ليلة فتح الجراح........
لم تهدأ الام لحظة أختفاء وسام ذو الثلاث سنوات، تجري مذهولة في شارع يجاور بيتها والمدرسة الابتدائية في حي الصحة بمدينة الشعب، تلهج اسمه وشكله وملابسه وابتسامة لا تفارق محياه، عساها تتلقف اشارة مرور له تائها بين الناس..
تستسلم لرغبات زوجها الدكتور علي في دخول البيت والشمس قاربت من ولوج مهجعها في المغيب، تصرخ بوجه الحضور من ابناء العمومة والأصدقاء والجيران أين وسام؟. وقبل الجلوس على حافة الكنبة الموجودة في الصالة تلطم خديها، تنظر في الساعة المعلقة على الحائط، تذكّر من حولها مرور ثمان ساعات على غيابه، ثم تتركهم عائدة الى الشارع، تهذي بكلام لم يفهم من مخارجه غير الاسم المعروف لوسام، تستمر في المشي حافية على رصيف تكسرت حافاته من كثر التجاوز والاهمال وسوء الاستخدام، لا تستقر عينيها على اتجاه واحد وكأنها تسير على حافة نهر أبتلعت مياهه الجارفة وحيدها، متأملة ظهوره من بين الامواج.
يزداد الجمع من حولها والبيت، أحدهم يبدي رأيا بضرورة الذهاب الى المستشفيات عساه يكون راقدا في احادها أو مركونا في ثلاجة من ثلاجاتها، فحوادث القتل العَمد هذه الايام تخطت عتبات المألوف، فيزداد جنونها ويعلو صراخها من جديد، ومع هذا تستنجد بمن يستطلع أقبية المستشفيات من الشباب الموجود. والآخر يقدم أقتراحا بمراجعة الشرطة والاستفسار من نقاط السيطرة المنتشرة في تقاطع الشوارع والساحات، عساها احتفظت به تائها لا يقوى على معرفة الطريق، بعد لحظة هدوء تشير الى الشباب بالذهاب جريا الى تلك السيطرات. يفتي الثالث والرابع والخامس، آراء مشفوعة باقتراحات ليس آخرها ما جاء على لسان الجارة أم فرات الاربعينية النشطة في علاقاتها العامة وهي تومئ بإصبع سبابتها اليمنى صوب عائلة السيد مجيد عبد القادر في آخر الشارع، محملة اياها مسؤولية الاختطاف ورمي الجثث على قناة الجيش ومزابل المنطقة القريبة، مؤكدة اتهامها بكلمات حماسية:
- انهم أغراب عن أهل المنطقة، لم يتركوها على الرغم من رسائل التهديد التي وجهت لهم.
- أتعلمون لماذا لم يتركونها؟، لانهم يتجسسون علينا لصالح الكفرة وأعداء أهل البيت.
- أنا واثقة أنهم وراء خطف وسام، بل وراء كل ما يحصل من قتل وأختطاف من أبناء ملتنا الاخيار.
- الله وأكبر على الظالم.
تتوقف موجة الآراء، يتصاعد مستوى الغل والرغبة في الانتقام، يتدخل الدكتور علي طالبا التريث وعدم الانسياق خلف الرغبات:
مازال الوقت مبكرا على توجيه الاتهام.
تنتهي الليلة الاولى واليوم الثاني على نفس المنوال، يأتي المساء الثالث، يخف الجمع بالتدريج الا من الجارة أم فرات التي باتت تلازمهم ليل نهار تتعاطف مع مصيبتهم، تجلب الطعام لهم ثلاث أوقات. يرن جرس الهاتف النقال، في طرفه الثاني رجل يَسمع الحضور تأكيده وجود الطفل مختطفا، يحدد الفدية عشرون دفترا، لا مجال الى الرفض دونه استلام الجسد بلا رأس.
تتغير الامزجة، تختلف نغمات الحزن، تتبدل المشاعر، يسود التوجس، والريبة، تأخذ الرسالة طريقها في النفاذ بزيادة الاوجاع، عندها يبدأ المتكلم بصوته الواثق الرخيم لعبة الاثارة النفسية، خطوتها الاولى اعطائهم مهلة تفكير حتى الصباح.
يبدأ التشابك في الكلام، وسيل الآراء والمقترحات من جديد، تختمه أم فرات بحمد الله على وجود الطفل حيا، تهم بالخروج وفي الطريق الى باب المطبخ الذي تجلس فيه النسوة القريبات تشير الى ضرورة تسديد الفدية حفاظا على حياة الطفل الغالية، وتعيد التأكيد على أن عائلة السيد مجيد هم وراء العملية لاغراض طائفية.
لم تنم العائلة ليلتها مثل باقي الليالي السابقة، تتفق على تقديم الفدية لانقاذ الطفل فالاب قد استلم سلفة المائة راتب قبل أيام، والوالدة تملك بعض المصوغات والاخوة مستعدين لتقديم الدعم جهد الامكان. الخاطف يبقيها عائلة تحت ضغط الانتظار، لا يتكلم في الصباح كما وعد، يطلب الاب بعد أنقضاء الظهيرة مباشرة من رقم غير الرقم الاول، يدخل معه في سجال ينزل في الطلب بحدود المائة وخمسين ألف دولار وشرط ملزم بمغادرة العراق، يؤكد الاب استعداده للدفع بأقل من هذا المبلغ، يتحجج بعدم القدرة على تهيئة الرقم المطلوب، فيذكرّهُ الخاطف بسلفة المائة راتب، ويقفل الخط طالبا الانتظار حتى المساء.
يحل المساء تبدأ جولة جديدة من المساومة بين أب مشدود، وأم شاردة الذهن همها سماع الصوت ولو بضع كلمات من وسام، ورجل في الجانب الآخر يتحجج بنوم الطفل وعدم القدرة على اسماعهم صوته في الحال، يعدهم بتنفيذ رغبتهم قبل تسليم المبلغ المتفق عليه مائة ألف دولار، عند نقطة التقاء مع شخص واحد يمثلهم، سَيُعلم بها قبل حلول الموعد بقليل.
يحمل مجيد شقيق الدكتور علي المبلغ كاملا في شنطة علقها على كتفه الايمن، وهاتف نقال خصص فقط لاستلام التعليمات من الخاطفين، وآخر مرتبط بسماعة ممدودة بسلك أسود ناعم منه الى الاذن اليسرى، أبقيَّ متصلا مع شقيقه بديع الضابط السابق في مديرية الامن العامة، يسير متنكرا بملابس عربية من بعده بمسافة تمكنه من اجراء المراقبة البصرية بشكل مقبول وأبقوا شقيقهم الثالث في سيارته ينتظر باحد الشوارع الفرعية وبن عم لهم يتبعهم من بعيد بسيارة أجرة حديثة.
يقتربون بفواصل مرتبة من ساحة بيروت، تأتي التعليمات للسيد مجيد بالتوجه الى قناة الجيش ثم الانتظار على الجانب القريب لخمس دقائق، ستتوقف عنده سيارة لانكروزر بيضاء فيها شخصين، يُسلم المبلغ الى الشاب الذي يرتدي قميص أسود ويستلم الطفل. المكالمة واضحة، يسمعها بديع بوضوح من خلال الهاتف الثاني المفتوح، وهو كذلك ينصت جيدا، تمر حول الساحة سيارة شرطة تابعة الي نجدة الكاظمية، يجلس في مقدمتها المفوض قاسم زوج السيدة أم فرات، تتبعه في المسير سيارة لانكروزر فيها شابين أحدهم يرتدي قميص أسود. المنظر يثير الاستغراب، يتعزز الشك والاستغراب في استمرار السيارة اللاندكروزر بالتوجه صوب القناة ووقوف سيارة النجدة في الساحة، تحت المجسر الحديدي.
يطلب بديع من شقيقه مجيد الاتصال بالخاطفين وابلاغهم رغبته بسماع صوت وسام شرطا وحيدا لتسليم المبلغ، يؤكد الطرف الثاني نومه في السيارة، وان التسليم سيتم حال استلام المبلغ كاملا. يطلب منه التأجيل حتى سماع الصوت شرطا لا يمكن التنازل عنه.
تنتهي الجولة الاولى، مجيد ينسحب بسيارة الأجرة التي لحقت به في الحال والشقيقين الآخرين يعودون بسيارتهم مسرعين الى مدينة الشعب، يقف الأربعة العائدين من الجولة وخامسهم الدكتور علي خارج البيت يناقشون الخطوة اللاحقة والشكوك، يشاهدون سيارة النجدة والمفوض قاسم وثلاثة آخرين بينهم شاب بقميص اسود يدخلون مسرعين من باب السياج الخارجي التي فتحت قبل قليل، كأنهم يريدون القيام بعمل ما على عجل، يشير بديع بضرورة دعوة الشباب ومراقبة السيارة العائدة الى النجدة والحركة الدائبة في البيت وعدم اخبار أم وسام بالتطورات....
في الوقت الذي سيذهب هو الى آمر السرية العسكرية المعنية بحماية الشارع، يخبره بتفاصيل الشكوك، يطلب معاونته في التدخل تفاديا لاشتباك قد يحصل بين عشيرتين، يٌطوقُ الجنود بيت المفوض من كل اتجاه، يحاول قاسم وجماعته الهروب بالسيارة تمنعهم عجلة الهمر التي تسد الطريق الى الباب. تخرج أم فرات مرعوبة تحمل وسام نائما بعمق من كثر الادوية المنومة التي أعطيت له طوال فترة الاختطاف.
أنا لست معنية بالاختطاف.
ليس لي صلة بأي اختطاف.
كل ما في الامر أودعَ الطفل عندي أمانة، للحيلولة دون قتله أخذا للثأر، عبارات باتت ترددها وسط جمهور ملأ المكان يسأل أصحابه المقربون عن أمر الاختطاف، يظهر من بين الجمهور صوت يطالب بقتلها وزوجها في الحال لخيانتهم الجيرة وتجاوزهم على أعرافها المتبعة في هذه المنطقة الشعبية، يمنعهم آمر السرية، تحاول استخدام هاتفها النقال، يصادره الضابط المكلف بالاعتقال.
يجري تفتيش البيت بدقة متناهية، تحضر مفارز مختصة بمكافحة الاجرام، تبين نتائج التحقيق أن السيدة أم فرات هي من يرأس العصابة التي تنفذ أعمالها بسيارت الشرطة وبمنتسبين من أفرادها، وتبين نتائج الكشف الموقعي وجود مقبرة في الحديقة الخلفية للبيت، عُرف من بين ضحاياها طبيب واستاذ جامعي، ومهندس من عائلة السيد مجيد عبد القادر.
وعرف بعد اشهر من الحادثة وجود ام فرات وزوجها في دمشق يديرون مطعما سياحيا بخمس نجوم ومحل صرافة مختص بغسيل الاموال الآتية من العراق.
17/11/2013
949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع