من اليمين: نيكسون ، سعود بن عبدالعزيز ، ايزنهاور
كيف ينظر رئيس أميركي إلى ملك سعودي؟
بقلم:جعفر البكلي
«إنه قادم ...ولكنني أسأل نفسي:هل سيأتي معه بالحريم؟!».
هذه العبارة، كتبها الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في دفتر يومياته، مساء الاثنين 28 كانون الثاني 1957، في إشارة إلى الملك سعود بن عبد العزيز، أوّل عاهل سعودي سيزور الولايات المتحدة زيارة رسمية، بعد يومين... أي في الثلاثين من كانون الثاني من ذلك العام
وهذه العبارة، (وكل الفقرات التي سيستشهد بها هذا المقال) مدوّنة في الجزء الرابع من يوميات الرئيس ايزنهاور، ضمن ملف الشرق الأوسط. وهذا الملف محفوظ الآن ضمن مجموعة أوراق ايزنهاور الخاصّة، في المكتبة الرئاسية للمتحف الذي يحمل اسمه، في بلدة آبيلين، في ولاية كانساس.
■ ■ ■
في الغد، الثلاثاء 29 كانون الثاني1957، كتب ايزنهاور في دفتر يومياته الفقرة التالية: «اتصل بي فوستر تلفونياً (جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي، في الخمسينيات) وأعلمني أنّ سعود يصرّ أن أكون أنا شخصياً من يستقبله في المطار! هذا الأمر مستحيل، ومخالفٌ للبروتوكول! لقد جرت التقاليد أن أستقبل كبار الزوار الرسميين عند مدخل البيت الأبيض. وإذا استثنينا سعود، فستصبح هذه السابقة سُنة يطالب بها كل ملك يزور أميركا!».
وفي مساء 29 كانون الثاني 1957، أضاف الرئيس في دفتر اليوميات، الفقرة التالية: «فوستر ما زال يلحّ عليّ لكي أستقبله في المطار. يقول لي: إن لم تفعل، فقد يعدل عن المجيء... لأنّ هؤلاء القوم حسّاسون ومهووسون بالمظاهر!.
ماذا عليّ أن أفعل؟! لم يعد من مفرّ سوى أن أذهب إليه!». (1)
النفاق والعناق
في ظهر يوم 30 كانون الثاني 1957، وصلت إلى مطار واشنطن ثلاث طائرات تحمل مئات من أفراد الحاشية الملكية: أمراء، وزراء، نسوة، مرافقون، صحافيون، مترجمون، أطفال، خدم، حشم، عبيد... ثمّ وصل الرئيس ايزنهاور إلى القاعة الشرفية في المطار. وأخيراً، وصلت الطائرة «كولمبيان» الخاصّة برئيس الولايات المتحدة الأميركية، والتي تُقلّ على متنها ملك السعودية، الآتي من نيويورك إلى واشنطن. ولدى وصوله، أطلقت المدافع 21 طلقة ترحيباً بالزائر المهم، الذي هبط من مدرج الطائرة ليجد الرئيس ايزنهاور بنفسه يستقبله... كاسراً بذلك كل أعراف البروتوكول الأميركي!
وحينما تقدّم الرئيس من ضيفه ليصافحه، ويقول له: «نرحّب بكم في الولايات المتحدة»، فوجئ بالملك السعودي، وقد تعلّق برقبته، وأخذ يضغط بساعديه على كتفيه، ويشبعه بالقبلات! كان مشهد العناق والقبلات الذكورية جديداً على ايزنهاور. وحتى يتملّص الرئيس الأميركي من أحضان العاهل العربي، مدّ جسمه إلى خادم سعودي نزل من وراء الملك.
كان ذلك الخادم يحمل بين يديه الأمير مشهور بن الملك سعود البالغ من العمر ستة أعوام، والذي يعاني مرضَ شلل الأطفال. فلمّا رأى ايزنهاور الأمير الصغير المشلول، حاول أن يتقدّم منه ليربّت على رأسه (أو لعلّه أراد أن ينجو من ورطة أحضان أبيه!)، ثمّ التفت الرئيس إلى المليك، وتفرّس في العقال الذي يزيّن به رأسه، وقال له: «جلالة الملك، هل هذا هو تاجك؟!». وابتسم سعود بعد أن استمع إلى الترجمان، ثمّ قال لايزنهاور: «لا! حِنا ما نزيّن روسنا بتوجان... حِنا نزيّن روسنا بشعبنا!».
كانت الإدارة الأميركية قد أعدّت للملك العربي مراسم حافلة. فعلى جانبي الطريق من المطار إلى قصر الضيافة في «بلير هاوس»، رُفعت مئات الأعلام السعودية، وحرص المنظمون على أن يمرّ الموكب الملكي فوق جسر واشنطن التاريخي...
ثمّ أن يدور حول نصب أبراهام لنكولن التذكاري. وأثناء مسار الموكب الملكي المكوّن من عشرات سيارات المراسم الفخمة، كان يمرّ من تحت أقواس نصر أعدّت خصّيصاً للمناسبة، وزيّنت باللونين الأخضر والأبيض... وكانت الموسيقى تعزف كامل الوقت، فلقد حشدت السلطات الأميركية 14 فرقة موسيقية على طول الطريق، لتحيّي الملك أينما يصل ركبه. وحول الموكب الضخم حشدت السلطات ألوفاً من الأميركيين ليشاهدهم الملك السعودي وهم يرحّبون به، ويرفعون لجلالته أعلام «لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله»! وأعلن المفوّضون في مقاطعة واشنطن، أن يوم الأربعاء 30 كانون الثاني1957 تقرّر رسمياً أن يطلق عليه اسم «يوم الملك سعود»، وعلى هذا الأساس، فقد قدّم روبرت ماكولان رئيس مجلس المفوضين في واشنطن للملك مفتاحاً رمزياً للعاصمة الأميركية (2).
وفي مساء 30 كانون الثاني 1957 أقام الرئيس ايزنهاور مأدبة حافلة في البيت الأبيض،على شرف الملك السعودي، حضرها كبار المسؤولين الأميركيين، مثل نائب الرئيس ريتشارد نيكسون، ووزير الخارجية جون فوستر دالاس، وعدد مهم من رجال الكونغرس الأميركي، وعدد من النواب من مختلف الولايات.
في الغد، 31 كانون الثاني 1957، كتب ايزنهاور في دفتر يومياته الفقرة التالية: «سعود كان هنا، في العشاء الرسمي الذي أقمته له في البيت الأبيض... كنّا نحن بـ«الفراك» ، وكانوا هم بتلك العباءات. وكان «أولاد البترول» يحومون حول ملك السعودية. طبعاً... فلقد كانت أرباحهم هذه السنة، خيالية! (3)
لقد اختنقت من روائح السعوديين... إن رائحة البخور، لا تزال تملأ البيت الأبيض! والملك السعودي هذا، شخصية من شخصيات القرون الوسطى. هذا المخبول أعطى لخدم البيت الأبيض بقشيشاً ما بين خمسين إلى مئة دولار، لكلّ واحد منهم! ماذا سأقول؟! إنّ إعطاء البقشيش، في البيت الأبيض، ممنوع منعاً باتاً. ولكنّي اللبارحة خرستُ، وحبستُ لساني في فمي!
لا يهمّ! المهمّ أن يدخل سعود في مشروعنا للشرق الأوسط الجديد!» (4).
قطعة ضخمة من اللحم... اسمها ملك السعودية
في تلك الأيام، كان هنالك مشروع أميركي جديد يُطبَخُ للشرق الأوسط، وقد سُمّيَ «مبدأ ايزنهاور»، وقُدّم رسمياً إلى الكونغرس، في يوم 5 كانون الثاني 1957. وكان هذا المشروع يخوّل للرئيس الأميركي - ومن دون الرجوع إلى الكونغرس للحصول على تفويض منه - حق التدخل السريع بالقوة المسلحة، لحماية أي نظام حليف لأميركا في الشرق الأوسط يتعرّض لتهديد (أو خطر تهديد) من قوى الشيوعية العالمية أو من المتعاونين معها. ويخوّل المشروع للرئيس في إطار تدخله ذاك، أن يقدّم المساعدات العسكرية الضرورية لأصدقاء أميركا.
وكتب ايزنهاور في مذكراته يوم 5 كانون الثاني1957، بُعيد إقرار المشروع في الكونغرس، ما نصه: «إنّ على أيّ ديكتاتور في الشرق الأوسط أن يَحسب، منذ اليوم، حساب أي خطوة يتخذها».
ثمّ أضاف: «إن ملك السعودية، هو رجلنا الوحيد الذي قد يستطيع أن يتحدّى ناصر في قيادة العالم العربي، وأن يحوّل قاطرته من اتجاه الاتحاد السوفياتي، إلى اتجاهنا». كانت استراتيجية الولايات المتحدة للشرق الأوسط، بُعيد الحرب العالمية الثانية تنحو إلى التفرّد المطلق بهذه المنطقة المهمة من العالم. وعلى هذا الأساس، كانت أميركا تعمل على سياسة عزل مزدوج لمنافسيها. فأمّا الحلفاء منهم، (بريطانيا و فرنسا) فكان العزل لهم بوراثة أدوارهم. وأمّا الخصوم (كالاتحاد السوفياتي) فكان عزلهم بشيطنتهم حتى لا يمتد تأثيرهم الشيوعي إلى منطقة يريدها الأميركيون لهم حصراً. ولقد اعتبر جمال عبد الناصر - الذي خرج لتوه ناجياً من عدوان ثلاثي دبّره الحليفان المنافسان - امتداداً لأولئك الخصوم (السوفيات) الذين يُراد شيطنتهم، وعزلهم.
وأمّا تعويل الأميركيين في خططهم على السعودية، فذلك بحكم ما لها من نفوذ ديني يمكن أن يجيّر في حملة ضارية ضد «الإلحاد الشيوعي». وبحكم ما لها من شبكة علاقات يمكن أن تستخدم في نسج تحالفات إقليمية جديدة. وبحكم ما لها من أموال يمكن أن تشتري ولاءات هنا وهناك. وبحكم ما لها من موقع استراتيجي يمكن أن ينافس موقع مصر في العالم العربي.
ولم يخيّب الملك السعودي آمال الأميركيين. فلقد مضى بعد زيارته التاريخية للبيت الأبيض، يسعى بهمّة ونشاط لتقويض مركز عبد الناصر في مصر والعالم العربي. وكان من أوائل ما صنعه الملك تمويله لمرتضى المراغي، وزير الداخلية في أواخر عهد الملك فاروق، حتى يدبّر انقلاباً عسكرياً في مصر. ولكن أحد الضباط المصريين الذين كُلفوا بتدبير الانقلاب، وهو العقيد عصام خليل، أفشى بما طُلِبَ منه للواء (وقتها) عبد الحكيم عامر. وسَلم له المبالغ التي دفعت إليه (16.200 جنيه استرليني). وأوصلت التحقيقات في هذه المسألة إلى حقيقة من يقف خلفها. ولم يكن هذا الذي وراء المؤامرة إلا ملك السعودية بنفسه! ولم ترد القاهرة أن تقطع شعرة معاوية مع الرياض، فتكتمت في بداية الأمر عن موضوع سعود بطلب ورجاء من الشيخ يوسف ياسين مستشار الملك، ثمّ بمسعى من أخيه فيصل. ولكن ملك السعودية عوض أن ينكفأ عن مساعيه التآمرية، زاد في مساعيه تلك وصعّدها.
ولقد تهيأ للملك السعودي - وهو يراقب، في ذلك الوقت، توجس الغرب وهلع حِلفه في المنطقة، من الاستعدادات التي تحضّرُ حثيثاً لإنجاز وحدة بين مصر وسوريا، في أوائل سنة 1958 - أنه قادر على تحطيم هذا الحلم، عبر استخدامه للنقود، في رشوة جديدة.
وكان الهدف الذي تطلعت إليه عينا الملك السعودي الآن، هو عبد الحميد السرّاج، رئيس المخابرات العسكرية في سوريا (المعروفة باسم «الشعبة الثانية»). ولقد بعث الملكُ للسرّاج صهرَه أسعد إبراهيم، وعرَض عليه مبلغ مئة مليون جنيه استرليني، إن هو قبل بالقيام بانقلاب يحول دون حدوث الوحدة بين سوريا ومصر. وكان العرض أن يدفع السعوديون للسرّاج عشرين مليون جنيه استرليني مقدماً، على أن يُدفع الباقي بعد نجاح العملية. ولكي يتشجع السرّاج أكثر، فقد أعلمه وسيط الملك السعودي أنّ السفير الأميركي في دمشق مستعد لإعلان اعتراف بلاده بالنظام الجديد، حال إعلانه. كذلك إن الملك يضمن اعتراف كل البلدان الصديقة لأميركا، بالوضع الجديد.
وطلب السرّاج من أسعد إبراهيم (والد زوجة الملك سعود، أم خالد) أن يمنحه هذا المال الذي سيساعده في تنفيذ الخطة. وغادر أسعد إلى السعودية على متن طائرة ملكية خاصة. ثم عاد يوم 20 شباط 1958، (أي قبل يوم واحد من الاستفتاء على الوحدة) وجاء معه بـ 3 شيكات: الأول بمبلغ مليون جنيه استرليني تحت رقم52/85902، والثاني بمبلغ 700 ألف جنيه تحت رقم تحت رقم58/85903، والثالث بمبلغ 200 ألف جنيه تحت رقم 59/85904. وكانت كل هذه الشيكات مسحوبة من البنك العربي المحدود في الرياض، على بنك ميدلاند في لندن، وتدفع لحامله. ثمّ أعلم أسعد إبراهيم السرّاجَ ضاحكاً، بأنه قد خصَمَ من المليوني جنيه استرليني التي بعثها الملك إليه، مئة ألف جنيه، باعتبارها عمولته.
ولم ينتظر السرّاج حتى ينبلج النهار، فقد تحرّك فوراً بصحبة بعض ضباطه الموثوقين، واستدعوا واصف كمال مدير فرع البنك العربي المحدود في دمشق ونائبه وبعض معاونيه، لكي يشرفوا مع أول ساعات الصباح على عملية سحب المبالغ من بنك ميدلاند برقيا، وتحويلها إلى حساب جديد باسم السرّاج، تمّ فتحه في سويسرا.
وفي يوم 24 شباط 1958 (بعد يومين من إعلان نتيجة الاستفتاء على الوحدة) جاء عبد الناصر إلى دمشق. وكان أول شيء فعله السرّاج هو أن أعلمه بكل تفاصيل مؤامرة الملك السعودي، وقدّم له مجموعة لصور الشيكات، والأذون بالدفع المتعلقة بها. ثمّ زاد السرّاج فأخبر عبد الناصر بقصة مؤامرة أخرى أعدّها الملك سعود، واعترف بتفاصيلها أسعد إبراهيم، بعد أن قبض عليه. وتتعلق برشوة أحد طيّاري سلاح الجو السوري، بنصف مليون جنيه، حتى يقوم بإسقاط طائرة عبد الناصر في الجوّ قبل وصوله إلى دمشق، ومن ثمّ يهرب إلى تركيا.
في الغد، خطب عبد الناصر أمام مئات الآلاف من الجماهير المحتشدة في دمشق، والتي جاءت من كل أنحاء سوريا، لتستمع إلى خطابه الأول، بعد إتمام الوحدة العربية. وفي ذلك اليوم المشهود، كشف الرئيس كل تفاصيل مؤامرات ملك السعودية ضد الوحدة العربية: بالأدلة، والشهود، والوثائق الدامغة... وسط ذهول الملايين من المنصتين إليه في الميادين، ووسط ذهول الملايين من المنصتين إليه في كامل أرجاء الوطن العربي. لقد كان الناس من المحيط إلى الخليج، يتجمعون في كل مكان ليسمعوا مباشرة وبانتباه، محطات الإذاعة التي تنقل خطاب الوحدة مباشرة، من دمشق. ولم يكن يدور في خلد أحد من العرب أن هذا الخطاب الذي ظلوا يتطلعون إليه بشغف، سيعرّي وجوهاً وعروشاً وأنظمة على الملأ.
وبُعيد انكشاف مؤامرة الملك سعود، وافتضاح مخططه لإجهاض الوحدة المصرية - السورية، انفجر سخط عارم بين أمراء العائلة المالكة السعودية، على سياسات الملك الغبية. وأدّت الفضيحة المدوية، في نهاية المطاف، إلى سحب صلاحيات السلطة من يد سعود، ومنحها إلى ولي عهده الأمير فيصل بن عبد العزيز.
وفي واشنطن، كان تعليق الرئيس الأميركي إيزنهاور، على كل هذا الذي جرى، وفقاً لرواية مساعده السياسي في البيت الأبيض شيرمان آدامز، كالتالي: «لا بد أن نسلّم أن ابن الـ**** هذا، زعيم حقيقي لديه الأعصاب ولديه الكفاءة... والخسارة الحقيقية أنه لا يقف في صفنا، بينما نجد في صفنا قطعة ضخمة من اللحم اسمها سعود!»(5).
علامة الله
بعد أكثر من خمسين عاماً، عمّا دوّنه ايزنهاور في يومياته، متهكماً على سعود، تحدّث جورج دبليو بوش في كتابه «نقاط القرار»، الذي صدر في تشرين الأول 2010، غامزاً من الاضطراب في شخصية الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد آنذاك) عندما زار الولايات المتحدة في 25 نيسان 2002، واستضافه بوش في مزرعته في كراوفورد بولاية تكساس.
قال بوش في كتابه إنّ عبد الله كان متوتراً بسبب إهمال الإسرائيليين الردّ على مبادرته للسلام التي طرحها قبل شهر، في قمة بيروت. وأنه طلب منه أوّل ما التقاه أن «يُخرِجَ الخنزيرَ من رام الله». (يقصد بالخنزير شارون الذي احتل الضفة في نيسان 2002، وحاصر عرفات في مقر المقاطعة). واستغرب عبد الله لماذا لا يمسك رئيس الولايات المتحدة الآن بالهاتف، ويأمر شارون بالانسحاب فوراً. وأجابه بوش أنه لا يستطيع أن يمارس الدبلوماسية بهذه الطريقة. وهنا ازداد غضب عبد الله وحنقه، وقرّر الانسحاب من الاجتماع فوراً.
لقد كان عبد الله يعتقد حينئذ أنّ بإمكان بوش (ملك أميركا) أن يمسك بالهاتف، ويزعق في أذن الخنزير شارون، ويأمره فوراً بالخروج من رام الله. وحينها لن يستطيع شارون عصيان أمر «ملك أميركا»، وسينفذ الأوامر صاغراً خسيئاً! وبما أن بوش يتهرّب من إصدار توجيهاته هذه إلى شارون، فذلك لا يعني سوى أنه يستهين بولي عهد السعودية. وعليه فلنغادر المكان، فلا جدوى حينئذ من أي كلام!
وقرّر بوش أن يحتوي مزاجية ضيفه العربي. وفكّر أن يلعب على «كارت» الدين، مراهناً على بساطة عقل عبد الله، وأن موضوع الدين لا شك سيثير اهتمام أمير سعودي. وهكذا أخذ يشرح لضيفه الوهابي أهمية دور يسوع في حياته، متمنياً أن هذا الوعظ ربما يستهوي شهية عبد الله الدينية. ولكن ولي العهد السعودي - بحسب ما ذكره بوش- لم يكن لديه أيّ مزاج للمشاركة في مثل هذه الأحاديث.
ولم يتبق لبوش حتى يكسب ودّ سيد السعودية، في أول لقاء لهما مع بعضهما، سوى التكلم معه عن الحيوانات. وكان مساعدو الرئيس قد أخبروه عن مدى ولع عبد الله بالدواب. واقترح الرئيسُ الأميركي أن يصطحب الأميرَ في جولة، في مزرعته.
هز عبد الله رأسه مستجيباً. وبعد دقائق قليلة كان ولي العهد بثيابه الفضفاضة يصعد إلى سيارة «فورد زاد50»، برفقة مترجم وزارة الخارجية الأميركية جمال هلال. وبدأ بوش يشرح لعبد الله أنواع الأشجار في مزرعته، وأنواع الحشائش البرية التي زرعتها زوجته لورا. ويشير إلى الأبقار التي كانت ترعى. وكان ولي العهد جالساً صامتاً... «ولم أكن قد توصلت إلى شيء كثير معه»، يقول بوش.
ثم يضيف في روايته: «وصلنا إلى جزء بعيد من المزرعة، وكانت هناك أنثى ديك رومي وحيدة تقف في الطريق، فأوقفت السيارة، لكي لا أدهسها. ولكن الطائر لم يتحرك. وسألني عبد الله قائلاً: ما هذا؟ فقلت له: «إنه ديك رومي. وأضفتُ: إن الرئيس بنجامين فرانكلين كان يحب الديك الرومي حتى إنه أراد أن يجعله رمز أميركا القومي... وفجأة شعرت بيد ولي العهد تمسك بي. وبدأ يهتف مردداً: أخي، هذه علامة من الله... هذه علامة من الله... هذا فأل طيب، هذا فأل طيب!».
ويقول بوش: «لم أفهم منه شيئا أبداً! ما الذي أصابه؟! وما أهمية الديك الرومي؟ ولماذا هو علامة الله عنده؟! ولكني اندهشت لأن توتره السابق معي بدأ فجأة يذوب. وعندما عدنا إلى المنزل، كان أعواننا مندهشين عندما قلنا لهم إننا مستعدون لإكمال المحادثات».
ويضيف: «في الفترة التي تبقت من رئاستي كانت علاقتي مع ولي العهد وثيقة للغاية. صار هو ملكاً بعد فترة قصيرة من ذلك الزمن... ولم يحدث قط أن رأيت أنثى الديك الرومي التي ألهمته الوحي في ذلك الجزء من المزرعة. ولم أرها أبداً منذ ذلك الوقت».
هوامش ومراجع
(1) جُمِعَ بعض من مذكرات الرئيس دوايت ايزنهاور، في كتاب طبع في أميركا سنة 1984. وقد رتبه وجمعه وعلق عليه المؤرخ الأميركي ستيفن أمبروز. ولكن نصوص اليوميات الكاملة التي كتبها ايزنهاور لم تنشر كلها، ربما لضخامتها أو لحساسية محتواها.
(2) واليوميات، مدونة في مجموعة من الكراسات بخط يد الرئيس الأميركي، ومحفوظة ضمن مجموعة الأوراق الخاصة به، في ملفات أحدها بعنوان الشرق الأوسط، الصندوق رقم 2، في مكتبة ايزنهاور الرئاسية بآبيلين، في كانساس. ويمكن لمن يريد الاطلاع، أو تصوير نسخ منها، إذا شاء، بموجب قانون الحق في تداول المعلومات في الولايات المتحدة، أن يفعل ذلك. والمقاطع التي كتبها ايزنهاور، واعتمدتها في المقال لم تنشر مثلاً في كتاب أمبروز، ولكن الصحافي المصري محمد حسنين هيكل أمكنه أن يطلع عليها، وأن يضمّنها في كتابيه «ملفات السويس» (نشر 1986)، و في كتاب «سنوات الغليان» (نشر 1988) أيضاً.
(2) بالنسبة إلى تفاصيل استقبال سعود في واشنطن، يمكن العودة إلى كتاب محمد السلاح «سعود في أمريكا».
(3) يقصد ايزنهاور بقوله كنا نحن بـ«الفراك»، البدلات التي يلبسها رجال الأرستفراطبة في حفلاتهم الرسمية ، وأما العباءات التي كان يلبسها السعوديون ، فجمع لعباءة ، وهي الرداء الذي يرتديه شيوخ العرب فوق دشداشاتهم. أمّا قوله «كان أولاد البترول يجرون من حول ملك السعودية»، وقد استعمل ايزنهاور عبارة : ( The children of oil ) فإن الرئيس الأميركي كان يقصد: رؤساء مجالس إدارات شركات البترول في أميركا التي كانت أرباح شركاتهم المحتكرة للنفط السعودي خيالية في تلك السنوات.
(4)تعليقات ايزنهاور التي تسخر من الملك سعود، مقتبسة مما أورده محمد حسنين هيكل في كتابه «ملفات السويس»، الطبعة الأولى 1986، مركز الأهرام للترجمة والنشر ص. 603 – 604.
(5) كتاب «ملفات السويس»، محمد حسنين هيكل، ص 504
* كاتب عربي كيف تصنع الـ CIA جهاداً في سبيل الله؟
«السيد الرئيس، إذا تركناهم يضعون أيديهم على أفغانستان فما الذي يضمن لنا ألا يتطلعوا غداً نحو إيران؟» (أ ف ب)
جعفر البكلي
رنّ جرس الهاتف في حجرة نوم الرئيس الأميركي في الطابق الثاني بالبيت الأبيض. كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً. رفع الرئيس السمّاعة، فخاطبه صوت مستشاره للأمن القومي قائلاً: «سيدي الرئيس، آسف لأني اضطررت لإيقاظك. الوضع غَدَاً خطر».
بعد أربع ساعات تقريباً، في تمام السادسة والنصف صباحاً من يوم الخميس 27 كانون الأول 1979، نزل جيمي كارتر إلى المكتب البيضاوي. كان زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي بانتظاره جالساً مترقباً. بادره الرئيس بالسؤال: «ما الجديد؟».
أجاب بريجنسكي: «لقد قتلوا الرئيس حفيظ الله أمين! الأمر لم يعد يتعلق الآن بإعادة تمركز قواتهم كما كنا نتصوّر من قبل، بل هو غزو واحتلال كامل للبلد! إنّ أعداداً كبيرة من القوات المجوقلة انضمت للقوات السوفياتية المتمركزة على الأرض، وبدأت بالهبوط في كابول. شبكة الاتصالات انقطعت بالكامل في أفغانستان، وهذا البلد صار معزولاً تماماً عن العالم الخارجي».
الرئيس الأفغاني/ حفيظ الله أمين
صمت بريجنسكي قليلاً ثمّ نظر في أوراق دوّن عليها بعض النقاط والملاحظات، وأردف: «سي آي إيه أكدت لي منذ قليل أنّ كتيبتين من القوات الخاصة السوفياتية هما «ألفا» و«زينيث»، قامتا باحتلال الأبنية الحكومية والعسكرية والإذاعية في كابول، بما فيها القصر الرئاسي، حيث تخلصوا من الرئيس حفيظ الله أمين. وكتيبة «فايتبسك» المظلية احتلت مطار بغرام. وأمّا عملاء «كي جي بي» فقد أحكموا السيطرة على مراكز الاتصالات الرئيسية في العاصمة، وشلوا بذلك القيادة العسكرية الأفغانية».
سأل كارتر: «وهل تظن أن غزوهم سيقتصر على أفغانستان؟». صمت بريجنسكي برهة قليلة، ثمّ أجاب: «تقديري الخاص، أن غزو السوفيات لأفغانستان هو بداية الأمر، وليس نهايته. ويشاطرني في هذا الرأي أيضاً الأميرال تيرنر» (يقصد ستانسفيلد تيرنر، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك).
حكّ الرئيس كارتر أنفه وهو ينظر إلى زبيغينيو بقلق، فأردف كبير المستشارين البولندي الأصل، موضحاً لرئيسه مكمن الخطر: «السيد الرئيس، إذا تركناهم اليومَ يضعون أيديهم على أفغانستان، فما الذي يضمن لنا أن لا يتطلعوا غداً نحو إيران؟! الوضع الآن في إيران مشوش. ونحن فقدنا السيطرة تماماً على هذا البلد الأهم في الشرق الأوسط، والخميني يبدي عداء ضارياً لنا، والحكومة الإيرانية تخشى من ضربتنا الوشيكة لهم بعدما احتجزوا موظفي السفارة.
كل هذا قد يجعل الخمينيين يتقربون من السوفيات ويحتمون بهم، كما تقرّب بالأمس منهم أمين واحتمى بهم. والسوفيات إذا مدوا عروقهم أكثر في طهران، صنعوا فيها ما يصنعونه اليوم في كابول. فإذا سقطت طهران بعد كابول، صارت منابع النفط في الخليج الفارسي في متناول يد موسكو!».
ران صمت ثقيل في المكتب البيضاوي، قبل أن يقطعه الرئيس الأميركي قائلاً بصوت حازم: «ادع مجلس الأمن القومي فوراً».
يا أميركا حرّضي المؤمنين على القتال
صبيحة يوم 27 كانون الأول 1979، انعقد مجلس الأمن القومي الأميركي في «مبنى إيزنهاور» المقابل للبيت الأبيض.
ضمّ الاجتماع كلّاً من الرئيس كارتر، ونائبه والتر موندل، ومستشار الأمن القومي بريجنسكي، ووزير الخارجية سايروس فانس، ووزير الدفاع هارولد براون، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال ديفيد جونز، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية ستانسفيلد تيرنر، وبعض المستشارين المتخصصين المرافقين لأعضاء المجلس. دام ذلك الاجتماع أربع ساعات. واتفق فيه على جملة من القرارات تصب في خدمة هدفين اثنين هما:
1ــ يجب على الولايات المتحدة أن تردع الاتحاد السوفياتي بكل وسائلها، كي لا يطمع قادته أو يفكروا فيما وراء أفغانستان.
2ــ بعد التأكد من تحقق الهدف الأول، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل لدحر السوفيات في أفغانستان نفسها، حتى يخرجوا منها مهزومين غير منتصرين.
لم يكن إقناع «الرئيس المؤمن» بخدمة المشروع الأميركي الجديد صعباً
وفي ما يخص الهدف الأميركي الأول، يكون على واشنطن أن تنبّه السوفيات بالوسائل الدبلوماسية/ السياسية بدايةً، ثمّ بفرض العقوبات الاقتصادية/ المالية عليهم تالياً، ثمّ بتفعيل الاتفاقيات الأمنية/ العسكرية السرية المبرمة مع ملوك ورؤساء وأمراء البلدان الحليفة في الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، يكون على السفراء الأميركيين المعتمدين في العواصم الخليجية (وفي القاهرة وعمّان) أن يطلبوا من السلطات المحلية تنفيذ تفاهمات واتفاقات سرية أبرمت مع الولايات المتحدة سابقاً، بما في ذلك حق أميركا في استخدام القواعد العسكرية في بلدانهم للأغراض الحربية. ويفضل أن تمر تلك الإجراءات بهدوء، ومن غير صخب إعلامي.
وأمّا في ما يخص الهدف الأميركي الثاني، فإنّ واشنطن يجب أن تنال غايتها من دون أن تتدخل عسكرياً أو علنياً ضد السوفيات في أفغانستان، وذلك لثلاثة أسباب:
أولاً: لأنها لا ترتبط قانونياً مع حكومة كابول بأي اتفاق دفاعي مشترك، على عكس غريمها السوفياتي الذي وقع منذ عام، مع الرئيس الأفغاني السابق نور محمد تراقي «معاهدة الصداقة والتعاون وحسن الجوار» التي تتيح لموسكو إمكان التدخل العسكري لمساعدة النظام الحليف لها في أفغانستان. وبذلك تنزع تلك الاتفاقية، قانونياً، عن «العملية السوفياتية» صبغة الاحتلال.
ثانياً: لأنّ حماية أفغانستان نفسها ليست هدفاً أميركياً مغرياً. فما يهم واشنطن أساساً هو حماية مصالحها الاستراتيجية التي تحيط بأفغانستان (في إيران وباكستان والخليج). ولذلك فإن دخول أميركا في صدام عسكري مباشر مع الاتحاد السوفياتي من أجل أفغانستان - بقطع النظر عن مسوغاته القانونية - هو أمر غير مرغوب، فضلاً عن أنه مكلف.
ثالثاً: لأنّه باستطاعة أميركا تحقيق غايتها، وإخراج السوفيات من أفغانستان منكسرين، من دون أن تخسر هي جندياً واحداً من جنودها، أو تحرك طائرة واحدة من طائراتها... وذلك لأنّ بلاد الأفغان يمكنها أن تكون فخاً أميركياً مثالياً للروس!
وأثناء نقاشات مجلس الأمن القومي الأميركي (المذكور)، عرض ستانسفيلد تيرنر مدير «سي آي إيه» كيف نجحت وكالته، مع حلفائها الباكستانيين، في اختراق قيادات من القبائل الأفغانية (خصوصاً من قبائل الباشتون ذات الارتباطات الإثنية مع باكستان).
وكيف جُنّدت ميليشيات من رجال القبائل للقيام بحرب عصابات ضد الحكومة الأفغانية، وضد الجنود والمستشارين السوفيات الداعمين لها، في إطار معاهدة التعاون العسكري.
وذكر تيرنر كيف عملت «سي آي إيه» فعلاً على مضاعفة دعمها «للمجاهدين»، بعد أن أصدر لها الرئيس كارتر في الثالث من تموز 1979 توجيهاً رئاسياً لزيادة تمويلهم وتسليحهم، وتحفيزهم معنوياً تحت شعارات «الجهاد ضد الشيوعيين الملحدين الذين يريدون شراً بالإسلام في أفغانستان».
وبالفعل فقد قامت هذه الميليشيات بجهد مميّز في حربها ضد حكومة كابول ما اضطر الاتحاد السوفياتي، في نهاية المطاف، إلى التدخل بنفسه في أفغانستان، لينقذ نظاماً جاراً وحليفاً له من التهاوي تحت ضربات «المجاهدين» المدعومين من وكالة الاستخبارات الأميركية.
وكان من رأي مجلس الأمن القومي في اجتماعه المذكور، أنّ أميركا تستطيع أن تزيد جرعات دعمها لميليشيات «المجاهدين»، وأن تحفزها دينياً «للجهاد - أكثر فأكثر - ضد الملحدين الذين يريدون شراً بالإسلام». ذلك أنّ جهاد أولئك المجاهدين إذا وفرت له أميركا بيئة مساعدة إقليمياً وإسلامياً وغطاء من الدعاية الإعلامية ومدداً من المتطوعين الراغبين في الشهادة في سبيل الله ورُزَماً من المال وترسانات من السلاح، فهو حينئذ لا بدّ أن يؤتي أكله، عاجلاً أو آجلاً... ولقد أثمر «الجهاد» نتائج رائعة لمصلحة أميركا، فيستنزف السوفيات، من دون أن تخسر هي شيئاً يذكر!
ولأجل تحقيق هذه الأهداف، قرر الرئيس الأميركي إيفاد مستشاره للأمن القومي في «جولة مكوكية» إلى الشرق الأوسط لإقناع الحلفاء بمحاسن «الجهاد الإسلامي»، وبأهمية تمويل «المقاومة» وتسليحها، وبضرورة الوقوف كالبنيان المرصوص ضد دولة الاحتلال، وضد الكفار والملحدين الذين يريدون شراً بالإسلام وأهله! مَثلُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل أميركا..
بدأ زبيغنيو بريجنسكي جولته في القاهرة، فالتقى يوم 3 كانون الثاني 1980 الرئيس المصري أنور السادات.
ولم يكن إقناع «الرئيس المؤمن» بخدمة المشروع الأميركي الجديد صعباً، فالرجل قد أسلم زمامه تماماً «لصديقه الحميم» كارتر، منذ أن قبل بمعاهدة «كامب ديفيد». وكان مطلب المبعوث الأميركي من مصر هو القيام بحملات دعائية إعلامية نشطة يشارك فيها شيوخ الأزهر(ولا بأس إذا تمكّن السادات بما له من دالة على «الإخوان المسلمين» أن يشركهم في هذه الحملة أيضاً)، والمراد من تلك الحملات أن تبيّن للعرب قبح صنيع الملاحدة الروس، وأن تستصرخ ضمائرهم لنجدة إخواننا المسلمين في أفغانستان، وأن تفتي بوجوب الجهاد في سبيل الله لتحرير هذا البلد الأسير.
وفي المقابل فإنّ مصر ستنال أجرها وافياً على مجهوداتها، من خلال صندوق تمويل تزمع واشنطن إنشاءه بالتعاون مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، ويكون مقره في جنيف. ثم إن مصر قد تنال أجرها على الجهاد مضاعفاً من أميركا.
فإن لزم «المجاهدين الأفغان» سلاح (ولا شك أنه سيلزمهم) فإن القاهرة بإمكانها أن تبيع بأسعار مربحة إلى «صندوق الجهاد» تلك الأسلحة السوفياتية الفائضة عن حاجتها، والتي اشترتها من موسكو في الماضي بأسعار زهيدة، للمساهمة بها في الجهاد ضد الروس!
المملكة السعودية هي التي تحملت عبء حصتها وحصة أميركا معاً
[في الحقيقة، أن الأسلحة السوفياتية لمصر لم تكن رخيصة، وإنما كانت شبه مجانية، لأن مصر لم تدفع لحد اليوم ثمنها، بل يمكن أن يقال إن الاتحاد السوفياتي قد تبرّع بمجمل السلاح الذي قاتل به الجنود المصريون في أربعة حروب (56/ 67/ الاستنزاف/ 73) لمصلحة المجهود الحربي المصري والعربي ضدّ «إسرائيل». والاتحاد السوفياتي لم يكتف بالتبرع للعرب بالسلاح الذي قاتلوا به عدوهم، بل هو تبرع لهم بمستشارين عسكريين، وبطواقم من خيرة طياريه ليقاتلوا جنباً إلى جنب مع المصريين، وليعلموهم كيف يستعملون ذلك السلاح بكفاءة. أمّا إذا تطرقنا إلى المساعدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السوفياتية لمصر وللعرب جميعاً، فحدّث ولا حرج!].
ومباشرة بعد تلقيه مطالبَ المبعوث السامي الأميركي، أمر السادات بتخصيص مطار قنا العسكري ليكون مقراً لمجهود «الجهاد» الأميركي، وليصير قاعدة منها تحمّل الأسلحة المصرية (السوفياتية) إلى باكستان حيث توزعها «سي آي إيه» على إخواننا «المجاهدين». كما أمر الرئيس المصري بجعل ميناء بورسعيد قاعدة خلفية لتخزين وشحن السلاح إلى ميناء كراتشي.
وفي 1 نيسان 1980 بقّ السادات البحصة كما يقول المثل اللبناني، حين تكلم في حديث صحافي نشرته وسائل الإعلام المصرية قائلاً: «إننا على استعداد بأسرع ما يمكن لكي نساعد في أفغانستان وأن نتدخل لنصرة إخواننا المجاهدين هناك، سواء طلبوا منا المساعدة أو لم يطلبوها!» (1).
وبعد يوم من اجتماعه مع السادات، طار بريجنسكي إلى جدة، حيث التقى الأمير فهد ولي العهد السعودي وشقيقه الأمير سلطان وزير الدفاع. وكان المطلوب من السعودية أن تخرج من جيوبها المال. ولم يرفض فهد أن يدفع، ولكنه اشترط أن تجرى الأمور الأمنية ضد الروس بسرية مخافة انتقامهم من المملكة، وأن يتولى الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات العامة السعودية تنسيق الجهد السعودي مع «سي آي إيه»، وأن تحصرَ الاتصالاتُ السياسية والتوجيهات المباشرة للمجاهدين بالطرف السعودي.
ثمّ إنّ الأمير فهد اشترط على مستشار الأمن القومي الأميركي أن تؤدي الولايات المتحدة قسطها المالي بما يساوي قسط السعودية، أي أن تدفع هي الأخرى 500 مليون دولار للجهاد، تتجدد دورياً بحسب حاجة المجاهدين.
وكان على بريجنسكي أن يقبل بشروط فهد، ولكن المشكلة أن الشرط المالي الأخير عويص التحقيق. وواشنطن كان «عشمها» أن تتكفل السعودية بتحمل الأعباء المالية للجهاد في سبيل الله لوحدها، أو بالاشتراك مع دول الخليج الأخرى.
ولقد حاول بريجنسكي أن يشرح لفهد بأنّ عبء النصف مليار دولار سنوياً هو أثقل مما تستطيع ميزانية وكالة الاستخبارات المركزية أن تتحملَه. كما أنه أكبر مما تقبل به لجنة الأمن المتفرعة من لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، للموافقة على اعتمادات العمليات السرية. فضلاً عن أنّ الذهاب إلى مثل هذه اللجان يعني شبه كشفٍ للعملية السرية ضد الروس!
ولم يتزحزح فهد عن شرطه إلا قليلاً، فقبل أن تؤجل أميركا مساهمتها لبعض الوقت حتى تدبر أمرها، ثمّ قبل أن تبادر السعودية إلى تمويل مشروع الجهاد منفردة على أن تلحق بها واشنطن حين ييسّر الله لها مخرجاً من عسرها.
يسألونك عن الأفيون، قل فيه منافع للناس
مرت سنة 1980 الانتخابية من دون أن تدفع إدارة كارتر تكاليف مشروعها الجهادي، بل إن المملكة السعودية هي التي تحملت عبء حصتها وحصة أميركا معاً. وانتهى عام 80 بخسارة كارتر ومغادرته مع مستشاره بريجنسكي للبيت الأبيض، ومجيء رونالد ريغان وطاقمه.
وكان من الطبيعي أن تفتح للإدارة الأميركية الجديدة جميعُ الملفات السرية، ومنها عمليات «سي آي إيه» للجهاد في سبيل الله ودحر الكفر والإلحاد. وكان على الجنرال فيرنون والترز نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك، أن يشرح لريغان تفاصيل تلك العملية.
ويبدو أن الرئيس الأميركي المنتخب قد تحمس كثيراً لمسألة الجهاد ضد السوفيات. ولكن المعضلة القديمة كانت ما تزال قائمة، فالاعتمادات المالية للعملية باهظة جداً، والرياض بدأت تتذمر لكونها تحمل «الشيلة» لوحدها، ثمّ إن حملة ريغان الانتخابية نفسها رفعت شعار الضغط على الإنفاق الحكومي لتقليص الدين العام، ومن غير الوارد أن يخنث الرئيس بالوعد الذي قطعه للناخبين منذ يومه الأول في الحكم.
ولقد جاء الفرج، في شكل «نصيحة» من ألكسندر دو ميرانش رئيس جهاز مكافحة التجسس الخارجي (المخابرات الفرنسية)، للرئيس ريغان حينما اجتمع به في المكتب البيضاوي يوم 23 كانون الثاني 1981، بحضور وزير الدفاع الأميركي كاسبر واينبرغر، وروبرت ماكفرلين مساعد مستشار الأمن القومي، وفيرنون والترز الذي عينه ريغان مستشاراً له للمهمات الخاصة.
وكانت نصيحة ألكسندر دو ميرانش لريغان أنه بإمكانه أن يستفيد من شحنات المخدرات الهائلة التي يصادرها كل من مكتب التحقيقات الفيدرالي وهيئة الجمارك، لأجل تمويل حصة الولايات المتحدة في صندوق الجهاد. وإنّ تلك الشحنات المصادرة من المخدرات ربما تثمّن بمليارات الدولارات في السوق السوداء، وبدلاً من إتلافها - كما ينص القانون الأميركي - يستحسن إعادة بيعها والاستفادة بثمنها في العمليات السرية للإدارة، من دون المرور بالكونغرس وبلجانه البيروقراطية. ولعل «سي آي إيه» تستفيد من المخدرات بطريقة أخرى إذا استطاعت توصيلها إلى الجنود السوفيات ليستهلكوها! (2).
ولقد راق هذا الاقتراح الفرنسي للرئيس الأميركي، فأمر مدير «سي آي إيه» الجديد ويليام كايسي بأن يسعى إلى تنفيذ هذه «الفكرة العظيمة» في الحال. وكذلك جعل الله لأميركا مخرجاً، ورزقها المال اللازم للجهاد في سبيله، من حيث لا تحتسب!
ويبدو أنّ «السي. آي. إيه» اكتشفت لاحقاً منافع الأفيون الذي تمتاز بإنتاجه أرض أفغانستان، فهذه الزراعة لو قدّر لها أن تتطوّر إلى صناعة، فإنها ستغني «المجاهدين» عن مدّ أكفهم لأيدي المحسنين. وهكذا فقد تضاعف، في سنوات الجهاد، إنتاج المزارعين الأفغان من الخشخاش مرات عدة حتى صار مردوده المالي يقارب ستة مليارات دولار سنوياً، وأصبح الأفيون وتقطيره أهم صناعة وطنية في البلاد. ولقد احتاجت تلك الصناعة سريعاً إلى أن تردفها التجارة، ثمّ احتاجت التجارة إلى طرق مواصلات مؤمنة. وكذلك أمسك كل زعيم ميليشيا (جهادية) بتقاطع طرق، فأنشأ عليه حاجزاً يُنَظِّم مرور شحنات الأفيون، ويسمح بها مقابل رسوم يقتطعها تحت يافطة «واجب دعم الجهاد»!
ويروي الصحافي الباكستاني محمد رشيد كيف أنّ التغاضي والتواطؤ والجشع قد أوصلوا جميعاً إلى ما يشبه «الانفجار» في تجارة المخدرات. وفي عقد الثمانينيات من القرن العشرين اقترب حجم المخدرات الأفغانية المتداولة في العالم من 70% من إجمالي الإنتاج.
ولقد اضطرّ بعض ضباط مكاتب مكافحة المخدرات التابعة للأمم المتحدة في بيشاور إلى الاستقالة من وظائفهم احتجاجاً على العراقيل التي يصنعها رجال الاستخبارات المركزية الأميركية والمخابرات العسكرية الباكستانية لجهودهم! (3).
ومن غرائب التصاريف أنّ حركة طالبان، حين استولت على الحكم في أفغانستان فيما بعد، أرادت أن تحرّم زراعة المخدرات، لكنها وجدت أنّ موارد البلاد من المال قد شحّت بصورة مفجعة من بعد حملتها الأمنية ضد الخشخاش. ولمّا كان صندوق مال الجهاد السعودي/ الأميركي قد ولّى إلى غير رجعة مع انتهاء «الجهاد» في البلاد، فقد كان لازماً لأمير المؤمنين الملا محمد عمر أن يدبّر أمره.
وهكذا أصدر أمير المؤمنين فتوى من أغرب ما يكون، وكان فحواها أن «زراعة الأفيون وتجارته مباحة شرعاً، وأما زراعة الحشيش وتجارته فهي محرمة شرعاً. والداعي: أن الأفيون تقع زراعته وصناعته بهدف التصدير، فلا ينزل ضرَرُه إلّا على الكفار، وأما الحشيش فإنه يُستهلك محلياً، فينزل ضرره على المسلمين!» (4).
■ ■ ■
لم تنته حتى اليوم تلك المأساة التي حلت بأفغانستان،تحت مسميات«الجهاد» ، و«نصرة إخواننا المسلمين»، و«التصدي لمشروع الإلحاد»... ولقد وصل مجمل ما أنفقته الأطراف المتصارعة في أفغانستان، وما خسرته تلك البلاد جرّاء حروب «الجهاد» و«الحرية» و«دحر الإلحاد» إلى ما قيمته 45 مليار دولار.
وصرفت «سي آي إيه» على الجهاد الأفغاني ما يقدّرُ الخبراءُ قيمته بين 12 إلى 14 مليار دولار.
وتكفلت المملكة العربية السعودية بدفع عشرة مليارات من ذلك المبلغ، أمّا دول الخليج الأخرى ومنظماتها الخيرية، فقد أسهمت بالتبرع بالباقي. وساهمت «سي آي إيه» بنصيبها من المبلغ عبر تبييض تجارة المخدرات.
ولكن سلسلة الحروب الأهلية التي رعاها القيّمون على «الجهاد والمجاهدين» في أفغانستان، ساهمت كذلك في قتل أكثر من 3 ملايين إنسان أفغاني، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ. وتهجير ما بين 3 إلى 4 ملايين من البشر.
ودمّرت «الحرب الجهادية» بنية أفغانستان التحتية تماماً. وحرمت جيلاً كاملاً من الأفغان من كل فرص التقدم والتطور والنماء. ولم تنس بركات «حروب الجهاد» البلدان العربية الراعية، فقد عاد كثير من «المجاهدين» (الذين سموا في وسائل الإعلام بـ«الأفغان العرب») إلى بلادهم، لينشروا موجات أخرى من الجهاد في أوطانهم. وكذلك غرقت الجزائر ومصر (والسعودية أيضاً) لسنوات عديدة في صراعات داخلية دامية. ولم ينسَ الجهاد أميركا، فنالها شيء من رذاذه في أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001.
هاجر ابن عبد الوهاب إلى الدرعية مركز آل سعود
جعفر البكلي
«لقد رأيتُ بأم عيني إعدام عبد الله ملك السعوديين الوهابيين، بقطع الرأس في ساحة آيا صوفيا، مقابل قصر حدائق السرايا، بعدما طيف به ذليلاً في شوارع إسطنبول ثلاثة أيام. ولقد وضع الأتراك رأس عبد الله آل سعود بعد قطعه في فوهة مدفع، ثمّ أشعلوا باروده، فانقذف الرأس بعدما صار هشيماً. وأما جسد ابن سعود، فقد وضعوه على خازوق، ثمّ ستروه بقطعة قماش كُـتبَ عليها «تركيا فوق الجميع». وأخرجوا قلبه من صدره، وثبـتوا بخنجر غرز في قلبه المنزوع، ورقة كانت تتضمن حكم الإعدام بحقه».
هذا ما كتبه الرّحالة روتير، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1818م، في كتابه «رحلة من تبليسي إلى إسطنبول»، وهو يصف مشهد إعدام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز آخر حكام الدولة السعودية الأولى في الجزيرة العربية.
لكن كيف بدأت قصة دولة آل سعود، ثمّ كيف انتهت فصولها الأولى تلك النهاية المفجعة؟
نشوء الوهابية، وصعود نجم آل سعود، وقصة ابن عبد الوهاب
لم تكن بَوادي نجد الصحراوية تعرفُ بشيء مميّز قبل ظهور محمد بن عبد الوهاب، وتحالفه الشخصي، ثم تحالف أسرته آل الشيخ من بعده، مع سلالة آل سعود، ونشأة جيل من الوهابيين الدمويين الذين أثاروا الخراب والدمار والموت حيثما حلوا ووصلوا.
لقد كان أهل نجد في معظمهم مسلمين يتبعون المذهب الحنبلي أكثر مذاهب الإسلام تقيّداً في تغليبه النقل على العقل، والأكثر تشدداً في اتّباعه أقوال السلف وأفعالهم والالتزام بمناهج عيشهم الماضية، والأكثر تزمتاً في أخذه بحرفية النصّ الديني وظاهر ألفاظه، واجتناب تأويله أو التفكير في رحاب معانيه أو التدبر في روحه... ولعلّ المذهب الحنبلي المتشدد كان ملائماً للطبيعة الصحراوية القاسية المتقشفة، التي كان يعيش فيها النجديون! لكن ظهور الشيخ ابن عبد الوهاب بينهم في أواسط القرن الثامن عشر بدّل حياتهم الرعوية البسيطة الساذجة لعنةً، وأدخل عليهم وعلى شعوب حولهم نكالاً، لعله ما زال متواصلاً إلى يومنا هذا!
ولد محمد بن عبد الوهاب عام 1703، في قرية العيينة بنجد. وكان أبوه شيخاً حنبلياً يفتي لحاكم العيينة، ويمارس مهمات القضاء بين الناس. وحفظ الفتى القرآن وفهمه على حرفيته، ولقد كان شديد التزمت في وجوب تطبيق حدود الشريعة، ثمّ تأثر بآراء ابن تيمية و تلميذه ابن القيم في وجوب «محاربة أهل الضلال والبدع».
ثمّ ورث ابن عبد الوهاب عن والده بعد وفاته منصبه في القضاء والافتاء. فنشط في الدعوة إلى وجوب تطهير المجتمع من المظاهر الشركية، وعَدّ الأضرحة أوثاناً يعبدها الناس من دون الله. واستغل منصبه كقاض ليأمر بهدم تلك الأضرحة وشواهد القبور والقباب والمقامات والزوايا التي كان يزورها الناس، أو يتبركون بأصحابها. ثمّ راح ابن عبد الوهاب يطبق الحدود بحذافيرها على مجتمع بدوي رعوي فقير متخلف، قد شاعت فيه ظواهر الغزو والاغارة والسرقة، وتفشى فيه الجهل والقتل والزنا والكذب، وما برح أهله يؤمنون بالسحر والكرامات والتبرك بالأموات... فراح الشيخ يهدم كل أثر من قبور الجدود، ويقطع يد كل من سرق، ويرجم كل من زنت، ويجلد كل من زاروا ضريحا.ً.. حتى ضجّ به الناس، ولم يعودوا يحتملون منه أمراً ولا نهياً. فعزله عثمان بن معمر حاكم العيينة عن منصبه، ونفاه من البلدة.
هاجر ابن عبد الوهاب إلى الدرعية مركز آل سعود، وزعيمهم وقتها هو الشيخ محمد بن سعود.
وكانت الدرعية قرية تقع وسط واحة نخيل بوادي حنيفة على بعد بضعة أميال شمال الرياض. واستقبل الشيخُ ابن سعود الشيخَ ابن عبد الوهاب بحفاوة. وآمن بدعوته في وجوب قتال أهل الضلال، والقضاء على البدع الشركية، والدعوة إلى الدين الصحيح، ونشر ذلك في أرجاء الجزيرة العربية. فمن دخل في الدعوة طوعاً كان بها، وإلاّ فإعمال السيف، وضرب الرقاب، والقتال «حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله».
وهكذا أصبح محمد بن عبد الوهاب مفتياً للدرعية، عام 1744. وأرسيَ الحلف العظيم بين آل سعود والوهابيين. وأول فتوى لابن عبد الوهاب كانت تحريم الغناء والعزف والرقص لأنها من الفسوق، ثمّ جرت تسوية الأضرحة بالأرض. وكان الشيخ يأمر الناس بأن يصلحوا أنفسهم فإن صلحتْ عاد فأمَرَهُم بتطهير بيوتهم من الرجس، وبتربية أبنائهم على الإسلام إن بالإقناع أو بالقمع. ثمّ بعدئذ أفتى ابن عبد الوهاب لابن سعود بإعلان الجهاد لفرض شريعة الله في الأرض.
بعد مدة من الدعوة، توافر للوهابيين عصبة قوية وأنصار مؤمنون بمعتقدهم، ومستعدون لنشره بحدّ السيف. فقويت بهم شوكة آل سعود وبدأوا بالتحرك وغزو من هم حولهم من البلاد. فهاجموا أوّلاً بلدة الرياض القريبة من الدرعية، ثم سعوا إلى إخضاع قرى نجد حتى وصلوا ضفة الخليج العربي. فدخل الناس في الدعوة الوهابية حبا أو كرها.
وبعدما وطّد آل سعود حكمهم في نجد، بدأوا يوجّهون أنظارهم إلى الأقاليم الأخرى في المشرق العربي. وعام 1801، غزا الوهابيون يقودهم السعوديون مراكز التشيّع في جنوب العراق، حتى وصلوا كربلاء، فأعملوا في رقاب أهلها السيف، ولم ينج من مقتلة «المشركين الروافض» (كما سموا الشيعة) إلاّ من هرب! ودخل الوهابيون إلى مقام الإمام الحسين فهدموا القبة فوق ضريحه، ونهبوا ما وجدوه من الذهب والمال والمتاع في المشهد.
وعام 1802، اتجهت جيوش الوهابيين غرباً نحو مراكز التسنن في الحجاز، فبدأوا بغزو مدينة الطائف التي قاومتهم، فكان مصيرها مروّعاً إذ ذبحَ كل فرد ذكر من سكانها، وسُبيت نساؤها. ثمّ دخل الوهابيون مكة المكرمة التي استسلم أهلها، تحت أثر الرعب والهلع اللذين انتاباهم، وكذلك كان الحال في المدينة المنورة! وحين احتل أتباع ابن عبد الوهاب مكة، هدموا المعالم النبوية التاريخية فيها، وعملوا على تدمير كل القباب والأضرحة والمقامات وكل ما وجدوه من آثار قرون من التعمير الاسلامي حول المسجد الحرام. ودمّروا القبة المنصوبة فوق الدار التي ولد فيها النبي (ص)، وقبة فوق دار أبي بكر، وأخرى فوق دار عليّ، وقبة كانت تشير إلى ضريح السيدة خديجة! ثمّ أغار الوهابيون على المدينة فسطوا على الزينة والحلي الموضوعة على قبر الرسول (ص). وأرادوا هدم القبة الخضراء فوق ضريحه، مما أثار سخط أهل الحجاز وهلعهم، فلمّا خشي الوهابيون منهم التمرد والتفلت، تراجعوا عن فكرة هدم القبة النبوية، حتى تسنح فرصة أفضل! ثمّ لما وصلت قوافل الحُجّاج من مصر والشام إلى مكة، قام الوهابيون بطرد الحجيج منها باعتبارهم «مشركين»! وأعلنت البقاع المقدسة إقليماً خاضعاً للدولة السعودية الوهابية الجديدة، ومستقلة عن سلطة الخليفة العثماني في الأستانة.
استغرق تمدّد الدولة السعودية _ الوهابية الأولى أكثر من ستين عاماً. وتوفي في هذه الأثناء محمد بن سعود وكذلك محمد بن عبد الوهاب، فأكمل أبناؤهم وأتباعهم تلك الشراكة التي كان آباؤهم قد أرسوا قواعدها. وكان جيش نجد الملهم بالتعاليم الوهابية، بقيادة آل سعود شديد البأس والشراسة، وكان لا ينفك يغير على تخوم العراق والشام واليمن وعمان والبحرين.
نهاية آل سعود الوهابيين الدموية
اشتدّ غضب «حامي الحرمين الشريفين» السلطان العثماني محمود الثاني، حين تناهى إليه أن الوهابيين قد نهبوا مكة المكرمة والمدينة المنورة ومنعوا كثيراً من الحجاج («المشركين») من أداء فريضة الحج. فأمر السلطان واليه على مصر محمد علي بمعاقبتهم.
بعث محمد علي بأسطول إلى الحجاز عام 1813. فتمكن الجيش المصري من استعادة مكة والمدينة بسهولة، لكن المصريين فشلوا في التقدم إلى صحارى نجد القاحلة المترامية الأطراف. ودأب الوهابيون على الاغارة ليلاً على معسكر المصريين المكشوف في الفلاة، ممّا كان يسبّب نزفاً لهم في العديد والعتاد.
ثمّ بعث محمد علي حملات أخرى للقضاء المبرم على الوهابيين، لكن من دون جدوى. وكان ذلك الفشل في القضاء على «فتنة شراذم بدو الصحراء» يضايق محمد علي، وخصوصاً مع توالي سؤال السلطان عن نتيجة ما أنجزه، حتى توصل الوالي الألباني لمصر إلى حلّ لمشكلته. يروي بعض المؤرخين قصة ظريفة مفادها أنّ محمد علي جمع قيادة أركان جيشه في قصره بالقاهرة. وأخذ يتدارس معهم أسباب فشل الحملات العسكرية المصرية على نجد. وراح القادة يتلاومون فيما بينهم ويلقون التهم على بعضهم بعضاً، والوالي لا ينبس ببنت شفة، حتى انتهوا إلى أن الموضوع يتعلق بصعوبة الامداد وسوء الطرق والمواصلات في صحارى شاسعة، وبلؤم البدو وطريقة الكر والفر في قتالهم، وبالعصبيات القبلية التي تربطهم ببعضهم بعضاً.
عند ذلك أخذ محمد علي تفاحة ووضعها وسط سجادة كبيرة جداً تغطي أرضية القاعة الواسعة. ثمّ تأمّل في وجوههم، وقال: «إن الإمساك بالوهابيين يشبه الامساك بهذه التفاحة وسط هذه السجادة، إني أريد منكم أن تلتقطوا التفاحة في الوسط، لكن دون أن تطأ أقدامكم السجادة!».
وحاول القادة العسكريون تنفيذ أمر الوالي من دون أن تطأ أقدامهم سجادته، لكنهم فشلوا. وكان إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي ينظر إليهم، وهو يجلس بجانب أبيه. فلمّا يئسوا، استأذن هو والده بالسماح له بأن يحاول، ثمّ جلس القرفصاء عند طرف السجادة، وبدأ يلفها إلى أن وصل إلى وسطها، واستطاع أن يمد يده ويلتقط التفاحة بكل سهولة.
قاد إبراهيم باشا الجيش المصري بنفسه في موفى عام 1816، نحو نجد. وبدأ يلف سجادة الصحراء متكئاً على رنين النقود الذهبية لرشوة القبائل الطامعة وفك عصبياتها، ومعتمداً على ضراوة مدافعه المدمّرة لردع القبائل المشاكسة وسحق معنوياتها... وانضمت إليه قبائل عتيبة وحرب ومطير طامعة في البنادق المصرية، وفي المال الوفير.
ثمّ بدأت القبائل الأخرى تنحو منحى القبائل الأولى، وتتخلى الواحدة تلو الأخرى عن آل سعود وتنضمّ إلى إبراهيم باشا.
تقدم الجيش المصري في الفيافي ببطء، لكن بثبات. وبعد أشهر من الرشى لقادة الأعراب، وصل إبراهيم باشا إلى أسوار الدرعية عاصمة آل سعود. وكان قد جلب معه مهندساً فرنسياً ومجموعة من المدافع الأوروبية الفتاكة لمهاجمة أسوار البلدة المبنية من الطين. وكانت المفاجأة أنّ وهابيي الدرعية قاوموا ببسالة شديدة، برغم القصف الهائل الذي سلّط عليهم، ولم يستسلموا أبداً، بل إنهم راحوا بسيوفهم يغيرون في الليل والنهار على معسكر المصريين. ولقد بدت حربهم انتحارية، لكن القتال معهم كان مريراً!
وأمر الضباط الأتراك (وكان إبراهيم باشا قد أسند إليهم القيادة الميدانية للجيش) جنودهم بقطع كل نخلة كانت موجودة في وادي حنيفة. أي إنهم قطعوا ما وازى جهد ثلاثين عاماً من الزرع! ثمّ أمر إبراهيم باشا بقطع رأس كل وهابي يقع في الأسر، ثمّ بإرسال رأسه إلى القاهرة. وحين أصبحت سلال الرؤوس ثقيلة جداً على من يحملونها، أمر الباشا بأن يكتفوا بالآذان بدلاً من الرؤوس. وكان والده محمد علي قد وعد بدفع خمس طالرات [قطع نقدية فضية] لقاء كل زوج آذان يُسَلمُ إليه!
وامتدّ القتال أشهراً حتى موفى عام 1817. ثمّ في النهاية قرر الحاكم عبد الله بن سعود بن عبد العزيز آل سعود، الذي كان يعرف بلقب «الإمام»، أن يستسلم بعدما قُضِيَ على معظم مقاتليه، ونفد منه الزاد. ولزيادة إهانة عبد الله والتنكيل بأسرة آل سعود، طلب الضباط الأتراك منه أن يدفع لهم «الكاخور»! (والكاخور كلمة تركية تعني تسليم نساء المهزومين ليمارس الجنود الجنس معهن).
وبالرغم من رفض عبد الله هذا الطلب إلّا أن الأتراك افتكوا نساء آل سعود منهم بالقوة والاغتصاب. ولقد كان عقاب إبراهيم باشا للوهابيين شديداً ليس فيه رحمة أو شفقة. وأمر بتدمير الدرعية عاصمة آل سعود بجميع مبانيها تدميراً كاملاً بمدفعيته، ثمّ قطع كل نخلة باقية فيها، وبعدها عادت جيوشه إلى مصر.
وأرسل إبراهيم باشا عبد الله آل سعود إلى القاهرة مكبلاً. ومن هناك أرسله محمد علي إلى السلطان العثماني. وفي الأستانة حاول شيوخ بلاط آل عثمان إغراءه لنبذ معتقداته الوهابية، واعتناق المذهب الحنفي مقابل العفو عنه.
وبالرغم من أنّ عبد الله قبل ذلك إلاّ أن الأتراك نكثوا بوعدهم له، وأصروا على قطع رأسه والتشهير به والتمثيل بجثته على خازوق.
وأمّا مفتي السعوديين عميد أسرة آل الشيخ، وحفيد ابن عبد الوهاب، فقد ابتكر الأتراك طريقة جهنمية لتعذيبه، بإجباره على أن يسمع عزف الموسيقى! (وكان المفتي السعودي شديداً عنيفاً في فتاواه الزاجرة التي تحرّم سماع الموسيقى باعتبار أنها صوت إبليس). ولمّا كان المفتي يأبى أن يسمع، ويظل يضع أصابعه في أذنيه كي لا تدخل فيه تلك المعازف الشيطانية، كان الأتراك يزدادون معه عناداً بنفخ مزاميرهم في مسمعيه، فيزيد المفتي الوهابي في إدخال إصبعيه في أذنيه! ثمّ كتّفه الأتراك ليجبروه على سماع الموسيقى. فكان المفتي يتهيّج، ويأخذ في التلوي على الأرض كأن قد صعقه صاعق، أو أصابه صرع، أو أنّ الشيطان يتخبّطه من المسّ! ثمّ خلع الأتراك جميع أسنان فضيلة المفتي بالمطارق والكلّابات، قبل أن يطلقوا النار عليه.
من السيرة المحرّمة لآل سعود: الغدر والمكر والفتنة البكر
كان آل سعود، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، قد ضيّعوا ثانية السلطة التي بالكاد تم لهم أن يستخلصوها (أ. ف. ب)
جعفر البكلي
يكاد التاريخ الرسمي السعودي الذي يُمجّد كل ما يتعلق بعبد العزيز آل سعود، أن يُغفل حقبة هامة وأساسية من سيرة حياة مؤسس المملكة؛ تلك هي المرحلة الكويتية في شبابه. ولا عَجب في ذلك، فلقد كان عبد العزيز نفسه يتحاشى تذكّر ذلك العهد البائس الذي عاشه في باكر حياته، بالرغم مما عُرف عنه في مجالسه من حُبّ لاستعراض أيامه وأمجاده و«سوالفه» ...
لكن الباحث يجد في بعض المصادر الغربية، ولا سيما منها التي تعتمد على الوثائق الرسمية البريطانية، معلومات مفيدة يمكن الاستعانة بها لإضاءة جوانب من هذه الفترة المنبوذة المعتمة في سيرة ابن سعود، والتي لا شك في أنها تركت آثاراً غائرة في شخصيته، ليس بمقدور النسيان ولا التناسي أن يمحوها!
كما أن هذه الحقبة علّمت عبد العزيز صروفاً قاسية من الحياة ما كان بوسعه أن يَخبرها لو أن الأقدار مضت به في مسارات سلسة أخرى. كذلك فإنّ ظروف «المرحلة الكويتية» قد ربطت عبد العزيز برجل قُدِّر له أن يلعب دوراً بارزاً في علوّ حظوظه الأولى، وفي نموّ تكوينه وتفكيره؛ ذلك هو الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت (1896–1915).
وكان آل سعود، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، قد ضيّعوا ثانية السلطة التي بالكاد تم لهم أن يستخلصوها _ قبل سنين _ على جزء من أرض نجد. ولم تكن دولتهم الثانية تلك بخطورة الدولة الأولى، فاقتصر تأثيرها على زعامة عشائرية ذات صبغة دينية، تمركزت في بلدة الرياض، وهيمنت على ما جاورها من القرى المحيطة. ثمّ ما لبث الشقاق العائلي أن استفحل بين فروع الأسرة السعودية حول من يجدر به أن يحكم منهم. وسريعاً ما باد مُلك السعوديين الثاني بعدما شتتت شملهم الخلافات والمنافسات، فسهّل كل ذلك على ابن رشيد، حاكم حائل الموالي للأتراك، أن يطرد آل سعود من مقرّ حكمهم بالرياض، بعد معركة سريعة في حريملاء سنة 1891. وكان الأمير عبد الرحمن بن فيصل آل سعود (والد عبد العزيز) هو آخر حكام تلك الإمارة السعودية الثانية.
وقد هرب الرجل من عاصمة حكمه الرياض، بعدما استولى عليها حكام حائل. ولجأ مع أسرته إلى مشيخة الكويت في سنة 1894، بعدما قضى أكثر من عامين ضيفاً في مضارب قبيلة المرّة البدوية القاطنة على مشارف شبه جزيرة قطر.
كانت الكويت، التي وصلها الفتى عبد العزيز، أرض شقاء! ولقد عاش عبد الرحمن آل سعود مع نسائه الأربع، ومعهنّ بعض من إمائه، وأكثر من عشرين من أولاده وبناته وأحفاده، سبعة أعوام كاملة في ثلاث حجرات، في بيت طيني واطئ السقف، في زقاق قريب من ميناء المدينة.
ولم يكُ في ذلك المكان مظهراً من مظاهر الجمال سوى روائح السمك والبراز الأخّاذة فيه. ولم يكن هنالك نظام للمجاري في الكويت آنذاك، ولم يكن الكويتيون يعرفون حتى المراحيض الخاصة في بيوتهم. وكان شاطئ البحر هو الذي يقضي حاجة الجميع؛ فأمّا الميسورون من أهل الكويت فقد صنعوا لأنفسهم ولنسائهم أكواخاً من الخشب لها أبواب متداعية على حافة البحر، واتخذوها مراحيض لهم. وأمّا فقراء الناس _ ومنهم يومذاك آل سعود أنفسهم _ فلم يكن لهم من خيار ولا ساتر يقي من عيون الملأ. وكان الرجل أو المرأة من أولئك البؤساء يقرفص فيقضي حاجته على الشاطئ، ثمّ يقوم، تاركاً أمر تنظيف مخلفاته لمياه المد والجزر.
وقد عاش آل سعود في الكويت عيشة ضنك، فهم يومَ خسروا ملكهم في نجد، خسروا معه كل ما لهم، وخرجوا منه خالي الوفاض. ولم يولِ محمد بن صباح (شيخ الكويت التي هاجروا إليها) اهتماماً بتلك العائلة الذليلة التي التجأت إلى حماه بعد عزّ.
وما كان الشيخ يصرف لعبد الرحمن وعياله معونة إلا بعد توسّل يطول. ولعلّ ابن صباح كان في قرارة نفسه شامتاً بآل سعود الذين سبق لهم أن هدّدوا مشيخة الكويت من قبل، يوم كان لهم في الجزيرة سطوة وبأس. ولقد اضطر عيال عبد الرحمن إلى أن يعملوا في الميناء أشق الأعمال ليكسبوا قوتهم، بل اضطرت النسوة أيضاً إلى الخدمة في البيوت، علّهن يحصّلن شيئاً من لوازم الحياة لعائلة فقيرة وفيرة العدد. وكان لذلك العهد الذي تدحرجت فيه الأسرة فجأة من عز السلطان إلى ذل الهوان، أثر مرير في شخصية الفتى عبد العزيز، وفي نفسيته. إلّا أن شيئاً من هذا الضنك قد تغيّر أخيراً، بعدما استولى الشيخ مبارك الصباح على مقاليد السلطة في الكويت عام 1896. وقد كان لهذا الشيخ غاية ومأرب، من وراء إحسانه للعائلة السعودية، ومبادرته إلى تقريب عائلتها منه.
كان للشيخ مبارك نظرية آمن بها _ مثلما آمن بها أبناؤه وأحفاده من بعده _ ومفادها أن الكويت ما هي إلا لقمة بين ثلاثة أفواه: فم من الشمال، عراقي. وفم من الشرق فارسي. وفم من الجنوب، نجدي. وأنّ الكويت لا تقوم لها قائمة إلا بأمرين: فأحدهما هو محاولة إشغال هذه الأفواه بنهش بعضها بعضاً. وثانيهما هو الاحتماء بسلطة أقوى من نفوذ كل أولئك الجيران جميعاً. وعلى هذا الأساس، فقد كان من أوّل ما فعله ابن صباح عندما تولى الحكم، توقيعه في كانون الثاني 1899 على معاهدة، تحميه بموجبها بريطانيا من أيّ خطر خارجي، على أن «يلتزم الشيخ مبارك، وورثته من بعده، وكل من يخلفه، بأن لا يقطعوا أمراً، في جميع ما يتعلق بالسياسة الكويتية الخارجية أو الداخلية، من دون الرجوع إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج المقدّم مالكولم ميد».
وكان سبب تدثر الشيخ مبارك بالحماية البريطانية إحساسُه بخطرَيْ فمَيْن من تلك الأفواه الثلاثة قد عكّرا عليه سلطته الحديثة. فمن جهة، كان والي البصرة العثماني (والذي كانت الكويت تابعة له سياسياً) ساخطاً على مبارك بسبب الطريقة الإجرامية التي سطا بها على المشيخة. ومن جهة ثانية، فقد انفتح الفم النجدي بأكثر مما ينبغي له. وقويت شوكة آل رشيد المسيطرين على نجد، فصاروا يتعرّضون بالنهب للقوافل البرية التجارية التي تزوّد الكويت بالمؤن، أو لتلك التي تخرج محمّلة من مينائها. فكان لزاماً على شيخ الكويت حينئذ أن يشغل أعداءه الجدد بأعدائهم القدامى الذين ما برحوا يتشوّقون للانتقام. ولم يكن أفضل من آل سعود لهذه المهمة، ولم يكن أحد أحرص منهم عليها. وهكذا جهّز مبارك عصابة السعوديين بإبل ومؤن وبنادق وذخيرة كي يلعبوا دورهم الجديد كمخلب قطّ يراد له أن يناوش الأعداء، ويكدّر صفوهم وينال منهم. واختير الشاب عبد العزيز ذو القامة المديدة، والقلب الصلب، والرغبة الجامحة للثأر، حتى يتزعّم تلك العصابة. وباشر عبد العزيز فوراً مهمته، فجمع من حوله عدداً من أقاربه، واتجه بهم إلى الجنوب مغيراً على خيام بعض البدو، فغنم قطعاناً من إبلهم وماشيتهم، ونهب ما وجده في تلك الخيام، ثمّ عاد بما جمعه إلى الكويت. وسُرّ مبارك بصنيع الشاب أيّما سرور، فقرّبه منه، وطفق يشجّعه على مزيد من هذه الغارات والغزوات.
ولا شكّ في أنّ عبد العزيز أحبّ، بدوره، ما لقيه من حظوة عند الشيخ مبارك. ولا شكّ في أنّ الشاب أفاد كثيراً من خطط ودروس معلّمه.
ولعلّ من أوكد المعاني التي أوحت بها شخصية ابن صباح للشاب عبد العزيز: أنّ الدنيا إنّما تفتك ولا توهب ... وأنك في سعيك إلى الزعامة، يجدر بك أن لا تهاب أمراً خطيراً أو جللا ً... وأنّه لا يجب أن يقف في سبيلك نحو المجد أحد: ابناً كان، أو أباً، أو أخاً! بل إنّ الطريقة التي سلكها الشيخ مبارك للوصول إلى سدّة الحكم في الكويت، كانت _ بنفسها _ درساً موحياً وعملياً لعبد العزيز. درس في «كيف تكون الجرأة والإقدام وشدّة البأس في الأمير!». لكنّ الحق أنّ ما اقترفه الشيخ مبارك الصباح في سبيل جلوسه بعدئذ على كرسي الحكم في «قصر السيف»، وما بُهِر به الشاب عبد العزيز، لم يكن يليق به أن يُسمّى جرأة وإقداماً، وإنما كان يليق به أكثر أن يسمّى باسم آخر مختلف.
الغدر
إنّ مبارك الصباح المسمّى بـ«الكبير» (1840-1915) هو جدّ الأسرة الحالية الحاكمة في الكويت، بفرعيها آل الجابر وآل السالم؛ فكلا هذين ابن له. وكان مبارك هذا ولداً أصغر للشيخ صباح، القائم مقام الذي توليه الآستانة في الكويت. وتوفي الشيخ صباح عام 1866، فتولى نفس مهمته من بعده ابنه الأكبر عبد الله، ثمّ خلف هذا من بعد موته أخوه محمد عام 1891. وقرّب الشيخ محمد أخاه جرّاح بن صباح فجعله شريكاً له في إدارة شؤون المدينة، وهمّش دور أخيه مبارك، فحزّ ذلك في نفس الأخير. ولم يكن لمبارك عمل يعتاش منه سوى ما يخصصه له أخواه. فكان ذلك لا يكفيه.
وصار يستدين من التجار بما له من وجاهة في المدينة، على أن يستردّ هؤلاء ديونهم عليه من ديوان المشيخة. وضجّ الشيخ محمد من ديون مبارك. وطفح الكيل بأخيه جرّاح حتى خرج بنفسه، في يوم في أيار 1896، ليُعلم التجار في سوق الجزارين بأن الديوان ما عاد ملتزماً بتسديد ديون مبارك. وكانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر الاخوة، وأغرقت سلالة آل الصباح في لعنة الدم. فلقد قرّر مبارك أن يقتل أخويه بيديه! وقد أشرك في ما اعتزمه من الإجرام ابنيه جابر (جدّ أمير الكويت الحالي صباح الأحمد الجابر)، وسالم (جدّ أمير الكويت السابق سعد العبد الله السالم) فوافق الابنان أباهما على ذبح عمّيهما!
وكان الناس في الكويت ينامون في بداية الصيف، فوق أسطح منازلهم، لحرارة الجو. وكان الشيخان محمد وجرّاح يقيمان معاً في قصر الحكم. فعزم مبارك على أن يباغتهما عند نومهما، مستفيداً من غفلتهما، ومن كونه وابنيه محل ثقة الحرس. وزاد مبارك فاصطحب معه جماعة من أصحابه الخُلص.
وادّعى عند وصوله إلى بوابة القصر، في منتصف ليلة 17 أيار1896، بأنه يحمل أخباراً هامة للشيخ. وهكذا مرّ، هو ورفاقه، من دون أن يدور في أذهان الحراس شك.
يروى الشيخ عبد العزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت» تفاصيل وافية عن هذه الجريمة التي هزت صميم وجدان المدينة الوادعة. ومعظم شهود تلك الواقعة هم ممن شاركوا فيها، ثم رووا ما وقع بعد ذلك بسنين. وقد اتجه مبارك إلى سطح القصر مع رفيقيه (سيف بن كمعي الرشيدي، وأخوه قرينيس) ثمّ اقترب من أخيه النائم بحذر، وانتهره: «قوم». فاستيقظ الشيخ محمد مذعوراً، ليفاجأ ببندقية مصوّبة إلى صدره. ولم يمهل القاتل قتيله طويلاً، فأطلق النار عليه. ولم تكن الطلقة الأولى قاتلة، فهتف المغدور متوسلاً بالأخوة: «أخوي ... أخوي!». وكان جواب الأخوّة طلقة ثانية في الرأس!
وكانت مهمة الابن جابر ومرافقيه (شلاش بن حجرف، وابن أخيه فلاح بن هيف بن حجرف، وباتل بن شعف) هي أن يجتازوا طرفاً ثانياً من السطح حيث يبيت جرّاح، فوجدوه مستيقظاً مع زوجته. وصوّب جابر بندقيته تجاهه فلم يصبه. ووثب جرّاح تؤازره زوجته على جابر، فتغلبا عليه. وسرعان ما أنجدَ جابراً مرافقُه شلاش، فطعن جرّاحاً بالسيف في ظهره، وأكمل الشيخ جابر فأجهز على عمّه، وذبحه!
وكانت مهمة سالم، مع أربعة من الرجال، هي إرعاب عبيد القصر لمنعهم من نجدة مولاهم. وأن يسيطروا على البوابة أثناء المذبحة، ويقتلوا العسس القليلين، ويحرسوا المدخل، وقد تمّ. وبعدما اطمأنّ الشيخ مبارك إلى نجاح مخططه، استحمّ وتوضأ وصلى وأكل ثم توجه إلى قاعة المشيخة الكبيرة في القصر، وجلس هناك بانتظار طلوع النهار.
وكان من عادة الأعيان وكبار التجار في الكويت أن يتوجهوا كل صباح إلى مجلس المشيخة، فرادى أو زمراً، لتحية الشيخ ابن الصباح. لكن ذلك الصباح كان غريباً! فلم يروا أحداً من الحرس المعتادين في الباب، بل وجدوا بدلاً منهم جماعة من البدو مدججين بسيوف وبنادق. وزاد قلقهم لمّا دخلوا، فرأوا في صدر الديوان مبارك، بوجهه المتجهم، جالساً وسيفه مسلول في حجره، وابنه جابر واقف بجانبه! كانت تحية الكويتيين المعتادة هي: «السلام عليكم يا محفوظ»، لكن لا أحد سمع جواباً على السلام!
وعندما امتلأ المجلس، أشهر مبارك سيفه ورفعه ببطء. وقال بلهجة حازمة: «يا أهل الكويت، يا أبناء العمومة: يكون معلوم ليكم أنه أخوي محمد وأخوي جرّاح قضى الله أن يموتوا الليلة الفايتة. وأني اللي راح أحكم البلاد بدل منهم. وإن كان عند واحد فيكم ما يقوله، يتقدم ويقوله». وساد صمت رهيب، فلم يكن يسمح لمن يدخل بالمغادرة. ولم يكن أمام زوّار المجلس من خيار إلا السيف المسلول أو المبايعة!
كان عبد العزيز في الكويت يومها، ولم يكن قد أكمل من العمر عشرين عاماً، لمّا تمّت هذه الفتكة التي طالما ألهمته كيف تكون الجرأة والإقدام وشدّة البأس في الأمير. وبعد ستّ سنين، كان عليه هو أن يفتِك وأن يفتَكَّ حكماً لا يوهب، ولكنه يُنتزع بالسيف أو بشيء آخر.
المكر
لقد ملكت على عبد العزيز، في سنواته الكويتية، غاية واحدة طالما سكنت ذهنه؛ هي كيف يسترجع ملك آبائه؟ وكانت له خطة شجّعه على المضيّ فيها عدد وافر من البدو كانوا يلتحقون بعصابته كل مرّة، طمعاً في الغنائم، من بعد أن علا صيته في السطو. ولقد فكّر عبد العزيز في أن يجعل من البدو السرّاق جنوداً مقاتلين، فيحاول أن يستعيد بهم بلدته الرياض. ثمّ إن الشاب استساغ فكرته تلك حتى صدّقها، ثمّ إنّه قدّر في نفسه أنّ موعد مغامرته الكبرى قد أزف. ولقد استأذن أباه والشيخ مبارك في أن يجرّب حظه في الإغارة على حامية الرياض القليلة البعيدة المعزولة عن قوات آل رشيد في حائل، فوافقاه. وغادر عبد العزيز الكويت في أواخر أيلول عام 1901، وهو يقود قرابة أربعين من رجاله، على أمل أن يلتحق به البدو في الطريق. وكان من أبرز من خرج معه: أخوه محمد، وأفراد من أولاد عمومته. وكان مقدّراً لأحدهم، وهو عبد الله بن جلوي بن تركي آل سعود، أن يلعب دوراً كبيراً في نجاح حظ تلك العصابة السعودية.
وكانت خطة عبد العزيز لتمويل هجومه، وتكثيف عدد أصحابه، هي التربص كالعادة بالقوافل، وقطع الطريق عليها، ونهبها، ثمّ توزيع الغنائم على من يلتحق به من البدو. وبتكرر الغزوات، ارتفع عدد العصابة من أربعين إلى مئتي لص. ولكن الخطة سرعان ما انتكست حين حلّ شهر رمضان في كانون الأول 1901. فذاب لصوص عبد العزيز بعدما قرّر أولئك البدو العودة إلى مضاربهم في شهر الصيام. وهكذا عادت الجماعة إلى حجمها الأول: أربعين يزيدون قليلاً. وكانت هذه خيبة مريرة، لكن عبد العزيز صمّم على أن لا يستسلم، فلم يكن قادراً على تحمل هوان التقهقر خاوي الوفاض إلى الكويت.
تحتّم على عبد العزيز الآن أن يغيّر من تكتيكاته الماكرة. فجمّد سياسة النهب (في رمضان)، وسعى إلى نشر شائعات عن اختفائه مع عصابة الأربعين، بعيداً قرب واحة يبرين (موطن حلفائه من قبيلة المرّة)، علّه بذلك «ينوّم» حامية ابن رشيد في الرياض، فتشعر بالطمأنينة وتخفف من يقظتها. ولمّا انقضى النصف من رمضان، مطلع عام 1902، أمر عبد العزيز بشدّ الرحال إلى الرياض. وكان يقدّر بأنهم سيصلون إليها ليلة العيد حين يُعدَمُ الهلال، والجميع يكون متلهّياً، فيتآمر عيد الفطر والظلام، لتسهيل مهمته! ولكن المسير تأخر، فوصل السعوديون إلى مشارف الرياض بعد يوم عيد الفطر. ومكث أفراد تلك العصابة ينتظرون مختبئين حتى غروب شمس يوم 15 كانون الثاني 1902. وقد بدا لابن سعود، وهو ينظر من بعيد إلى سور بلدته، أنّ حلمه يوشك أن يتحقق! وفي تلك الليلة، انتخب عبد العزيز من رجاله أربعين لـ«فتح الرياض». وأمر من بقوا بحراسة الإبل بعيداً، وبالعودة إلى الكويت إن كانت نتائج الغزوة سيئة. وتستّر الرجال بجنح الظلام، وتقدّموا في منتصف ذلك الليل الشتوي، متسلحين بخناجر وسيوف وبنادق، حتى وصلوا إلى سور المدينة، فتسلقوه بواسطة جذع نخلة مقطوع، ثمّ سرعان ما وجدوا أنفسهم في الأزقة المظلمة والنائمة. كانت خطة عبد العزيز بسيطة ولكنها عمليّة، فهو إن تمكّن من اغتيال حاكم الرياض عجلان، فستنهار مقاومة جنوده فوراً، بل إنهم سيستسلمون له («اقطع راس الحيّة، تنشف عروقها»). ثمّ إنّ خطته اعتمدت على ولاء أحد السكان لعائلته، وكانت دار هذا الرجل قريبة من دار الحاكم، المقابلة لبوّابة قلعة المصمك في وسط الرياض. فتسلق عبد العزيز ومن معه، من خلال سطح دار الرجل الموالي حتى بلغوا سطح دار عجلان، وهنالك وجدوا زوجته وأختها، لكنهم لم يجدوه هو، فلقد كان من عادته أن ينام داخل قلعة المصمك، ثمّ يعود إلى بيته في الصباح. وقام رجال عبد العزيز بتكميم المرأتين وتقييدهما، بعد استجوابهما عن مكان عجلان. وكان على العصابة، حينئذ، أن تنتظر انبلاج ضوء الشمس، حتى يخرج الرجل المطلوب. في الصباح، فتِحت بوابة القلعة، وظهر أخيراً الأمير عجلان بن محمد العجلان، ومن ورائه حارسه. كان عائداً إلى بيته، ليفطر مع زوجته. وراقب عبد العزيز الرجلين الغافلين من خلال نافذة في البيت تطل على الساحة المقابلة لبوابة القلعة. وقرّر أنّ هذه أنسب لحظة لقتل عجلان، فها هو معزول الآن عن الجنود. وإنّ مصرعه أمام أعينهم، لا بدّ أنه سيدخل البلبلة في صفوفهم، وسيبث الرعب في قلوبهم، فينهزمون.
وهكذا أعطى عبد العزيز إشارة الهجوم، فخرج السعوديون من بيت عجلان، لينقضّوا عليه. وكانت صيحاتهم مرعبة، ما أربك الرجلين، اللذين أخِذا على غرّة، فلاذا بالفرار إلى بوّابة القلعة. وفتح الجنود لهما خوختها [باب صغير داخل الباب الكبير، لا يتجاوز طوله المتر] وغاص الحارس عبر الخوخة إلى الداخل. وحينما كان عجلان السمين يحاول جاهداً إدخال رأسه في الفتحة الصغيرة، انقضّ عليه عبد العزيز، وأمسكه من فخذيه، فأوقعه أرضاً. وتحوّلت المعركة عند الخوخة إلى مشهد كوميدي، أقرب إلى لعبة شد الحبل! فبينما كان حراس عجلان يجرّونه من رأسه وكتفيه نحو الداخل، كان السعوديون في الخارج متشبثين برجليه، وكان هو يركلهم بكل قوته، ويقاومهم بجنون. وفجأة، تمكن عجلان من تسديد ركلة قوية إلى عانة عبد العزيز، فارتخت قبضتاه. وتمكن جنود الحاكم من جرّه إلى داخل القلعة. هنالك انقضّ عبد الله بن جلوي، وألقى بنفسه في الخوخة وراء عجلان. وشغِلَ به الجنود عن إغلاق الخوخة، فدخل منها السعوديون. ودار قتال بالسيوف والبنادق بين الفريقين. وكان عجلان، الذي تلقى رصاصة في ذراعه، يعدو صاعداً درجات جامع قلعة المصمك ليلوذ به. فلحقه ابن جلوي إلى باب المسجد، وطعنه طعنات عدّة بالسيف، فانفجر دمه متدفقاً، ليصبغ باب جامع الرياض. ولم يكتف عبد الله بن جلوي بقتل عجلان، بل إنه زاد فبقر بطنه بعد ذلك، وانتزع كليتيه، وقذف بهما إلى الجنود المذهولين الذين رمى معظمهم بسلاحه! ونظر عبد العزيز إلى الكليتين المغطاتين بالشحم، ثمّ أمسك بهما، وقال في استهزاء: «ترى يا جماعة، شفتوا من قبل حدا من آل سعود عنده كلوتين، بيهم كل هالشحم، مثل هالخنزير؟».
عند ظهر ذاك اليوم الخامس من شوّال عام 1319هـ، الموافق لـ 16 كانون الثاني عام 1902، تجمّع أهل الرياض، وبايعوا الحاكم الجديد عبد العزيز آل سعود، ثم صلّوا وراءه صفوفاً في الجامع. لقد أفلحت فتكة ابن سعود البكر ... وكانت تلك فاتحة لعصر كامل من الفتك السعودي!
عبد العزيز آل سعود: «المتوحش النبيل»
جعفر البكلي
البترول والحرب وأميركا
لم تتعاطَ الولايات المتحدة الأميركية مع قيام المملكة العربية السعودية التي تأسست في 23 أيلول (سبتمبر) 1932، بجديّة. وأهملت الدولة العظمى ذات السياسات الخارجية الانعزالية في ثلاثينيات القرن العشرين، حتى مجرّد الاعتراف بتلك الدولة الفقيرة النائية المتخلفة، طوال خمس سنوات من نشأتها، أي إلى حدود 23 كانون الثاني (يناير) 1937. لكنّ الحال بدأ في التغير حين اكتُشفت كميات مبشّرة من النفط في آذار 1938، بعد أبحاث التنقيب الناجحة في الدمام التي قامت بها الشركة الأميركية (CASOC) صاحبة الامتياز الحصري لحقوق التنقيب واستغلال البترول السعودي، نظير خمسين ألف جنيه ذهبي شهرياً.
وكان ذلك العقد «خرافياً» بالنسبة إلى الملك عبد العزيز. ولعله من يومذاك وقع عبد العزيز في غرام الأميركيين الأسخياء!
وحين دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، كانت تمثّل خزان بترول المجهود الحربي لحلفائها. فقد كانت تنتج 63% من الاستهلاك العالمي يومياً. وبيّنت حسابات الخبراء الأميركيين أن الاحتياطي الوطني للبترول كان ينخفض بمعدل 3% في السنة. وكان هذا النزف الحادّ يثير الذعر في نفوس مسؤولي واشنطن. ولمواجهة هذه المعضلة، جاء هارولد ايكس، منسّق شؤون البترول في مجلس الدفاع، بحل تمثّل في استهلاك البترول الأجنبي بدلاً من الأميركي. وهكذا قالت مذكرة أميركية في 1942: «إنّ تنمية موارد السعودية البترولية تندرج ضمن المصالح الوطنية العامة لأميركا». ولمزيد من توثيق الصلة الأميركية بالسعودية، فقد أعد الرئيس فرانكلين روزفلت خطة سرية للاجتماع بالملك السعودي شخصياً. وعهد روزفلت إلى الكولونيل وليام إدي، الوزير الأميركي المفوض في جدة، إجراء الترتيبات السرية لهذا اللقاء مع عبد العزيز.
المدمّرة والخرفان وحاشية جلالة الملك
في 12 شباط (فبراير) 1945، دخلت أول سفينة حربية أميركية (المدمّرة ميرفي) إلى ميناء جدة الصغير، وبالكاد استطاع ربّانها الدخول إليه. وكان الملك السعودي، بانتظارها لتحمله للقاء بالرئيس الأميركي في البحيرات المرة في قناة السويس. وبما أنّ منطقة السويس لم تزل حتى ذلك الوقت في مدى قاذفات القنابل الألمانية، فقد أسرّ السفير إدي (الذي يحسن العربية) إلى الملك عبد العزيز، أن يحيط زيارته المقبلة للدواعي الأمنية، بالسرية التامة. وكان الملك السعودي مستعداً لتنفيذ الأوامر الأميركية على نحو متزمت. فلم يعلم حاشيته بشيء عن هذه الرحلة المهمّة حتى اللحظة المقررة للانطلاق.
وعندما أصبح الجميع في سياراتهم أمر عبد العزيز السائقين بالتوجه إلى الميناء. ثمّ استقل الملك ووفده قوارب كانت في انتظارهم إلى المدمرة «ميرفي» التي غادرت الميناء في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر. وراجت شائعات مسعورة في بلدة جدّة مفادها أن سفينة الكفار الأميركيين قد اختطفت الملك! وكانت نساء آل سعود آخر من يعلمن بالحقيقة عندما ذهبن باكيات، وقد توشحن بالسواد، وسكبن الرماد على رؤوسهن إلى الأمير فيصل نائب الملك على الحجاز، الذي طمأنهنّ.
أحضر عبد الله بن سليمان وزير مالية الملك عبد العزيز معه مئة خروف إلى المدمرة كما طلب منه جلالته. وكان الأخير قد افترض أنّ البحارة سيكونون ضيوفاً عليه أثناء الرحلة التي ستستغرق يومين. وفاجأ مرأى قطيع الأغنام المحمّلة في القوارب المقبلة إلى المدمرة، قائدها الذي رفض السماح للملك بتحميلها على السفينة، وحاول أن يشرح له أنّ قوانين البحرية الأميركية تمنع منعاً باتاً نقل الحيوانات الحية على السفن الحربية. لكنّ عبد العزيز أبى أن يقتنع، وهنا تدخل السفير إدي، لكي يترجم لجلالته بأنّ جميع طاقم المدمرة سيعاقبون لو أنهم أكلوا خرافه، ولم يراعوا قوانين التغذية الرسمية. وسأله عبد العزيز حينئذ: «وش نتعشى الحين؟!». وطمأنه إدي بأنّ «الأكل متوافر - طال عمرك -، وأنّ لحوم الضأن محفوظة هنا في ثلاجات».
وهنا ارتاع عبد العزيز وصاح: «وش تقول؟! تبي مني آكل الفطيسة! ما تدري إنّ الفطيسة حرام؟!».
وأخيراً جرى التوصل إلى حل وسط؛ إذ سُمِح للملك - على مضض - بأن يأخذ معه سبعة من خرافه. وما إن أبحرت السفينة حتى قام الخدم بذبح أحدها، وراحوا يسلخونه على ظهر المدمرة!
كان عدد أفراد الحاشية السعودية مشكلة أخرى للسفير إدي؛ فقد حدّدت له تعليمات وزارة الخارجية عدد اثني عشر رجلاً يرافقون عبد العزيز، في حدّ أقصى. وقال إدي لرؤسائه إنه يجب عليهم أن يتوقعوا ضِعف هذا العدد، لكن عدد أفراد مرافقي عبد العزيز بلغ واحداً وأربعين شخصاً في نهاية المطاف!
وكان من بين أسباب تقييد الخارجية الأميركية لعدد مرافقي الملك، أنه لم تكن هناك حجرات كافية لمعظمهم، لكن هذه لم تكن مشكلة للسعوديين؛ إذ سرعان ما افترش عشرات الطباخين والحراس والخدم بسُطاً على ظهر المدمرة ثمّ أشعلوا الحطب لعمل القهوة بالقرب من المدافع والذخيرة الحية، وناموا جميعاً على ظهر المدمرة، حيث انضم إليهم عبد العزيز نفسه الذي رفض النوم في حجرة قائد السفينة.
وقال الملك للسفير وقد انقبض:
«تبيني أرقد فيذا؟! فـ ها الصفّة (الحجرة) الحديد؟! عاد الرقدة تحت خيمة أفضل لي!».
يروي توماس هليارد، الذي كان بحاراً في السفينة «ميرفي»، كيف أنّ البحّارة اضطروا إلى أن يخيطوا لضيفهم خيمة. فمصمّمو المدمّرة الحربية لم يدر في خلدهم أنها ستحتاج إلى خيام. وطلب البحّارة من السعوديين قطع قماش كبيرة، ثم نصبوا لعبد العزيز خيمته على سطح مقدمة السفينة!
وكان للملك السعودي رغبات أخرى، فقد طلب من قبطان المدمرة أن يحدد له مواعيد الصلاة واتجاه القبلة. فأمر القائد مهندسي الملاحة بإعداد بيانات يومية عن ذلك. لكن جلالته كان مرتاباً في دقة معلومات الجماعة الأميركيين، فطلب من منجّمه الخاص ماجد بن خثيلة أن يتأكد من صحة المواقيت واتجاه القبلة، ثم بعد أن يتأكد الملك من تطابق معطيات المهندسين مع رأي المنجّم، كان يأمر مؤذنه بالصعود لأعلى سارية في المدمرة ليؤذن للصلاة، تحت رفرفة العلم الأميركي الخفّاق.
في المساء، أعدّ الأميركيون مفاجأة للسعوديين؛ فقد أحضروا جهاز عرض للأفلام إلى ظهر المدمّرة لغاية الترفيه عن الملك وحاشيته. وكانت تلك أول مرّة يشاهد فيها السعوديون صوراً تتحرّك. فتحلقوا مشدوهين أمام الشاشة العملاقة. وكان بعضهم يدور حول الشاشة كأنه يبحث عن أحد! في البداية، كان عبد العزيز متوجساً من «ها السالفة» ثمّ في نهاية المطاف - وتحت إلحاح ولديه محمد ومنصور - غلبه فضوله. ولكنه اعترض على مشاهدة أي فيلم يظهر فيه الحريم. فاضطرّ الأميركيون إلى أن يعرضوا لضيوفهم فيلماً وثائقياً عن حاملة طائرات أميركية في المحيط الهادئ. وأبدى الملك تحفظه بعد مشاهدته للفيلم الوثائقي. فقال: «زين... بس هالسالفة (يقصد السينما) مهيب لربعنا (لا تصلح لجماعتنا)... يجوز هالسالفة تلهي العيال عن الصلاة!».
وكان الأمير محمد (الابن الثالث للملك بين أبنائه الذكور الأحياء آنذاك) قد حزّ في نفسه أن تضيع منه فرصة مشاهدة فيلم «بحق وحقيق». فسأل السفير إدي كيف له أن يرى ما لم يُر؟ وأجابه إدي باسماً بأنه ستعرض أفلام أخرى في وقت لاحق أمام البحارة في قسمهم الخاص، ويمكن أن يحقق له رغبته بحضور ذلك العرض. وهكذا انسلّ الأمير محمد مع أخيه الأصغر منصور إلى صالة البحارة، وجلسا في الصف الأمامي ليشاهدا فيلماً غرامياً. وبعد أن انتهى عرض الفيلم نُظِّم عرض ثانٍ شاهده نصف الحاشية السعودية، باستثناء الملك الذي كان يغطّ في نوم عميق تحت خيمته.
الباب المفتوح وفلسطين وكرسي المعوقين
صباح يوم 14 شباط (فبراير) 1945، وصلت السفينة «ميرفي» التي تقل السعوديين، إلى قناة السويس، لتلتصق بالسفينة «كوينسي» التي يوجد عليها الرئيس الأميركي.
كان آخر ما فعله عبد العزيز قبل أن يغادر «ميرفي» تسليمه على بحارتها. وكان يدسّ في يد كل من يصافحه، ورقة نقدية بخمسين دولاراً. وكان نصيب «مهندسي القبلة» ورقتين. وأمّا طاقم القيادة فنصيبه ساعات سويسرية مميّزة، وللقبطان سيف جميل طويل مرصّع بالعاج. ثمّ كان أوّل ما فعله عبد العزيز بعد أن صعد على متن السفينة «كوينسي» هو تقديم الهدايا أيضاً.
وكانت هدية الرئيس روزفلت عباءة عربية رائعة مطرزة بخيوط الذهب، وسيفاً مرصّعاً بالألماس وخنجراً مذهّباً مصقولاً وخواتم مرصعة بالجواهر الكريمة. وكان على الرئيس روزفلت أن يردّ من جانبه على كرم ضيفه العربي بهديّة أميركية قيّمة. فكان أن وهبه طائرة DC3 ذات محركين، كانت رابضة ضمن أُخر أمامهما على المدمرة.
بعد تبادل الهدايا وشرب القهوة العربية التي جاء بها مرافقو ابن سعود إلى مجلسه مع مضيفه، دخل الرئيس الأميركي إلى الأمور الجديّة. وكانت مسألة إيجاد حل سلمي لقضية فلسطين هي شغل روزفلت الشاغل، وخاصة بعد الضغط القوي من اللوبي الصهيوني الذي جعل من مسألة الوطن القومي اليهودي في فلسطين قضية سياسية كبرى في واشنطن.
وبحسب محضر اللقاء الذي دوّنه السفير إدي، وكان هو أيضاً المترجم بين الزعيمين، فقد قال روزفلت لعبد العزيز: «إنني أريد أن أتشاور مع جلالتك، في قضية اللاجئين اليهود الذين طردوا من ديارهم في أوروبا لأنني أشعر بمسؤولية شخصية نحو هؤلاء البؤساء. وإنني التزمت فعلاً البحث عن حل لمشاكلهم».
وردّ عبد العزيز بصراحة: «إنّ حلّ هذه المشكلة يكون بعودة اليهود المطرودين إلى بلادهم الأصلية. أمّا الذين لا يستطيعون العودة فيمكنكم توطينهم في دول المحور التي اضطهدتهم».
ولم يكن هذا ما كان يريد أن يسمعه روزفلت من ضيفه، فعقّب شارحاً: «سأطلع جلالتك على أمر خطير: يبدو أنّ الألمان قد قتلوا ثلاثة ملايين يهودي في بولندا وحدها! يجب أن نجد حلاً لهؤلاء المضطهدين الذين باتوا يخشون البقاء في دول المحور خوفاً من تكرار ما حدث لهم. كذلك توجد لديهم رغبة عاطفية في استيطان فلسطين».
وردّ عبد العزيز ردّاً قاطعاً: «إنّ اليهود والعرب لن يتعاونوا أبداً في فلسطين. والعرب هم الذين يتعرّضون الآن للتهديد عبر تدفق الهجرة اليهودية إلى أرضهم والاستيلاء عليها... إنني آمل من فخامتكم التزام كلمة الشرف حين وعدت بتطبيق العدل بعد الحرب. وأن لا تكافئ شعباً على حساب شعب آخر».
وكان على روزفلت أن يطمئن ضيفه العربي قائلاً: «إنني كرئيس للولايات المتحدة، لن أتخذ أي تحرك معاد للعرب قبل الإصغاء إلى رأيكم».
كان الموقف الحازم للملك عبد العزيز من قضية فلسطين في أول محادثات سرية له مع الرئيس الأميركي، موقفاً مشرّفاً بحق يُحسبُ له. ولقد أثار هذا الموقف الصلب إعجاب الرئيس روزفلت نفسه الذي أسرّ إلى مساعديه بعدما انتهى اللقاء مع العاهل السعودي قائلاً: «لقد قرأتُ في التقارير التي وردت إليّ، قبل اجتماعي به، أنه ذو تاريخ متوحش... نعم، قد يكون متوحشاً ولكنه أيضاً نبيل!».
■ ■ ■
ولعلّ مردّ حزم عبد العزيز في موضوع فلسطين، سببان:
الأول: شعور الملك بالذنب تجاه الفلسطينيين حين شارك في إجهاض ثورتهم عام 1936، وطالبهم بإيقاف هجماتهم على القوات البريطانية، مقابل وعد بريطاني (جرى الحنث به) بالحدّ من هجرة اليهود إلى فلسطين.
والثاني: عداء ابن سعود الديني لليهود، لأنهم «شعب ملعون حسب القرآن». وهو قد صرّح برأيه هذا (في اليهود كشعب) لكثيرين، ومنهم بعض الأجانب كالسفير الهولندي في مملكته.
زد على ذلك اعتقاده الراسخ بأن اليهود لن يكتفوا فقط بابتلاع فلسطين، وأنهم يريدون إقامة مشروع «إسرائيل الكبرى» وحدودها من النيل إلى الفرات إلى المدينة، ما يعني أنّ «إسرائيل هذه» ستشمل أجزاءً واسعة من ملكه الحجازي!
■ ■ ■
دامت مباحثات روزفلت مع عبد العزيز خمس ساعات، تنوعت فيها المواضيع المطروحة. وكان هاجس الملك السعودي: هل يمضي في رغبته الخاصة باستبدال تحالفه التاريخي مع الإنكليز بتحالف جديد أوثق مع الأميريكيين... أم أنّ تلك مغامرة غير محسوبة العواقب؟
ولقد كشف الملك صراحة لمضيفه عمّا في ذهنه، فقال لروزفلت: «إنّ الإنكليز يقولون لي إنّ مستقبلي مرتبط بهم، لا مع أميركا... ويقولون إنّ مصالحكم في السعودية موقتة... وإن أميركا ستعود بعد الحرب إلى مشاغلها البعيدة. وأمّا الإنكليز فهم الذين سيستمرّون معي، كما كانوا منذ بدء حكمي. وهم يريدون أن تكون الأولوية دائماً لهم في السعودية... فماذا تقولون؟».
وفرّج روزفلت كربة عبد العزيز حين قال له: «إن خططنا لما بعد الحرب مغايرة للماضي. ولن تعود أميركا لسياستها الانعزالية أبداً، وسياستنا الخارجية القادمة هي الانفتاح على العالم. وأميركا تأمل أن يصبح باب السعودية مفتوحاً لها».
انقض عبد العزيز على «الباب المفتوح»، وطلب من الرئيس أن يترجم كلامه هذا إلى معاهدات واتفاقيات بين بلديهما. وكان له ما أراد. ولقد كان سرور عبد العزيز لقبول أميركا «الزواج به» بالغاً، فراح يكيل المديح لروزفلت، حتى إنه قال له: «إنني أشعر وكأنك شقيقي وتوأمي».
ابتسم روزفلت. فأوضح له عبد العزيز أكثر: «هل تعلم يا فخامة الرئيس، لقد أصبحتُ ملكاً للسعودية في نفس السنة التي صرتَ أنت فيها رئيساً لأميركا... وها إني اكتشفت أننا نتشابه في تفكيرنا، أيضاً»، ثمّ ابتسم ملك السعودية مضيفاً: «إننا نشترك حتى بالعجز الجسدي!».
قال روزفلت: «ولكنك أسعد حظاً، فأنت تستطيع المشي على قدميك، وأمّا أنا فلا».
فقال عبد العزيز: «إن لك هذا الكرسي المتحرك تمشي به حيث تريد، أمّا رجلاي أنا فلم تعودا تقويان على حملي».
وابتسم روزفلت قائلاً: «تقول إننا توأمان، وإننا نشترك بأمور كثيرة... حسناً، إنّ عندي مقعداً متحركاً هو توأم لكرسيي هذا. فهلّا قبلته هدية شخصية مني؟».
قال الملك: «نعم، وسوف أستخدمه يومياً وأتذكر مانحَ الهدية صديقي العظيم الطيب».
وكذلك ودّع ابن سعود صديقه العظيم الطيب، وهو مسرور بكرسي المعوقين الذي منحه له!
تشرشل والرولز رويس والويسكي
صُعق رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عند سماعه بعزم روزفلت أن يلتقي عبد العزيز. فأمر دبلوماسييه بأن يرتبوا له هو أيضا لقاءً مع الملك السعودي. وتقرّر فعلاً هذا الاجتماع بعد ثلاثة أيام من لقاء المدمرة «كوينسي»، في فندق بالفيوم جنوب القاهرة.
كان تشرشل وفياً في ذلك اللقاء للسياسة الاستعلائية البريطانية في تعاملها الطويل مع شيوخ العرب. فقد نظر باستخفاف إلى عبد العزيز وهما على مائدة الطعام، وكانت الخمر قد لعبت برأسه. فقال لضيفه: «دين جلالتك يحرّم عليك التدخين وتعاطي المسكرات. ولكن يجب أن أشير إلى أن قانون حياتي يقضي بالتدخين وبشرب المسكرات أيضاً قبل وبعد وحتى أثناء جميع الوجبات وما بينها من فترات إذا اقتضى الأمر...». ثم راح تشرشل يحتسي الويسكي وينفخ دخان سيجاره معظم الوقت في وجه العاهل السعودي أثناء محادثاتهما التي دامت ثلاث ساعات.
واستاء عبد العزيز من هذا التصرف، وخصوصاً عندما قارنه بأسلوب روزفلت الحصيف معه. فلقد حرص الرئيس الأميركي أن لا يثير حساسيات ابن سعود الدينية. ولم يكن للخمر وجود على مائدة الطعام.
إلا أن عبد العزيز أحسّ باستخفاف تشرشل الكبير به في مسألة أخرى. فهو قد أهداه ذات الهدايا التي قدّمها لروزفلت (العباءة المذهبة والسيف المرصع والخنجر وخواتم الجواهر)، فنال عن هديته من الرئيس الأميركي طائرة. ولكن تشرشل لم يجد في المقابل إلّا علبة عطر أخرجها له من حقيبته. ولقد كانت، أيضاً، مستعملة!
عندما علم تشرشل باستياء ابن سعود الحادّ منه ثمّ علم بهدية روزفلت بعث لعبد العزيز رسالة مجاملة يقول فيها: «إن علبة العطر ما هي إلا هدية رمزية وأنه ينوي إهداء الملك أول سيارة رولز رويس يتم إنتاجها بعد الحرب، وهي أحسن سيارة في العالم!».
وعثر البريطانيون على سيارة رولز رويس مستعملة، لكنها تكاد تكون جديدة، فأعادوا تجهيزها لتلائم عبد العزيز، وأخرجت خزانة المشروبات الروحية ووُضِع مكانها وعاء للوضوء، وتم تبديل زجاجات الكوكتيل بـ«ترموس» لحفظ ماء زمزم الذي يشربه الملك، ثم استُبدل بالمقعد الخلفي عرشٌ ضخم، ثمّ طلوا السيارة بطبقة جديدة من الدهان، وأوصلوها لعبد العزيز الذي أخذ يتفحص سيارته باهتمام. وظهرَ له فيها شيء مزعج! كان العرش في مؤخرة السيارة غير مناسب له تماماً، لأن الحريم فقط هن اللواتي يجلسن في المقاعد الخلفية. أمّا الرجال مثله، فلا يجلسون إلّا في المقعد الأمامي بجانب السائق. ثمّ إنّ البريطانيين أهملوا في تعديلاتهم شيئاً مهماً جداً: لقد نسوا نقل عجلة القيادة من اليمين إلى اليسار. ومعنى هذا أنه يتعيّن على الملك الجلوس على يسار سائقه. وهذا شؤم!
والتفت عبد العزيز لأخيه عبد الله الذي كان بجانبه يشاهد السيارة، وقال له: «خذها، هي لك».
وكان هذا إيذاناً نهائياً من ملك السعودية بطيّه لصفحة غرامه الإنكليزي القديم، واستبداله بقصّة غرام أميركي جديد!
عندما غنت فيروز الآن الآن وليس غدا .... اجراس العودة فلتقرع
**رد عليها نزار قباني :
غنت فيروز مُغـرّدة ...... وجميع الناس لها تسمـــــع
الآنَ، الآنَ وليس غداً .....أجراس العَـودة فلتـُقـــــرَع
مِن أينَ العـودة فـيروزٌ .....والعـودة ُ تحتاجُ لمدفـــــع
والمدفعُ يلزمُه كـفٌّ .....و الكـفّ يحتاجُ لإصبـــــــــع ْ
والإصبعُ مُلتـذ لاهٍ ...... في دِبر الشعب له مَرتــــــــع ْ؟
عـفواً فـيروزُ ومعـذرة ً .... أجراسُ العَـودة لن تـُقـرع
خازوقٌ دُقَّ بأسـفـلنا ....من شَرَم الشيخ إلى سَعسَــــع ْ
غـنت فيروزُ مرددة .... آذان العـُرب لها تسمــــــــع
الآنَ، الآنَ وليس غداً .... أجراسُ العـَودة فلتـُقـــــرَع
عـفواً فيروزُ ومعـذرة .... أجراسُ العَـوْدةِ لن تـُقـرَع ْ
خازوقٌ دُقَّ بأسـفلِـنا ..... من شَرَم الشيخ إلى سَعسَع
ومنَ الجـولان إلى يافا ..... ومن الناقورةِ إلى أزرَع
خازوقٌ دُقَّ بأسـفلــــــــِنا ..... خازوقٌ دُقَّ ولن يَطلع
*** أما تميم البرغوثي فيقول من وحي العدوانعلى غزة ورداً على نزار :
عـفواً فيروزٌ ونزارٌ ..... فالحالُ الآنَ هو الأفظــــــــــــع
إنْ كانَ زمانكما بَشِـعٌ .... فزمانُ زعامتنا أبشَــــــــــــــع
من عبدِ الله إلى سَـعدٍ .... من حُسْـني القـَيْءِ إلى جَعجَع ْ
أوغادٌ تلهـو بأمَّـتِـنا ..... وبلحم الأطفالِ الرّضـَّــــــــــــع ْ
تـُصغي لأوامر أمريكا .... ولغير "إهودٍ" لا تركـــــــــع
زُلـمٌ قد باعـوا كرامتهم ..... وفِراشُ الذلِّ لهم مَخــــــدع ْ
عفواً فيروزٌ ونزارٌ .... فالحالُ الآنَ هو الأفظـــــــــــــع
كـُنا بالأمس لنا وَطنٌ .... أجراسُ العَـوْدِ له تـُقــــــــــرَع
ما عادَ الآنَ لنا جَرَسٌ .... في الأرض، ولا حتى إصــبع
إسـفينٌ دُقَّ بعـَوْرتـنا ..... من هَرَم الجيزَة ْ إلى سَعسَـــع ْ
فالآنَ، الآنَ لنا وطنٌ ..... يُصارعُ آخِرُهُ المَطـلــــــــــــع
عـفواً فيروزٌ ونزارٌ ..... أجراسُ العـَودةِ لن تـُقــــــــــرَع
مِن أينَ العـودة، إخـوتـنا ..... والعـودة تحتاجُ لإصبَــــــــع ْ
والإصبعُ يحتاجُ لكـفٍّ ...... والكـفُّ يحتـــــــــــــاجُ لأذرُع
والأذرُعُ يَلزمُها جسمٌ ..... والجسمُ يلزمُهُ مَوقِـــــــــــــــع ْ
والمَوقِعُ يحتاجُ لشعـْب ..... والشعـبُ يحتاجُ لمَدفــــــــع ْ
والمدفعُ في دِبر رجال ٍ ..... في المتعة غارقة ٌ ترتـَــــع
والشعبُ الأعزلُ مِسكينٌ ..... مِن أينَ سيأتيكَ بمَدفــع ْ؟ا
عفواً فيروزٌ... سـَيّدتي ..... لا أشرفَ منكِ ولا أرفــــــع
نـِزارٌ قـال مقـَولـتهُ ..... أكلـِّم نزاراً... فليسمـــــــــــــــع
إنْ كانَ زمانكَ مَهـزلة ًٌ .... فهَوانُ اليومَ هـو الأفظـــع
خازوقـُكَ أصبحَ مَجلسُنا .... "يُخـَوْزقـنا" وله نــــــَركع ْ
خازوقـُكَ يشرب من دمنا ..... باللحم يَغوص، ولا يَشبَع
خازوقـُكَ صغيرٌ لا يكفي .... للعُـرْبِ وللعـــــــالم أجمَع
رد الشاعر العراقي على قصيدتي نزار قباني و تميم البرغوثي :
عفوا فيروز ونزار .... عفوا لمقامكمـــــــا الأرفع
عفوا تميم البرغوثي .... إن كنت سأقول الأفظــع
لا الآن وليس غدا .... أجراس تاريخنا لن تقـــرع
لا الآن وليس غدا ... أجراس حضاراتنا لن تقرع
إن كان زمانكم أبشع .... فزماننــــــا أشنع وأبشع
بغداد لحقت بالقدس ... والكل على مرأى ومسمع
أمريكي يهودي فارسي . كلُ في دبرعروبتنا يرتع
هوان أمتنا أمسى .... كقرون القــــواد تلمـــــــــع
فما عاد هناك من ينتخي .وما عاد هناك من يشرع
والشعب العربي الذليل ..ما عاد يبـــحث عن مدفع
يبحث عن دولار يدخل .. به ملهى العـروبة أسرع
الگاردينيا:المادة اعلاه مرسلة من قبل الأستاذ الدكتور/ محمد زاير... فألف شكر له
397 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع