العرب/ كرم نعمة:لا يجد أي صحافي ذريعة لاستعادة المطرب العراقي قحطان العطار اليوم غير الكتابة عن الذكريات، بيد أن العراقيين يرفضون إزاحته من ذاكرتهم وولعهم بأغانيه، رغم أنه قد فرّط بفنّه وخذل الملايين من جمهوره منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وعلى الرغم من كونه بدأ القطيعة منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي مع غنائه ومع من أحبه، إلا أن أغانيه بقيت جديدة كما هي، ترفض الموت أو حتى النسيان، كما أعيد تقديمها من جديد بأصوات أكثر من مطرب من الأجيال اللاحقة.
ولأن العطار علامة تعبيرية فارقة أرّخت لتاريخ من الوله والوجع والتساؤل والعشق، لا يبدو أنه غاب أو سيغيب. فمن حسن حظ التاريخ أن يوتيوب هو مؤرخ مخلص للماضي، واليوم يتاح لأجيال لم تعش زمن العطار التعرف على أغانيه وكأنها قدمت بالأمس.
غني بفرح
على مدار السنوات الماضية قدمت العشرات من البرامج والاحتفاليات بالعطار وتاريخه الغنائي، غير أن ما يجمع كل تلك الاحتفاليات والبرامج أنها كانت خالية من العطار نفسه. رفض أن يشارك في تلك البرامج لسبب متعلق بصمته وعزلته، دعك من المعلومات المغلوطة والمبالغات التي تتعمد التهويل بقصص ممارسة دور الضحية. إلا أن السؤال الواجب إطلاقه على قحطان يغيب بتعمد أو جهل أو انقياد للثقافة الإعلامية السائدة في العراق اليوم.
مَن خذل مَن؟ هل يملك قحطان العطار سببا حقيقيا واحدا كي يخذل الملايين التي بقيت هائمة بصوته؟ أشك بذلك! كم عاشقا أرّخ لحبّه بأغنية للعطار، وكم ذكرى بقيت حيّة إلى اليوم مع تلك الأغاني.
يعترف الموسيقار العراقي محسن فرحان ملحن أغنية “يقولون غني بفرح” التي كتبها الشاعر الراحل جبار الغزي، بأنه تباهى بالأغنية أمام زوجته ليرفع من قدر الحب بينهما.
تخيّل، نحن نتحدث عن ملحن الأغنية نفسها، فماذا عن الملايين من الذين استمعوا لهذه الأغنية ورفضوا التفريط بها بوصفها تعبيرا جمعيا عما يتوق له العاشقون برمتهم.
تكاد تكون قصة هذه الأغنية مثالا للسيرة الحقيقية للعطار، وليس ما يتم تناوله من تهويل وتضخيم لهوامش لا تمت للحقيقة بصلة.
كان فرحان يقضي أمسية مع زوجته في منتزه الزوراء وسط بغداد في سبعينات القرن الماضي. وكان من عادة العراقيين آنذاك حمل مسجلات الكاسيت معهم في النزهات، بعضها يُعلق على الاكتاف. وفجأة يأتي الصوت لمسامع الملحن وزوجته “يقولون غني بفرح…”. همس فرحان بأذن زوجته: اسمعي هذا لحني المعبّر بعمق عن حبي. كانت الزوجة تدرك أنه لحن زوجها، لكن أن تأتيهما الأغنية على غفلة في هذه النزهة، هو ما يضرم المزيد من نار الحب في القلوب.
شعر الملحّن حينها بأهميته أمام زوجته، قال مرة وهو يستذكر تلك اللحظة التاريخية، بأنه شعر بقامته أطول كعاشق وملحن.
تلك واحدة من القصص التي تركها العطار في أغانيه، ويمكن اليوم للملايين من العشاق أن يرووا مثلها، إلا أنهم على مستوى آخر يسألون لماذا غادرنا العطار بينما كان المطرب المدلّل بين أبناء جيله؟
من الأهمية بمكان استذكار قصة أغنية “يقولون غني بفرح” لأنها تعرّف بامتياز بالعطار أولا، إذا لا يذكر من دون أن تكون هذه الأغنية حاضرة. ولأن التهويل السياسي الذي رافق كتابة هذه الأغنية أكبر بكثير من حقيقتها.
جبار الغزي شاعر مثّل الجوهرة الأثمن في قلادة الغناء العراقي، لكن لسوء حظه العاثر عاش حائرا بحياته، ضائعا، يشتاق لأمّه التي تركها في قرى الناصرية، بينما هو تائه في طرقات بغداد.
ومن يستمع لقصيدته “غريبة الروح” التي لحنها فرحان لصوت حسين نعمة يدرك ما معنى أن يكون الشاعر غريبا عن هذا العالم. نجحت “غريبة الروح” بصوت نعمة وما تزال الممثل التعبيري الباذخ له، مع أنها قُدّمت في مطلع السبعينات.
استثمر فرحان هذا النجاح ولحّن “غني بفرح” لصوت نعمة، وبالفعل سجّلت الأغنية وتم بثّها من الإذاعة العراقية أكثر من مرّة من دون أن تستقطب الأسماع، واليوم يمكن للسيد العظيم يوتيوب أن يقدّمها لنا بصوت مطربها الأول بوصفه مدون الحقيقة.
على مدار السنوات الماضية قدمت العشرات من البرامج والاحتفاليات بالعطار وتاريخه الغنائي، غير أن ما يجمع كل تلك الاحتفاليات والبرامج أنها كانت خالية من العطار نفسه
في الوقت نفسه تدرّب العطار على الأغنية مع فرحان وحالفه الحظ في تقديمها خلال حفلة مصورة في تلفزيون العراق آنذاك. كان أداؤه باهرا في تلك الأغنية، ومعبّرا إلى درجة جعلت العراقيين يعيدون اكتشاف العطار من جديد. كان قبلها قد قدم عددا من الأغاني من ألحان حميد البصري وكمال السيد وكوكب حمزة وطالب القرة غولي. لكن أغنية “يقولون غني بفرح” كتبت مدونة العقد التعبيري بين ألحان فرحان وصوت العطار. وهكذا نسيت تلك الأغنية بصوت مطربها الأول ونجحت أيّما نجاح بصوت العطار.
هناك قصص تهول من الدلالة السياسية لتلك الأغنية وتعزوها إلى نوع من التحدي لتعليمات أصدرها نائب الرئيس العراقي آنذاك تطالب بالتخلص من مسحة الحزن في الغناء العراقي.
قد تكون صحيحة تلك التعليمات التي صدرت آنذاك، لكن معرفة عدد المرات التي كانت تبث فيها الأغنية من الإذاعة العراقية والتلفزيون، تدحض مصداقية تلك القصة المركّبة وتتجاهل عن عمد سلطة الدولة الصارمة بقرارات المنع، فكيف بأغنية تتهكم على تعليماتها؟ لذلك يبدو ربط الأغنية بتعليمات نائب الرئيس آنذاك مجرد لعب مكشوف مع التاريخ السياسي العراقي.
ثم إن اختصار تجربة شاعرها الغزي بهذه الأغنية كتحدٍّ لدولة أهملته كشاعر، نوع من الجهل لما كتبه من أغان رائعة ومبهجة، هل تتذكرون “عل الحواجب يلعب الشعر الحرير” و”عيني يم عيون تضحك” لصوت فاضل عواد؟ ذلك هو الشاعر جبار الغزي الذي يراد أن تختصر تجربته كلها في “يقولون غني بفرح”.
لو غيّمت دنياي
استثمر فرحان نجاح أغنيته، وقدم أجمل منها لصوت العطار الذي صار يحسب على أبناء جيل السبعينات: ياس خضر وفؤاد سالم وحسين نعمة وسعدون جابر، مع أنه كان في مجموعة مثلت الظلّ لهذه الأسماء مع صباح السهل وهادي سعدون ورضا الخياط ورياض أحمد وحميد منصور وصباح غازي.
قدّما معاً أغنية “لو غيمت دنياي” التي كتبها الشاعر الراحل عريان السيد خلف، ومن ثم مجموعة أخرى من الأغاني من حسن حظ العطار أن شركة النظائر في الكويت جمعتها في أكثر من كاسيت، فوصلت إلى الجمهور الخليجي وكانت تبث من الإذاعات الخليجية. وهكذا أصبح الصوت المدلّل في الغناء العراقي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي.
وعندما أتيح له السفر لإقامة حفلات للجالية العراقية في الولايات المتحدة، كان من بين كبار مطربي ذلك الوقت، إلا أن العطار بقي هناك بينما عاد بقية المطربين.
بقيت أغانيه العلامة المميزة في الإذاعة العراقية والتلفزيون مع أنه صار يعيش في الولايات المتحدة، حتى أن برنامج “مطرب اليوم” الذي كان يبث ظهر كل يوم من إذاعة بغداد، لا يمرّ أسبوع أو عشرة أيام من دون أن يكون العطار مطرب ذلك اليوم فيه، حيث يخصص له بحدود الساعة لبث مجموعة من أغانيه.
العودة إلى بغداد
أغاني العطار تظلّ جديدة كما هي، ترفض الموت أو حتى النسيان، يعاد تقديمها من جديد بأصوات أكثر من مطرب من الأجيال اللاحقة، على الرغم من أنه بدأ القطيعة منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي مع غنائه ومع من أحبوه
بعد ما يقارب الأعوام الخمسة قضاها العطار في أميركا، عاد إلى بغداد عام 1979 وكان المحتفى به من جديد. خصصت له السيدة خيرية حبيب في برنامجها الأسبوعي آنذاك “عدسة الفن” الذي كان يعده الراحل خالد ناجي، مساحة تلفزيونية ابتهج بها العراقيون بعودة الصوت الذي كان يجمعهم ولها وعشقا.
كان العطار صديقا لحارس مرمى نادي الطيران والمنتخب العراقي كاظم شبيب، وتحوّل بعدها صديقا لكل نجوم المنتخب العراقي لكرة القدم آنذاك وطالما سجل حفلات بحضورهم انتشرت على أشرطة الكاسيت.
وتكاد اليوم نخبة من الأحياء من أولئك اللاعبين أن تكون شاهدا صادقا على تجربة العطار بعد عودته إلى العراق، وسبب هجرته لاحقا وخذلان جمهوره في رحلة اللاعودة للغناء مرة أخرى. سبق وأن كشف اللاعب السابق ومدرب المنتخب الوطني الراحل ناظم شاكر جزءاً من تلك الحقائق في حوار تلفزيوني. وأرى أن الحارس شبيب كان الأقرب للعطار وقادرا على أن يكون شاهدا على التاريخ.
عاد من ميشيغان إلى بغداد ودارت معه الأغنية العراقية من جديد، لكن قدر البلاد الدامي أنها لا يمكن أن تتوقف عن ذرف الدموع، منذ أن رثى ذلك السومري ابنته القتيلة.
بدأت الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980 وكان للغناء العراقي قدر أن يكون حاضرا بقوة الجنود. فظهر على التلفزيون المغني العاشق السابق كجندي ببدلة عسكرية في “قادسية صدام”!!، وهو يغني “راح ألبس هدوم الجيش وألحق أخوي إلى وحدته” التي كتبها الشاعر كريم راضي العماري، ومن ثم “عراقيين وكلنا نحمي هذه الكاع” التي كتبها الشاعر الراحل كريم خليل. أنشودتان وطنيتان من ألحان الموسيقار الراحل طالب القرة غولي أحبهما العراقيون مثلما أحبوا “غني بفرح” و”لو غيمت دنيا” و”يا ضوى ولايتنا”، ثم أنشودة “ياحلاوة الانتصار” التي كتبها الشاعر غازي ثجيل ولحنها الموسيقار الراحل ياسين الراوي، وبعدها أنشودة “الحرس الجمهوري” المشتركة مع حسين نعمة ورياض أحمد وياس خضر.
من المفارقات أن أنشودة “عراقيين” سرقها أحدهم وقدمها في الإذاعة الليبية بعد أن غيّر مفردة عراقيين إلى ليبيين. كانت تبث تلك الأنشودة كواحدة من الأناشيد الوطنية الليبية. وعندما استمعت لها لم أُفاجأ كثيراً، لأن جمالية الأنشودة ولحنها كانا مغريين على السرقة، فضلا عن سهولة تغيير بعض المفردات من عراقيين إلى ليبيين.
هجرة اللاعودة
فما الذي حصل بعدها كي يتحول العطار وكأنه الضحية الوحيدة بين العراقيين، بينما هو في حقيقة الأمر كان المطرب المدلل، في وقت بإمكان كل العراقيين آنذاك القول كنا ضحايا؟
سُمح للعطار، بينما الحرب مستعرة في سنينها الأولى من ثمانينات القرن الماضي، بالسفر من دون غيره من الفنانين والمواطنين الذين منعوا من السفر تحت وطأة ظروف الحرب.
نشرت جريدة الجمهورية البغدادية آنذاك خبراً عن سفر العطار إلى الكويت، وكانت المفاجأة لغيره من الفنانين الذين نسوا أغانيهم العاطفية وهم يطلّون علينا ببدلاتهم العسكرية في أناشيد حماسية.
بقي على مدار عقد الثمانينات في الكويت، واستمرت أغانيه العاطفية بالبث من الإذاعة العراقية، وكان من حسن حظه أن يكون قريبا من الشاعر الكويتي الراحل فايق عبدالجليل، فاختار أن يعيد لحن الموسيقار محمد جواد أموري لأغنية “أنت أنت” التي سبق وأن أدّاها حميد منصور، ثم تعاون مع عبدالجليل في أغنية أخرى ما زالت إلى اليوم محملة بالتساؤل المرير “متى الجية” التي لحنها الفنان المصري الراحل سعيد البنا بحس عراقي فائق التعبيرية.
مئات الآلاف من العراقيين يعيشون اليوم لاجئين في البلدان الأوروبية والعالم بعد عقد التسعينات الدامي، ومثلهم العطار الذي لجأ إلى الدنمارك، يغني بينه وبين نفسه وفي جلسات منازل الأصدقاء، بنفس الحسّ التعبيري الباذخ
ومن السهولة بمكان لمن عاش عقد التسعينات أن يستذكر ما بقي من سيرة العطار منذ عام 1990 وأحداثه العاصفة التي كسرت الجغرافيا وهزت التاريخ. فقد لجأ مثل مئات الآلاف من العراقيين إلى البلدان الأوروبية، وعاش لاجئا في الدنمارك منذ ذلك الوقت، يغني بينه وبين نفسه وفي جلسات منازل الأصدقاء، بنفس الحسّ التعبيري الباذخ الذي كان يؤدي فيه أولى أغانيه.
عندما أستمع له يعيد رائعة أموري والشاعر كاظم الرويعي لصوت فاضل عواد “كلمة حبيبي انتهت” أشعر مثل غيري من العراقيين بالخسارة الفادحة التي تكبّدها الغناء العراقي والخذلان الذي سببه العطار لجمهور رفض إلى اليوم التفريط بحبه له.
العطار لم يكن ضحية سياسية كما تزعم برامج تلفزيونية وكتابات كثيرة تعبر فوق الحقيقة. كان جزءاً مما كان قائما آنذاك، ولا يمكن له التبرؤ من تاريخيه الفني والشخصي بمطالبة بعض الذين ينشرون أناشيده الوطنية على فيسبوك بحذفها.
يمكن العودة إلى تصريح فرحان الذي بقي أقرب الناس إليه، لنكتشف جوهر الحقيقة الغائبة بقوله في برنامج تلفزيوني “لم تكن لقحطان مشكلة سياسية مع النظام آنذاك وسافر بشكل طبيعي”. هذا الكلام يفند بشكل جازم ممارسة دور الضحية الذي يحب أن يلعبه بعض العراقيين.
لم يجب العطار على كم هائل من الأسئلة تعاد كلما أعيدت واحدة من أغانيه بصوت شاب اليوم، مثلما يسأل فتى والده عن هذا المطرب الوسيم الذي تعيد بعض القنوات الفضائية العراقية بث أغانيه بألوان شاحبة، من هذا وأين هو الآن؟ يحتار الأب وينظر إلى زوجته مستذكرا معا أغنية جمعت عشقهما معا، تماما مثلما تباهى فرحان أمام زوجته بأنه ملحن “يقولون غني بفرح”.
قحطان العطار يعيش اليوم عزلته الشخصية، وهذا خياره الذي علينا أن نحترمه جميعا، لكنه في الوقت نفسه مطالب بتفنيد كل القصص التي تجعل منه ضحية، والاعتراف بأنه خذل الملايين من العاشقين ولها بصوته.
https://www.youtube.com/watch?v=asEgjaDdBrU
448 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع