
ايلاف/في زمنٍ تتغيّر فيه الأذواق وتتبدّل المسارات الفنية، تبقى سميرة توفيق علامةً مضيئة في الذاكرة العربية، حارسةً لصوت البادية ورمزًا للفن الأصيل. لم تكن شهرتها العريضة مجرّد ثمرة نجاح أغنية أو اثنتين، بل نتيجة مسيرةٍ طويلةٍ من العطاء حملت فيها الأغنية البدوية إلى المدى الأرحب، وجعلتها جزءًا من الوجدان العربي المشترك.
في أبوظبي، وجدت الفنانة اللبنانية القديرة ملاذًا هادئًا يليق بتاريخها. لم تكن الإقامة هناك قرارًا عابرًا، بل امتدادًا طبيعيًا لمسيرتها الهادئة التي عاشت فيها للفن لا للضوضاء. فالإمارات، التي تحتضن المبدعين وتحفظ إرثهم، وفّرت لها سكنًا ومعاملة تليق بفنانة أفنت عمرها في خدمة التراث الموسيقي العربي، لتستمر حكايتها في بيئة تعرف قيمة الفن وكرامة الفنان.
وبالرغم مما يُتداول من أخبار عن ولادتها في السويداء، فقد أكدت سميرة توفيق في أكثر من تصريح أن أصولها لبنانية، وأن فخرها بانتمائها الوطني لا يقل عن حبها لكل وطن عربي احتفى بفنها. تلك الصراحة في الانتماء، مع انفتاحها الإنساني على كل الناس، هي التي جعلتها فنانةً عربيةً قبل أن تكون لبنانية أو غير لبنانية.
منذ بداياتها في بيروت، ظهرت سميرة توفيق مختلفة. لم تبحث عن الشهرة السريعة، بل عن الصوت الذي يعبّر عن الناس. كانت تغني للحياة والفرح والكرم والبادية، فصارت صورتها في الذاكرة الشعبية مرتبطة بالبساطة والعفوية والنقاء. في صوتها مساحة من الرمل والهواء، ودفء يختصر الشرق في لحنٍ واحد.
حين غنّت "أسمر خفيف الروح" من ألحان الموسيقي اللبناني توفيق بيومي، كانت كأنها تؤسس مدرسة غنائية جديدة. الأغنية لم تكن مجرد نجاح فني، بل لحظة التقاء بين الحنين والمرح، بين إيقاع الصحراء ووجدان المدن. ومع الإخوة رحباني وزكي ناصيف وملحم بركات، نسجت سميرة توفيق ذاكرة كاملة لأغنيةٍ لا تشيخ، فيها عمق البادية وأناقة الفن اللبناني.
ولم يتوقف إشعاعها عند حدود لبنان. حملت صوتها إلى المسارح الخليجية والعواصم الأوروبية، فكانت في كل حفلة سفيرةً غير رسمية للفن العربي الأصيل. لم تركض خلف الكاميرات، بل تركت للأغنية أن تتحدث عنها. ومع مرور السنوات، ازدادت مكانتها في القلوب لأنها لم تغيّر صورتها ولم تساوم على أسلوبها.
اليوم، تعيش سميرة توفيق في أبوظبي منذ جائحة كورونا، وتبدو في استقرارٍ يليق بتاريخها الطويل. قالت في أحد لقاءاتها القليلة: "أنا في الإمارات ضيفة، وأشكرهم جميعًا". عبارة بسيطة، لكنها تختصر تجربة فنانةٍ تعرف قيمة الامتنان، وتشعر بالراحة في مكانٍ يحتفي بالإنسان قبل الشهرة. وجودها في الإمارات ليس مجرد إقامة، بل شهادة حية على أن التكريم الحقيقي لا يكون بالجوائز وحدها، بل بالرعاية والاحترام.
غير أنَّ حنينها إلى لبنان لا يغيب، فهي ما تزال تحمل في وجدانها صور الطفولة وبيروت التي شهدت بداياتها. هذا التوازن بين الانتماء والاغتراب يمنح قصتها بعدًا إنسانيًا نادرًا، كأنها تقول لكل فنانٍ عربي إن الوطن الحقيقي هو حيث يجد الإنسان احترام فنه وكرامته.
تجربة سميرة توفيق تفتح باب التأمل في واقع المبدعين العرب. فكم من فنانٍ كبيرٍ طواه الإهمال في بلاده، بينما يجد التقدير في بلادٍ أخرى؟ أبوظبي لم تمنحها إقامة فحسب، بل أعادت إليها إحساس الأمن النفسي بعد مسيرة طويلة من العطاء. إنها رسالة واضحة بأن دعم الفنان ليس ترفاً، بل واجب ثقافي وأخلاقي.
من حياة سميرة نتعلم أن الإبداع لا يشيخ ما دام القلب حيًّا. في صمتها اليوم دروسٌ كثيرة: أن الشهرة زائلة، لكن الصدق الفني باقٍ، وأن الفنان الأصيل يظلّ صادقًا مع نفسه حتى وإن ابتعد عن الأضواء. في سيرتها انعكاسٌ لقيمة الوفاء، ليس وفاءً لفنها وحده، بل لكل من أحبّها ووقف معها.
سميرة توفيق ليست مجرد مطربة من زمنٍ جميل، بل رمزٌ لجيلٍ صنع هوية الأغنية العربية بصدقٍ وبساطة. وإذا كانت اليوم في أبوظبي محاطة بالرعاية والاحترام، فإن حضورها يذكّرنا بضرورة أن نحتفي بمبدعينا وهم بيننا، لا بعد رحيلهم. فالفن الأصيل لا يُنسى، وصاحبه لا يُغيب مهما طال الغياب.

705 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع