بغداد ايام الزمن الجميل / 10بين الماضي والحاضر
كل زمان زائل لامحاله ودوام الحال من المحال هكذا هي قوانين الحياة وهكذا هو الانسان قادم وراحل ولابد من ان الامور تتغير بين جيل واخر وبين فترة واخرى ونادرا ما نرى من يرضى بالتغيير الا اذا كان يوافق طبيعته وهواه وخاصة كبار السن فانهم دائمي الشكوى من تغير الاحوال وتبدل العادات ودخول الجديد وهذه حقيقه حتميه علينا تقبلها والرضوخ لها لانها سنة الحياة ولكن هناك سؤال ..
هل لهذه القاعده من استثناء الايوجد من الامور ماهو غير قابل للتغيير ؟؟
نعم فهناك من الامور الكثيره التي يجب ان تدوم وتعزز وتتطور الى الافضل وليس كل شيء واجب التغيير وكذلك هناك ماهو يتغير من المأكل والملبس والعادات ووسائل الحياة والنقل والتعليم واسلوب البناء والعماره والاثاث ووسائل التدفئه والتبريد ودخول التكنولوجيا في كل المفاصل..
نعم هذا يجب ان نتقبله ولكن هل يجوز ان نتقبل تغييرا بالاخلاق والطباع والاخلال بالاداب وخيانة الامانه وايذاء الجار وانتهاك العرض والسرقه والعماله وبيع الوطن وغيرها من الامور التي تبدل المبادىء وتغيير الاخلاق والاسس التي يبنى عليها المجتمع فهذه من حق الجميع ان يرفعوا اصابعهم معترضين عليها ان تغيرت لانها الاسس التي يقوم عليها المجتمع وتقوم عليها اسس الدوله .
من المؤكد ان ينفر البعض من التغيرات لانها تبدل نمط من الحياة تعوده الانسان وخاصة في فتره مهمه من حياته الا وهي فترة الشباب ويجد صعوبه في تقبل هذا التغيير وصعوبة التأقلم معه حتى وان اقتنع به ولذلك علينا تقبل هذه الحاله وقد نؤشر على بعض منها سلبا او ايجابا ولكنها نافذه ولن تتغير الا اذا كانت خطأ في اساسها والزمن كفيل بالتغيير والقبول والتطبع .
سقت هذه المقدمه لكي اضع الاخ القارىء بالصوره التى قد يلجأ اليها البعض من الرفض والقبول لتصرفات الابناء والاحفاد ومن هذه بعض الامور التي سوف نضعها تحت المقارنه بين الماضي والحاضر .
الطعام: كان على رب الاسره تناول الطعام في داره وعلى ربة البيت ان تؤمن طبخ الطعام والخبز وغيرها من اجل ذلك وقد يتناول رب الاسره الطعام في محل عمله وتقوم ربة البيت بارسال الطعام اليه بواسطة (السفرطاس) وكان من المعيب ان يتناول الرجل طعامه خارج المنزل الا اذا كان (زعلان ) او (معزوم ) او لدى والدته او اخيه او غير ذلك .
واليوم الرجل يتناول الطعام في اي مكان واي وقت وبدون تحديد وكذلك المرأه وقد اختفت بعض الاطعمه ولكن معظم الاكلات البغداديه حافظت على استمراريتها وحضورها الى حد الان وفي معظم البيوت واهمها:
(الباميه ، البيتنجان ، الدولمه ، الباجه ، الهبيط ، القوزي ، التشريب ، الهريسه ، القيمه ، البرياني ،الرز الاحمر والاصفر ورز بجزر ورز بالكلم ، السمك المسكوف ، الشيخ محشي ، كبة الحلب ، كبة حامض ،كبة برغل ، المثروده ، تشريب باقلاء ، لوبيا حمره....وغيرها )
الحمام : كان للحمام طقوس حيث تهىء ربة البيت مستلزمات الاستحمام للرجل قبل فتره مناسبه وهي ( واستقباله عند عودته وكأنه عائد من غزوه وتضع الشاي امامه ومنقلة الفحم ولم يكن في تلك الايام حمامات داخل البيوت الا ما ندر واغلب الناس رجال ونساء يلجئون الى حمام السوق وحمام البيت ان وجد فان له مستلزمات اهمها الحطب لاشعال النار اسفل (الصفريه) وتدفئة الارضيه (الصبه) وذلك بتمرير انابيب الماء اسفلها .
النقل : كان الميسور من الرجال هو من يأتي ويذهب بعربه (ربل ) والباقي يستخدم القدمين او الدراجه الهوائيه بعد دخولها الى العراق..
وكذلك السيارات والنقل بالقطار وعربات (الكاري ) ولكن اكثر سكان بغداد كانوا يستخدمون الزوارق في التنقل من الكرخ الى الرصافه وبالعكس حتى دخلت الباصات واصبح النقل متيسرا للجميع .
الملبس : يختلف الملبس من شخص لاخر في بغداد (فالافندي) يرتدي البدله مع رباط العنق والسداره اما (الجلبي) فكان يرتدي الصايه والعباءه والطربوش الاحمر الملفوف بقماش اصفر او مذهب وصاحب (الصنعه ) فانه يرتدي الصايه والزبون وبرأسه (الجراويه ) وبرجله اليمني الاحمر ..
اما عامة الناس من الفقراء فكان الرداء المستخدم هو (الدشداشه ) صيفا وشتاءا مع بعض الجاكيتات حسب الموسم وقسم يرتدي (الفروه) اثناء الشتاء والرد القاسي واكثر هؤلاء من البدو او الارياف ,, اما النساء فكانت العباءه هي السمه الغالبه على الجميع ومنهم من يرتدي (الجرغد) وهو مستخدم في شمال العراق ايضا ومنهن من تستخدم (الفوطه ) والبعض منهن يضع كلاب لتثبيت الفوطه يسمى (جناغ) وهناك من ترتدي الخمار واخريات ترتدي (العصبه) و (الجتايه) ويغلب اللون الاسود على الملابس النسائيه عموما عند الخروج اما داخل البيت فقد كانت الدشداشه هي اللباس المعتاد صيفا وشتاءا اما الحذاء فكانت العجائز يرتدون (نعال التاير ) الذي يصنع من الاطارات القديمه المستهلكه والبعض يلبس (القبقاب ) وكانت مدينتي الموصل وكركوك مشهورتان في صناعته .
الماء : كان الماء ولايزال هو روح الحياة ولذلك كان اهل بغداد يفضلون السكن قريبا من نهر دجله لقضاء حاجاتهم ولعذوبه الهواء ولقرب السقايه منه
المتحف البغدادي
وكان (السقا) وهو الذي يبيع الماء للبيوت ويحمله في قربه على مؤخرة ظهره ويدور على المنازل حيث تملىء منه (الحبوب) و(التنك ) و(القدور ) وبعض البيوت تملىء (الجود ، وهي اكياس من القماش او الجلد يحفظ فيها الماء ويترك خارجا لكي يكتسب البروده ) وهذا ايضا يستخدم من قبل المسافرين في الطريق .
والحب يعتبر اثاث رئيسي في المنزل ومن ثم دخلت الثلاجه الخشبيه لتعوض عن الحب في حفظ وتبريد الماء ومن ثم دخلت الاساله واوصلت انابيب الماء الى البيوت وكان للبيت حنفيه واحده توضع في وسط الدار ويبنى لها حوض مع فتحة تصريف يستعملها الجميع .
النوم : كان اهالي بغداد في فصل الصيف ينامون على السطوح واكثر السطوح اذا لم تكن جميعها مكسيه بالتراب بعد تهويره ونخله وخلطه بالتبن والماء وتخميره ثم يتم اكساء السطوح به والعمليه هذه تؤمن سد الفراغات والفقاعات في الطين (الحر) لمنع تسرب مياه الامطار ولذلك فان من واجبات ربة البيت هو كنس السطح ورشه بالماء يوميا وحمل الافرشه والاغطيه لفرشها عند المغرب واملاء (التنكه) بالماء والبعض يفضل (الحبانه) وهي حب صغير مع حامل توضع في السطح اذا كانت العائله كبيرة العدد ..
وايضا يتم وضع (رگيه) مقسومه نصفين لكي تكتسب البروده ويكون النهوض مبكرا قبل توارد الذباب مع طلوع الفجر والنزول الى داخل الدار وكان المتزوجين يضعون (الكله) وهي قطعه من القماش الخفيف جدا (الململ ) لمنع البعوض والذباب والتمتع بالنوم لاكبر فتره ممكنه وكانت من اداب ذلك الزمان ان لا يشرف الجار على جاره حتى لو كان اعلى منه في البناء وتعتبر هذه اساءه غير مقبوله .
اما في الشتاء فعادة ما يكون البرد قاسيا في تلك الايام لقدم البناء وقرب النهر وانعدام وسائل التدفئه ويتم واللجوء الى الاغطية السميكه مثل اللحاف والشف (وهو غطاء من الصوف ) والبطانيات واشعال الفحم في المناقل وما يسببه من اذى واختناقات ولكن لن تجد الذ واطيب من شاي الفحم على المنقله وخاصة في الصباح الباكر وشواء البيض على الفحم وفي الليل شواء البلوط وكانت المنقله هي وسيلة التدفئه الوحيده لدى العائله العراقيه .
طبائع الناس : لم تكن بغداد تلك المدينه الغنيه وليس فيها من الاثرياء الا القليل ومعظم الناس كانوا من الفقراء والبسطاء واصحاب حرف او مهن بسيطه بل اكثرهم من العمال الذين يكسبون قوت يومهم بالاجره اليوميه وكانت هذه الاجره لاتتجاوز 250 فلسا تكفي لمعيشة عائله لرخص الاسعار وتوفر المواد وكانت الكثير من العوائل تسكن في بيوت مشتركه وبما كان يطلق عليه تسمية (النزل) وبعضها يضرب بهم الفقر حدا كبيرا والفقر ليس عيبا ومع كل هذا وذاك فلم يكن فيها من المجرمين الا القليل وداخل المناطق الشعبيه لم نكن نشهد حالات سرقه او اعتداء او تحرش او ابتزاز فكان القوي مع الضعيف وكان الجميع متوحدين متآلفين يناصر بعضهم بعضا ويسند بعضهم بعضا وكان الفقير فيهم لاحني راسه مهما فعلت به الظروف ولن ولم يلجأ الى الحرام بل في بعض الاحيان كانت اهله تمر على بعض البيوت في الزقاق (الدربونه) تأخذ من هذا البيت بعض اقراص الخبز ومن ذاك صحن الرز ومن اخر بعض المرق وتطعم عيالها بدون ان يشعر احد ,, لم نشاهد احدا منهم يمد يده ليشحذ المال من الناس او يلجأ الى السؤال كانوا متكاتفين متحابين وكانوا ذو كبرياء وعزة نفس...
لم نسمع ونحن في اعمار تخزن ذاكرتنا كل شيء ان هذا كردي او عربي او سني او شيعي وكنا معا في عيشة هنيه بسيطه ناكل مما رزقنا الله حلالا طيبا ونتعاون معا وعندما كانت توافي المنيه احد ما كنا نرى الغني في المنطقه اول من يقف لزهاب الميت وتأمين مصروفاته واهله وفاتحته ومنهم من يساعد في تشغيل عياله ليسدوا نفقات اهلهم هكذا كنا واذكر لحد الان ان جار لنا اسمه (علي نقي) توفاه الاجل وانا في عمر السبع سنوات وكان كبارنا يتحدثون عن دفنه بالنجف وسمعت احدهم يقول لصاحبه والله والله هذه اول مره اعرف ان المرحوم من الشيعه!! ) وتم له ذلك ولم يكن ولده يملك اجرة نقله الى اقرب مقبره !! هكذا كانت اخلاق اهل بغداد وهكذا كان تعاونهم وبساطتهم ومحبتهم لبعضهم البعض .
هذه بعض المتغيرات التي حضرتني من ذلك الزمن الجميل والتي ربما تكون قد تغيرت نحو الاحسن في بعض المجالات ومعها ايضا ضريبة التطور ومشاكله ولكن يظل كل منا يرى زمانه احلى الازمنه وجيله احسن الاجيال وهذه سنة الحياة وذلك لايعني ان الحياة تسير نحو الاسوء ولكنه التغيير الذي لابد منه واترك للقارىء الكريم المقارنه بين ماذكر اعلاه وبين ماهو موجود اليوم...
مع تحيات عبد الكريم الحسيني
للراغبين الأطلاع على الحلقة التاسعة النقر على الرابط أدناه:
http://www.algardenia.com/tarfiya/menouats/2297-2012-12-27-22-32-43.html
1069 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع