اسرار التشكيل السري في جيش العراق
هذه قصة جيش العراق.. قصة الثورة التي سرت في قلوب الضباط والجنود خلال 17 سنة. والتشكيلات السرية لخلايا الضباط الاحرار. واليمين التي اقسمها الضباط على المصحف امام «كريم» على الكتمان والفداء.. والخطة التي وضعت لمواجهة احتمالات العدوان المسلح من اي اتجاه.. القصة بكاملها كما كتبها من بغداد:
وفي ومضة خاطفة اذهلت الدنيا..
كان كل ضابط وكل جندي في جيش العراق ينتفض في ثورة الحرية ويساند الطليعة المتقدمة التي احتلت بغداد.. وبنفس السرعة اتجهت قوات الموصل الى عين زالة واحتلت منشآت البترول هناك وبقيت تحرسها من تخريب الايدي الخفية..
وفي ذات الساعة كانت قوات البصرة تتجه الى الزبير وتسيطر على حقول البترول هناك وتقف في ميناء الفاو على اهبة الاستعداد، ومع هذا التوقيت كانت هناك قوات اخرى تتجه الى الحبانية وتأخذ مكانها بجوار القاعدة الكبيرة لكي ترقب مجرى الاحداث..!
خلال ساعة واحدة
حدث كل هذا في ساعة واحدة من الثامنة الى التاسعة صباحا وفي تنظيم مذهل..
كانما كانوا على ميعاد مع اللواء التاسع عشر الذي دخل بغداد..
كأنما كانت كل وحدات الجيش تعرف خطة الضباط الاحرار للثورة في 14 يوليو..
كأنما جلسوا ووضعوا خطة كاملة في هدوء تام في رئاسة العمليات تحت سمع الحكومة وبصرها وانطلقوا ينفذونها بدقة واحكام..
كأنما لم يكن هناك نوري السعيد وعبد الاله وجواسيس نوري السعيد وعبد الاله وعيونهم التي لا تغفل ولا تنام وتراقب كل حركة وكل همسة!
بداية التشكيل
ماهو السر اذن؟ ماهي حقيقة تشكيلات الضباط الاحرار؟
كيف ابلغت التعليمات الى الوحدات؟
كيف خدع ضباط العمليات اعوان نوري السعيد؟
كيف تمت تعبئة القوى في الجيش من اوله لآخره وشحنها للثورة؟ كيف كانوا يقسمون اليمين مع «كريم»؟
ان القصة طويلة في تاريخها.. عجيبة في ظروفها.. مثيرة في تفاصيلها..
ان قصة الثورة في جيش العراق لم تبدأ منذ عامين او ثلاثة وتشكيلات الضباط الاحرار وخلاياهم لم تنظم خلال شهر او شهرين. ولكن الحقيقة الكبيرة هي: ان خلايا الضباط الاحرار بدأت تتشكل في الجيش العراقي بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني بعام واحد!
النظرات تتحول الى همس
كانت الدماء الوطنية مازالت تلتهب في العروق..
وكانت صور الشهداء وهم معلقون في المشانق مازالت تتأرجح امام العيون. وكانت الآمال العظيمة التي عقدت على ثورة 1941 للتخلص من الاسرة الهاشمية والانجليز ونوري السعيد مازالت تشع في الصدور..!
وبدأ ضباط الجيش العراقي ينظرون الى بعضهم في البداية.. كل واحد يريد ان يقول شيئا في صدره لصديقه او لزميله او لرئيسه ولكنه لا يريد ان يكشف عن الخطة..
كل واحد ينتظر اشارة من القائد لكي ينطلق على الفور في ثورة جديدة وتشجع بعضهم واخذوا يتهامسون وتحولت النظرات الى همس خافت واحس كل واحد منهم انه ليس وحده الذي يريد ان يتكلم ويقول شيئا ولكن هناك عشرات غيره عندهم اشياء!
وبدأ الجيش يغلي من جديد في سنة 1946. وشعر عبد الاله ان البركان بدأ يتحرك ولم ينتظر وانما رسم حركة تنقلات واسعة النطاق في كل الوحدات وبعثر الضباط في ارجاء العراق واحال جزءا منهم الى الاستيداع وكانت اول حركة تطهير يقوم بها عبد الاله بعد حركة التطهير من ثورة الكيلاني..!
لقاء في فلسطين
وجاءت حرب فلسطين في سنة 1948 ـ وكانت نقطة البدء ـ للعمل الكبير. فقد سافرت الوحدات الاساسية من جيش العراق الىهناك ـ وكان بينهم وحدة يقودها عبد الكريم قاسم ـ ووجد الضباط انفسهم لاول مرة خارج النطاق الحديدي الذي كان مضروبا حولهم في العراق..
وكان اول واحد هو عبد الكريم قاسم نفسه.. فقد جمع ضباطه الشبان واخذ يحدثهم عن الوطنية والاستشهاد في سبيل الرسالة المقدسة التي يحملها الجيش على كتفيه باستمرار.. وقال لهم: اننا في الميدان الان نقاتل من اجل الوطن العربي الكبير..
ووصل هذا الكلام الى مخابرات عبد الاله..!
وغضب الوصي ـ وقتها ـ وقال:
ـ كيف يتكلمون عن الوطن، ولا يتكلمون عن الاسرة الهاشمية ومآثرها؟
واصدر عبد الاله ـ بصفته القائد الاعلى للجيش ـ امرا عسكريا بأن يكون موضوع الحديث الى الجنود والضباط باستمرار عن الاسرة الهاشمية ودورها الوطني من اجل العرب..!
وانتهز الضباط الفرصة واخذوا يهاجمون الاسرة الهاشمية بطريق غير مباشر..
وقال لي احد الضباط الاحرار:
ـ لقد كانت حرب فلسطين هي الشرارة المباشرة التي اشعلت الثورة في نفوسنا.. كنا نرى الجيوش العربية الاخرى تقاتل من حولنا، ونحن واقفون نتفرج.. وبدأنا نتساءل عن السر وتكشفت لنا صورة الخيانة كاملة بعد ذلك، حينما انسحب الجيش الاردني من اللد و الرملة.. وكشف جناح الجيش المصري للاسرائيليين. وشعرنا انها خطة مرسومة... وعدنا من حرب فلسطين وفي نفوسنا مرارة ودوافع للانتقام.
خطة التشكيل
وقال لي ضابط اخر: لقد كانت حرب فلسطين فرصة كبيرة لنا لكي نعيد تنظيم صفوفنا من جديد وبالفعل شهدت رمال فلسطين اجتماعات خاطفة بين الضباط الذين اتفقوا على هدف واحد. وفي بعض الاحيان كانت تتم لقاءات عابرة بينهم في سيارات الجيب او اثناء التفتيش على المواقع.
وحينما عاد الجيش من الحرب كانت الخطة موضوعة على اساسين:
*الاتصال بالضباط الكبار في الجيش ـ اصحاب الرتب الكبيرة ـ وجس نبضهم ومحاولة ضمهم الى التشكيلات.
*خلق الوعي الثوري بين الضباط الصغار ـ الذين تخرجوا حديثا ـ واعدادهم للثورة بحيث يكونون على استعداد في اي لحظة عند العمل الحاسم وهكذا وضعت الخطة الاولية، وهكذا مضى تنفيذها..!
ومضت السنوات تتلاحق بعد ذلك والتشكيل يكبر ويكبر..
اليمين امام كريم
وكان «كريم» ـ عبد الكريم قاسم كما يسميه الضباط الاحرارـ يقابل الضابط الكبير الذي ينضم الى التشكيل ويقسم معه اليمين.
وقد روى لي احد الضباط الاحرار، قصة انضمام واحد من هؤلاء الضباط الى التشكيل. وقال:
ـ كنت اعرفه من ايام الكلية الحربية وكان استاذي فيها سنة 1936، وكان دائما ابدا يكلمنا عن الوطنية في كل درس وتذكرته بعد ان نظمنا انفسنا. وذهبت اليه في البيت، وأخذت اتكلم معه كلاما عاديا، ولكن عيوني كانت تنطق بحقيقة ما ينفعل في نفسي.. وفجأة وجدته يقول لي:
ـ أسمع.. انا اعرف ما يجول بخاطرك.. انا ايضا اريد ان اقول لك ان عندي نفس الشعور..!
وبدأنا نتكلم بصراحة..
ولا تتصور فرحتي ساعتها، فقد كان في منصب كبير يساعدنا على تغطية الحركة.
وقمت على الفور الى التليفون وطلبت «كريم» في البيت، وقلت له الخبر ـ بالشفرة ـ لان تليفونات كبار الضباط كانت مراقبة..
واخبرته اننا سنجيء لنشرب الشاي عنده..
واخذت معي الضابط الكبير وذهبنا الى «كريم» في البيت وشربنا الشاي وقام كريم واحضر المصحف..
وقام الضابط الكبير ـ بعدها ـ واقسم اليمين على الكتمان والاستشهاد من اجل الحركة وكسبنا ضابطا جديدا في صفوفنا..!
نقطة تحول
كانت سنة 1952 نقطة تحول حاسمة في تنظيمات الثورة داخل الجيش العراقي وتأكد الضباط الاحرار من نجاح خطتهم بعد ان نجحت ثورة الجيش في مصر، واشتدت عزيمتهم، وصمموا على المضي في طريقهم حتى النهاية، وكانت ثورة 23 يوليو في ذات الوقت جرس الخطر الذي دق بعنف في قصر الرحال ونبه عبد الاله الى طورة الموقف..وجمع نوري السعيد كل الجواسيس والاعوان وقرروا مواجهة الحالة..!
ازدادت العيون المبثوثة في كل مكان حول ضبط الجيش الذين عاشوا ثورة سنة 1941!
اعيد توزيع وحدات الجيش في الموصل والبصرة وبغداد، بحيث لا تبقى أي قوات للمشاة في بغداد او قربها..!
رفع عدد لواء الحرس الملكي ـ اللواء الخامس والعشرين ـ وتم تسليحه باحدث الاسلحة، وسحبت الذخيرة من مخازن الجيش ووضعت تحت الحراسة الشديدة، ونقل جميع الضباط الخطرين والمشتبه في امرهم الى منراكز بعيدة في اقصى الجنوب او في ادنى الشمال..!
مناورات بلا هدف
ولم يكتف عبد الاله ونوري السعيد بذلك، وانما قرروا شغل كل الالوية في مناورات دائمة خارج المدن..
وقد قال لي احد الضباط الاحرار:
ـ ان المناورات كانت بلا هدف وبلا خطة، كل ما في الامر هو انهم كانوا يريدون ابعادنا في الصحراء اطول مدة ممكنة، وتحويل تفكيرنا عن الاهداف الجارية في المنطقة العربية..
ولكن الذي حدث هو العكس.. كنا ننتهز الفرصة ونستمع الى «صوت العرب» في الصحراء بعيدا عن محطات التشويش الموضوعة داخل المدن وعن عيون الرقباء.
وكنا ننظم انفسنا ونلتقي في الخنادق وفي المواقع، ونعقد اجتماعاتنا ونبلغ اوامرنا السرية على هذه الصورة..!
اسرار الاجتماعات
ولم تكن الاجتماعات السرية للضباط الاحرار تتم على شكل واحد، ولم يكن يحضرها نفس الضباط في كل مرة.. ولكن الاعضاء كانوا يتغيرون في كل اجتماع، ويحضره ضابط واحد عنده فكرة عما تم في الاجتماع الذي سبقه.. وهكذا..
وكان الهدف من ذلك هو الا نترك اية فرصة لجواسيس عبد الاله حتى نقع بين ايديهم، حتى ولو كانوا بيننا في الاجتماع، وكان الهدف ايضا هو الا نثير شكوك المخابرات التي تراقبنا..
اما مكان الاجتماعات فقد كان يتغير باستمرار..
مرة يتم الاجتماع ـ مثلا ـ في مقهى على الطرف البعيد لنهر دجلة خارج بغداد..
ومرة ثانية يعقد الاجتماع في حفلة شاي عادية في بيت احد الضباط..
ومرة ثالثة ـ وهذا هو الاهم ـ يعقد الاجتماع في لقاء عابر على الطريق الى كركوك او البصرة في سيارات الضباط الاحرار الخاصة!
وكانت نتائج الاجتماعات تبلغ اولا بأول الى رأس التشكيل عن طريق الخلايا الهرمية..
امام وزارة الدفاع
وبالمناسبة هناك نقطة هامة في تشكيل الضباط الاحرار، وهو ان كل خلية تعتبر مستقلة بذاتها، ولا يعرف اعضاؤها سوى رئيسهم في الخلية، ولا يعرفون باقي الخلايا في الوحدات الاخرى
لدرجة ان احد الضباط الشبان شاهد عبد الكريم قاسم قبل الثورة بعشرة ايام امام مبنى وزارة الدفاع، يصافح اللواء عمر علي قائد الفرقة الاولى ـ المعتقل الآن ـ باحترام زائد وتصور الضابط ساعتها ان عبد الكريم قاسم من اتباع عبد الاله في الجيش، ولم يكن يدري السر المقصود. وذهب غاضبا الى رئيس الخلية وقال له: كيف يفعل ضابط كبير مثل ذلك؟
وفرح رئيس الخلية حين سمع الحكاية و لكنه ابدى غضبه وقال: انه يريد ان يعيش، ولا تطلب من كل الناس ان يكونوا مثلك..!
وكانت اروع مفاجأة بعد ذلك بأيام حينما عرف الضابط الشاب ان عبد الكريم قاسم الذي انحنى بأدب امام عمر علي هو نفسه قائد الثورة والرئيس الكبير للخلية التي كان فيها..
للتغطية
وليس هذا فقط هو ما فعله الضباط الاحرار لتغطية تحركاتهم وبث الطمأنينة في نفوس الجواسيس..
كانوا لايتكلمون ابدا.. ولا يتناقشون ابدا.. ولا يثورون ابدا..
وكان اعوان عبد الاله يعرفون ذلك فكانوا يتعمدون اثارة أي واحد منهم بكافة الطرق..
وفي احدى المرات فقد احد الضباط الكبار أعصابه في احدى الحفلات الخاصة واخذ يلعن الاسرة الهاشمية، وكانت النتيجة ان نقل من رئاسة اللواء وبعثر اللواء نفسه في كل مكان، وابعد الضابط الذي كان يرافقه الى البصرة..
وفي مرة اخرى حضر احد الضباط الاحرار حفلة عشاء لوداع احد اقاربه المدرسين الوطنيين المنقولين الى الموصل وقبل نهاية الحفلة مال المدرس على اذن الضابط وهمس: لقد سمعت ان هناك حركة في الجيش..! وسقط قلب الضابط وخاف ان ينكشف امر التشكيل الثوري فقال له: ابدا.. نحن مخلصون لذات الملك.. ولا اعتقد ان هناك احدا يجرؤ على عمل شيء..! وتبرم الرجل ومط شفتيه وقال:
ـ ماكو رجل في الجيش..!
(يقصد ما في رجل)..!
مؤتمر عمليات
وقد روى احد الضباط ايضا سر احد الاجتماعات الهامة التي كانت في وزارة الدفاع بين الضباط الاحرار بدون ان يلتفت احد اليها وقال:
ـ لقد ذهبت في يوم لمقابلة العقيد عبد الوهاب الامين، ومعرفة اخر الاخبار وكان وقتها مديرا للعمليات الحربية في الجيش. ولم اجده في مكتبه. وقالوا لي انه مع الزعيم ناجي طالب ـ وكان وقتها قائدا للواء الخامس عشر ـ ووجدت النور الاحمر على باب غرفة العمليات، واستمر المؤتمر ثلاث ساعات واطمأن خاطري ولم أنتظر، وانما عدت بسرعة الى اخواني في الوحدة، وطمأنتهم وقلت لهم: ان الطبخة استوت..!
وكان هذا الاجتماع في ظاهره يعني اوامر التحركات للواء الخامس عشر، وطريقة تنفيذها كما صدرت من رئيس الاركان..
وفي باطنه يخفي اجتماعا سريا لتبادل وجهات النظر على الخرائط في طريقة تنفيذ الثورة..
قصة اللواء 15
وعلى هذا الحال مضت الشبكة السرية تعمل في صمت وهدوء..
كان هناك ضباط في المخابرات يحجزون التقارير المقدمة التي تكشف سر الضباط الاحرار قبل ان تصل الى الرئاسة ويبلغون الخطط المضادة اولا باول الى التشكيلات الاخرى حتى تأخذ حذوها..
وكان هناك ضباط في رئاسة العمليات ومهمتهم ان يوفقوا بين خطة الثورة وبين تحركات الالوية المختلفة ومرورها عبر بغداد. . والاهم من ذلك تمكن هذا الضابط الحر من تنسيق كافة اعمال وخطط مجلس قيادة الثورة بالشكل الملائم لخطة الثورة مع اعمال وخطط حكومة نوري السعيد دون ان تكشف حكومة السعيد حقائق الامور.
وكان هناك شرطيان اساسيان يجب توافرهما لتنفيذ الخطة على الفور:
*وجود الملك وعبد الاله ونوري السعيد وغازي الداغستاني ورفيق عارف وآخرين غيرهم في بغداد في وقت واحد.
*مرور اي لواء من الوية الجيش في العاصمة او تحركه قربها في نفس الوقت.
وكادت الخطة تنفذ يوم 9 ابريل الماضي..
فقد صدرت الاوامر الى اللواء الخامس عشر الذي يقوده الزعيم ناجي طالب ـ وزير الشؤون الاجتماعية الآن ـ بالتحرك في الحال الى منطقة جلولاء على بعد 80 كيلومترا شمال بغداد وفرك الضباط الاحرار ايديهم فقد جاءت الفرصة ورسمت الخطة على اساس ان يطبق اللواء مرة واحدة على بغداد. ولكن في آخر دقيقة الغي تنفيذ الخطة وتأخرت الثورة حيث ظهر ان عبد الاله سافر بطائرة خاصة الى تركيا..!
وكان معنى قيام الثورة وعبد الاله خارج العراق هو ان تصاب بنكسة مضادة مثل النكسة التي حدثت في سنة 1941.
وكان معنى افلات اي واحد من هؤلاء الخمسة خارج العراق هو التدخل الاجنبي المسلح ضد الثورة او احداث فتنة في صفوف الجيش!
اوامر بالاذاعة
وبدأ الضباط الاحرار بعد ذلك يبحثون طريقة ابلاغ الاوامر الى الوحدات المنتشرة في طول البلاد وعرضها عند تنفيذ خطة الثورة..
ووجدوا من الصعب ابلاغها باللاسلكي او بواسطة الرسائل الشفرية لانها سوف تضبط في الحال وتنكشف قبل تنفيذها.. واتفقوا في النهاية على ان تبلغ الاومر الى كافة الوحدات عن طريق الاذاعة.. وصدرت التعليماتا الى رؤساء الخلايا عند اقتراب التنفيذ في شهر يوليو ان يرهفوا آذانهم الى الراديو باستمرار وينتظروا الاوامر في اي لحظة بالليل او بالنهار..!
وكان هذا هو ما حدث بالضبط في قاعدة الشعيبة الجوية جنوب البصرة. ونفس الخطة التي نفذت في هذه القاعدة الجوية، نفذت في باقي الوحدات والاسلحة..
وحكى لي المقدم الطيار محمد ناصر الكسار قصة الخطة وقال: عرفت من قيادة التشكيل ان الموع ديقترب وان اول شيء سوف ينفذ في الخطة العامة هو الاستيلاء على الاذاعة لاصدار التعليمات منها وجاءني امر سري من القيادة بعد ذلك يقول (استعدوا وانتظروا التعليمات)!
قصة من الثورة
وبالفعل بقيت في القاعدة لا اغادرها بالليل او بالنهار..
ولكي ابرر موقفي امام الرؤساء ولا اثير الشكوك حولي اذعت اننا نواصل التدريب استعدادا لاستقبال الطائرات النفاثة الجديدة القادمة الينا ومرت الايام بطيئة متثاقلة ومضى يوم 5 يوليو بلا شيء.. ثم جاء يوم 11 يوليو ثم..
فجأة فتحت الراديو صباح 14 يوليو وسمعت صوتا اعرفه جيدا ـ صوت عبد السلام عارف ـ وقفزت من مكاني وقلت: الحمد لله.. نجحنا!
واخذت المدفع الرشاش في يدي ولم انتظر حتى اسمع باقي الاذاعة ولكنني جمعت الطيارين والجنود ووزعت عليهم الاسلحة واخبرتهم بقصة الثورة..
واسرعنا الى بيوت الضباط الخمسة الكبار في القاعدة وتحفظنا عليهم وفي لحظات سيطرنا على القاعدة وانزلنا علم الاتحاد الهاشمي..
وارتفع العلم العراقي وتم كل شيء في لحظات..
ولكن كانت هناك خطوة اخرى هامة. كان علينا ان نراقب الاتصالات اللاسلكية بين المطارات الاخرى ونطمئن الى سيطرة الثورة على قواعد الحبانية والرشيد والموصل..
وبدأت غرفة اللاسلكي عندنا تراقب الرسائل المتبادلة بين المطارين وبعد لحظات جاءني الضابط المختص واعطاني امرا من قاعدة الحبانية بان تنطلق دوريات مستمرة من الطائرات العراقية فوق الخليج العربي لمراقبة الطائرات الانكليزية والمدمرات المرابطة في مواجهة الكويت.
وكان الامر موقعا من القائد الجديد عارف عبد الرازق وعرفت ساعتها اننا نسيطر على سماء العراق!
جرح في كل قلب
وحينما ذهبت اجول بين قوات اللواء الخامس عشر الذي تقع على عاتقه اخطر مهمة في جنوب البصرة وقف العقيد عبد المجيد على الامر الجديد لقواته يقول لي وأصبعه تشير الى الحدود الجنوبية للعراق: لقد ا ستفدنا من اخطاء سنة 1941 ووضعنا في حسابنا ايضا احتمالات العدوان الغادر ووزعت قوات الجيش العراقي بحيث يمكنها مواجهة هذه الاحتمالات.
وسكت الرجل قليلا ثم عاد يقول: ان الجيش العراقي مجهز بأحدث الاسلحة وقد اصبحت لدينا فرقة مدرعة كاملة من الدبابات الثقيلة طراز السنتوريان وهي ذاتها المستخدمة في الجيش الانكليزي الآن ولدينا ايضا مدافع ثقيلة وكان نوري السعيد قد اذاع ان الجيش العراقي اصبح مسلحا بالمدافع الذرية التي تطلق (رؤوس قنابل ذرية) ولكن الحقيقة انها كانت شحنة من المدافع الثقيلة وانطلقت ابواق نوري السعيد تستغلها للدعاية لحلف بغداد!
وقد سمعت نفس المعاني ونفس الكلمات الجريئة من كل ضابط في الجيش العراقي..
كلهم كانوا يقولون لي: اننا لن نؤخذ على غرة في هذه المرة ولكننا سوف نقاتلهم حتى آخر قطرة من دمائنا.
وكلهم كانوا يقولون: ان في كل بيت ضحية لارهاب نوري السعيد ولكل ضابط قريبا او اخا عذبه الاستعمار واعوانه ولهذا لم يكن غريبا ان تجد دعوة الثورة هذا الالتفاف بين صفوف الضباط.. وتلتقي حولها القلوب والآمال مرة واحدة!
وهناك مثلا ضابط اسمه (العقيد حسن صبري بعقوبة) ابوه الزعيم محمد علي بعقوبة اخرجه الانكليز من الجيش سنة 1926 لانه رفض ان يتعاون معهم واخوه الاكبر اشترك في ثورة سنة 1941 ونفاه عبد الاله الى جنوب افريقيا واخوه الاصغر طيار استشهد في حرب فلسطين سنة 1948.
ويمضي الضابط يقول: اما انا فقد كنت انوي ان اخرج من الجيش في نهاية هذا العام لانني ما عدت احتمل ارهاب نوري السعيد..!
عمر الجيش
وليس هذا الضابط وحده.. ولكن هناك آلاف غيره ـ في قلوبهم جرح عميق وفي نفوسهم ذكريات اليمة ـ وكانت كلها تغلي وتفور في انتظار اللحظة الحاسمة!
وحينما تسأل اي صحفي في جيش العراق الآن: كم عمر هذا الجيش!
يقول لك على الفور: احسبه من 14 تموز..!
محمد وجدي قنديل / مجلة اخر ساعة تشرين الاول 1958
1284 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع