ذكريات من القادسية الثانية ودورة تدريب في اسبانيا

   

ذكريات من القادسية الثانية ودورة تدريب في اسبانيا

  
                بقلم / الصقر
                     19/2/2015

الحاقاً بمقالاتي السابقة المنشورة في مجلة الكاردينيا الثقافية تباعاً آخرها  ذكريات من القادسية في  20 كانون اول(ديسمبر) 2014 واستكمالا لهذه السلسلة من المقالات  ادرج لكم سادتي واعزائي القراء هذا المقال.

الترقية والتهيؤ للسفر الى اسبانيا
انتهى عام 1981وكل ما مر به من احداث لنباشر عاماً جديداً  باول طلعة طيران تدريبية في 2 كانون ثاني(يناير) في السرب 31 بجناح طيران الجيش الاول بكركوك مع الشهيد النقيب الطيار محمود راضي جعفر ( استشهد في معركة الفاو 1986 ). وهو ما درجنا  عليه في تنفيذ الطلعات التدريبة  ومحاضرات ودروس الطيران رغم استمرار الحرب،ادى ذلك الى زيادة كفاءة الطيارين وادامة معلوماتهم النظرية والعملية .
مساء يوم 5 كانون ثاني  تلقيت اتصالا هاتفياً  من مقر مديرية طيران الجيش ، كان المتصل العقيد الطيار  ( ع. خ ) يبلغني  بترقيتي الى رتبة مقدم طيار  مهنئا لي ترفيعي المبكر وذلك بسبب منحي قدماً ممتازاً في معركة البسيتين الشهيرة والادوار المشرفة التي قام بها فرسان السمتيات في هذه المعركة في العمق الايراني وقد  جرى ذكرها في مقال سابق،جعلني هذا الترفيع متقدماً على اقراني بثلاث سنوات.شكرت السيد العقيد على اهتمامه وتفضله بابلاغي الترقية ، وبدأت اتلقى التهنئة من منتسبي الجناح وعلى رأسهم آمر الجناح وآمر السرب . لم يكون هناك من يحمل هذه الرتبة في طيران الجيش الا عدد قليل واغلبهم في مقر المديرية ، وكذلك من منتسبي جناح طيران الجيش الاول في كركوك . و اعلى رتبه هي لآمر الجناح العقيد الطيار ( ابو زينب )، بحثت عن امر السرب الرائد الطيار (ج .ع . م ) لامر هام لكني لم اجده وايقنت قد يكون هناك سبب لتغيبه  
في صباح اليوم التالي 6 كانون ثاني 1982( عيد الجيش) ومع  بدأ الدوام الرسمي توجهت الى مقر السرب لاجد آمر السرب الرائد الطيار ( ج. ع . م ) ينتظرني ليخلع رتبتي القديمة ويضع بدلها الرتبة الجديدة . وتبين ان سبب تغيبه  مساء امس هو ذهابه الى قاعدة الحرية (كركوك) الجوية  وجلب معه رتبة مقدم قوة جوية من احد الضباط  ليقلدني اياها صباحا دون ان يخبر احد ، لعدم توفرها في جناح طيران الجيش الاول K1 . ومصادفة انتهاء  الدوام الرسمي لحوانيت الجيش ، فكانت التفاتة رائعة ومعبرة عن مدى التلاحم بيننا رغم اني قد تجاوزته في الرتبة .

         

صباح يوم 7كانون ثاني ورد كتاب مديرية طيران الجيش بالحاقي ومعي اربع  من ضباط السرب الى مديرية طيران الجيش لغرض اكمال اجراءات الايفاد الى اسبانيا للمشاركة في دورة على طائرات سمتية  جديدة  نوع (BO 105 ) ، وطيار  خامس من اسراب طائرات ( مي8 ) هوالنقيب  الطيار الشهيد محمود عبوش ( استشهد  في قاطع سميل  1991 )،وكنا  والرائد الطيار ( ع . ر . ج ) معلمي طيران والاخرين النقيب الطيار ( س. ف . ج ) وهو الطيار الذي اصيب في يوم السمتيات وشاركني معركة الشيب والتي كرمنا بها بسنتين قدم،والنقيب الطيار ( ا . م . ل )وهو الطيار الذي انزل العلم الايراني من الميناء العميق وشاركني في المجلس التحقيقي الذي اشرت اليه في مقال سابق  وكاد ان يعدم في معركة الفوج المحاصروالملازم الطيار(ر . ي . ي)  الذي كاد ان يعدم ايضاً في ذات الفوج المحاصر وقد ورد ذكره في مقال سابق وهو من الطيارين الاحداث انهوا دورة الطيران الاساسية في ايطاليا.
التحقنا يوم 9 كانون ثاني في المديرية،وبدأنا باجراءات الايفاد ووزعت الواجبات فيما بيننا ، في يوم 11 كانون ثاني ابلغنا الرائد الطيار ( ع . ر . ج ) بحصول حادث سيارة لشقيقه وولده على طريق كركوك - بغداد وهما في حالة حرجة مما يستدعي البقاء معهم وعدم الالتحاق بالدورة ، تم ابلاغ المديرية لتنسيب بديلا عنه فتقرر تنسيب النقيب الطيار ( ح . و . ع ) محله وهو من المرشحين للوجبة الثانية التي سيتم ايفادها بعد انتهاء دورتنا ، وتأجيل المرشح الاول الى الوجبة الثانية ،وبذلك تم ضمان وجود معلم طيران ثالث ، ارتحت  لهذا الامر، لكون ( ع . ر ) يتميز بكونه معلم طيران كفوء  ومطيع بشكل مميز وله ميزات تميزه عني من حيث الهدوء وبرودة الاعصاب  مما يجعله معاونا لي يمكنه ان يمتص الكثير من السلبيات  التي قد تصادفني  خلال العمل .
تم تجاوز الامر واكمال  الاجراءات اللازمة لابدال الطيارين واكمال اجراءات مصاحبة كل من ( ح . و ) و( س . ف ) لعائلتيهما معنا  وتم الحاقنا الى مديرية التدريب العسكري واكملت الاجراءات وتم تحديد مساء يوم الاثنين 18 /1 /1982 للمغادرة على طائرة الخطوط الجوية العراقية.
كان من المؤمل عقد مؤتمر قمة دول عدم الانحياز في خريف عام 1982 في بغداد،وكانت التحضيرات جارية على قدم وساق لانجاحه ، ومن تلك التحضيرات الحملة الاعلامية الواسعة التي كانت تجريها وزارة الاعلام والمؤسسة العامة للسياحة، وكان شقيقي الاكبر مديرا عاما في مؤسسة السياحة ، لذلك فقد قصدته وزودني بكميات كبيرة من الدعايات التي كانت مهيئة لتوزيعها على الوفود ،وتضمنت هدايا على شكل( مجموعات موسيقية مطبوعة على كاسيتات مع اغلفتها الجميلة و مجموعات من العملة العراقية مرصوفة في اغلفة انيقة تعبر عن حضارة بابل  وبعض الكتب باللغات الانكليزية والاسبانية والفرنسية ، و البوسترات الدعائية للعراق،  وفانيلات مطبوع عليها خارطة واسم العراق)   ثم  قصدت الاتحاد العام لنساء العراق ،وحملت من هناك الكثير من الدعايات التي تظهر دور المرأة العراقية في المشاركة في نهضة العراق، و قد باركت منتسبات الاتحاد مبادرتي هذه ، بعدها  قصدت مديرية التوجيه المعنوي لوزراة الدفاع وحصلت على الكثير من وسائل الدعاية العسكرية . ونظرا لكثرتها ووزنها الكبير فقد وزعتها على بقية الوفد،واستلمتها منهم عند وصولنا الى الفندق  في مدريد لغرض توزيعها لاحقا للتعريف بالعراق، وقد لاقت استحسانا من شركة ( CASA) التي تدربنا فيها والمعلمين ومدربي الطيران و من وزعناها عليهم في اسبانيا  فكانت خير دعاية للعراق .

     

في اسبانيا
غادرنا بغداد مساء يوم الاثنين18 كانون ثاني 1982 حوالي الساعة الثانية عشر ليلا  ،احتلينا مقاعدنا وكان مقعدي وحيدا في الدرجة الاولى (تعتبر رتبة مقدم فما فوق من رتب القادة  عليه يخصص مقعد لحاملي هذه الرتب في الدرجة الاولى ) وكنت المسافر الوحيد في هذه الدرجة ، مع وجود عدد من عناصر حماية الطائرة يحتلون بعض المقاعد فيها  ايضاً، اما باقي الطيارين فقد شغلوا مقاعدهم في الدرجة السياحية ،  قبل الاقلاع اقبل علي  كابتن الطائرة   ورحب بي بحرارة واستفسر عن وجهتي ( كان الكابتن هو المرحوم كامل عبد الرحمن المشهداني جاري في السكن منذ الولادة  تدرج بنجاح في عمله ليكون ضمن طاقم طائرة الرئاسة ) ، فكانت هذه اشارة لعناصر الحماية لمعرفة هويتي ورتبتي وعملي واطمأنوا على وضعيتنا ، وعرفت الكابتن على بقية اعضاء الوفد وعوائلهم ، وعند دخول المضيفات تعرفن على ( الملازم الطيار ر . ي . ي) لكون زوجته زميلة لهن . وبذلك اصبحت رحلتنا وكأنها عائلية وخصوصا بعد تعرف عناصر الحماية بنا جميعا .
بعد الاقلاع واستقرار الارتفاع والاتجاه دعاني الكابتن الى مقصورة القيادة لمشاهدتها وكيفية اشتغالها ( باعتبارنا من صنف واحد ) ولم يعترض عناصر الحماية على ذلك بعدها اخذ ابناء العوائل المسافرين معنا بالطائرة  يحضرون الى مقصورة القيادة للتمتع بمشاهدتها ولتكون ذكرى جميلة لن ينسوها ! وكذلك فعل بقية اعضاء الوفد .

     

   كانت محطتنا الاولى مطار اثينا ( اليونان ) ،جلست في مقصورة القيادة حين الهبوط في المطار وكان منظرا جميلا للمدينة والمطار وهي تتلألأ بالمصابيح ليلا . وبعد مدة قليلة واصلنا الطيران، وكانت وجهتنا التالية مطار روما ( ايطاليا ) ، وبعد الهبوط  في المطار ابلغنا بوجود عطل في الطائرة يستوجب التصليح ولن يسمح لنا بالنزول الى المطار وبذلك فقد بقينا بما يقارب الاربع ساعات في الطائرة  استغليناها للنوم .

    

ثم واصلنا الطيران مع ساعات الفجر لليوم التالي ، وصلنا  مطار مدريد ( اسبانيا ) الساعة التاسعة صباحا  بتوقيت مدريد،( الحادية عشر بتوقيت بغداد ) مما يعني بان الرحلة استمرت 11 ساعة  ،وكانت متعبة ولذيذة في ذات الوقت ، شكرنا طاقم الطائرة وعناصر الحماية على ما ابدوه من عناية  واهتمام خلال الرحلة . كان الجو دافيء والمطر ينهمر  بشدة .
كان باستقبالنا ممثلوا الشركة  رافعين لوحة للتعريف بنا ،يرافقهم  سكرتير الملحق العسكري  في مدريد المدعو موفق وكان غاية في الخلق والمجاملة ، بعد الانتهاء من الاجراءات رافقنا الى الفندق الذي سنسكنه طيلة وجودنا هناك  وهو فندق 5 نجوم في وسط مدريد ويدعى ( Princesa Plaza ) وبجانبة سوبر ماركت من 10 طوابق ومن اشهر المجمعات التجارية في اسبانيا يدعى  ( كورت انكلزا ) ،يحوي على كل ما يمكن ان نحتاجه .
استلمنا غرفنا وهنا بدأت اول اشكالية مع الشركة المضيفة، فقد اعترضوا على  وجود العوائل وادعوا بانهم غير ملزمين باسكانهم وما يتبعه من التزامات مالية  ولتلافي هذا الاشكال على العائلتين ان ينتقلوا الى فندق آخر اقل درجة ، رفضت ذلك واقترحت استعدادنا للتكفل بأي مبالغ اضافية تترتب على تواجدنا مجتمعين  ثم ساوموا على ان يتحملوا اجور السكن فقط دون الطعام ورفضت ايضاً وقلت لهم اما ان تتحمل الشركة كافة التكاليف او ان نتحملها نحن كلها وبدون مساومة،وامام هذا الموقف وافقت الشركة على تحمل التكاليف جميعها .
حدث هذا دون تدخل ممثل الملحقية العسكرية وكان دوره الترجمة فقط  . اكملت الاجراءات على امل ان يبدأ الدوام في اليوم التالي، فاتني ان اذكر ان عقد شراء هذا النوع من الطائرات من هذه الشركة لعدم موافقة المانيا على بيع النسخة المسلحة منها ، وكان هناك عقدين لشراء طائرات مدنية للسرب الخاص ( VIP) وعدد من طائرات الانقاذ الجوي ( الاسعاف الجوي) استعدادا لمؤتمر قمة دول عدم الاحياز ،و تم تدريب طواقم هذين العقدين في المانيا .
بعد الانتهاء من الاسكان توجهنا بصحبة  سكرتير الملحق العسكري الى دائرة الملحق العسكري الذي استقبلنا ببرود دون ان يبدي اي اهتمام بامور الحرب وكانها لا تدور في العراق ولا نحن مشاركين بها ولم يبدي اي اهتمام بالاستفسار عن مجريات المعارك !في الوقت الذي كنا نتوقع ان تنهمر اسئلته  علينا وكما اعتدنا على ذلك في قواعدنا الجوية لمعرفة تفاصيل الطلعة الجوية والامور التي صادفت التنفيذ  ،بعد انتهاء اللقاء عدنا الى الفندق للاسترحة من عناء الرحلة الشاقة الطويلة .
كان الرائد ( محمود عبوش ) متدين وملتزم وفرض احترامه على الجميع بخلقه العالي  ،لذلك لم يكن يصحبنا ليلا ، وكذلك الضباط ذوي العائلتين  ، لذلك خرجنا نحن الثلاثة الباقين وبحذر شديد خشية ان نبتعد عن الفندق ونتيه في شوارعها . وهنا اكتشفنا ان الملازم الطيار ( ر . ي . ي ) والذي يجيد اللغة الايطالية لدراسته الطيران في ايطاليا يمكنه ان يكون مترجما لنا الى اللغة الاسبانية التي لا تختلف كثيرا عن الايطالية وبذلك تم تجاوز مشكلة اللغة ( مع دلاله علينا لحاجتنا الماسة اليه  كمترجم ) .
صباح اليوم التالي 20  كانون ثاني في الساعة  السابعة والنصف كنا في الحافلة التي نقلتنا الى المطار مكان الدورة ،وصلنا قبل الثامنة صباحا  قبل شروق الشمس ،(تشرق الشمس حوالي التاسعة صباحا ). يبعد المطار حوالي 15 كم الى الجنوب من مدريد . لم تكون مستلزمات وقاعات الدروس ووسائل الايضاح مهيئه  من قبل الشركة ، لذلك قضينا اليوم الاول في زيارة لمعمل تجميع الطائرات وباقسامه المختلفة .

      

منهاج العمل اليومي للدورة يبدأ من الساعة الثامنة والنصف لغاية الحادية عشرة والنصف ، تتخللها فترات لتناول الشاي او القهوة(وهذه للفترة الصباحية) .

ثم نغادر الى خارج المطارقاصدين  مطعم لتناول الغداء و العودة الى المطار لاكمال الدروس ( لفترة ما بعد الظهر) الى الساعة الرابعة والنصف نعود بعدها الى الفندق ، ثم  نخرج الى المدينة للتجوال وتناول طعام العشاء  ونعود بحدود العاشرة مساءً لنكون جاهزين للعمل  في اليوم التالي مبكرين. في اليوم التالي باشرنا  الدروس النظرية  المقررة باللغة الانكليزية و لم نجد صعوبة في تلقي الدروس فجميعنا سبق  دخولنا دورات خارج القطر، عداي (امر الدورة)  فكانت هذه اول دورة لي خارج القطر، كنت قد تدربت في مطار الشعيبة على يد مدربين هنود وباللغة الانكليزية  ،وكان كل مدرب يدعوا تلاميذه الى بيته في البصرة مرة في الشهر، نلتقي بعوائلهم وبذلك نمت قابلية التفاهم باللغة الانكليزية اضافة الى دراستنا واختلاطنا الاجتماعي، مع وجود مصطلحات خاصة بالطيران يمكننا تفهمها بشكل جيد . معلمينا كانوا من جنسيات مختلفة  ،احدهم  امريكي بدين نوعا ما ذو شخصية مرحة وله المام بقصص عربية مثل (جحا ) ويردد قصص جميلة عن هذه الشخصية ، والاخر الماني وكانا حريصين على ايصال المادة لنا وبشكل مبسط .
بمرور الايام تم  اكمال نواقص الدورة من وسائل الايضاح  في غرفة الدروس، اقتنينا البعض المفيد منها من حسابنا الخاص من الاسواق وجلبناها معنا  عند العودة  للاستفادة منها عند تشكيل السرب الجديد ولم تهمنا اسعار هذه المواد لكون وضعنا المالي كان جيدا حيث اصطحبنا معنا التحويل المسموح به  واستلمنا راتبين في مدريد مع مخصصات الايفاد ومخصصات جيب وطعام من الشركة وبمعدل 100 دولار اسبوعيا ( وهو مبلغ كبير حينها ) لذلك كان وضعنا المالي ممتاز .
التقينا خلال وجودنا في الفندق بطواقم طائرات الخطوط الجوية العراقية ، كانوا يحملون رسائلنا الى عوائلنا مشكورين ،كما والتقينا عدد من العراقيين والعرب لبنانيين وسوريين ومغاربة  ومن المملكة العربية السعودية ،وغيرهم من الجنسين وكونا صداقات معهم خصوصا مع رجل في الاربعينيات من العمر من الاحواز العربي الذي احتفى بنا كثيرا رغم احترازنا منه .
بعد أيام وصل المتدربون الفنيون(العراقيين) للمشاركة بدورة فنية على الطائرة وفي المطار ذاته الذي نتدرب به ،وسكنوا في فندق قريب منا ، من فئة اربع نجوم يضم عدد من الضباط المهندسين و الفنيين ومراتب من شتى المهن للتدريب في الشركة ذاتها . طلب مني المهندس الاقدم ان اكون مسؤلا عن الدورة بصفتي سأكون آمرا للسرب الجديد ويكون هو مسؤلا فنيا لصعوبة السيطرة على منتسبي الدورة لوفرة الاغراءات التي قد تسبب المشاكل له . ومنذ يوم وصولهم اخذنا  نتنقل من والى الفندق بحافلة كبيرة تقلنا  جميعاً الى مكان الدورة  دون اي تأخير . كانت ترافقنا احدى الموظفات بالشركة كمرافقة دائمية لنا لتأمين متطلباتنا واستمرت معنا طوال الدورة . ولاحظنا انها تتكلم بكثرة وسرعة مع السائق وخاصة يوم الاثنين بعد العطلة الاسبوعية وعند استفساري عن هذه الحالة اجابتني بانها تسرد كل ما مرت بها من احداث يومي السبت والاحد وبشكل مفصل وكذلك هو يحدثها بتفاصيل ما عمله خلال اليومين المذكرين  لذلك يطول الحديث ، وكذلك ما حصل مع المعلمين والمدربين ، حيث كنا نقضي اول نصف ساعة من دوام يوم الاثنين للحديث المفصل عن فعالياتنا لهذين اليومين وكأنهما عيدا يحتفلون به ! .
لم تتهيأ الشركة  لاستقبال الدورة الفنية بشكل جيد ، لذلك طلب مني المهندس الاقدم ان نلتقي الملحق العسكري لشرح هذه الحالة ،رفعت طلبا تحريريا لمقابلته وبحضور ممثل عن الشركة . وفعلا تم تحديد يوم اللقاء ،ذهبت ومعي المهندس الاقدم وممثل الشركة الى دائرة الملحق العسكري، ولكن فاجئنا السكرتير بانه سيكون ممثلا عن الملحق العسكري ، فطلبت حضوره لاجل ان يكون القرار منه شخصيا ، اعتذر السكرتير بان الملحق مشغول ويعتذر عن حضور اللقاء . بدأ المهندس بطرح مشاكله ثم  طلبت ان يكون هناك دوام يوم السبت لكوننا لم نألف العطلة يومين بالاسبوع  ،ولاجل اختصار مدة الدورة للعودة الى الوطن . وكذلك فان يومين اجازة قد تسبب مشاكل  وخاصة من قبل المراتب لكثرة المغريات قد تؤثر على سمعتنا . رفض ممثل الشركة هذه الفكرة لكون العطلة الاسبوعية حق لا يمكن التساهل به . طلبت وبما ان اسبانيا بلد سياحي ان تكون هناك سفرات سياحية كل يوم سبت لزيارة المناطق السياحية وبذلك اتمكن من السيطرة على المراتب والمنتسبين وتقليل احتمالات المتاعب التي يسببها يومي العطلة . وافق ممثل الشركة والسكرتير ، ثم بحثنا مشاكل الدورة  للطيارين والفنيين لعدم تهيئة مستلزماتهما  والتأخير الناتج عن هذه المشاكل ، فوعد ممثل الشركة بحلها ، وانتقدت الملحقية العسكرية لعدم متابعة الدورتين وعدم زيارة موقع الشركة قبل قدومنا وخلال الفترة الماضية فوعدنا السكرتير بالزيارة ،وبحثنا بعض المعوقات  وتم وضع الحلول لها ، انتهى اللقاء وغادر ممثل الشركة ، واستأذنا بالمغادرة فطلب منا السكرتير ان ندخل الى غرفة الملحق العسكري المجاورة للسلام عليه ! ابديت عدم تقبلي من هذا الطلب وقلت له اتيت هنا بأمل ان يحضر الملحق هذا اللقاء ولكنك تحججت بانه مشغول ؟! ونحن  هنا لاجل عمل وانجزناه بحضورك فلا داعي لمقابلة الملحق بعد ان تم وضع الحلول لمعوقات العمل، فلا داعي للمجاملات بعد ان رفض حضور اللقاء . وودعته وانصرفنا وكان هذا آخر لقاء مع السكرتير ولم تكلف الملحقية طيلة مدة مكوثنا في اسبانيا السؤال او معرفة ما جرى للدورة .
كانت طواقم طائرات الخطوط الجوية العراقية تسكن في الفندق ذاته الذي نسكنه كما اسلفنا  وبذلك بدأ التعارف بيننا منذ اليوم الاول ولكنهم كانوا يتغيرون دائما . ارشدونا الى الاماكن المناسبة للتجول والتسوق  وقضاء فترة عدم وجود عمل ليلا او نهارا.
كنا شغوفين لمعرفة اخبار الوطن والمعارك ،( كان املنا  عند وصولنا الى مدريد بان تزودنا الملحقية العسكرية بهذه الاخبار) ولكن خاب املنا . اخبرنا احد طياري الخطوط العراقية بوجود دائرة عراقية ( محطة مخابرات اووكالة انباء او غيرها )  في البناية المقابلة للفندق .وفورا وبعد عودتي من العمل في اليوم التالي  ذهبت الى هذه الدائرة لاجد عدد من الشباب العراقيين رحبوا بي اجمل الترحيب بعد ان عرفتهم بنفسي وواجبنا في مدريد ، زودوني بمجموعة اخبارية منذ يوم وصولنا الى ذلك اليوم ، وبذلك داومت على زيارتهم يوميا عند العودة من العمل لاحصل على اخر النشرات الاخبارية ثم اعرج على السوبر ماركت الذي ادخله من الباب البعيدة عن الفندق وفي الطابق الارضي المخصص للسلع السريعة والتي تتجدد يوميا لشراء مانجده مناسباً  ثم العودة الى الفندق ، وبقيت على هذا المنوال طيلة مدة الدورة  حتى تكدست لدينا بضاعة كثيرة لاقيت صعوبة في رزمها عندما حان موعد العودة الى الوطن .
استمرت الدورة الارضية وبشكل مكثف وبطريقة تدريس تختلف عن ما ألفناه حيث كانت الدروس هي لخواص وصناعة الطائرة وما تحتويه من اجهزة جديدة علينا وكان التركيز الكبير على ( المخططات البيانية ) والتي تؤشر القوى وتغييرها وكذلك الحالات الاضطرارية للطائرة والتي يجب ان تكون درجة الاختبار بها 100% . لذلك كانت فترة الدورة النظرية متعبة ولم نستطيع مغادرة الفندق الا قليلا نستغلها ايضا لتناول العشاء خارج الفندق، ثم نعود لمراجعة الدروس والتهيؤ لليوم التالي.واستغلينا ايام العطلة للترفيه والسهرات ( وما اجملها من ايام ) .
يوم  الاثنين 1 شباط (فبراير) كان موعد اجراء اختبار نهاية  الدورة النظرية ، مما اضطرنا الى البقاء في الفندق يومي السبت والاحد لمراجعة الدروس والاستعداد  للاختبار الذي اديناه بنجاح .
 ومع وصول المدربين الالمان (هلموت و نوربرت) بدأنا الطيران العملي يوم الاربعاء 3 شباط بعد تلكوء بسبب الموافقات الاصولية لطيران المدربين الالمان .
ابتدأ الطيران وهو اجمل ما في الدورة وكان تقبلنا للتدريب بشكل سلس وبسيط وبدون صعوبة كما كنا نلاحظه من المدربين، وفي اليوم الاول واثناء تناول طعام الغذاء في المطعم طلب المدربين  قنينة من النبيذ مع الغذاء ، وفي اليوم التالي انزوى الشهيد محمود عبوش لوحده على طاولة وبقينا المتدربين ( الطيارين والفنيين ) على الطاولة الرئيسية ، استغرب المدربين واستفسرا عن السبب ، فاخبرتهم بانه لا يستطيع ان يكون على مائدة فيها شراب النبيذ لكونه متدين وانزوى كي لا يزعجكم ! وفورا احترموا موقفه ورفعوا قنينة النبيذ من المائدة وطلبوا مكانها قناني ( كوكا كولا ) لهم ولنا ! اعتذرت عن قبول هذه الدعوة وقلت لهم يمكنكم تناول الكوكا كولا اما نحن فنفضل شراب آخر ( استغربوا مرة اخرى واستفسروا عن السبب ) فاجبتهم بمقاطعتنا لهذا الشراب لكون للصهيونية اسهم في شركتها  وهناك قرار بمقاطعتها . ولكنكم خارج العراق ولا يراقبكم احد ثم ما هي فائدة قناني قليلة تتناولوها ؟ اجابوني. اخبرتهم بانها ارادة وايمان بما نفعله . ثم دار بعد ذلك حوار حول فلسطين وشبهته لهم بالمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وانهم ناقصي السيادة الى اليوم حيث ان عاصمتكم الان هي ( بون ) رغما عنكم وليس ( برلين )، وانه لا يسمح لاي عسكري الماني ان يتجول بملابسه العسكرية في برلين الغربية  ، بينما يصول ويجول الامريكان والبريطانيون ببدلاتهم العسكرية فيها وكذلك ان بلدكم مقسم، وتدفعون التعويضات الباطلة الى ( محتلي فلسطين )  بحجة المحرقة المزعومة . وهذا شيء بسيط بما يجري في فلسطين ،وبقي الحال دون نبيذ وكوكا كولا طيلة تواجدنا في الدورة احتراما لمشاعرنا ( فما اروعهم ) . وشرحت لهم مسألة فلسطين وعدائنا للصهيونية وليس ( اليهود )  والحرب مع ايران  والتقدم العلمي والعمراني ووضعية المرأة في العراق  مما جعل العراق هدفا لمنع تقدمه ونهضته  ، وزودتهم بما استصحبته معي من دعايات وهدايا  نالت استحسانهم.
مرت الدورة دون اية مشاكل من قبل الطيارين او الفنيين ضباطا ومراتب، سوى حالة واحدة لم تؤثر على سير الدورة ، فقد طرق سمعي ان احد المراتب قد ثمل في احد البارات، وان مرافقه تركه وعاد الى الفندق دون حادث يذكر ، في صباح اليوم التالي التقيت  بالطيارين والمهندسين والفنيين في غرفة الدرس وبينت ان سبب الاجتماع هو ما حدث من قبل اثنان من المراتب الفنيين ، واشرت لهما بالوقوف وقلت للجميع ( هذه المرة الاولى والاخيرة التي اسمح بها بمثل هذا الحدث ودون ان اوجه الحديث الى ( الشخص الذي ثمل ) وانما الى رفيقه الذي تركه ووجهت له تعنيفا شديدا  لتركه زميله ،واضفت انها فرصة لكم تمتعوا وتعلموا ، فبانتظاركم عمل وجهد كبير ولكن لا تنسوا باننا سفراء لوطننا ، لا الوم من ثمل ولكن الوم من تركه وعاد الى الفندق فاذا تكررت مثل هذه الحادثة فساعيد من يترك زميله الى بغداد ويتلقى العقوبات المناسبة فورا ) كل من يرافق صاحبه عليه ان يكون عونا له  والا فسيكون هو الملام وليس صاحبه . سارت بعدها الامور بشكل طبيعي رغم الاغراءات المتوفرة .
بمرور الوقت نمت صداقة مع مدربينا واخذنا نلتقي كل يوم سبت ليلا نتجول في بارات مدريد القديمة التراثية  ،وازقتها الضيقة نتنقل من بار الى بار، وفي كل بار هناك فعاليات شعبية عفوية من رقص وغناء نتناول بعض المشروب في كل واحد  منها ،(ولاحظت في بعض البارات لوحات بها اوراق نقدية لبلدان مختلفة لذلك زودنا البارات بالعملات الورقية العراقية ا لتأخذ مكانها مع بقية العملات المختلفة ) ،ثم ننتقل الى احدى الصالات الليلية نتمتع بها الى الفجر نتفرق بعدها كل الى مكانه .
مع استمرار التدريب وخلال ايام السبت من كل اسبوع قمنا بسفرات سياحية الى مدن طليطلة ،واقليم الباسك، وقبر فرانكو وغرناطة ،وقصر الحمراء ،ولكونها بعيدة عن مدريد فقد قضينا يومين رائعين في غرناطة والطريق الجبلي الوعر والمناظر الخلابة . وكنا نقوم بجولات في مدينة مدريد الجميلة ،وحضرنا يوم 24 شباط ( احتفالا سنويا – كرنفال )  يقام في القلعة التاريخية  وسط مدريد قرب الساحة الرئيسية ( صول ) .
يوم 26/شباط قمنا بتدريب الملاحة الجوية، مستخدمين جهاز الملاحة المتقدم المجهزة به الطائرة ، وسلكنا عدة مناطق الى الجنوب من مدريد – قرطبة –غرناطة – اشبيلية حيث هبطنا في مطاراتها للتزود بالوقود والتدريب على استخدام جهاز الملاحة ثم الى جبل طارق ( لم نحلق فوق المدينة لكونها عائدة الى بريطانيا ) ولكنا شاهدنا مطارها العجيب في جزيرة ضيقة طويلة  تبدأ من بداية المدرج وتنتهي بنهايته . ثم انهينا اليوم التدريبي عصرا في مطار مدينة ( ملقة )، تركنا الطائرات لنرحل الى مدينة ( ماربيا ) القريبة ، وهي من المنتجعات السياحية التي يؤمها اثرياء العالم على ساحل البحر الابيض المتوسط . وعند وصولنا الفندق التقينا  عدد من التلاميذ العرقيين االمرسلين من قبل مؤسسة السياحة للتدريب في الفندق الذي سكناه على تقديم الخدمات  السياحة المختلفة ( تحضيرا لمؤتمر قمة عدم الانجياز )  , وكان احدهم قريب  لاحد طيارينا الرائد الطيار ( ا . م . ل )  .

    

في اليوم التالي ذهبنا الى مدينة ( سبتة ) المغربية المحتلة من قبل اسبانيا بعد عبورنا مضيق جبل طارق بواسطة سفينة ركاب برحلة بحرية رائعة . وسبتة مدينة  حرة  واكثر العاملين فيها من الهنود . عدنا مساءا الى ماربيا الجميلة ، في اليوم التالي وبتمويل مالي من قبلنا تمت اقامة وليمة لنا ولمدربينا حيث قام تلاميذ السياحة العراقيين باعداد ما لذ وطاب من الطعام الذي تدربوا على اعداده ، وتقديم الخدمات المصاحبة للضيافة مما بعث السرور والفخر بنا امام مدربينا الالمان ،

  

ثم بعد الظهر ذهبنا الى مدينة ( ملقة ) وحضرنا مباراة لمصارعة الثيران . حيث تكون المباراة بعدة نزالات  فكل ما يقتل ( ثور ) يأتي الدور للاخر وبمصارع اخر وهكذا لحين الانتهاء  من العرض . وحصل موقف ظريف منا ،  ففي احدى النزالات  تمكن الثور من التغلب على المصارع ورفعه بقرنه الى الاعلى ، فتدخل المساعدون لانقاذه ، المهم عندما تمكن الثور من المصارع وبدون شعور منا وقفنا  جميعنا نهلل للموقف وسط نظرات الغضب والاستهجان من المشاهدين !! لكون القتال غير عادل ، عدد كبير من المصارعين يضريون الحيوان بالرماح والاسهم ثم السيف للاجهاز عليه ،وعندما يتمكن من المصارع يهاجم من قبل عدد من المصارعين لقتله لذلك كان موقفنا مناصر للحيوان .
يوم الاثنين 1/اذار عدنا وبنفس النهج التدريبي للملاحة الى مدريد ووصلناها عصرا .
واصلنا التدريب لغاية فحص نهاية الدورة يوم الجمعة 5 /اذار . وكان مجموع طيران كل واحد منا 20 ساعة طيران .
انتهت الدورة وبقيت انا والشهيد محمود عبوش لاكمال ( دورة لاعدادنا معلمين على الطائرة ) ولمدة 10 ساعات طيران ( لا حاجة لدورة ارضية فنحن بالاساس معلمي طيران ) .
يوم الاثنين 8/اذار واجهتنا مشكلة اضراب عمال المطار مما يعني لا يمكننا الاستمرار بالتدريب  لحين انتهاء الاضراب وهذا يؤدي الى تأخير عودتنا الى العراق . اقنعت معلمي الطيران بمفاتحة الشركة لتنفيذ الطيران في مطار اخر بعد ان اخبرني معلم الطيران بوجود مطار صغير يمكن ان نستخدمه للتدريب .. حصلت موافقة الشركة ( لكونها تصب في مصلحتهم )، وقمنا عصر ذلك اليوم وبعد انتهاء الدوام الرسمي بالتسلل الى المطار والتحليق  بالطائرات  الى المطار البديل خلسة وبدون علم العمال .
اكملنا التدريب وبطيران مكثف ( لكوننا بقينا اثنين فقط ) وللايام 9 و 10 و11 و12 اذار لنحصل على شهادتين الاولى طيار على الطائرة والثانية مدرب عليها .
واحتفالا بنهاية الدورة تمت دعوتنا ومدربينا الالمان الى العشاء في مطعم راقي جدا ثم الى سهرة في ( مسرح سكالا ) الشبيه بمسرح ( الليدو ) في باريس وهو من افخر مسارح مدريد  . وتعلمت درسا مفيدا في هذا المسرح ، فبعد العروض الراقصة والغنائية كان الدور ( لساحر ) يقوم بفعالياته على المسرح  ،ومنها ان  يدعو احد الحاضرين او اكثر الى المسرح وبحركات معينة يسلبهم ساعاتهم او احزمتهم او حمالاتهم او حافظات نقودهم وغيرها بخفة وبشكل كوميدي بحيث تشعر وكانه متفق معهم على هذه الحركات . بعدها ترك المسرح ونزل الى المشاهدين واختار طاولتنا  وبعد السؤال من اين انتم سلم علينا بالعربية وبعض الكلمات للمجاملة خاطب احدنا بانه سيقوم بالاستيلاء على ساعته اليدوية بدون يشعر . تحديناه وامسك المعني بيده بشدة على ساعته اليدوية متحديا اياه بانتزاعها منه ،وكذلك كنا جميعا ننظر الى الساعة متحدينه  ان ينفذ وعده  .. وبحركات سريعة استطاع الساحر ان يغير انتباهنا الى محفظة النقود وترك المعني قبضته على ساعته اليدوية دون ان ينتبه وبكلمات وحركات بسيطة رفع يده بالساعة وقد انتزعها دون ان يشعر احد منا  بعد ان جعل اهتمامنا بمحفظة النقود وغيرها وكان عددنا اكثر من 10 اشخاص على الطاولة وبقية الحظور يتابعون الفعالية  . تعلمت من هذه الحادثة كيف تمرر احداث باختلاق احداث جديدة تجعلنا نحول انتباهنا اليها وتمرر الاحداث القديمة دون ان نشعر (وهذا ما يستخدمه السياسيين بافتعال ازمات جديدة يمررون من خلالها ما يريدون) .
صباح اليوم التالي ذهبنا الى ( جزر الكناري جزيرة لاس بالوماس ) بواسطة طائرة ركاب ( اير باص )، وطلبت المضيفات بعد معرفة جنسياتنا نحن والمدربين ان يحصلن على عملة نقدية ورقية عراقية لكونهن من هواة جمع العملات الاجنبية  فاخرجنا آخر ما نملكه من عملات عراقية مختلفة ولبينا طلبهن ، ودامت الرحلة اكثر من ساعتي طيران لنصلها في الجانب الغربي من المغرب العربي  في المحيط الاطلسي والقريبة من سواحلها ولكنها تابعة لاسبانيا !. تمتعنا بالرحلة ولمدة يومين التقينا عدد من المواطنيين العرب هناك ، وهي كما في سبته فاغلب العمال من الهنود،عدنا بعدها الى مدريد استعدادا  لرحلة العودة الى الوطن .
قبل العودة بيوم اتصل بنا احد منتسبي الملحقية العسكرية طالبا حضورنا الى الملحقية لاستلام  مبلغ من المال مخصص لنا  . اجبته  اننا موجودين في الفندق واذا كانت هناك مخصصات فعليكم احضارها الينا (كما كان يحدث مع طواقم الخطوط الجوية الذين يأتي لهم المحاسب ليناولهم مستحقاتهم في الفندق ) . وبعد ان لاحظت عدم موافقته على كلامي اخبرته باننا متنازلين عن مستحقاتنا ونتبرع بها الى الملحقية  ، وبعد ان سمع هذا الكلام اخبرني بانه سيأتي الى الفندق لتسليمنا مستحقاتنا  .
والحق يقال وهو ما نقله لنا طياروا الوجبة الثانية باننا تركنا سمعة  حسنة وعزت نفس واحتراما من الشركة والفندق ومدربين ومدرسين انعكس في طريقة معاملتهم للوجبة الثانية .
كذلك كانت معاملة الملحقية العسكرية للوجبة الثانية  جيدة جدا، واهتمام كبير من الملحق العسكري شخصيا  والسكرتير  وبقية المنتسبين، واقيمت لهم عدة دعوات للاحتفاء بهم .
عصر يوم 18 /اذار غادرنا مدريد وساعدنا ممثل الخطوط الجوية وممثل الشركة في المرور  من المطار وتجاوز مشكلة الوزن حيث كانت لدينا اوزان كبيرة نتيجة التسوق الشبه يومي دون ان نشعر بتكدس المشتريات .كانت الطائرة من نوع بوينك 727 ولا تحتوي على مقصورة للدرجة الاولى ،وعلمنا بوجود  اضراب للعاملين الجويين في ايطاليا لذلك فقد عدنا مباشرة الى بغداد فوق البحر الابيض المتوسط ووصلنا قبل الموعد المقرر بساعات . وكانت رحلة جميلة حضينا بخدمة ممتازة من قبل المضيفات زميلات زوجة الملازم الطيار( ر . ي . ي ) .
وصلنا بعد الساعة الثانية عشر مساءً  من يوم 19 اذار(مارس) وكان باستقبالنا عدد من زملائنا  من مديرية طيران الجيش . طلبت من الطيارين ان يذهبوا الى بيوتهم وسأهتم صباحا  اكمال  معاملة العودة من مديرية التدريب العسكري على ان  نلتقي  بعد غد في مديرية طيران الجيش  لاكمال معاملة العودة الى كركوك .
مديرية التدريب العسكري - وزارة الدفاع       
صباح اليوم التالي راجعت مديرية التدريب العسكري لاكمال معاملة العودة والحاقنا الى مديرية طيران الجيش وصادفي مجموعه من الضباط اكملوا معاملة التحاقنا  شكرتهم وغادرت الى مديرية طيران الجيش  مزودا بكتاب انهاء الدورة والانفكاك من مديرية التدريب العسكري الالتحاق الى مديرية طيران الجيش ، واكملت كتاب الالتحاق الى كركوك . ثم دونت  كتابة تقرير السفر والدورة ( حسب نموذج معتمد ) واوردت التفاصيل ومن ضمنها موقف الملحقية العسكرية.
العودة الى السرب وتكليف جديد وحادث خطير
اتصلت ببقية الطيارين ومنحتهم اجازة قبل الالتحاق الى كركوك وفي اليوم التالي 20 /اذار كنت في السرب في كركوك ( وتفاجأت بتنسيبي امرا للسرب 30 ) . في اليوم التالي نفذت طلعتي طيران مع معلم الطيران ( ع . ر . ج ) وحسب السياقات لمنحي صلاحية الطيران،وفي اليوم ذاته نفذت طلعة طيران ليلي مع المعلم نفسه وبذلك كنت جاهزا كطيار فعال ليلا ونهارا .
بدأت مرحلة جديدة من العمل حيث تسلمت مسؤلية آمر سرب كنت ولسنيين عديدة احد منتسبيه وعدد من الطيارين كانوا اقدم مني قبل منحي القدم والترفيع الى الرتبة الجديدة ، ولكن لم نجد اي احراج في التعامل لكوننا زملاء عمل منذ سنيين طويلة ،وتعاونوا معي بشكل رائع مما انجح عملي وقيادتي للسرب . وكان اول تنفيذ لواجب قتالي يوم 25/ اذار  في قاطع الفيلق الاول الذي كنا مكلفين بواجبات اسناده .
كانت الجبهة الجنوبية مشتعلة في قواطع الشوش والمحمرة ، ولم يشارك سربنا فيها  لعدم تكليفنا باي واجب هناك ،واستمرينا في واجبات اسناد الفيلق الاول .
تبعت هذه المعارك انسحاب الجيش العراقي وبقرار سياسي الى الحدود الدولية للعراق في حزيرن من نفس العام .
عصر يوم 18 نيسان(ابريل )  اجتاحت كركوك عاصفة هوجاء ادت الى انقلاب احدى طائرات السرب وتضررها . وفي مساء اليوم ذاته تم تخصيص اربع طائرات ( الويت3 مسلحة برشاش جانبي ) مع اربع  طائرات مي8  الى معسكر جمجمال لتنفيذ واجب اسناد اللواء المتواجد في جمجمال لمعاجة متسللين سيطروا على قرية ( زالة ) على محور جمجمال – سنكاو .
صباح اليوم التالي 19 نيسان قدت التشكيلات الى مقر اللواء في جمجمال ، وبعد استلام الايجاز من مقر اللواء توجهت الى القرية والتي كان سكانها قد غادروها وكانت اشتباكات بين فوج دفاع وطني معه سرية من اللواء المذكور وبين المتسللين المتحصنيين في احدى المدارس داخل القرية، وهي مبنية من الطابوق والكونكريت المسلح وقدمنا الاسناد المطلوب والى ظهر ذلك اليوم دون فائدة تذكر بسبب تحصنهم على اطراف القرية وداخل المدرسة  الحصينة التي لم يختقها عتاد الرشاشة 20 ملم  . اشرت على امر اللواء ( العميد الركن ع . ع ) وهو من امري الفصائل الكفوئين عندما كنا تلاميذ في الكلية العسكرية بان نستخدم الصاروخ   (AS12)المضاد للمنعات التي تسلح بها طائراتنا لقصف المدرسة الحصينة ويمكن السيطرة على مساره دون ان يخطأ الهدف  لحسم المعركة ، رفض امر اللواء الاقتراح متحججا بان له علاقات طيبة مع سكان القرى في القاطع  ولا يريد تدمير المدرسة  او التسبب في ازعاجهم . وعندما لم يستطيع احد اقتحام القرية وحسم المعركة  ،اقتنع امر اللواء باستخدام الصاروخ الموجه ضد المدرسة وحسم  المعركة ( ولكن الوقت قد فات لان تهيئة الطائرة لحمل الصاروخ يستغرق  زمنا طويلا بسبب خزنها في قاعدة الحرية(كركوك)  الجوية ) . فاخبرته بعدم امكانية التنفيذ لضيق الوقت ،و لم انصحه بقصفها بواسطة الصواريخ الحرة المسلحة بها طائرات مي8  لكونها غير دقيقة الاصابة  قد تؤدي الى اصابة دور المواطنيين المجاورة للمدرسة  ، ثم قررت العودة الى القاعدة وابقاء طائرتين فقط لاسناد نقل القطعات الى اطراف القرية بواسطة طائرات مي8. نفذت آخر طلعة اسناد وبعد وصول التشكيل الثاني توجهت الى مطار k1 ، وقبل ان احول  ذبذبة الاتصال اللاسلكي الى ذبذبة قاطع الدفاع الجوي سمعت ان قائد التشكيل الثاني الذي حل محل تشكيلي قد اصيبت طائرته  وجرح وتمكن من الهبوط في منطقة المعركة وان احدى طائرات مي8 ( بقيادة الملازم الاول الطيار المرحوم ياسين جاسم العبود ) قد هبطت قرب الطائرة وتمكن  طاقمها من اخلاء الطيار الى مستشفى كركوك العسكري . قررت العودة الى منطقة الحادث وعاينت مكان هبوط الطائرة المصابة واخبرت  قائد الطائرتين المتبقيتين من التشكيلين ( بقيادة النقيب الطيار ح . و . ع ) بتأمين منطقة سقوط الطائرة واني ساعود الى جمجمال واترك طائرتي واعود الى منطقة سقوط الطائرة بواسطة طائرة مي8 لاخلائها . وهذا ما حدث وعند وصولي الى المنطقة اوعزت الى الطيار بالهبوط خلف ذروة وترجلت من الطائرة  مع حضيرة مشاة تمركزوا على مرتفع مطل على الطائرة المصابة لتأمين حمايتي خلال  تنقلي الى الطائرة  المصابة والتي كانت تبعد مسافة 200 متر عن مكان ترجلي. لاحظت تقدم المتسللين الى منطقة قريبة من الطائرة بغية استهدافها ، وقامت الطائرتين بتأمين الحماية ومشاغلة  المتسللين مع  حضيرة المشاة  التي باشرت بالرمي الكثيف باتجاه المهاجمين ،اسرعت باتجاه الطائرة وقرب وصولي لها تم استهدافي والطائرة بواسطة القاذفات والتي كانت تطلق الانفلاق الجوي فوقي وبشكل مكثف مستهدفة منطقة الطائرة المصابة وطائرات الحماية لمنعها عن تقديم الاسناد اللازم ولكن البطل ( ح . و ) استمر بتقديم الاسناد الناري دون ان يصيبه خوف من الموقف الصعب، واستمريت لحين وصولي الى الطائرة وبسرعة وبدون اية فحوصات بدأت بالتشغيل  ، وكان رامي الطائرة المصابة يؤمن تقدمي بالرمي المباشر فاشرت له بترك المنطقة والالتحاق بي بالطائرة  فقطع التماس والتحق بي ( وكان الوقت بعد غروب الشمس  والرمي من القاذفات والاسلحة الاخرى مذنب بحيث ترى اتجاه مسار الاطلاقات وكان موقف صعب جدا ) ، وتمكنت من الافلاع بالطائرة المصابة  واتجهت مع بقية الطائرات الى المطار مباشرة ، وكنت في المقدمة طالبا من الطائرات الاخرى مراقبة طائرتي  واعلامي في حالة حصول اي عارض خلال الطيران وسلكت الطريق العام  سليمانية – كركوك لامكانية حمايتها في حالة الهبوط الاضطراري من قبل الربايا القريبة ، لحين وصولي سالما الى القاعدة وقد حل الظلام . ومرة اخرى يستقبلني امر الجناح ( العقيد الطيار ابو زينب) وبعد التهنئة بالسلامة اخذ يعنفني فكيف اغامر بقيادة طائرة مصابة يمنع الطيران بها دون اخضاعها للفحص من قبل المهندسين وكيفية القرار بسحبها بدون الرجوع الى المراجع . وتعلم جيدا بان كافة حقوقك ستسقط في حالة تحطم الطائرة خلال الاقلاع او الطيران  اوفقدانك لحياتك ؟ اجبته بان يوم امس تضررت احدى الطائرات ( العزيزة علينا ) بسبب العاصفة ولست على استعداد لفقدان لطائرة اخرى من السرب  .
ثم قمت بزيارة الطيار المصاب  ( ج .ا . ظ ) في المستشفى للاطمئنان على صحته . وفي اليوم التالي علمنا بان المتسللين استطاعوا اصابة احدى المدرعات واحراقها قرب مكان سقوط الطائرة ( مما يعني بان الطائرة كانت الهدف ولولا سحبها لكانت قد دمرت ).
طلبت من امر الجناح رفع مقترح الى قائد الفيلق لمنح الطيار المصاب والرامي وطاقم الطائرة التي قامت بانقاذ الطيار التكريم بنوط الشجاعة وستت أشهر قدم ممتاز. ولما استفسر عن السبب اخبرته بان ( النقيب الطيار ايدن مصطفى ) ( اعدم في السنة الثانية للحرب لاسباب سياسية ) قد منح ستة أشهر قدم بسبب انقاذه طيار ايراني اسقطت طائرته في بداية الحرب في منطقة لم يكون فيها قتال، وان طيارينا احق بالتكريم لكون طائرة الانقاذ هبطت بدون تردد وفورا لانقاذ الطيار الذي اصيب نتيجة تقربه من الهدف وكذلك صمود المقاتل وعدم تركه الطائرة لغاية سحبها . قال لي وان فلان ( يقصدني ) قام بسحب الطائرة وتحمل المسؤلية الامنية والمعنوية لذلك فهو يستحق التكريم ايضا ! اجبته كلا لاني مسؤول عن من هم بمعيتي ومن قام بعمل لاجلهم اما انا فلا اقيم عملي . وفعلا حصلوا على التكريم الذي يستحقونه .
ولاجل تفادي التأخير الذي حدث في تسليح صواريخ ( AS12  )، فقد اوعزت  بحفر ملجأ يمكنه استيعاب صاروخين وتحكيمه  بصناديق العتاد الفارغة، مع اتخاذ اجراءات الامان  قرب وكر الطائرات وتكون  حمايته من قبل دورية حماية الوكر . واجريت  عدة تجارب  على التسليح وحساب الزمن من استلام الامر بالتسليح لحين ان تكون المنظومة جاهزة للتنفيذ  ، واخبرت امر الجناح والحركات بالاجراء والتوقيتات التي تستغرقها العملية  ولاقت الموافقات  اللازمة من قبل امر الجناح والحركات استعدادا للواجبات الطارئة .
استمرينا في السرب بتقديم الاسناد لقطعات الفيلق الاول  ، وكان آخر واجب قتالي قمت به يوم 17 حزيران (يونيو) 1982 لاستطلاع منطقة مخمور . وآخر واجب تدريبي  يوم 19 منه .
في20 حزيران (يونيو)  صدر  امر نقلي الى السرب الجديد( السرب 106) وبدأت استحضارات النقل وتشكيل السرب  في جناح طيران الجيش الثاني في بغداد – التاجي ، واستطلعت مقر السرب اثناء  اجازتي الدورية  وارسلت عدد من الطيارين ( لهم هوايات  في البناء والنجارة وغيرها ) لاكمال النواقص لحين التحاق منتسبي السرب في بداية تموز 1982 ، لتبدأ مرحلة جديدة من مسار خدمتي بعد سبعة سنوات قضيتها في السرب 30 تدرجت بها من رتبة ملازم اول الى مقدم حصلت به على الخبرة المناسبة كطيار مقاتل ومدرب على الطائرات ولن انسى فضل جميع الامرين الذين عملت بامرتهم في السرب لما احاطوني واقراني من عناية وتعليم واسلوب التعامل كأسرة واحدة . وكذلك اقراني من الطيارين والفنيين ضباطا ومراتبا فقد كنا والحمد لله تعالى نعمل يدا واحدة .
وبمناسبة دورة اسبانيا فبعد ان احلت على التقاعد عام 1990 عملت بمجالات عدة ومنها تجارة  الانتيكات والسجاد الايراني والمواد الغذائية والاستيراد  . وكنت اتردد على محل لتاجر في الشورجة وهناك وجدت شخصا عرفته و( قلت له الا تذكرني ؟ ) استغرب وقال اين التقينا ؟  الا تذكر فقد التقينا في مدريد عام 1982 وكنت انت الملحق الثقافي هناك  ! الست انت الاستاذ عبد الوهاب البياتي الشاعر المعروف ؟؟ ضحك وقال كلا انا شقيقه !! سبحان الله تعالى لا يختلف الاثنان ابدا والشبه كبير . ويمكن للست ميسون البياتي ان تعلق على هذا الامر مشكورة .
وسأكمل ان شاء الله تعالى في مقالات لاحقة ذكرياتي حول التشكيل الجديد واعداد الطيارين للقتال على الطائرة الجديدة وبالزخم الحقيقي والمستمر  للقتال وعلى جميع الجبهات  ومن هذا السرب بدأت المشاركة الفعالة الحقيقية في الحرب كما سيأتي لاحقا انشاء الله  .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

759 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع