فكرة هروب.....
سأترك وطني هذا، تاريخي حاضري، مستقبلي.
سأهرب من نفسي.
من محنة أبقت في داخلي شرخا مثل شق أحدثه زلزال.
فكرةٌ مرت عابرة في مخيلة السيد السفير أبو أشواق في طريق نقله مسجونا وباقي الرفاق المتهمين بالاشتراك في المؤامرة من حاكمية المخابرات الى أقبية التعذيب في سجن أبو غريب، ليكونوا فئران تجارب يتلذذ على بعض نتائجها خلسة رئيس الدولة باطلالته عبر الغرفة المخصصة للموتى قريبا من ساحة التعذيب عدة مرات.
الفكرة تتضخم، باتت تنسج خيوطها يوم أدخل السيد جاسب في نوبة تعذيب ليلية قلم الرصاص في اذنيه لينقش في داخلها فكرة الهرب، تمسي معه، تصبح كذلك معه، يتخيلها مشيا بين جبال الاكراد ووديانهم توصله الى ايران، ويتصورها ركوبا لسيارات المهربين عبر الصحراء تضعه عند الحدود السورية، وثالثة صوب الاتراك تعطيه أمل في البقاء حيا وسط الحفلات المستمرة للتعذيب التجريبي المبرمج.
السنة الرابعة تقترب من نهايتها، تستبدل شتائم الجلادين وخدش الاعراض وهراوات منتصف الليل بأوراق الشجب الموجع للمؤامرة، واسترحام القائد عفوا عن ذنوب المؤامرة. يرحل الخفراء المتدربون على فن الترويع.
تختفي سياط اللسع الآدمي.
تفتح منافذ التهوية، تدخل أشعة الشمس من فتحاتها.
تعمم توجيهات القائد بكتم الحسرات.
تطلق صافرة الصباح طويلة هذه المرة، تعلن التجمع والتوجه الى الحمامات وحلق الذقون بوقع سريع.
المرآة الوحيدة لحراس القاطع تتشظى قطعا تكفي ليرى الواحد منهم نصف ذقن يحلقه على عجل، أمرٌ أصدره المرافق الاقدم للرئيس، لضيق الوقت وكثر المشاغل.
يَتركُ الاستعجال جرحا غائرا اسفل الاذن اليسرى، كأن السجين أبو أشواق نسيّ الحلاقة بشفرات الاستخدام الواحد أو لان الشعر الذي بلغت نهاياته مستوى الصدر تصعب حلاقته بمثل هكذا شفرات. يتحسس جرحه ألما لا يقارن بألم الهراوات المرصعة بالمسامير، يتركه دون مبالاة بأمره، فسياقات السجن تقتضي ترك الجروح تقطب ذاتها، ثم ان جرحه هذا لا يحتاج الرتق، فأوردة المنطقة وشرايينها تعطلت من كثر الضرب القاسي على الوجه.
يصطف الناجون من سجن التأديب. الثلث الغائب مات تسميما وضربا وحرقا بألسنة اللهب الآتي من أغصان الطرفة وسعف النخيل. يشير المرافق الاقدم إكتمال حسن التأديب، يقرأ مكرمة العفو من لدن الرئيس، يتعالى الهتاف بحياته المديدة، يوجزهم بانتصاراته الفريدة في حرب لا يعلمون عنها شيئا، يُسلم الواحد منهم لباس كامل على القياس، يصدر أمرا باركابهم في سيارة الكوستر المركونة جانبا.
المفاجئة صدمة مذهلة، يمسك قلبه خوفا من توقفه فزعا. يتحسس دموع قد انهمرت من اعتصار الاسى، يتذكر رفاق مات بعضهم على يديه، وكم مرة تمنى الموت على قاع الزنزانة الرطبة. يهمس في ذاتٍ يشك بوعيها:
الموت أفضل من البقاء تحت رحمة الرفاق.
الموت قبل هذا العفو حلمٌ طالما تمناه مكرمة خلاص من فعل التعذيب. لقد تبدل الحال وتغير الاتجاه. ومضة أمل في الهروب تتدحرج على بساط الاعتقاد بالأسوء في العيش مع الرفاق. خليط عجيب من المشاعر والاحاسيس. ومع هذا لا خيارات متاحة سوى الانتظار.
الانتظار دقيقة واحدة في هذا الجو المقلق سنة بكاملها، يعالج وخزاته المثيرة بمعاودة الانشغال بفكرة الهروب.
يضع قدمه اليمنى على أرضية السيارة الكوستر مستعينا برفيق السجن السيد زيد لمصاعب في ثني الساق التي تضررت في أحد غزوات التعذيب. تغادر اسوار السجن المشؤوم، ركابها يتلصصون في نظرهم خلسة على عالم جديد غير ذاك العالم المحدود، يغمضون العيون مع التفاتة الضابط ناحيتهم، خشية العقاب على جريمة عدم الاستئذان بمشاهدة العالم الجديد. نظرات الخلسة الى الشوارع التي تمر منها السيارة يتخيلها أبو أشواق مسارب هرب محتملة، حتى لم يبهره التغيير الحاصل في البناء خلال فترة سجنه، ولم يثيره اعلان صافرة الانذار عن غارة جوية في حرب عرفَ أمر حصولها قبل قليل. منشغل فقط بفكرة الهروب التي سيطرت عليه حد التسلط القهري، وبالاعتقاد من أن العراق بات سجنا كبيرا، والعودة الى أبو غريب محتومة، والافراج اذا ما تم فعلا، فصل من مسرحية كتبها الرئيس، تعيده بعض مشاهدها الى ناصية السجن ثانية بتهم أخرى لمؤامرات أخرى أتخذت سبيلا للتصفية وادارة شؤون البلاد.
الافراج يبدو حقيقة، يبتسم الضابط لأول مرة، يعلن الوصول الى علاوي الحلة آخر محطة في رحلة الأربع سنوات.
النزول هنا.
التفرق من هنا.
آخر التعليمات التزام الصمت والذهاب الى البيت كل بالطريقة التي يراها مناسبة تبدأ من هنا.
سيارات الاجرة تتقاطر على ركاب الكوستر حال وقوفها، أسلوب أصحابها والحاحهم ونظافة سياراتهم توحي وكأن الامر مرتب بشكل دقيق. يسأل صاحب احداها أبو أشواق في طريقه الى حي السيدية عن الوجهة التي جاء منها وأسباب التعب البادي على هيئته العامة، فيحصل على اجابة توحي وكأن الطريق من عمان لا يساعد على النوم، فيضن مع نفسه قد ضَمِنَ النجاح في أول اختبار أمني لمتابعة الكتمان.
يختار في وجهته بيت النسيب، يتحاشى باختياره وقع الصدمة على نفس الزوجة والبنات في لقاء مفاجئ غير محسوب. يأخذ وقتا كافيا يهيء نفسه للتعامل مع الواقع الجديد والاهم منها يتفادى مظاهر اللقاء الصاخبة وما ينجم عنها من اشارات قد تغضب الرفاق أو تدفعهم لتفسيرها احتجاجا على اجراءات السجن.
ينتظر وصول الاحبة ساعة عادلت في وقعها الثقيل سنوات السجن الاربع، استبدل التفكير بتفاصيل الهروب بأخرى تتعلق بكيفية اللقاء؟.
ماذا أقول عن السجن؟.
ما هي الأسباب؟.
كيف أخفي عن شريكة عمري طعنة جاءت من أصحاب استمتعت المشي واياهم بداية الطريق؟.
كيف أقنعها بفكرة الهروب وكتمانها عن البنات؟.
يتوقف عن التفكير، يحاول التكلم مع نسيبه القريب، تذكر الايجاز الاخير لضابط المخابرات عن التزام الصمت وعدم التطرق للموضوع، والقدرة التي يمتلكها الجهاز بسماع الهمس بين الازواج، يغير الموضوع، يفتح صفحة جديدة، يؤكد الرغبة في بدء مستقبل جديد وسط العائلة التي أحبها وفارقها أربع سنين.
يعاود التفكير بالهروب، بعد أستفاقة الزوجة من غيبوبة صدمة أصابتها عند سماع صوته المميز حال دخولها بيت الاخ الكبير. يبدأ التخطيط جديا لتنفيذها بعد استلامه الوظيفة مسؤولا عن التعبئة في المؤسسة العامة للكهرباء، يضيف الى مهامه قضايا تتعلق بالحماية السلبية لمحطات الكهرباء، تمويه وجودها عن طيران العدو، مهام تقتضي الاستطلاع والتنقل بين المحطات المنتشرة في العراق، جاءت مناسبة لما يريده مجالا ملائما للتنفيذ.
عكاشات منجم للفوسفات بين القائم والرطبة قريب من الحدود السورية، له محطة كهرباء خاصة، لابد من حمايتها وتمويهها عن الطيران الايراني الذي بات يشن غارات استراتيجية من الاراضي السورية. تحصل الموافقة على مقترحه فورا مع تقدير لجهوده الوطنية في دعم المعركة والقائد. يقيم فيها خمسة أيام، يجري استطلاعا مفصلا لطرقها ونياسمها، يحسب المسافة والاتجاه لكل العلامات الفارقة فيها، يحدد نوع القطعات العسكرية المرابطة في محيطها، وشكل المراباة واسلوب الدوريات، يقتنع بامكانية النجاح، قناعة يبطلها تنويه عرضي لآمر لواء الحدود عن ارجاع السلطات السورية هاربين عراقين تسللوا اليها من نفس المنطقة.
يغير وجهته صوب الجنوب، يضع ايران خيارا بديلا، يدرج محطة كهرباء الهارثة في خطط الحماية، يمكث فيها أسبوعا، بظروف حرب لم تبق ثغرة صالحة للهروب، الا بالتنسيق مع أحد الآمرين الثقاة.
أين هي الثقة وقد لُسِعَ غدرا من أقرب الرفاق؟.
يقرر الغاء الخيار والاستمرار بالتفتيش عن آخر فيه ضمانات نجاح أعلى تناسب وضع العائلة التي يراها فوق كل اعتبار.
تتوقف الحرب بتعادل خسائرها، تتغير المواقف، تتبدل الاهتمامات، يبقى التخطيط للهروب قائما، ومعاودة الاستطلاع ممكنة باتجاه الجنوب وخط الحدود مع ايران، وكذلك عن طريق الشمال. يلتقي صديقا كرديا في أربيل توثقت علاقتهما يوم كان مسؤولا حزبيا عن المنطقة، ينوه له برغبة صديقه الهروب وعائلته الى ايران، يأتيه الرد بأنها مغامرة بوجود العائلة، وصعوبة الوثوق بعموم المهربين، الذين يعمل بعضهم وكيلا للمخابرات، وآخرين وكلاء مزدوجين، فيعاود استطلاعاته لمحطات الكهرباء الموجودة في الجنوب.
يصطحب العائله هذه المرة الى البصرة التي تتمتع بجو جميل في شتاء دافئ نسبيا. الانتظار قائم في فندق حمدان على أمل العودة من جولة استطلاع قد تسهل التنفيذ الذي بات وشيكا بالتأسيس على التغير الحاصل في انفتاح القطعات طول خط الحدود مع ايران. يؤكد الاستطلاع وجود العديد من الثغرات التي يمكن النفاذ منها بمستوى نجاح مقبول، عقبتهُ الوحيدة حقول الغام تنتشر في الجانب الايراني دون تأشير.
يقرر العودة مع العائلة الى بغداد، بانتظار فرصة ستأتي حتما ما دامت الفكرة قائمة، وذكريات الطعن في الخاصرة لم يعتريها النسيان.
وما دامت سياط السجان تطارده في المنام.
سيحققها ولو بقيّ في العمر قليل من الأيام.
8/12/2013
459 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع