وتسائلت كيف يمكن لقاتل مثل ابراهيم بن عبدكه ان يحمي امراه ويكرمها ويعيد لها احتياجاتها وبكل ادب . فقررت المحكمه بعد ان توسطت مسسز بيل بعد ان استانفت والتمييز ونقض قرار الحكم . فتم تخفيف الحكم لعشرين سنه حبس . قضى منها 12 عاما وخرج عام 1936 وقد انهكه التعب .وعند خروجه من الحبس او السجن عطفت الحكومه العراقيه عليه ولدوره المشرف بمقارعه الظالم العثماني . فلقد تم تعيينه مراقبا عاما لاثار بابل بعد ان فضلت مسسز بيل ان يكون خير من يحمي بابل واثاره فهو ابراهيم بن عبدكه .
المتحف البغدادي
موسى ابو طبره
المصارع الوسيم (موسى ابو طبرة) الذي كان يسير وراءه حشد من التواقين الى ' المراجل ' والشجاعة والشهرة ، ويكفيهم ان يقال عنهم انهم من جماعة ( موسى ابو طبرة ) ، وكانت حدود محلة الفضل الى باب الشيخ في رصافة بغداد ، مناطق نفوذه ...!! كان ( ابو طبرة ) مولعا بسباق الخيل الريسز فقد قتل على يد احد الاشقياء المحترفين في سباق الخيل يدعى (جواد الاجلك) اثر خلاف بينه وبين احمد الشنان احد الهواة من الاشقياء المحترفين (وهو امر عادي بين اصحاب الخيول) عندما كانا يحتسيان الخمرة في احد بارات محلة المربعة ، حيث طعنه جواد بالسكين في رقبته فأراده قتيلا . وجواد الاجلك هو من اشقياء الكرخ وقد حكم عليه بالسجن ولكن كردة فعل على مقتل ( ابو طبرة ) الذي هو من عائلة معروفة ومحترمة ، قام الشقي المشهور والقاتل المحترف (حجي شاكر) وبمساعدة من شريكه الشقي (عزيز الاقجم) بمهاجمة احمد الشنان عندما كان موجوداً في الاسطبل الذي يمتلكه في محلة باب الشيخ بقتله رميا بالرصاص وقد القي القبض على حجي شاكر بينما استسلم عزيز الاقجم بعد ان نفذ عتاده وقد حكم عليهما بالاعدام شنقا ونفذ الحكم في ساحة الكيلاني وحضر عملية الاعدام الالاف من اهالي بغداد ، حيث صعد حجي شاكر متباهيا الى حبل المشنقة بينما خارت قوى عزيز الاقجم ورفعه السجانون وشنقوه (ميتا) كما اعتقد الناس الحاضرون في الساحة وهو مغمى عليه...!! اما جواد الاجلك قاتل (موسى ابو طبرة) فقد اطلق عليه صبي اربع عيارات نارية بعد ان خرج من السجن لانتهاء مدة محكوميته عندما غادر هذا الشقي المقهى الذي كان جالسا فيه . ومن الاشقياء القتلة
احمد قرداش
احمد قرداش هذا الرجل من اهالي كركوك جاء الى بغداد وسكن فيها خلال عام 1870 وتزوج من امرأة بغدادية انجبت له ثلاثة اولاد هم شهاب ومحمود وعباس وقد عرف بشقاوته وجسارته وبمواقف انسانية ابية تتمثل في مساعدة الضعفاء والفقراء والمحتاجين والارامل والوقوف بوجه الغرباء والمعتدين الذين يرومون الاعتداء على اهالي منطقته ومن الحكايات الطريفة المعروفة عن هذا الشقي انه ذات يوم من ايام الصيف الحار سطا احمد قرداش وجماعته على دار احد التجار اليهود وكان الوقت ليلاً والتاجر اليهودي ينام وزوجته على سطح الدار فصعد احمد الى سطح الدار فوجد بالقرب من سرير نوم اليهودي سلة خوص تغطي قدرين صغيرين فيهما رز وبامية مطبوخة فاشتهى ان يأكل حتى شبع من ذلك الطعام ثم شرب الماء من الكوز (التنكة) الموضوعة على سياج السطح... بعدها نزل مسرعاً الى جماعته فوجدهم يجمعون المواد والاشياء التي يريدون اخذها فامرهم: بترك كل شيء وارجاعه الى مكانه وقال لهم انني اكلت من هذه الدار وصار بيننا زاد وملح وهذا في شريعتنا وعرفنا حرام علينا ان لانمد يدنا على اي شيء يعود لهذا الدار لاننا صحيح شقاوات ولانهاب احداً الا اننا لاننسى مخافة الله اولا ثم الاصول والعادات النبيلة التي تربينا عليها واذا خالف احد منكم امري فانني سوف اقتله بهذا الخنجر... فاطاع جماعته امره وتركوا الاشياء والمواد وخرجوا من الدار.
من طرائف الشقاوات
يقال إن أهالي محلة, اشتكوا ذات يوم الى مختارهم عن شقي يعيش بينهم ومن أبناء محلتهم كان يزعجهم خاصة بالليل, عندما يكون مخمورا, وطلبوا من المختار أن يجد طريقة لكبح جماحه للعمل على إيقاف اعتداءاته وإزعاجاته, فأجاب المختار أصحاب المحلة بأنه كان ولايزال ينصح هذا الشقي بالالتزام بالحشمة والهدوء وبعدم إزعاج أهل المحلة ولكن دون جدوى, واستطرد المختار قائلا: لو استطعنا ان نزوجه فربما سوف نشغله بالزواج وبالأولاد ومعيشتهم عن سلوكه الجامح الحالي, قال أهل المحلة انها لفكرة صائبة حقا لماذا لا تسعى الى تحقيقها, أجاب المختار الا ان هذا الشقي مفلس وتحقيق زواجه سيحتاج الى بعض المال, فأجابه أهل المحلة:
نحن مستعدون لجمع المال اللازم تبرعا,
واتفقوا مع المختار على هذه الخطة وتركوا له التنفيذ, فذهب المختار الى الشقي، والمختار عادة ما يكون من الشخصيات المحترمة وله اعتبار بين أهل المحلة وهم الذين اختاروه عادة ليكون مختارهم، قال المختار للشقي لقد جئت أخبرك بان هناك شابا تقدم لابنة عمك ليتزوجها فوقف الشقي وصرخ كيف يجرؤ أحد أن يتزوج ابنة عمي وانا موجود..؟؟.
فأجابه المختار: هل تريد أن تبقى ابنة عمك عازبة يخاف الناس بالتقدم لزواجها وأنت جالس لا تحرك ساكنا. فلا يحق لك أن تؤذيها بهذا الشكل ولا بد لك ان تتركها لترى طريق حياتها او تعلن رغبتك بالزواج منها؟؟.
قال الشقي كيف ذلك وأنا مفلس وعطال بطال وليس لي المال الذي يهيئ لي إتمام الزواج؟.
قال له المختار: هذا ليس شأنك فإننا جميعا أهل المحلة نريد لك الخير وسنقوم بكل واجب في دعم زواجك,.
سكت الشقي ونظر الى المختار ثم قال: له إذن أتزوج ابنة عمي..
وهكذا تم العرس والزواج, وبعد عدة سنوات شوهد هذا الشقي يسير في أسواق المحلة وهو يحمل على رقبته طفله وعلى كتفه طفله الآخر ويقود ماشيا طفله الأكبر, وكان هذا الطفل الذي يسير بجانب والده يحمل رغيفا من الخبز يأكل منه, فتبعه أحد الكلاب السائبة ليشاركه رغيفه, وكل فترة يقفز الكلب على الرغيف وهو بيد الطفل لينتزعه منه والطفل يصرخ ويطلب نجدة والده, فتلفت والد الطفل (الشقي المتقاعد) الى الكلب وصرخ به قائلا:
اسمع لقد كنت شقيا سائبا ومستهترا أكثر منك وهكذا تراني الآن, أنصحك أن تغرب عن وجهي والا فسأخبر المختار ليزوجك فيصبح حالك مثل حالي.
هكذا كان حال بغداد في تلك الايام ولكن مع مرور الزمن بدأت هذه الظاهره تضمحل واقتصرت على حالات معدوده منها في الكرخ كان الشقي (عزاوي الجبوري واخوته ) ومات مقتولا والشقي ( علي ماما واخوته ) ولايزال حيا والشقي ( خليل ابو الهوب ) في الرصافه ومات مقتولا على يد عناصر الامن العام وخالد دونكي مات باغتياله من قبل عناصر الامن .
واليوم تعود الحاله بشكل اكبر واضخم حيث اصبحت بعض الجماعات المسلحه تؤدي نفس الدور الذي كانت تؤديه الشقاوات واكثر ايذاءا وألما لانها لاتلتزم باي من القواعد الاخلاقيه او الشرعيه او العشائريه او الدينيه واصبحت الغايه اما النهب والسرقه او الانتقام وانتشرت حالات القتله الماجورين التي لم تكن موجوده سابقا في التخلص من الخصوم والغرماء واصبح السياسيون هم اكثر من يمارس هذه الافعال المشينه وقد شاهدت بأم عيني في منطقة بغداد الجديده مكتبا للقتله المأجورين وباسعار مكتوبه وحدثني بعض الاصدقاء انهم شاهدوا بعض الشباب يتجولون في الباب الشرقي وعلى صدورهم لافته تقول ( قاتل مأجور ) وهذا بعد الاحتلال مباشرة مع الاسف على هكذا زمان ..
الى هنا ينتهي المقال
مع تحيات عبد الكريم الحسيني
2738 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع