أنيس الأبيض:قبل الحديث عن معركة حطين الخالدة لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بلاد العرب زمن ولادة صلاح الدين الأيوبي سنة 532 هجرية - 1137 ميلادية، تمزقت إلى إمارات عدة يتقاسمها الحكام ويتنازعون عليها، كل منهم يبغي الاستئثار بملكه ويطمح بالاستيلاء على ملك جاره.
كما لا بدّ من التوقف عند الوضع الاستراتيجي للبلاد العربية آنذاك، فقد كانت البلاد التي كانت بحوزة الإفرنج تقتصر على السواحل السورية والفلسطينية التي تعتمد على البحر لضمان التموين من الخارج، وعلى سلسلة القلاع الضخمة المبتدئة من «ذعبرة» على الطرف الجنوبي لبحيرة طبريا ثم كرك المعاب من الكرمل وبيت جبريل وداروم، وخلف هذا الخط الأول القلاع الممتدة من شقيف أرنون إلى صفد والقسطل. وفي الشمال حصون عكا والكرك وبارين ومن ورائها جميعاً المدن الساحلية الكبيرة أنطاكية وطرابلس وعكا وصور وطرطوس والمرقب وبيروت ويافا وعسقلان، وهي أطراف القوى الصليبية من ناحية البحر، ويقابلها من ناحية البر مرجعيون وجسر يعقوب وبيسان وطبريا.
امتازت هذه الحدود الصليبية بأنّ قلاعها جمعت بين خصائص العمارة العربية الغربية والشرقية من حيث ازدواج الأسوار وتعدد الأبراج ذات الطبقتين وكل مستلزمات الحامية من ذخيرة وتموين ووسائل دينية وصحية.
أما الخصائص الاستراتيجية الإسلامية، فامتازت باتساع رقعتها وطول خطوط مواصلاتها المتصلة شرقاً وغرباً بقواعد آمنة للتموين في سرعة من الشمال حلب وحماة وإلى الشرق منهما الموصل وقلاع الجزيرة، وكلها مدن حصينة. وفي الغرب مصر وما وراءها من بلاد المغرب والنوبة واليمن. ثم إنّ القاهرة غدت منذ غادرها صلاح الدين سنة 578 هجرية - 1182 ميلادية قاعدة لتدريب الجند وإعداده وتموينه، وإليها ترسل الجرحى والأسرى، ومنها يطلب الإمداد لسد النقص في ميادين القتال.
وغدت دمشق مذ استقر بها صلاح الدين مسرحاً لنشاط سياسي وساحة لحركات عسكرية مستمرة ومعملاً لدراسة الخطط الحربية، وآية ذلك قول صلاح الدين في وصف دمشق وقتذاك وكما جاء في كتاب «أبو شامة» «الروضتين في أخبار الدولتين»: «إنه ما بقي له دار إلا هي حتى يقضي الله بيننا وبين الفرنج وهو خير الحاكمين».
وانتظر صلاح الدين حتى وافاه جيش مصر بقيادة الملك العادل فضمّه إلى جيش سورية، وسار بهما إلى تل عشترة حيث أخذ يعد العدة للموقعة الحاسمة بينه وبين الصليبيين، بينما الجيوش العربية والإسلامية تلحق به من جميع أنحاء مملكته، والأسطول المصري يتجه إلى شواطئ الفرنجة بقيادة الأمير لؤلؤ استعداداً للجهاد.
كان ذلك يوم الخميس 16 ربيع الثاني سنة 583 هجرية الموافق لـ25 حزيران (يونيو) 1187 ميلادية. وما إن طلع فجر ذلك اليوم حتى كان صلاح الدين يستعرض جيوشه وينظمها وينفخ فيها روح الحماسة والجرأة استعداداً لليوم الفصل ومعركة المصير.
كان عدد الفرسان 12 ألفاً، وعدد المشاة 13 ألفاً عدا الجيش الاحتياطي والمتطوعة وهم كثر، وكذلك اجتمعت جيوش الفرنجة وتنادى أمراؤهم وتناسوا خلافاتهم وأرسلوا إلى طبريا طائفة من أصحاب الرأي منهم على رأسهم «جوزيف» أسقف صور و «باليان» صاحب بيت حبريل و «رينولد» صاحب صيدا لاسترضاء ريمون الثالث ذي اللحية البيضاء فقبل وساطتهم وعاد إلى صفوفهم، لا سيما حيث هددوه بالحرمان وفسخ زواجه.
وعقد الملك «غي دي لوسبنيات» مجلساً سأل أمراءه فيه أن يرشدوه إلى ما ينبغي له عمله أمام استعداد صلاح الدين لمقاتلتهم فأشار ريمون عليه أن يحشد جيشه من صفورية لأنها ملائمة للعمليات الدفاعية. فاحتشد في هذه البلدة 22 ألف مقاتل بين راجل وفارس.
وفي صبيحة يوم السبت عبر صلاح الدين بجيشه نهر الأردن جنوب طبريا وأرسل العيون لمعرفة مواقع العدو، ثم سار إلى تل كفرسيت جنوب غربي طبريا محاولاً الاشتباك مع الفرنجة، فلم ينهضوا لملاقاته فترك حينذاك في ذلك المكان نخبة جيشه وزحف بالقسم الباقي منه إلى طبريا نفسها، فاستولى عليها في 24 ربيع الثاني الموافق لـ2 تموز (يوليو).
ولكن البارونة «إبشيف» زوج ريمون امتنعت في قلعة طبريا مع أولادها وحاشيتها، وأرسلت إلى الملك غي في صفورية تدعوه إلى إنقاذها، فجمع هذا مجلس أمرائه واستشارهم في ما يصنع، فأشار ريمون بعدم مهاجمته المسلمين كي لا يتخلى الفرنج عن مواقعهم الحصينة القريبة من مراكز المياه، وقال إن صلاح الدين لا بدّ من أن يرحل عن القلعة إذا لم يتقدم إليه الفرنجة، وأنّ ضياع طبريا إذا تم لا يضير المملكة اللاتينية في شيء.
استمر النقاش بين قادة الفرنجة وقتاً طويلاً إلى أن استقر الرأي على حمل الملك لإصدار أمره إلى الجيش بالزحف عند الفجر لملاقاة الأعداء، وانحدروا نحو طبريا كالجبال المتحركة، وواصل هذا الجيش اللجب زحفه بين الرمال والصخور وتحت أشعة الشمس المحرقة.
وعلم صلاح الدين في غداة اليوم الخامس والعشرين من ربيع الثاني الموافق لـ3 تموز بتحرك جيش الفرنجة نحو طبريا. وكان السلطان إنما يبغي اجتذابهم إليه ليحاربهم وجهاً لوجه في معركة مكشوفة وأرض خالية من كل شيء، لا سيما إذا وصلوا إليها متعبين. وكان هو ادخر جهده وجهد رجاله. فلما قيل له إنهم قد تركوا مواقعهم في صفورية لمهاجمته هتف فرحاً «الحمدلله هذا ما كنت أرجوه» وما لبث أن أضرم النار في طبريا، ورجع إلى حيث ترك نخبة جنوده غرب المدينة وأمرهم بالاستيلاء على موارد الماء لندرته في تلك الفلاة القفر.
فلما وصل الفرنجة إلى ذلك الأتون الذي استدرجهم إليه بين لوبين وحطين بعد أن اجتازوا 16 ميلاً، وقد أعياهم التعب وأجهدهم العطش لوعورة الطريق وحرارة الجو وقلة الماء تعذّر عليهم الحصول على الماء ولم يكن معهم منه إلا القليل الذي يحملونه في جعبهم وحملت عليهم جيوش المسلمين، وهم على هذه الحال فنالت منهم منالاً عظيماً وهي تحمل تارة على طليعة الجيش الذي يقوده الكونت ريمون، ثم ترتد قبل أن يتمكن الفرنج من الالتحام معها وتارة تلتف لتهاجم مؤخرته حيث يسير فرسان الهيكل وفرسان المستشقى وفصيلة «رين دي شاتثيون» وتنقض تارة أخرى على القلب حيث يسير الملك وقد أحاط به كبار الأمراء.
المعركة
في صبيحة يوم السادس من ربيع الثاني الموافق لـ4 تموز وهو يوم الجمعة، كان صلاح الدين يتحضر لحروبه هذا اليوم لتفاؤله به. التحم الجيشان على بعد ميلين من حطين، وكان المسلمون هم البادئين بالقتال، إذ أخذوا يطلقون على العدو سهامهم فتجندل الفرسان والجياد حتى عمّت الفوضى في صفوف الفرنجة، ثم انقضوا عليهم انقضاض الصخور المنحدرة من الجبال وهم يكبرون ويهللون وأخذوا يقاتلونهم وجهاً لوجه.
فالتحمت السيوف. واشتبكت الرماح وتقارعت العصي وارتفع الصليل والصهيل والصراخ... وصلاح الدين يكر تارة على هذه الجماعة ويغير تارة أخرى على تلك أو يعود إلى صفوف جنوده ينظمهم ويحضّهم على الإقدام والاستبسال.
لقي الصليبيون في سهل حطين هزيمة لم يشهدوا لها مثيلاً من قبل، إذ تمّ أسر الكثير من قادتهم واستسلم جميع الأمراء والنبلاء والفرنجة وفي طليعتهم الملك «جاي لوزتيان» وشقيقه القائد عموري «أملريك ورينالد شاتيون (أرناط) صاحب الكرك وابن زوجته همغري سيد تبنين ومقدم الداوية وهيو صاحب بيروت وعدد كبير من صغار بارونات المملكة...
ولما كان ريموند ذكي القوم وألمعهم فقد أيقن من قبل أن تنتهي المعركة أنّ النصر يسير في ركاب صلاح الدين ولذا بذل كل ما لديه من ذكاء لينجو بنفسه من المعركة، واتفق مع قواته على أن يقوموا بهجمة استماتة ونجحت خطته حيث استطاع أن يشق طريقه عبر ثغرة فتحها له تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وأخذ طريقه نحو صور مع نفر من عسكر طرابلس فتبعته جماعة من المسلمين فقتلوا من معه بينما نجا لوحده.
ويطرح مؤرخو الفرنجة كثيراً من علامات الاستفهام حول موقف «ريموند» ويتساءلون عما إذا كان قد سبق له الاتفاق مع صلاح الدين على فتح تلك الثغرة في صفوف المسلمين كي ينفصل عبرها عن قومه ويخرج من المعركة. بينما يرى مؤرخو المسلمين أنه عندما رأى إمارات الخذلان تحل بالفرنجة وأيقن هلاكهم أراد الفرار بأية وسيلة وعندئذ فتح له تقي الدين عمر طريقاً خرج منه ولما خرج التأم الصف.
استقبل صلاح الدين أسراه في خبائه وأكرمهم، وكان الملك غي متداعي القوى وأوشك هناك على السقوط مغشياً عليه لما ناله من الظمأ والإعياء ومرارة الإخفاق فأسرع إليه صلاح الدين فأمسك به وأجلسه إلى جانبه وقدم إليه كأسا من الماء المبرد المعطر فشرب الملك نصفها وأعطى رين ودي شاتيون النصف الثاني فشربه فغضب صلاح الدين وقال لمترجمه قل للملك إنه هو الذي سقاه وليس أنا... إذ كان من جميع عادات العرب أنّ الأسير إذا أكل أو شرب شيئاً من بيت من أسره آمن. فقصد السلطان بقوله هذا أن الملك غي آمن وأما رينو فلم يأمن، والتفت السلطان إلى رينو وأنشأ يوبخه على حنثه بقسمه وخرقه المواثيق والعهود. فقال رينو: «لقد جرت بذلك عادة الملوك»، ثم قال له صلاح الدين: «ترى لو ركبت أنا رأسي وسلكت مسلكك ثم وقفت أسيراً في قبضتك، فأي المواقف يكون موقفك معي» فأجاب رين ودي شاتيون ساخراً متحدياً: «أقطع رأسك من دون تردد» فانتفض السلطان وصاح به غاضباً ثائر الأعصاب: «يا لك من وقح في خيمتي وتحت رحمتي تجيبني بهذه اللهجة»، وطعنه بسيفه في كتفه وانقض عليه مرافقو السلطان فأجهزوا عليه. أما الملك غي ومن معه من النبلاء والفرسان فقد أرسلهم إلى دمشق آمنين مكرمين وأبقى أسقف الناصرة مع مرضاهم كي يتولى العناية بهم وفق تقاليدهم، وقدّر المؤرخون عدد الأسرى جميعاً بثلاثين ألفاً والقتلى بثلاثين ألفاً أيضاً.
ولم يصب الفرنجة ولا وقعت بهم كريهة منكرة منذ خرجوا إلى الشام سنة 491 هجرية - 1096 ميلادية، أشدّ وأدهى مما وقع بهم في حطين. ويرى بعض المؤرخين أنّ انتصار المسلمين في حطين، إنما يرجع إلى تنظيم قواهم على يد صلاح الدين واتحاد هدفهم على استرداد أراضيهم المحتلة وطرد الغزاة الفرنجة، هذا فضلاً عن التكتيك الحربي الرائع الذي استخدمه صلاح الدين بفهمه للأرض التي يحارب عليها.
333 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع