وكر الشياطين...
تأخذه سني الشباب بعيدا عن الدراسة، يتلكأ بصفوفها المتوالية على غير العادة، يتابعه السيد مجيد والده الخمسيني الوقور، يحاول دفعه في السير على هدى أخوة تفوقوا في التحصيل، والالتزام بالتقاليد النجفية الاصيلة، يرفض الانتظام، يعشق الفوضى، يهوى التحايل على المعارف والاصدقاء، كانه من عائلة أخرى لا تمت لهذه العائلة العلوية النبيلة بصلة.
كُتب الثانوية ودفاترها المتناثرة بين اشياء الغرفة تستبدل بأخرى عن السحر وقراءة الطالع وحكايا الخفة وأعمال الدراويش. عظام طيور ومفاصل خراف تحت سريره تحاول الوالدة اخفائها عن الأنظار، يعيد غيرها كل مرة الى نفس المكان دون ملل. الوقت المخصص للدراسة يقضيه في المقبرة القريبة، يتأمل الموتى وأعمال الدفن، وما تبقى من قبور لم يعد لها اتباع يعيدون ترميمها من جديد، يجلب منها عظام اصابع وأنصاف أضلاع مكسورة يضعها تحت وسادته قبل النوم، يتآلف معها يكتسب قدرة العيش مع أصحاب لها يتخيلهم في المنام ينبؤونه بمستقبل بلاد كله عثرات، يتلذذ في تحديهم، يكتب على بقايا عظامهم كلمات غير مترابطة تعلمها من كتاب قديم، ثم يعيدها الى أصحابها الموتى المنسيين، ينشغل أحيانا في وضع العظام بالمكان الذي أخذت منه، كأنه اختصاصي كسور مشهور.
المقبرة هي الاكبر في عالم اليوم، تغطي مساحة تزيد عن نصف مساحة النجف المقدسة، وسكنتها الراقدين بسلام جوار الامام علي يزيد عددهم عن سكان العراق، يقصدها في جو شتوي ماطر قبل آذان الفجر، متحديا موتى من أصحاب القبور المتهرئة، معتقدا بتحديهم مشيا في الظلام، اكتساب قوة أكبر في السيطرة على الخوف والتلاعب بمشاعر الآخرين، يلتقي في مشيته شيخا مسنا يسير في نفس الاتجاه، يأخذه معلما له في تسويق الاوهام واللعب بالالفاظ وزرع الامل في عقول المحتاجين.
التجربة العملية له في تسويق الأوهام شابة لم تتجاوز العشرين من العمر قروية تتمتع بجمال طبيعي فريد، جاءت مدفوعة بالزواج من قريب مختص بغسل الموتى وتحضير الاكفان، التقاها في السوق الكبير وهي في الطريق لتأدية الزيارة التقليدية ليوم الخميس، يَعرفها ساكنة في المحلة المجاورة لمحلته، استدلت من كلامه المرتب جيدا أنه من أصحاب الكرامات، فاجأها بالعجز الماثل في داخلها عن جلب الزوج الى فراشه في أول سنة زواج، وبالاصرار على التواجد مع والدته التي وضعت لهما سحرا في ماء شرباه سوية بعد العشاء فبات جسمها مسحورا لا يقترب منه الزوج من ذاك اليوم المشؤوم. تركها تفكر في القول ومشى خطوات لجس النبض. سرت في جسدها رعشة فجرت أملا مبهجا، بسملت وهي تتقدم منه خطوة بقصد التعرف على المرحلة اللاحقة في ازالة السحر الملعون. يؤكد لها عدم ملائمة الوقت الى الاستمرار بالكلام وذكر التفاصيل، وعلى حرصه صون سمعتها ماشية وحيدة على طريق تنفتح فيه الاعين لرصد جمالها الآخاذ، غايته المبيتة دفعها باتجاه بصيص أمل في لقاء قادم يوم الخميس القادم بنفس المكان الذي رتبه القدر سببا لازالة السحر المذكور. يأتي الخميس، تحضر في الوقت المحدد، يأخذها جانبا في زقاق فرعي، فيه قليل من المارة، يخرج من جيب سترته الانيقة كيس يحوي مسحوق لا تسأل عن محتواه، تعليمات استخدامه تتركز على اذابته في ماء يغلي، يرش على الجسم العاري بعد ساعة من الغليان، ينتقل في
التعليمات الى مناطق الجسم الحساسة يصفها بدقة يطلب غسلها بنفس الماء المذاب فيه المسحوق، يجدها صاغية بامعان، تنتبه الى اتمام الكلام، تطلب التعرف على الخطوة اللاحقة أو النتيجة المؤملة لهذا العمل الذي ستتمه مرتين في الاسبوع، يؤكد لها فوائد الخطوة الاولى تطهيرا لهذا الجسد الناعم من اثر السحر الخارجي، وحاجتها الى خطوة ثانية تطهيرا لرحمها المسحور وفراش الزوجية من جنيّ زرعه الساحر قائما بجانبها على السرير، يدفع زوجها بعيدا عن الفراش. سكتت قليلا تاملت بالوضع كانها تفكر بالكيفية التي يتم فيها التطهير الثاني، سَهلَ لها الامر وزاد في داخلها الامل مؤكدا أن العمل مجرب وهو وحده القادر على اتمام فعل التطهير وطرد الجني الفاسق من على السرير، تمهيدا لعودة الزوج، ملهوفا وكأن اليوم الذي يقضيه معها ليلة عرس جديد.
ينجح السيد عادل في مهمته، وتنجح هي في جلب الزوج الى فراشه بعد دروس تعلمتها من جولة التطهير في استخدام العطور وأصول التقبيل وفنون النوم الهانئ على السرير. تنجب صبيا وحيدا تفتخر قرب الشبه بينه وبين من فك عقدتها وطرد الجني من على السرير.
يكبر السيد عادل في عمله، يذيع صيته في معرفة الطالع وكتابة الأدعية وفك عقد الزواج واعمال التقريب بين الاحبة، وزرع الكره بين الحماوات، والقراءة على أحجار تعاد صياغتها خواتم رزق وأخرى للحب وثالثة لطرد الحسد ورابعة لفتح باب المسؤولين. يتجه الى بغداد التي تعيدها الحروب واعمال الحصار الى زمن تطلب فيه العاقر علاجا من دجال، ويسعى المكتئب لتجاوز محنته بمعاونة عراف، وتحاول المطلقة العودة الى طليقها على يد سحار، وتتجه الام لمعرفة ولدها المسجون في دوائر الامن من قارئة فنجان.
الجهل الذي حل في البلاد يفتح أبوابه واسعة لنمو تجارة من نوع خاص يقف في مقدمة كبارها السيد عادل في بيت اشتراه بالعاصمة بغداد قريبا من تمثال المنصور. يستثمر أمواله في نفس الصنعة، يوظف صبيان يمثل أحدهم مجنون يشفى بمجرد ربطه ليلة واحدة في شباك يواجه منارة الامام، وسيدة تعود الى زوج هجرها منذ سنين بدعاء كتب على حافة قميص يلبسه في المناسبات، يعين دعاة له في الاحياء الشعبية، يؤكدون أمتلاكه كرامة لم يمتلكها سيد من قبله. يوسم أعماله بالسرية المغلفة بعلاقة خاصة مع أمن المنطقة وكيل رسمي يرصد آراء الناس.
سقوط بغداد يطلق المارد من قمقمه، يترك ساحتها اصحاب متهمون بالتجهيل والعودة الى عصور الظلام، يقف السيد عادل في باب بيته المعروف، يؤكد نبوئته في غياب الظلم وعودة الاحرار الى حكم البلاد، ينهي طقوس السرية التي ارتبطت بعصور الظلام، يعلن بداية عصر التنوير والعمل على المكشوف. يختلف الزبائن في عصر التنوير، وتختلف كذلك الاسعار، ومع هذا يبقى الدولار سائدا في عمليات الدفع وفي تسديد العمولات لاصحاب النفوذ.
حجوزات المعاينة والكشف عن الحالات تأخذ اشهرا، باستثناء الحاجة فضيلة، المعلمة السابقة العائدة مع زوجها السياسي حديثا الى البلاد، يفتح لها السائق باب السيارة المرسيدس السوداء، تنزل منها مغلفة بالوقار وبأسورة من الذهب تصل حدود الرسغين، تُفتح لها أبواب البيت يوصلها أحد الصبيان الى غرفة السيد عادل فهو جالس في الانتظار، تطلب إبعاد الزوج عن بنات هذا الزمان فهي لا تثق به في قضايا النساء، تريد ترشيحه الى أول وزارة يقيمها الاحتلال، وحمايته من أعداء كثروا من حوله. الوصفة عظام جمجمة ميت مطحونة بامعان، تعجن بربع قدح من بولها الآتي قبل الصلاة، تضع نصف ملعقة شاي منه عجينا في وجبة غداءه لمدة أسبوع، تجعله يتعلق بها، يراها كما كانت في أول لقاء لهما بعد خروجها من المدرسة الابتدائية التي عملت بها أيام الشباب، وباقي الطلبات حسمت بمحابس أحجارها نادرة تمت القراءة عليها بامعان يلبس أحداها عند التجوال والآخر عند لقاء المسؤولين. الحساب خمسة آلاف دولار، محسوب فيه خصم خاص فالسيدة فضيلة زبون قديم. يليها زبون آخر، سياسي معروف جاء بنفسه تحيط به الحماية من كل اتجاه، يطلب الحيلولة دون فوز زميله من نفس الكتلة في الانتخاب.
يقترب الاب من عمر الثمانين، يشعر بقرب المنية، وبمسؤوليته الشرعية عن نصح ابنه الذي شذ عن القاعدة الدينية للعائلة، يقصده الى بغداد، يتفاجئ الابن، يحاول الزوغان، يفشل في تحقيق المرام فشخصية الاب أقوى من السماح بالتهرب من المواجهة المحتومة.
- جئت لأبرئ ذمتي أمام الله سبحانه، قد لا أراك ثانية، فلم يتبق من العمر ما يسمح بمعاودة المجيء.ارجع الينا أترك أعمال الشيطان، يكفي بيعك الاوهام لاناس بسطاء يعيشون على آمال لا تعطيها الاوهام.
كيف وصلت الى هذا الحد؟.
اتعجب من هذا حتى أني وعندما أتذكرك لا أنام!.
- نم يا أبي، الناس هنا تطلب العيش في اقفاص الاوهام، لا تسطيع الاستمرار في الحياة دون آمال ملفوفة بورق من الاوهام.
جهلهم أوصلني الى ما أنا عليه الآن.
حاولت أن أترك وأعود اليكم تائبا، ومع كل محاولة أجد من يتوسل في أن أغطيه بعباءة الاوهام، فيخرج مني مسرورا وأشعر أنا بالارتياح.
لقد فات الاوان.
يتقدم من الاب، يحاول تقبيل يده طالبا المغفرة، يدفعه بعصاه.
- أنت غريب عني، أنت الشيطان الذي ينبغي رجمه في الحال.
- الجهل يا ابي هو الشيطان، حاربوه وباقي كبار القوم، عندها سوف لن تجدون من ترجموه في وكر الشياطين.
810 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع