د. سعد العبيدي
أعتاد السيد حامد ترك منزله في مدينة الثورة، والسهر برفقة أصدقاء غالبيتهم جنود مكلفون أخذتهم الحرب الدائرة عنوة من وظائفهم وبيوتهم وأحضان الحبيبات.
السهر حتى شروق الشمس متعة هروب من القتال وعفن الجروح ودماء الشهداء، لمجازين قادمين من الجبهة سبعة ايام متصلة، كانهم ينفضون معا غبار معارك غطت أجسادهم، ليعودون يستقبلون رصاصها بلا غبار. يقرر التوقف عن المجون هذه الليلة حزنا على استشهاد زميله السيد جاسم بانفجار لغم في ارض الحرام. يعوّض السهر الفاضح بجلسة حياء مع العائلة التي تجمعت حول التلفاز ترقب صورا من المعركة منهجا يوميا مقررا على الجميع. يقطع التلفاز برامجه فجأة، يعرض التكريم المقدس لأب من نفس المدينة، سلم ابنه الهارب من صفوف المعارك المتواصلة الى دائرة الامن في الشارع الثاني من القطاع. وسام الرافدين من النوع المدني على الصدر، واشادة من لدن الرئيس بالشجاعة والسلوك المتميز للعراقي الجديد.
يحتدم النقاش حول موقف الاب والابن، ترتفع الاصوات مثل كل مرة يحصل فيها نقاش، تنقسم العائلة بين مؤيدٍ لهذا السلوك، تفاديا لتعميم العقاب، ومعارضٍ ناقد لسلوك الابوة المعجون بورم النفعية التي شاعت كثيرا في أيام الحرب. يحسم الاب تشعب النقاش وامتداداته بكلمات بسيطة جاءت بطريقة تخلو من العفوية:
- لا تلومون الاب.
يسكت الجميع الا حامد، فضّلَ الاستمرار بالنقد حد التجريح:
- انها مشاعر ابوة مزيفة، سقطت تحت توجهات الجشع الدنيوي الرخيص.
يعاود الاب نفس المقولة ايذانا بغلق موضوع عقيم أخذ وقتا من العائلة يعد طويلا وفارغا بحساب الجلسات البغدادية.
ينهض الابن البكر حامد من مكانه قريبا من الاب، يلتفت احتجاجا على مقولته وموقفه من الابوة الفاسدة. يدخل غرفته يأخذ نفسا عميقا من سيكارة مصنوعة وطنيا، يبقى على سريره يفكر بالحياة والموت والانبعاث وعاطفة الابوة ومشاعر الابناء من آبائهم، وقبل الوصول الى مرحلة لوم الذات وتمني الخلاص من عالم بلا قيم، تدخل الوالدة، حاملة حبها الغامر، تضع يدها على رأسه الذي تهدل من كثر التفكير، تلمس شعره مثلما كانت تفعل ايام الطفولة، تطلب المسامحة، فالوالد مهموم هو الآخر بمشاغل الحياة.
- ما فائدة التسامح وسط عيش في غابات تسكنها حيوانات تفترس بعضها البعض.
- لا تتكلم معي بما لا أفهمه، ما يهمني أن تكون متسامحا وأن تبقي والدك بالمقام الاعلى.
- سابقيك في قلبي ما بقيت على قيد الحياة.
- الله يحرسك ويبقيك لنا ذخرا يا أعز الحبايب.
- الا تخرج اليوم، من المؤكد أن الجماعة بانتظارك.
- لا يأمي العزيزة، سأنام هذه الليلة مبكرا، أشعر بحاجتي الى النوم، كاني لم أنم منذ اسبوع، أتمنى النوم طويل لآخر الدهر.
- نوم هانئ ان شاء الله.
يبقى حامد في غرفته وحيدا مع افكار تراوده عن قطع اجازته والالتحاق بالوحة العسكرية التي لا يطيق البقاء فيها ايام معدودات.
وعن الموت الذي يأتي طوعا في جبهة القتال، وعوائد الاستشهاد المحسوبة ثروة يتمناها البعض من الآباء.
وعن ذهابه الى صديق كردي في أربيل طالما حلم بزيارته، وبرغبة ملحة في اطلاعه على معالم الطبيعة الجبلية الجميلة في شلال گلي علي بيك.
وعن الهروب من هذا العالم الى آخر بعيد.
أفكار يجترها عقل ترتجف خلاياه وكأنها صعقت بتيار كهربائي، حتى فقدت قدرتها في السيطرة على تداعي آهات باتت تتدافع في طريق الخروج بلا أنتظام . أرقٌ يمتد فعله حتى صلاة الفجر حيث الترديد التقليدي لعبارات الاستغفار عند تأدية الاب للصلاة. يسلم نفسه المتعبة الى النوم بعد حسمها لصراع الى صالح الفكرة التي راودته آخر المطاف قوامها أختبار المشاعر المكبوتة للابوة الحقة، أقتنع بها، أصر على اخراجها واقعا هذا اليوم.
النوم العميق بعد صلاة الفجر لم يلغ الفكرة، ولم يغير من كم الخيال الذي يكتنفها، بل وعلى العكس من هذا، جاء الصباح ليجعلها أكثر رصانة ووضوحا في جوانب الاخراج.
تجتمع العائلة على الفطور، الخبز الحار على يد الوالدة تخرجه توا من التنور الموجود على السطح، والبيض الطازج من دجاج يقيم هو كذلك على السطح عماد المائدة البسيطة، يبدأ الجميع تناوله بشهية عالية، يأتي من بعده الشاي، ليبدأ حامد في مشروعه بانتقاد الحرب:
- انها خطأ جسيم، ومن أشعلها لا يقدر عواقبها.
- الموت فيها حرام، والهروب منها عين الحلال.
يزيد من شدة النقد بكلمات أخرى حادة.
يشرب الاب قدح الشاي الثاني بسرعة على غير العادة، يتجه الى غرفته يرتدي ملابس نظيفة، يقتصر ارتدائها على الفواتح وحضور الفصل العشائري في المدينة وخارجها. يلاحظه حامد، فيزيد من عيار التجريح.
تتدخل الزوجة زهرة.
- أبو حامد، اين هي النية في هذا الصباح الباكر على غير العادة.
- لدي شغل بسيط عند عمامي في القطاع عشرين.
يخرج مسرعا دون الالتفات الى الخلف أو الى الجانبين، وكانه يخاف شيئا لا يعرفه، يتبعه حامد من بعيد، يدخل مديرية الامن في الشارع الثاني، يستمر بمتابعته، يراه منهمك في الكلام مع أحد الضباط، يسمع بعض من عبارات قالها على مائدة الفطور قبل قليل، يقتحم الجلسة مسرعا، يمثل حركة فيها قدر من الزهو، يقول بصوت مسموع:
- أبو حامد، عاشت يداك، كنت أجرب مدى اخلاصك لقيادة الحزب والثورة.
تكاد المفاجئة تسقط الاب الحالم بالتكريم أو الخائف من العقاب، وهو يقص تطاول الابن البكر على قيادة الحزب والثورة.
يقف الضابط فرحا، باخلاص هذه العائلة، يشيد بالاب والابن على حد سواء، يودعهما الى باب المديرية، يتجه الاب الى البيت خائبا، ومن خلفه الابن أكثر خيبة. يدخل غرفته صامتا كمن أصيب بالخرس التام، يرتدي ملابسه المدنية، يجمع حوائجه في شنطة صغيرة، يقصد والدته ليودعها، يبكي في حضنها وتبكي عند كتفيه، يهمس باذنها وداعا يا أغلى الامهات، لم تجرؤ أن تسأله القصد من هذا القرار المفاجئ فقد قرأت بفطرتها نهاية المشوار.
كاكة ابراهيم العالق في بيت أهله بالقلعة الاربيلية المعروفة، يجد حامد واقفا في الباب يطرقها باستحياء وتردد مع ساعة المغيب، يرحب به أخا عزيزا، يأخذه بالاحضان يسحبه الى الداخل، يؤكد له وفرة الوقت، وقرب نادي الموظفين من القلعة، يجدان نفسيهما بعد دقائق من الوصول على أحد طاولاته، يتبادلان الاقداح والحديث وبقايا ذكريات من زمن الكلية الجميل في بغداد.
- غدا نبدأ جولة على الطبيعة التي تحبها، نأخذ أمتعتنا لننام في الجبال، ننعم بخرير المياه المنسابة الى الوديان.
- كاكة ابراهيم لم أأتي لارى جمال الجبال واشم هوائها العليل، جئتك هاربا من نفسي، افتش عن عالم غير العالم الذي نعيشه الآن.
- اتفقنا آخر مرة أن تأتيني لنتمتع بالطبيعة، وأنت من عشاقها المغرمين.
- لقد تركت الطبيعة والعيش فيها، ونويت البقاء غريبا في دنيا الاحلام. جئت لاهرب الى أوربا حيث لا يعرف نسبي أحد، ولا أحد يعرف ابي الذي فشل في الاختبار.
كاكة رسول مهرب لمن يقصد عالم الاحلام، كلمته واحدة، أمين لا يغدر بعملاءه من كل الاقوام، يأخذ أتعابه بعد الوصول الى البلاد المقصود.
يومان واقدام حامد على الارض التركية، يحمل حقيبته على الكتف، يقيم في بيت تمتلكه مافيا تهريب معروفة، ويومان آخران لتجهيز جواز سفر سعودي مضروب، أوصله عتبات هولندا دون عناء.
هولندا بلد الزهور، والهدوء والقناعة وأحترام الانسان، ينزل في المطار مثل كل المسافرين، يقصد فندقا وسط أمستردام، حسب توجيه المهرب القدير السيد رسول، يرن هاتف غرفته بعد ساعة من التمتع بالراحة وخفض التوتر الناجم عن قلق الرحلة، في الجانب الثاني من الخط كاكة رسول يود الاطمئنان على الوصول، وأكمال ما تبقى من التعليمات، قصة مرتبة يطلب على ضوئها اللجوء، سيوجزه بتفاصيلها شخص آخر من أصول عراقية.
يدخل حامد مركز الشرطة الرئيسي في أمستردام، يخبرهم عن طلبه اللجوء، يجيبه الضابط المناوب أن سياقات اللجوء تبدأ من المطار أو الحدود، وبما أنك في العاصمة، ستوصلك سيارة خاصة الى أقرب مركز حدودي لتبدأ الخطوة من هناك.
تقطع السيارة التابعة الى الشرطة، أرض منبسطة تغطيها الخضرة العشبية، حقول تتوزع فيها مختلف الابقار، مياه في كل مكان، وجوه تبتسم للشرطة ولمن معهم لاجئ قادم من العراق، تصل الحدود بعد ساعتين، يومئون له صوب المركز المطلوب، ويعودون أدراجهم الى العاصمة أمستردام.
القصة المهيأة لطلب اللجوء سهلة تتأسس على هروب من ساحة الحرب احتجاجا على الحرب، يكتمل شرحها بسرعة، يطلب ضابط الهجرة بعض المستمسكات، يقدمها حامد كاملة، يبدأ الضابط بمساعدة المترجم تسجيل الاسم الكامل كما هو مكتوب في وثيقة الجنسية. يتوقف حامد طالبا تغيير اسم الاب، يتعجب الضابط من هذا الطلب، يحاول أن يفهم الاسباب لانه لا يفعل ما يطلب منه الا بعد الاقتناع. يشرح له واقعة الاختبار بكل تفاصيلها وانفعالاتها.
- ما هو الاسم الذي تريد أن تسجل نفسك فيه لاجئا على الارض الهولندية.
- حامد زهرة.
- انها والدتي التي أحبتني، ودافعت عني، لم افكر يوما وضع حبها تحت الاختبار. سأبقيها أما لي وأجعلها أبا في نفس المآل.
سأنسى ذلك الاب الذي خذلني، وأراد بيعي طمعا بالمكافئات التي شوهت معنى الابوة، وأغلقت مجالات التواد.
سابقى بعيدا عن وطن فيه أب يبيع الاولاد، ودولة تشجع البيع في المزاد.
سأكون بعيدا الى الابد أحمل اسم والدتي خلافا لتقاليد أعطت الاب حق التسمية وحق البيع غير الشرعي للأبناء.
ساعيش في هذه البلاد التي تعطي الحياة لمن يريد وان كان هاربا من حضن الاباء.
740 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع