ذكرياتي مع الأوفياء : عمو بابا ..

    

       

الذكريات...روافد تصب في مسار الحياة ... يسقط منها ما قد يؤثر سلبا في المسار ... ويترسب منها في وعاء الذاكرة ما يؤثر إيجابا في مسارنا الطويل  فيتحقق ما يقوله الشاعر: (إن الذكريات معنى العمر في هذه الحياة) ... وفي سواقي الذاكرة رجال ساهموا بهذا القدر أو ذاك في بناء الرياضة العراقية وتحديد نهجها، ووفاء لهم نذكرهم بالخير .... هذا الوفاء هو الرابط الإنساني الذي يبقى يذكرنا بالمقولة:(من علمني حرفا ملكني عبدا )

إلى هؤلاء جميعا أحني رأسي إجلالا، وإلى ذكراهم أقدم لهم كلماتي التي يحكيها القلب والضمير عبر مجلة الگاردينيا .

 

  

 

          الحلقة الرابعة..المرحوم عمو بابا

  

           

تمتد علاقتي مع المرحوم عمو بابا الى مدة طويلة جدا , وتوطدت وتعمقت اكثر حينما ترشحنا سويةً من قبل وزارة الشباب للمشاركة في دورة تدريبية  دولية بكرة القدم أمدها ثمانية اشهر في المانيا عام 1972-  1973... وكان برنامج الدورة اليومي مكثف في حصصه , حيث الجانب العملي أولا والمحاضرات النظرية المختلفة والعديدة ثانيا , لذلك تحتم علينا ان نلتقي بأستمرار في المعهد الذي ندرس فيه والمعروف  بأسم (DHFK ) وهو مختصر لأسم المعهد الذي يطلق عليه :( المعهد  العالي للتربية الرياضية والبدنية الالمانية ) والذي يستحق أن  نتطرق اليه فيما بعد , لاهمية هذا المعهد في تطوير الرياضة العراقية من خلال تخرجه لعدد كبير من الكوادر الاكاديمية و التدريبية والادارية اللذين ساهموا مساهمة فعالة في توسيع افاق الرياضة العراقية .
 
 شيء طبيعي ومن خلال تلك اللقاءات اليومية الروتينية  لنا , صباحا في الحصة التدريبية  وبعدها الدروس النظرية والتي تستغرق عدة ساعات , ومساء يتجدد لقائنا في السكن حيث أقامتنا في القسم الداخلي , فلابد من خلال هذا الاحتكاك  ان تحدث حالات ومواقف عديدة ومتباينة,منها الايجابي والسلبي والمتوقع  والغير متوقع .
أضافةً الى الناحية السيكولوجية الغير مستقرة التي يسببها البعد عن الوطن والحنين اليه والى الاقارب والاصدقاء لانك في بلد الغربة ... ,هذه الحالة النفسية المضطربة تحدث احيانا  بين المجموعة في السفرات القصيرة , فما بالك اذا كانت مدة الدورة اوالدراسة أشهر ؟..وهذا ما حدث فعلا لنا، و من تلك الحالات والمواقف والاحداث العديدة والتي تستحق كل حالة منها  الى وقفة ؟


    
 
عموبابا الطالب وليس اللاعب أوالمدرب!

حقا ان الدراسة في البلدان المتقدمة لها من المزايا والفوائد التي لا تعد ولا تحصى من جوانب كثيرة واحداها هو الحصول على الناحية العلمية الاكاديمية...وارجو ان يستميحني القارىء  عذرا ,عندما اقول ان احداها ! لان هناك ايجابيات اخرى للدراسة في الخارج, ,لا تقل اهمية بنظري عن جوانب أكتساب المعرفة .....
 
 منها السعي والاستفادة من ثقافات وحضارات تلك الدول , واساليبهم التربوية في التعامل الانساني وطرق تنفيذ التعليمات والنظم التي لها علاقة مباشرةعلى الناحيةالادارية المرتبطة بالجوانب الفنية ,ويخطأ من  يعتقد ان الجانب الفني  وحده هو الذي يحقق الانجاز الرياضي , اذ لابد من أعطاء الجانب الاداري دوره المؤثر والكبير في نجاح العملية التدريبية .
 
فبعد مدة من وصولنا الى  المانيا , تعرض المرحوم عمو الى وعكة صحية  , سببت له بعض الحالات النفسية الغير مستقرة حيث كان كثير التفكير والقلق باي حالة مرضية تصيبه حتى لو كانت بسيطة , واستمرت هذه الظاهرة معه الى ان وافاه الاجل رحمه الله .. وفي احدى زيارتنا له للاطمئنان على صحته وكان معي المرحوم الاستاذ قاسم حسن  الذي كان يعد اطروحة الدكتوراه في نفس المعهد الذي كنا ندرس  فيه,  حيث طلب منا  عمو مفاتحة مدير شؤون الدارسين الاجانب لاستحصال موافقته على تخصيص سكن له خارج نطاق القسم الداخلي لانه مريض ويحتاج الى راحة اكثر ... وقد اعتذر المسؤول المعني عن طلبنا معللا بان حالته الصحية  مستقرة وانها لاتحتاج  الى ذلك , حيث الاهتمام والعلاج قائم بالشكل المطلوب , ومن منطلق الحرص على تلبية رغبته كررنا طلبنا باعادة النظر في الموضوع , لان المريض كان لاعبا متميزا ومدربا معروفا وله مكانة في بلده و . و....   نظر الينا محتداً  وقال ..ان عمو بابا كغيره من الدارسين ربما يكونوا  في بلدانهم مستثنين عن غيرهم  بامتيازات معينة .....أما الان فهو بالنسبة لنا  طالب ؟ و نظرتنا للجميع هي نظرة واحدة  بدون اي امتياز, وهذا نظام أعتدنا عليه منذ تاسيس المعهد بعد  فترة من انتهاء الحرب العالمية الثانية  وحتى الان !
 
لقد كانت لتلك الكلمات الدقيقة والمختصرة مغزاً عالياً ودرسا مضافاً أستفدنا  منه  كثيرا في عملنا المهني سواء  الاداري أو التنظيمي  . أن الالتزام بالنظام والمعايير الثابتة , بعيداً عن الخصوصيات والعاطفة هي قمة العطاء ....

    
 
مشكلة عمو بابا مع كلمش؟
جرت العادة في المعهد وبعد  بداية كل دورة تدريبية جديدة والتي يصل عدد المدربين فيها أحيانا الى 25مدربا أو اكثر, ان  يتم تشكيل منتخب كروي للمعهد من الدارسين  , ولكون المعهد معروف بمستواه الأكاديمي على مستوى العالم فانأغلب المدربين المشاركين في تلك الدورات هم ممن  يمتلكون مهارات ولياقة بدنية جيدة وانهم من متوسطي الاعمار, ليتمكنوا من تنفيذ الجانب العملي والذي امده من ساعة ونصف الى ساعتين يوميا ... وفعلا كان هناك من المشاركين خاصة دول افريقيا مستويات عالية تستطيع اللعب  حتى في اندية الدرجة الاولى !
 
 ولذلك فان اختيار منتخب للمعهد  لم يكن سهلا لوجود هذا الكم من المستويات الفنية العالية  المتقاربة...  وقد فوجئنا بان المرحوم عمو ينتقد المدرب -- السيد كلمش ؟ المسؤول عن كرة القدم في المعهد , بسبب عدم  اختياره ضمن منتخب الكلية , , وقد أستغرب السيد كلمش من ذلك والتي تصاعدت  حيثياته الى  مشكلة في حين انها لاتستحق ذلك !!.... وكما لمسنا, ان اللذين تم اختيارهم من المدربين لمنتخب المعهد هم اكثر مقدرة واداء من غيرهم لأنهم من متوسطي الاعمار إضافة الى إمكاناتهم الفنية الفردية والجماعية.. وبالتاكيد ان اعتراض عمو  في عدم اختياره ضمن الفريق  , لم تاتي أعتباطا وانما دليل على شغفه وحبه لكرة القدم وثقته بنفسه ,  من انه ورغم كبر سنه , وعدم اكتمال لياقته  البدنية ,لانه كان قد اعتزل اللعبة , ويشكو من اصابة سابقة  حدثت له  في أحدى  مباريات المنتخب العراقي المشارك في الدورة الرياضية العربية التي جرت  وقائعها في مصر , ورغم كل ذلك كان يعتقد انه يستطيع اللعب وقادراً على العطاء!! وهذه صفة من صفات الحرص التي كان يتمتع بها
 
طالب مجتهد ولكن ؟
 
يستحق ان نطلق على المرحوم عمو بابا  صفة – الطالب -- المجتهد لانه كان جديا  في الدراسة ويعتبر من الجيدين .. وان نجاحه في الجانب التدريبي  هو امتداد لصفة الجدية  منذ ان كان لاعبا وعندما اصبح مدربا وبعدها عندما رجع معنا الى الحياة الطلابية !
على الرغم من مرضه لفترات متقطعة , الا انه كان مواظبا في دراسته وملتزما في كل الشؤون التي تخص الجانب التحضيري أو الاختباري .... وكان يفضل الدراسة والمطالعة لوحده دائما !
 
يقولون ان في السفر تكتشف حقيقة  نفسية الانسان ؟
 
نعم وهذه حقيقة ان السفر بايامه القليلة يكتشف نفسية الانسان وصفاته ... فكيف  أذا كانت السفرة طويلة والاقامة في مكان واحد ومقعد دراسي مجاور وملعب كرة قدم مشترك؟
هذا ما عشته مع زميل الدراسة  والمهنة عمو بابا.... عدة اشهر ونحن سويا , نتقابل صباحا وظهراً ومساءاً ... فمن المؤكد ان تظهر ايجابيات وسلبيات ...ومن صفاته الايجابية  انه يمتلك قلبا طيبا خاصة عندما  تكون معه او قريب منه ,,, وبعضا ممن كانوا معنا في تلك الدورة من الاخوة العراقيين وكان عددهم 13 مدرباً ولمختلف الالعاب , كان لقسم منهم وجهات نظر اخرى ,  لاسباب عديدة , منها التعاون والتقارب والتسامح  وكل ما له علاقة وارتباط في الجوانب الاجتماعية  المهمة.
 
كل ذلك التباين والاختلاف في وجهات النظر, كنا كما هو معروف عن العراقيين وطيبتهم نلتقي دائما  على الوئام متناسين ما حدث امس .. وهذه هي صفة العراقيين  ومنهم المرحوم عمو ..الذي اعتبره  صديق المهنة الشاقة التي كثيرا ما اختلفنا بسببها ... وكانت في النهاية تصب في مصلحة الرياضة , لانها  لم تكن شخصية !!

  
 
لماذا تم الاستغناء عن المرحوم عمو بابا في اولمبياد لوس انجلس ؟

كثرت الإشاعات المتباينة  في وقتها  عن الأسباب التي ادت الى  إبعاد المرحوم عمو عن المنتخب الوطني المشارك في دورة لوس انجلس الاولمبية , وانه  وكما أشيع احيل للجنة تحقيقة من اجل معاقبته !... وقبل أيام وعن طريق حديث عابر لأحد  الإخوان الذي يتابع كتاباتي على الگاردينيا , سألني عن الاسم الذي سأكتب عنه في الحلقة القادمة وأخبرته بانها  ستكون عن المرحوم عمو ..وعندها قال انه على اطلاع ومن مصدر موثوق من أن المنتخب الوطني  في تلك الاولمبياد كان قد تعرض في  وقتها  لإهمال متعمد في تلك الاولمبياد من قبل احد لاعبي المنتخب البارزين آنذاك لغرض إفشال مهمة المدرب عمو! ...وبما اني كنت قريب من المنتخب الوطني  العراقي  وأحداثه  كأمين السر العام لاتحاد كرة القدم ومديراً للمنتخبات الوطنية , ومن منطلق  ذكر الحقائق وهي أمانة  نسجلها  :
 
-أن قرار الاتحاد العراقي لكرة القدم لم يتضمن  اي مجلس تحقيقي ضد المرحوم عمو بابا  وانما الاستغناء عنه  في تدريب المنتخب.
 
-ان سبب الاستغناء عنه هو للنتائج المتردية في تلك الاولمبياد وخروج المنتخب من الدور الاول بعد تعادل وخسارتين , منها  مباراتنا  مع منتخب يوغسلافيا  الاولمبي والتي انتهت بخسارتنا 4-2بعدما كنا متقدمين 2- صفر.
 
-لا صحة مطلقا من ان احد اللاعبين  البارزين كان قد تعمد الاهمال  لغرض شخصي ...

   
 
DHFK
 
أسم تردد كثيرا في الاوساط  الرياضية العديدة لمختلف القارات , حيث انه أحد اكبر المعاهد الرياضية على مستوى العالم ومقره في المانيا مدينة – لايبزك – الأثرية  بكثرة جامعاتها  ومكتباتها العلمية والثقافية  , إضافة  الى معرضها الدولي السنوي المشهور  .
أن المعهد استقطب العديد من  الرياضيين الأبطال للحصول على المعلومات والتقنيات العلمية الأكاديمية والتدريبية , وان كافة الانجازات الكبيرة  التي حققتها ألمانيا في الاولمبياد كانت وفق خطط وبرمجة المناهج التدريبية التي  يتم اعدادها من قبل أجهزة الرياضة العلمية في المعهد ال DHFK الذي كان  الرافد للابطال الاولمبيين لمختلف الألعاب اللذين تسيدوا منصات الفوز وحصد الماليات الذهبية والفضية والبرونزية.....
 
ان  نسبة كبيرة جدا من خيرة الرياضيين العراقيين وأبطالها قد تخرجوا من هذا المعهد  بعد ان نالوا الشهادات العليا وكذلك  المشاركة في الدورات التدريبية لمختلف الألعاب, وشغلوا اغلب المسؤوليات  والمهام الرياضية   سواء في الكليات والمعاهد المختصة والمؤسسات العسكرية الجيش والشرطة والاتحادات والأندية الرياضية , إضافة الى اللجنة الاولمبية ووزارة الشباب
 
    

تغمدك الله برحمته الواسعة يا أبو سامي .....فقد كنت الصديق وزميل المهنة الواحدة  وهي رياضة كرة القدم التي كنت وفيا لها , وقدمت من خلالها العديد من الانجازات الكروية   الى العراق عندما كنت لاعبا متميزا ومدربا كفوءا  وطالبا  مجتهدا ؟ وها نحن نتذكرك بالخير وفاءا  لك  ولكل الراحلين رحمهم الله ممن قدوموا  خدمات جليلة للعراق .....فعراقنا يستحق الكثير وينتظر من المخلصين الشرفاء ما هو أكثر  .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3271 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع