سنوات صدام ـ الحلقة الثانية عشرة
لماذا كذب بشأن صواريخ «الصمود»؟، صدام سجين منطق متصلب استحال على الكثيرين فهمه
كان صدام حسين متردّداً في قبول الحوارات الاعلامية، ففي بداية شهر فبراير 2003 كان قد وافق على حديث أجرته معه قناة التلفزيون الإنجليزي »تشانيل 4«، لكنّ محاوره رامزي كلارك كان ذكياً في ايجاد الذرائع الكافية لإقناعه بقبول حوار جديد. فقد كان وزير العدل الأميركي السابق، الذي استقبله الرئيس في أحد القصور الرئاسية، يعرف سيكولوجية مضيّفه العراقي حيث قال له:
- خلال مداخلتكم الأخيرة في التلفزيون تأثرت أيما تأثر بهدوئكم وبخطابكم الذي كان إيجابياً للغاية. ورأيي أن الشعب الأميركي ينبغي أن يكتشف فيكم هذا الجانب كرجل دولة مسؤول، وظني أن دَانْ راثر، وهو صحافي مشهور بمهنيته العالية، يمكن أن يجري حواراً معكم.
- إنني موافق! رتّبوا التفاصيل الفنية مع طارق عزيز.
وجرى الحوار يوم 24 فبراير 2003، كان آخر حديث متلفزٍ لصدام، وكانت آخر مرة ألتقي فيها به شخصياً. وكالعادة، كانت الشروط المفروضة من قبل الرئاسة شروطاً غاية في الصرامة، فقد كان يجب أن يُبَثَّ الحوار كاملاً من قبل محطة «سي بي إس» من دون تقطيع أو تركيب، أما أجهزة استوديو التصوير فقد تكفّل بها التلفزيون العراقي.
إنّ أهمية أي لقاء بالنسبة للمترجم تخضع بالضرورة للظرف وللموضوع المطروح أكثر من خضوعها لنوعية الشخصيات التي يجمعها اللقاء. فقد جاء حوار دَانْ رَاثَرْ في فترة جد حاسمة، وكان شعوري أنّ الحوار قد يُسهم في تغيير مجرى الأحداث.
في الطريق إلى القصر
كنت أعي أهمية الرهان تماماً، ولذلك فلم أنم إلا قليلاً ليلة ذلك الحوار. فكثيراً ما كنت في مثل هذه الظروف أحلم بصوتٍ عالٍ بالإنجليزية أو الفرنسية. زوجتي، نُهى، هي التي كانت تخبرني بذلك في الصباح، وكنت أخشى أن أكون قد كشفت من حيث لا أدري عن معلومات سرية، لكنّ نُهى كانت تطمئنني بأن حديثي في المنام لم يكن سوى »تكرار« لما كان يدور في اللقاء. لم يكن ذلك سوى ارتكاس ورثته من معهد »إيزيت« حين كنتُ مصمّماً على رفع التحدي واستباق أي صعوبة مهما كانت صغيرة.
جاءت سيارة خاصة لتنقلنا أنا وزميلي سعدون الزبيدي إلى الجادرية، أحد أحياء بغداد الفاخرة، الذي كان يقيم فيه جانب من أصحاب النفوذ في النظام. كان دان راثر ومخرجُه ينتظران في إحدى الفيللات الفاخرة المخصّصة لضيوف صدّام.
قبل المقابلة أعطاني هذا الأميركي الانطباع بأنه رجلٌ ذكي، كريم الشمائل، طيب المعاشرة، فقد تحدثنا على مدى ساعة عن الأزمة وعن الحصار وعن الوضعية الدولية. فهذا الصحافي الذي صار نجماً في الولايات المتحدة لم يكن لا متعالياً ولا مغروراً، بل كان يتصرف معنا كالسّاذج الفضولي.
وقد توجهنا إلى القصر سالكين أقصر الطرق. وحتى يُعطي نكهة للقائه بصدّام، بدأ دان راثر المقابلة بمدح مآثر السائق الذي ادّعى أنه بذل قصارى الجهد في قطع المسافة عبر انحرافات عديدة حتى يضلّل مساره! فكل شيء جائز لإثارة مخيلة الأميركي ولتحقيق الحظوة لدى المشاهدين.
كانت الساعة تقارب السابعة مساءً حين اجتزنا أبواب القصر. لقد جرى ذلك الحوار في بنايةٍ تقع بالقرب من جسر 14 يوليو الذي أعيد بناؤه بعد عمليات القصف الأميركية العام 1998. وقد آوت تلك البناية أيضاً مكاتب طارق عزيز. وكان عبد حمود في انتظارنا على أدراج المدخل، وقد أبلغنا أحد أعضاء البروتوكول أنّ صدّام يرغب في التحدث مع دان راثر على انفرادٍ بعض الوقت.
قال الرئيس لزائره:
- أهلاً وسهلاً
بعد تبادل بعض المجاملات، أشار صدام على ضيفه بأنه لا يرغب في التعرف مسبقاً على أسئلته، فقد كان يفضّل أن يظهر أمام الكاميرات ظهوراً طبيعياً لا تكلّف فيه، ولم يحضر معه أي مدونّة، فقد كانت الرسالة التي يريد بثّها إلى الرأي العام الأميركي راسخةً في رأسه كل الرسوخ. وبعد هذا اللقاء القصير انسحب صدّام تاركاً المجال لعبد حمود ودانْ راثرْ اللذين راحا يخوضان الحديث في موضوعات مختلفة لا يربط بينها أي رابط، فقد سأل العراقي محدّثه:
- ما الذي يجعل سياسة بوش مفرطة في عدوانيتها تجاه العراق؟
فردّ عليه الصحافي الأميركي:
- إن سياسة بلادي الخارجية سياسة تقوم على دوافع المصلحة، فمن المستحبّ أن نتفادى الحرب، لكنّ الحرب هذه المرة باتت أمراً محتوماً، وقد أدركنا نقطة اللاعودة.
كان يتحدث بلهجة حادة، وكان يعي ما يقول. لكنّ سكرتير صدام كان يُبدي من الطلاقة ومن المرح ما جعلني أصدق هذه التلقائية المراوغة، وكأنه رغب في أن يُثبت لذلك الصحافي أن ثقة المسؤولين المحيطين بصدّام لا تهتز أمام القوة العسكرية الأميركية.
لقد زُوّدتْ القاعة، التي كانت ستستقبل صدام ومحدثه، بثلاث كاميرات ثابتة وثلاثة ميكروفونات، وقد زُوِّد صدّام بميكروفون صدري عُلِّق على سترته، وطلب المخرج دَانْ راثر من التقنيين العراقيين أن يركزوا عدساتهم على وجه صدام وجزء من كتفي الصحافي، حتى يشعر المشاهد وكأنه ينظر مباشرة في عيني صدّام. وبشيء من التوتر راح دان راثر بأسلوبه اللاذع يسأل الرئيس:
- سيدي الرئيس، هل تنوون حقاً تدمير صواريخ «الصمود» المحظورة من قبل منظمة الأمم المتحدة.
- إننا نُطبّق القرارات وفقاً لإرادة الأمم المتحدة، إننا نعمل على هذا الأساس وسوف نواصل العمل بهذه الكيفية. فكما تعلمون فإن هذه القرارات ترفص التصريح لنا بإنتاج صواريخ أرض / أرض التي يصل مداها إلى مئة وخمسين كيلو متراً، ونحن ملتزمون بهذا.
- سيدي الرئيس، أريد التأكد من أنني فهمتكم جيداً، فأنتم إذن لا تنوون تدمير هذه الصواريخ.
- أي صواريخ تقصدون؟ إننا لا نملك صواريخ يتجاوز مداها المدى المرخّص به من قبل منظمة الأمم المتحدة. لقد جاءت فرق التفتيش، وتحققت من كل موقع، فإن كان ثمة شك في هذا الشأن فلتوجهوا سؤالكم إلى هذه الفرق.
صدام والأكاذيب
كنت أعرف أن صدّام قد كذب على الصحافي. لقد كنا نملك بالفعل صواريخ محظورة، وخير دليل على ذلك أنه في اليوم التالي لهذا الحوار، صرّح مسؤول عراقي بأن صواريخ الصمود سوف يتم تدميرها لاحقاً. ترى لماذا لم يُبد صدّام قدراً أكبر من التعاون مع مبعوثي الأمم المتحدة لو لم يكن لديه شيء يخفيه؟
كثيراً ما سألت نفسي هذا السؤال، وظني أن عزة نفسه هي التي أعمته كلياً. لكن الوسواس الذي يستبدّ به على الخصوص هو اقتناعه بأن الغرب كان يتجسّس عليه بلا انقطاع حتى يخرّب نظامه ويصفيه شخصياً.
حتى النهاية إذن ظل صدام سجين منطقه الذي استعصى على الأوروبيين وعلى الكثير من العراقيين فهمه وإدراكه، فهو لم يكتف بالمكابرة فيما هو بديهي، بل راح يؤكد في ثقة لا حدّ لها بأنه خرج منتصراً من حرب الخليج الثانية.
- في 1991 لم يُهزم العراق، فقد انسحب جيشنا من الكويت لأن قرارنا استقر على الانسحاب.
ثمة شيء كان واضحاً بالنسبة إليه: أنه كان لا يزال في السلطة وأن جورج بوش الأب لم يفز في الانتخابات.
- سيدي الرئيس، دعني أؤكد لكم أن الكثير من الأميركيين سوف يقولون: »لكن ما الذي يدّعيه هذا الرجل، فالمصفحات العراقية كانت تتقهقر في الكويت وأبراج مدافعها موجهة إلى الخلف كجيش مهزوم على أرض المعركة. لا يطيب لي أن أذكر هذا ولكنني أسألكم أن تشرحوا لي كيف يسعكم الادعاء بأن الجيش الأميركي وحلفاءه لم يهزموكم، لأن الكثير من مواطني بلادي يرون أن العكس بالضبط هو الذي حدث فعلاً.
- في أي صراع مسلّح تتقدم الجيوش تارة وتتقهقر تارة أخرى، فعندما تأكدنا أن الرئيس جورج بوش قد جنّد جيوشاً (...) وانّ العالم أجمع صار بالفعل يشارك في هذا العدوان ضدنا وضد بلادنا، وضد شعبنا، ساعتها لم نجد بدّاً من أن نتخذ قراراً (...) فأمرنا إذن قواتنا بالعودة إلى العراق حتى تتمكن من مواصلة المعركة داخل البلاد.
بعد مرور اثني عشر عاماً، وبينما صارت طبول الحرب تدوي من جديد، عاد صدّام مرة أخرى إلى الحديث عن المشيئة الإلهية.
- إننا نبذل قصارى جهودنا من أجل تفادي الحرب، لكن إذا شاء الله للحرب أن تقوم فلا حول ولا قوة إلا بالله!
في منتصف الحوار أشار أحد التقنيين إلى أنه يريد أن يغيّر الشريط. في هذه اللحظة أخبرنا صدّام أنه سينسحب من القاعة حتى يؤدي صَلاته، فقد كانت هذه عادتُه. فعندما كان يلتقي بضيوفه الأجانب كان يُوقف الحديث حتى يقوم بفريضته الدينية، وكان قد رخّص للتلفزيون بأن يُوقف بثّ خطبه ومداخلاته كلّما حان وقت الأذان.
وقُبيل هذا التوقف بلحظات وجيزة كان دار راثر قد وجّه سؤالاً لم يمهلني هذا الانقطاع المفاجئ حتى أترجمه. وعندما استؤنف الحوار أشرت إلى أنني سأعيد السؤال قبل أن تبدأ الكاميرات في التصوير، لكن ما لبث صدام أن فاجأني مقاطعا:
لا يا سمان، لا بد من انتظار تسجيل الكاميرات للسؤال. يجب أن يسمع المشاهدون كل شيء، حتى الترجمة.
كان صدام يعتني بأدق التفاصيل، كنت وسعدون الزبيدي قد اقتسمنا الأدوار، فكنت أترجم إلى العربية، وكان هو ينقل من العربية إلى الإنجليزية، وكان من المتفق أن يصحح أحدنا الآخر في حال الخطأ أو التخمين. وقد طرأ أثناء الحديث طارئ طفيف، حيث قال صدام عند ذكره لجورج بوش «السيد بوش» (أي أنه ذكر كلمة السيد بالعربية)، ولما كنت أعرف فكرة الرئيس فقد كنت أدرك أنه قد استعمل هذه الكلمات عن قصد في اتجاه المشاهدين الأميركيين تحديدا. لقد كان يرغب في أن يعرف نفسه إليهم كرجل دولة متحضر وكيس وأديب، والحال أن زميلي اكتفى بترجمة كلمة «بوش» بمدلول محقر، فلم أجد بدا من أن أشير عليه بهمسة خفية:
- سعدون... بل قل «السيد بوش»، لكنه لم يول ملاحظتي أي اهتمام ووجه لي نظرة غاضبة، فلم أملك سوى الالتفات نحو صدام لأسأله:
- سيدي الرئيس لقد أردت أن تقول «سيد بوش» أليس كذلك؟
- بالطبع!
سعدون ناطق جيد بالإنجليزية، فقد أقام تسعة أعوام في انجلترا. وقد أعد أطروحة دكتوراه عن شيكسبير، لكنه ليس مترجما محترفا، فالترجمة قائمة على تفاصيل وعلى أشياء صغيرة هي التي تجعل الترجمة جيدة أو غير جيدة، لذلك كان لكل رئيس مترجمه الخاص. فبحكم الاحتكاك المتواصل بينهما يكتسب الرجلان تفاهما يكاد يكون بديهيا، فالمترجم ينبغي أن يكون قادرا على تحليل أدق أفكار لرئيسة وعباراته وتفاعلاته.
وعند نهاية المقابلة أخذنا صدام جانبا لبعض اللحظات. وقال وهو يمسك بيد سعدون:
- لا شك أنكما متعبان، إننا نحن العراقيين نولي أهمية قصوى للكرامة وعزة النفس وهذا شيء طيب، لكن ينبغي أحيانا أن نكون أكثر مرونة، فحين صححك سمان كان عليك أن تتقبل الملاحظة وأن لا تغتاظ!
لكن سعدون ما لبث أن غمغم قائلا:
- لكن، سيدي الرئيس، أؤكد لكم أنني لم أكن غاضبا.
وبابتسامة أنهى الرئيس هذه القصة الطارئة.
المباغتة
في قلب المقابلة، نجح صدام في أن يباغت دان راثر حين اقترح عليه حوارا متلفزا مباشرا مع جورج بوش:
- إذا كان الشعب الأميركي يرغب في معرفة الأمور على حقيقتها، فإنني على استعداد للتحاور مباشرة على التلفزيون مع رئيس الولايات المتحدة، سأعطيه رأيي حول السياسة الأميركية، وستكون فرصة ملائمة لكي يعبر عن رأيه في سياستنا، وسيجري هذا الحوار أمام المشاهدين مباشرة، بلا رقابة وبصورة صادقة حتى يعرف هؤلاء المشاهدون الحقائق وحتى يدركوا من الكاذب ومن الصادق!
- أتقترحون حقا حوارا مع الرئيس بوش؟ وعلى التلفزيون؟
- أجل.. ذاك ما أقصده!
كان ذلك أقصى ما بلغته المقابلة من قوة، بل وقد اقترح صدام أن يدير دان راثر ذلك الحوار، فقد كان جادا، وقد فكر بالفعل في ذلك الحوار قبل المقابلة، وهو اقتراح حاذق من جانبه، فلو تحقق لصدام الحديث وجها لوجه مع جورج بوش أمام التلفزيون لكان ذلك ذروة في حياته السياسية. فقد كان مقتنعا بعدالة قضيته، كان ينادي إلى السلام بينما كان الرئيس الأميركي يعد للحرب، وبذلك يكون «صدام هو رجل السلم» ضد «بوش رجل الحرب» إن صح القول.
وبطبيعة الحال، هذا الحوار المتلفز لم ير النور يوما، ففي شهر فبراير 2003 لم يكن يحكم الأميركيين منطق الحوار بل منطق المواجهة المباشرة، ولا شيء كان سيوقف مشروعهم الحربي. في المقابلة شكر صدام دان راثر وسأله إن كان راضيا، ثم دعاه لنقاش غير رسمي، وهو الامتياز الذي لم يكن يمنحه لأحد إلا نادرا، ثم قام. وعندما أردنا أن نعقبه تدخل أحد رجال الأمن وطلب منا أن نتريث قليلا، ودخلنا إلى مكتب عادي يزينه ديكور بسيط، حيث لا يوجد به سوى طاولة وبضعة مقاعد وأريكة. كنا نتوقع أن تدوم المناقشة بضع دقائق، لكنها ظلت مستمرة لنحو الساعة تقريبا، وكان صدام قد قلب الأدوار ليصبح هو السائل والمستجوب:
- ما الذي يفكر به الشعب الأميركي عن هذه الحرب المعلنة؟ فهل سيؤيد جورج بوش؟
لكن دان راثر لم يحاول أن يتلافى أسئلة صدام، بل رد عليه صراحة:
- منذ ولادة الولايات المتحدة والأميركيون يبدون وطنية لا غبار عليها كلما قرر رئيس من رؤسائها الدخول في الحرب، فهم لا يطرحون على أنفسهم حتى مجرد السؤال إن كانت هذه الحرب عادلة أو غير عادلة، فهم يتبعون ما يقرره رئيسهم، أما فيما يتصل بالحرب المقبل، ان هي نشبت، فقد تحدث بعض المظاهرات من قبل المعارضين لكنها مظاهرات محدودة، فالشعور القومي سوف يكون شعورا كاملا وطاغيا.
واستوعب صدام الرسالة. في الظاهر أبدى تقديرا لصراحة دان راثر، لكنه مرة أخرى اكتفى برد سطحي متحدثا عن مشيئة الله والقدر.. وقد أدهشني أن يظل صدام محافظا على قناعه حتى في لقاءاته الخاصة، فقد كان خطابه في هذا اللقاء الهامشي كذلك الخطاب الذي قدمه قبل حين أمام الكاميرات. وقد عاد من جديد لذكر تاريخ العراق المجيد وبلاد ما بين النهرين، مهد الحضارات، فقد ردد قائلا:
- حتى أمام قوة الولايات المتحدة الهائلة ستقاوم لأن الله يناصرنا، وسنواجه مصائب عديدة لكن إن شاء الله سنرضى بإرادته وقضائه، نحن شعب أبي... وعسكريا نعلم أننا لا نضاهي الولايات المتحدة قوة، لكن هذا لا يعني أننا سنستسلم لهذه القوة حتما.. صحيح أن الأميركيين متقدمون عنا كثيرا على الصعيد التقني لكن التقنية هي نقطة ضعفهم أيضا، إن قوتهم قائمة على الحواسيب، والإلكترونيات لا يمكن أن تعلو على الإرادة البشرية والإلهية.
كانت الساعة قد جاوزت العاشرة والنصف مساء فاستأذناه بالانصراف، وحين وصلنا إلى درج المدخل قال دان راثر الذي رافقنا إلى مدخل القاعة:
- إني أتمنى ألا تقوم الحرب، لأنكم لن تتخلصوا من ورطتها، فالأمر هذه المرة في غاية الجدية، فكونوا حذرين!
لكن عبد حمود بدأ يسخر من نصيحة الأميركي:
- لقد سبق وأن قلتم لنا هذا العام 1991، لا عليكم، فسوف نلتقي بعد الحرب.
واتفقنا مع دان راثر على أن يذهب التقنيون مباشرة إلى التلفزيون لمزج الشريط وشطب المقاطع الزائدة في بداية الشريط وفي نهايته. وقد وعدناه بأننا سنرسل إليه النسخة النهائية في الليلة ذاتها أو عند الفجر أو بعده، فقد كان يرغب في أن ينشر مقاطع من الشريط في نشرة أخبار سي.بي.سي المسائية إيفنينج نيوز، وقد ألح في الحصول على الشريط في أقرب وقت ممكن.
لعنة اللا مسؤولية
لم أذهب إلى التلفزيون، بل توجهت إلى البيت طمعا في ليلة نوم هادئ كنت في أمس الحاجة إليه. لكن ما إن وصلت إلى المكتب في صبيحة اليوم التالي حتى رن الهاتف فسمعت على الطرف الآخر صوت مراسل سي.بي.اس في بغداد، وهو يكاد ينفجر ذعرا:
- سمان، هناك مشكلة كبيرة، فلحد الآن لم نستلم الشريط! كان دان راثر في أوج السخط وهو لا يكاد يصدق ما يجري.
وأصبت بالذهول، وبلا أي تأخر اتصلت بعلي عبدالله هاتفيا، واكتشفت أنه لم يكن على علم بأي شيء من ذلك، وطلب مني أن أحل المشكلة. وللتو اتصلت هاتفيا بالتلفزيون وعلمت أن الشريط كان لا يزال بالمونتاج، ووبخت التقني الذي رد علي قائلا:
ـ نرجو أن تفهموا عذرنا.. دكتور سمان، إننا نجد صعوبة في مزامنة الصوت بالحركة، وإني أقسم لك بالله أننا لم نتوقف عن العمل طوال الليل.
ـ لم أجد بدا من أن أخبر مراسل سي.بي.اس بأن الشريط لن يكون جاهزا في الموعد. كان دان راثر الذي كان قد غادر بغداد في اتجاه عمان ليسافر من هناك بالطائرة، ساخطا حانقا. عندئذ قررنا أن نرسل المقابلة عن طريق القمر الصناعي مباشرة إلى الولايات المتحدة انطلاقا من مقرات سي.بي.اس في بغداد.
عدم كفاءة مهندسينا هذه كانت مصدر عدم تفاهم ما بين الغربيين والعراقيين، إذ ظن الغربيون أن العراقيين قد عمدوا إلى عرقلتهم عن قصد. إن من ينظر إلى نظام صدام من واجهته يبدو له المنظر كآلة تدور بإتقان كامل، لكن هذه الآلة كانت اللا مسؤولية تنخرها من الداخل، فقد ذهب التقنيون لكي يناموا بعد أن تسلموا الشريط وهم يفكرون بأنهم سيقومون بالمونتاج في صبيحة اليوم التالي، وأن العملية لن تأخذ منهم أكثر من ساعة أو ساعتين، بينما كان كل شيء يمكن أن ينتهي في الليلة ذاتها.
لم يعلم صدام من القضية شيئا، لكن العراقيين في المقابل لم يبخلوا بتعليقاتهم في هذا الصدد، فمنهم من قالوا ان التأخر حدث لأن الأميركي أبدى وقاحة، وقال آخرون إن صدام كان أمهر وأمكر من الصحافي الأميركي ولم يقع في أحابيله.
على أي حال استطاع صدام بأدائه الأخير هذا أن يرفع عدد المشاهدين لقناة سي.بي.اس ففي المعدل كانت حصة برنامج «ستون دقيقة» التي يديرها دان راثر تستقطب في العادة نحو ثلاثة عشر مليون مشاهد، لكن عدد المشاهدين مع صدام حسين تجاوز ثمانية عشر مليونا بكثير.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الحادية عشر
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/13867-2014-12-03-20-37-32.html
650 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع