مساومة على خط الموت.....
يمتلئ الطريق المؤدي الى الجسر العسكري الوحيد بين العشار والتنومة بالمحبطين، يقتصر العبور على سيارات القادة التي سَلمَتْ من استهداف العدو الأمريكي، وتلك العائدة لآمري قواعد الجيش الشعبي ممن نجا من الاستهداف، فأصبح مزدحما، يصطف على جانبي مدخله من جهة العشار مئات العسكريين الساعين للانتقال الى الضفة المقابلة بينهم حسيب، وكانهم يرون في عبوره الخلاص، وكأن شط العرب هو الفاصل بين الموت وبين الحياة.
حسيب لا يقوى على الانتظار وقوفا في المكان المزدحم، تحرك يمينا، قابل تمثالا برونزيا من بين عشرات أقيمت لضباط استشهدوا في الحرب مع ايران اراد صانعها ابراز قساوة الموت، وتلبية الرغبات العارمة للانتقام.
تكلم مع التمثال بصوت مسموع، كمن يكلم إنسانا حيا:
- نريد تماثيل أخرى لشهداء آخرين على حدودنا مع الكويت والسعودية التي دخلنا معهما في حرب أخرى، نريدها تؤشر باياديها نحوهم، مثلما تؤشرون الى إيران، عسى ان تحرس بلادنا بدلا منا جنود هاربين.
يتجمهر حوله جنود مثله هاربون، مقهورون، يريدونه أن يتكلم عنهم، يروّح عن كاهلهم.
يَسمعُ صوت من قريب.
- ما تقوله صحيح، بالامس مع ايران، واليوم مع الكويت، وفي الغد مع سوريا، لن نخلص مادام الظلم موجوداً، يرفع يده عاليا فوق رؤسنا المطئطئة.
الثناء في مواقف الانفعال القلقة يُشعر صاحبه برهبة تزحف تحت الجلد الذي بلله المطر.
ينتصب الشعر الندي في مكانه، يحس قوة غريبة في داخله الخاوي، كتمها مرغما، ترك المكان متجها صوب الجسر.
الضباط يحاولون إجبار جندي الانضباط العسكري، على فتح بوابة الجسر التي يغلقها مع مرور أية طائرة معادية في أجواء البصرة، يهددون، يزمجرون، يقذفون غل مصيبتهم عليه عسكريا بسيطا، كأنهم يريدون تحميله نتيجة الحرب.
الشارع المكتظ بالامطار والبنادق المنكسة، يدفع جوقة جنود أخرى، يوصلهم الى الجسر، وقد أعطب الغضب منافذ تفكيرهم، لا ينتظرون العبور.
أعطى بعضهم ما بحوزته من نقود وسلاح الى صاحب مشحوف يركن قريبا من تمثال، اتخذه مرسى لمشحوفه، أسماه مرسى العقيد، تيمناً بصاحب التمثال العقيد الطيار حمزة الربيعي المعروف ببسالته في الحرب مع ايران، ينقل من دفع أولا الى الضفة الثانية، حالماً بالخلاص.
العبور هنا تجارة سلاح أخرى رائجة، تعريفتها ثابتة، لا جدال بشأنها، مثل تلك التي أسستها الحاجة أديبة لمطعم الوردة البيضاء على الطريق الرئيسي المار بالبصرة القديمة.
يتقدم حسيب مقتنعا أن العبور على الجسر أمر صعب، وان التفتيش عن مسلك آخر مسألة ممكنة.
يسأل صاحب المشحوف في مرسى العقيد:
- بكم العبور الى التنومة.
- بالسلاح الذي تحمله.
- ومن لا يملك سلاحاً.
- عليه ان يعبر على الجسر، أنا هنا أتقاضى أجري، بندقية كلاشنكوف، ولا بأس بمن يملك مسدس طارق.
يهم بتسليم بندقية أعزها أيام القتال، يتذكر كلمات كريم باحتمالات الحاجة اليها، يسمع لغطا من جوقة جنود جمعتهم وحشة الطريق، تآلفوا في السير عليه، يصلون الجسر تواً، يشاهدون حشداً في القريب من مدخله، يفقدون السيطرة على أعصابهم، يهلوسون بعبارات مخيفة، يندبون الحظوظ، يُشَبهون أحاسيس البقاء تحت وطأة الرغبة في عبوره السريع، باجتيازهم طريق الموت الممتد من الكويت حتى صفوان داخل العراق، يشتمون الكويت والعراق والامريكان وأنفسهم بذات المقدار.
يترك حسيب موقعه، يلغي فكرة المقايضة لتحقيق هدف العبور، يلتحق بهذا الجمع الهائج، يقف بالمقدمة، يصيح بأعلى صوته وبلحن المونولوجست المعروف عزيز علي:
كلها منه.
مصايبنا وطلايبنا كلها منه.
أساس الفتنة من صاحبنا.
تستهوي حالة الانجراف التدريجي الى الشتم المبطن هذه، نائب الضابط هادي الجبوري القريب منه، يحاول اثارته، كمن يفتش عن شخص يآزره في الشتم، فوجده جاهزاً، حثه على الاستمرار بالانتقاد، مؤكدا وبنفس علو الصوت:
نعم كلها منه.
مصايبنا كلها منه.
مصيبتنا من صاحبنا.
تفرجوا وشوفوا حالتنة.
فجاء المنولوج نوعا من الازاحة والترويح، جمعهم في المسير باتجاه الجسر دون الحاجة الى التعارف، وذكر الاسماء.
الوضع برمته لا يحتاج الى التعارف، بل لرفقة مسير من أجل الاطمئنان والتخلص من الهموم ولو لدقائق.
طائرات العدو تحلق في سماء الجسر بارتفاعات واطئة، يتبعثرالمحتشدون ، يُنَزلُ حندي الانضباط، العارضة لغلق البوابة، هكذا هي التعليمات، تتفرق الطائرات مرتفعة في أعالي السماء، لا ترمي قنبلة أو صاروخاً لتدمير الجسر الوحيد، فمراجعها استثنوا هذا الجسر من دعاوى التدمير، لعدم ايمانها بنظرية الحصر المكاني، أو لرغبتها بدفع الاهل الى تدمير بعضهم البعض بمحاولات النفاذ من الحصر المكاني، ثم ان الجسر لا يستحق التدمير، لانه عسكري قديم نصبته كتيبة الهندسة العائدة الى الفيلق السابع، يقدر الحلفاء له ثمنا لا يساوي ثمن قنبلة ذكية.
الطيارون يتبخترون، رسموا بدخان مقاتلاتهم الحديثة أحرف الولايات المتحدة الامريكية، امعاناً بالضغط على النفوس الهالكة.
يتدخل النقيب حامد قريباً من العارضة المنصوبة لبوابة الجسر، يطلب رفعها فورا:
- الم ترون هذه الطائرات؟.
انها تهين كرامتنا، وانتم وحكومتكم تهينونها، أي حياة هذه التي نعيشها يا رب العالمين؟.
يتدخل حسيب قائلا:
- أي كرامة هذه التي تتكلم عنها سيدي، لقد تركناها في حفر الباطن، ألم تر حالنا هنا، ثلاث ليال لم نذق فيها طعم النوم، كأننا أموات، والكبار في بغداد ينامون على ريش نعام ويتبخترون أمام الكاميرات؟.
حصل النقيب على جرعة دعم، وكأنه تحرر من خوف كان جاثما على صدره، فقال:
- افتح والا اطحت برأسك في الحال.
يتمتم جندي الانضباط العسكري البائس مع نفسه:
- سأفتح العارضة، ساترك المكان، بل والبصرة كلها، لكم وحدكم عيثوا بها فسادا كما تريدون.
ترتفع العارضة بعصبية شديدة، فتتأرجح بين زاويتي الصعود والنزول بشكل حاد، يهجم المتجمهورون دفعة واحدة، باتجاه الفتحة الوحيدة، يتدافعون مع بعضهم، يسقط ثلاثة منهم في النهر، دون ان يتنبه المتدافعون لسقوطهم، يخرج أحدهم سابحاً نحو الركيزة القريبة، وتبتلع المياة الباردة الاثنين الآخرين.
موقف التدافع بائس، كل فرد يمثل نفسه، يحاول انقاذها، يأمل الوصول الى الضفة الثانية بغية العثور على وسيلة أنقاذ تقله حيث تقيم العائله بعيدا عن ماكنة الهرس العملاقة.
الجهة الثانية من شط العرب، عالم مختلف، الجنود فيها يشعرون وكأن شوارع التنومة وازقتها ساحة معركتهم، متحفزين جميعا، طاقتهم مستنفرة من أجل الحصول على وسيلة نقل، أي وسيلة كانت وان رست على عربة يجرها حمار، تبين لهم بعد ان حققوا النصر في عملية العبور ان نصرهم وهمٌ، مثل كل الانتصارات السابقة في الحروب السابقة، وتبين لهم أيضا أن الحقيقة الباقية في حياتهم هذه، مغادرة المكان.
اربعة سيارات حمل تَركت نقل البضائع من والى البصرة، أُجبِرَ سائقوها على نقل التوابيت الخاصة بالشهداء، الاولى في المقدمة، اكتملت تعبئتها بخمسين تابوتٍ لخمسين شهيدٍ، تَشرعُ بالتحرك بأمرة الملازم خالد من مركز الاخلاء.
المتدافعون يصلون نهاية الجسر هرولة، بينهم النقيب حامد، وقريبا منه حسيب ماسكا بندقيته التي زاد اعتزازه بها بعد المساومة المذكورة مع صاحب المشحوف قبل قليل. يقف الجمع صفا بمواجهة السيارة التي تهم بالمغادرة مع توابيتها من الشهداء، وكأنها المنقذ الوحيد، يصعدون اليها، يفرغون حمولتها من التوابيت.
ينادي أحدهم:
- أصعدوا الى بغداد.
يحاول النقيب حامد التدخل بما تبقى في داخله من قيم عسكرية فيقول بحماس:
- انها تحمل شهداء، ما تقومون به غير صحيح.
يؤازره الرائد محمود المسؤول عن السيارات الاربعة:
- انزلوا منها، واجبها محدد بنقل الشهداء.
يرد نفس الصوت الذي نادى بالصعود:
- الحي ابقى من الميت.
ينطلق السائق مذعورا بحمولة تزيد عن المائتي جندي، جميعهم في وضع الوقوف، وبعضهم يتعلق على الجانبين، يحاول النقيب اللحاق بهم، يفتش عن مكان قرب السائق يليق برتبته العسكرية التي عاود وضعها على كتفه عند وصوله الجسر، يدفعه أحد الجنود الساعين الى احتلال المكان قائلاً:
- اذهب ودع الرتبة تنفعك.
يهوى على الارض، يحس صوت ارتطام رأسه بها دون ان يسمعه، سحنتهُ الشاحبة تغدو مع مرور اللحظات أكثر زرقة. لكن أحدا لم يلتفت الى حالته، سوى حسيب الذي خيل اليه أن الصوت الآتي من داخله، صار يلتف معه في كل الجهات، أندفع اليه كالمحموم، يحاول الوصول الى مصدر الصوت. يتمتم:
- الله يلعن هذا اليوم، ويلعن من كان السبب.
تجيب عينا النقيب، بحركة لا ارادية لجفنين عاطلين ودمعتين خرجتا غصباً كأنها تمهد لموته السريع.
892 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع