جميلة - قصة من مدينة الاسرار مدينة بغداد، بدأت احداثها في نهاية الدولة العثمانية/ ح٦
كان في البيت الكبير تسع نخلات من أنواع مختلفة ويتم تلقيحها وتنظيفها وقطف وقص التمر منها بشكل منتظم ما عدا نخلة واحدة عيطة من نوع التمر الزهدي وكلمة عيطة كانت مستعملة في ذلك الزمن وتعني طويلة وكان في منتصفها حفرة عميقة
وقد صعد عليها تركي البغوان في احدى المرات فخرج عليه ثعبان اسود من الحفرة العميقة التي في وسطها فنزل مسرعا الى الارض ومن ذلك الحين لم يتم تلقيحها او قص ثمرها لكنها كانت تتلقح طبيعيا من الهواء ويتساقط ثمرها على الأرض فيتناوله الأطفال لما له من طعم لذيد وحلاة عالية والتمر الزهدي من اجود أنواع التمور لاحتفاظه بنسبة سكريات والياف عالية عندما يجف لذلك كان يستعمل في العراق في صناعة السكر الخاص بالمعجنات , وكلما كانت تهب ريح كان الجميع يبتعدون عن تلك النخلة خوفا من سقوطها عليهم وكان لكنها لم تسقط بفعل الرياح ,
هناك بعض من نخل الحديقة ينضج تدريجيا فيتم قطفه بشكل يومي منذ بداية موسم النضوج الى نهاية الصيف وكانت هناك نخلات تنضج مرة واحدة في نهاية الصيف فيتم قصها مرة واحدة , وكان تركي البغوان يصعد النخيل الذي ينضج في موسم القطف يوميا ويقطف التمر من النخيل بالكمية التي يقدر عليها وكانت جميلة تعطيه في كل مرة سلة صغيرة مليئة بالتمر الطازج وتقوم بأرسال صحون التمر الطازج الى الجيران وتضع المتبقي في الثلاجة للاستهلاك اليومي وقد كان الناس يتبادلون هدايا التمر حسب الأصناف بحيث يعرف كل بيت تمر جاره واذا اعجبه صنف معين ويستحسن طعمه فيقوم الجار بإهدائه فسيلة صغيرة من ذلك الصنف بشكل اوتوماتيكي ليزرعها في حديقته , خدمة النخيل متعبة وتحتاج الى عناية خاصة وهي على ثلاث مراحل فعند ظهور طلع النخيل (زهور النخلة) عند اناث النخيل يجب قطع الاشواك الطويلة الحادة والقريبة من منتصف النخلة لتسهيل تلقيح النخلة وقطف ثمارها لاحقا ثم يتم تلقيح النخلة بالطلع الذكري وبعد ان يكبر الثمر قليلا وقبل ان يثقل وزنه يتم اجلاس عراجين النخيل على السعف حتى لا يتساقط التمر على الأرض وتسمى تلك العملية بالعامية العراقية التركيس وبعد نضوج التمر يتم قطفه يوميا او قص العراجيل كاملة في نهاية موسم الصيف حسب نوع النخلة , لان النخيل نوعان مختلفان من حيث النضوج وفي نهاية فصل الصيف كان تركي يقوم بقطع عراجين النخل التي تنضج مرة واحدة نهاية الصيف والتي تبلغ بين الثمانية والعشرة عراجين بالمتوسط للنخلة الواحدة ويزن كل عثق (عرجون) بين العشرين والثلاثين كيلوغرام أي ان النخلة الواحدة تنتج بالمتوسط 200 كيلوغرام من التمر ويستأجر تركي عددا من الرجال لمساعدته في قص العثوق وانزالها الى الأرض ويضعها حسب نوع كل نخلة على قطعة نايلون كبيرة في طارمة البيت الخلفية وتقوم جميلة وزوجات أبناء اخيها ومن كان موجودا في البيت خلال تلك الأيام بقطع التمر من العراجين وتنظيف التمر وتصنيفها حسب الأنواع والاستعمال
وطبعا كل ذلك يتم بإشراف السيدة أسماء التي كانت تجلس على كرسي وتوجه الجميع ويتم توزيع معظم التمر على الأقارب والأصدقاء ويتم كبس قسم كبير من التمر الطري مخلوطة بالجوز واللوز والمكسرات واليانسون الذي يسميه العراقيين حبة حلوة في علب خاصة ليتم تناولها خلال فصل الشتاء اما التمر الناشف يتم حفظه في سلال مسطحة في سرداب البيت ليبقى جافا وفي درجة حرارة منخفضة
والتمور التالفة تقوم جميلة بعملها دبس التمر وخل التمر وتلك العملية تأخذ جهدا ووقتا طويلا وكل نوع تمر ينتج خل او دبس مختلف عن الانواع الأخرى من حيث اللون والكثافة ومستوى الحلاوة والرائحة , حيث كان الناس يعملون الخل والدبس في البيوت ولم تكن هناك شركات تقوم بعملها وبيعها في الأسواق,
كانت هناك نخلة مميزة جدا وهي من نوع البربن الأحمر وكانت قصيرة وغزيرة الإنتاج وكانت جميلة تفضلها على غيرها من النخيل لشدة حلاوتها ولاستعمالها في عمل اطباق التمر بالبيض في إفطار أيام الشتاء البارد بعد ان تقوم بعجنها وعملها على شكل أقراص مسطحة مع طبقة خفيفة من السمسم وقليها بالزيت وعند نضوجها في الوجهين تقوم بقليها بالبيض , ومن محاسن الصدف فقد كانت نخلة البربن الحمراء تلك مقابل شباك غرفة نوم جميلة وعند موسم نضوجها كانت جميلة تقف في الشباك وتتأمل الثمر الأحمر المتدلي وكلما نضجت كمية تطلب من تركي او من احد الأبناء او الاحفاد ان يقوم بقطفها , تحت أشجار النخيل كانت الحديقة المستطيلة الشكل مزروعة بالحمضيات والفواكه المتنوعة وبعد الأشجار كانت الزهور على اختلاف أنواعها ويحط الحديقة خط من الطابوق الاحمر ليمنع تسلل الحشيش في المستطيل الأخضر الى منطقة الزهو والأشجار الجانية وبعد خط الطابوق ذلك وضعت سنادين الصلصال التقليدية والتي زرعت بأنواع الزهور الموسمية والدائمة حيث كانت السيدة أسماء تحب كافة الزهور وخصوصا زهور الجيرانيوم بأنواعه ونكهاته المختلفة وكانت تزرع كميات من ورد العطرة الذي يستعمل كشاي علاجي او يوضع في اقداح الماء في الغرف لتنقيه الهواء.
عندما تقاعد الشيخ احمد كمال من خدمته الطويلة في قيادة الحرس الملكي العراقي بسبب حادث سقوطه من على ظهر الحصان وهو يلعب البولو واصابته بارتجاج في الدماغ وتهشم ركبته اليمنى قد تقاعد في أثرها من الخدمة وكان ذلك قبل وفاة الملك غازي الأول بأسابيع , لم يكن للشيح احمد كمال ما يعمله خلال اليوم في بيته الكبير في منطقة العيواضية ( الفيصلية ) في بغداد الا اعمال قليلة جدا ً , فبعد ان يستيقظ من النوم يوميا يصلي الفجر ويقرأ القران الى الساعة السادسة والنصف ثم يصعد الى غرفته الخاصة في الطابق الأول من البيت ويبدا بحلاقة ذقنه كعادته وكأنه ُ مازال ضابطا في الجيش وكان يغلي الماء في كتلي صغير ذو يد خشبية يضعها على طباخ صغير يعمل بكحول السبيرتو والذي كان يستعمله منذ ان بدأ حياته العسكرية في الجيش العثماني والكتلي هي كلمة عراقية تحريف لكلمة Kettle الإنكليزية والتي تعني الغلاية.
وكان يستعمل ادوات حلاقة قديمة يضعها في صندوق خشبي مشبك بعد الانتهاء من الحلاقة , وبعد ذلك يعمل قهوة الصباح بنفسه على الطريقة العثمانية حيث يضع البن في الماء الفاتر ثم يغليهما مع بعض بهدوء لتذوب القهوة مع الماء بشكل جيد وكان يضع عُدة القهوة بعد ان يغسلها وينشفها في صندوق خشبي مرصع بالأصداف وكانت تلك عادته منذ انتقاله من الجيش العثماني الى الجيش العراقي خلال فترة التأسيس سنة 1921برتبة نقيب الى ان انتقل من بيت العيواضية الى منطقة المنصور في منتصف السبعينات , غرفته في الطابق الأول تحتوي على مغسلة صغيرة في الزاوية اليمنى وللغرفة شباكين كبيرين يطلان على الحديقة الخلفية للبيت واثاث الغرفة عبارة عن طاولة من الخشب البني الفاتح مستطيلة تشبه المكتب يضع عليها اوراق الكتابة ومجموعة أقلام للكتابة والخط العربي حيث كان استعمال وتعلم الخط العربي منتشرا بين الناس مع وقصب خاصة بالخط و أوراق نشاف واوراق كاربون لعمل اكثر من نسخة عند الكتابة وبجانب الطاولة دولاب هندي من الخشب الداكن يضع فيه أدوات الحلاقة والقهوة وبعض المناشف والمناديل ,
وعلى الجدار المقابل للشبابيك قام بتعليق اوسمته التي حصل عليها من الدولة العثمانية ومن المملكة العراقية ومن بعض ضيوف المملكة من الملوك وغيرهم وعلى زاوية الغرفة البعيدة كانت هناك ركن المرسم حيث يضع اخر لوحة يعمل بها على حامل خشبي بثلاثة ارجل وتحتها قاعدة خشبية تحتوي على مجموعة أقلام الرصاص والفحم وقد جعل الحائط الذي فوق المرسم معرضا لصوره التي انجزها حيث قام بتثبيت خشبتين بعرض خمس سنتمترات كحامل للوحات على طول الجدار على شكل سكة لتفق فوقها اللوحات التي انجزها و بين الخشبتين مسافة متر في الارتفاع والداخل الى الغرفة يشاهد صفين من اللوحات على عرض الجدار ,وكان يضع لوحاته على تلك السكة الخشبية ويقوم بتغيير مواقع الصور بين فترة وأخرى وكلما دخل الغرفة تأمل ما رسمه وقد يقوم بتعديل او إضافة شيء الى لوحة من تلك اللوحات , وكان الشيخ احمد كمال دائم التأمل في اخر لوحة على الحامل الخشبي رسمها لم تكتمل بعد , واذا كان له مزاج يرسم قليلا في اللوحة وفي الركن القريب من الباب كان يضع اله العود الموسيقية ودفاتر النوتة والى جانبها مكتبة صغيرة على شكل رفوف تحتوي على نسخ من القران الكريم وكتب دينية باللغات العربية والتركية والألمانية وقد كان سائدا في تلك الفترة ان ضباط الجيش العراقي يتكلمون لغتين إضافة الى العربية وذلك نتيجة لتدريبهم او دراستهم في تركيا وألمانيا وبريطانيا ,
وفي احد الرفوف وضع القنباص والاحزمة والزمزمية والقنباص هو كلمة المانية compass karte وهي البوصلة التي تحدد الاتجاهات الأربعة وتعمل بنظام المجال الكهرومغناطيسي للأرض وكان كل ضباط الجيش العراقي من صنف الخيالة يحملون معهم القنباص والزمزمية ومجموعة احزمة لربط الاثقال , حيث كان صنف الخيالة قبل الغائه من الجيش العراقي هو سيد الصنوف لأنه القوة الفاعلة التي تمسك الأرض وتتحرك في كل الميدان , وبعد تلك الطقوس ينزل الى الطابق الأرضي لتناول الفطور مع السيدة أسماء في الحديقة الخلفية صيفا ً او في الصالون الكبير شتاء ً وبعد زوال النظام الملكي اخذ يقرأ يوميا الجريدة اليومية للاطلاع على ما يجري في العراق ثم يقضي يومه متنقلا بين الحديقة الامامية والحديقة الخلفية
وكان يجلس يوميا تقريبا امام حوض الأسماك الملونة الموجود في الحديقة الامامية يتأمل منظر الاسماك الملونة وهي تسبح عندما يقوم برمي بعض من فتات الخبز لها ببطء شديد يتمتع بالنظر اليها وهي تسبح متنافسه لتناول الطعام , وكان يجلس مع السيدة أسماء في الطارمة المرتفعة لسماع أصوات البلابل وهي تغني وكانا نادرا ما يتكلمان حيث كان الصمت والهدوء يسود بينهما ولم يتشاجرا طوال حياتهما وذلك لانهما ومن خلال بناء حياتهما اصبحا متقاربين في المزاج والشعور والاحتياجات , وقد كان الشيخ احمد كمال منظما ً بحيث انه كان يسجل كل شيء في دفتر ملاحظات صغير وفي صباح كل يوم يقرا الرزنامة التقليدية المعلقة على الحائط ليقرأ تاريخ اليوم ثم يقلب ورقة اليوم ويقرا الحكمة او الآية القرآنية او المثل المكتوب على ظهر الورقة ويردد ما مكتوب بصوت مسموع وهي طريقة مشابهة لما يقوم به البعض هذه الأيام عندما يقرأون حظهم وبرجهم في جريدة الصباح وقد انقرضت تلك الرزنامة في العراق بعد ادخال الرزنامات الحديثة ,
وتلك الرزنامة كانت عبارة عن ورقة من الكارتون السميك في منتصفها السفلي حزمة من الأوراق بعدد أيام السنة وكل يوم عليه تاريخ السنة واليوم والشهر الهجري يمينا وتاريخ السنة واليوم والشهر الميلادي يسارا وخلف كل ورقة هناك حكمة او بيت شعر او اية قرانيه وكانت الرزنامة تعلق في الحائط بمسمار في مكان بارز في الغرف والمكاتب الحكومية والخاصة.
كان الشيخ احمد كمال رساما ً بارعا ً فقد كان يرسم بقلم الرصاص والفحم على الورق الأبيض او الورق المائل للأصفر الخشن الذي كان منتشرا في تلك الأيام وهو اول من رسم المقصلة في الدولة العثمانية بشكلها المخيف المرعب ومازالت صورة المقصلة التي رسمها موجوده الى يومنا هذا في المتحف العثماني في إسطنبول , وكان يستعمل القلم الرصاص في رسم الشكل العام للصورة ثم يقوم بالتظليل بقلم الفحم وكان ما يرسمه موضوعات من ذاكرته في الحياة العسكرية اليومية او الحرس الملكي من خيول وسيوف وقبعات الرأس ذات الريش الأبيض او كان يجلس امام منظر عام في البيت او الحديقة فيرسمه ومع تقادم العمر به لم يكن يخرج من البيت فكان يضع صحن الفواكه على الطاولة ويرسمه او يرسم اثاث البيت او ما يراه في الحديقة الكبيرة من أشجار ونباتات ويأخذ الظل والضوء في إظهار الصورة والرسم بقلم الفحم اقرب للواقع حيث يمثل التظليل الجانب الأكبر لإظهار شكل الصورة والرسم بقلم الرصاص والفحم كان منتشرا بين ضباط الجيش العراقي منذ تأسيسه وكان للشيخ احمد كمال كذلك هواية العزف على العود وفي فصل الربيع كان يجلس في سطح البيت المطل على الحديقة الخلفية ويعزف بالعود الحانا هادئة من التراث الشرقي
وكان امهر لاعب بولو في الجيش العراقي لطول قامته ورشاقته وقوة عضلاته , حيث كان الخيالة في الجيش العراقي في ذلك الوقت يلعبون البولو وهم على ظهور الخيل كنوع من التدريب الرياضي اليومي ومن هوايتي الرسم والموسيقى فقد ورث اثنين من أبنائه هوايات الرسم والموسيقى , وقد ساعدته هوايتي الرسم والموسيقى على ان تبقى ذاكرته ونظره قويا وقد عاش اكثر من مئة عام , واما موسم توزيع الزكاة عنده فقد كان بالنسبة له تسلية كبيرة وعيدا ً سنويا ً يفرح به فقد كان الناس يطلقون على مبلغ الزكاة الرجبية نسبة الى شهر رجب الشهر الذي توجب فيه دفع الزكاة و اطلاق تسمية الرجبية بدلا من الزكاة كانت كذلك لكي لا يحرجون من يدفعون لهم مبلغ الزكاة توقيرا ً واحتراما ً لهم وكان الشيخ احمد كمال يتسلى ويتمتع بعمل قوائم بأمواله المنقولة وغير المنقولة ثم يحسب منها ما يستحق عليه الزكاة ثم يقوم بكتابة قائمة بأسماء الأشخاص الذين سيدفع لهم الرجبية ثم يقوم بوضع مبالغ الرجبية في ظروف ورقية ويكتب أسماء الأشخاص على تلك المظاريف ويحرص على توزيعها بنفسه حيث كان يزور الفقراء في بيوتهم ويحمل معه ثلاثة أكياس صغيرة هي أكياس الرز والشاي والسكر كهدية إضافية مع مظروف الزكاة النقدي لصاحب الدار. وكان لا يوزع ملابسه القديمة على الفقراء , وكان يقدم تلك الملابس مغسولة مكوية وبحالة جيدة ولم يعطي فقيرا ً يوما ً ما ملابسا ً ممزقة او بالية وعندما يسألونه لماذا تغسل وتكوي الملابس وانت ستعطيها صدقة فيقول مثلما كنت اعتز بملابسي واغسلها عندما كنت استعملها يجب ان أبقي اعتز بها عندما اتصدق بها لأنها عاشت معي وهي نعمة من الله مثلما مثل نعمة الاكل والشرب والمال ، لقد كان الشيخ احمد كمال يعطي ما يملكه القدسية باعتبارها نعمة من نعم الله عليه , وكان يقول مثلما لا يجوز ان تعطي صدقة من مال حرام ان تعطي صدقة ملابس بالية و طعام تالف وغير صالح للأكل , وكانت تلك هي فلسفته الصوفية في سلوكه اليومي فهو لا يتكلم كثيرا حتى لا يزعج الاخرين ولا يسال عن شيء لا يحتاجه وطول الوقت يستمع وبيده مسبحة صغيرة ومن أقواله ان للكون خالق يسيّره بحكمته وما نحن الا مخلوقات صغيرة في عالم كبير والصمت عنده عبادة وكان لا يقطع قراءة القران والاذكار وشفتاه تتحركان ما دام جالسا في مكانه , وعند وجود الضيوف كان يعطي انتباهه الى كل ما يقولونه احتراما لهم ولا يأكل او يشرب في الوقت الذي يتكلم احد الضيوف والاكل عنده عبادة فهو يأكل بهدوء ويتمتع بكل لقمة يأكلها ولا يتكلم او يتحرك عندما يأكل وكان يرفض ان يعطي الزكاة في شهر رمضان المبارك ويقول انها نوع من الاحتيال على الله فلرمضان صدقاته ولرجب زكاته ومن يدفع زكاته في رمضان يتهرب من دفع صدقة رمضان .
عند قيام الحرب العالمية الثانية أصاب العراق قحط كبير فقد منعت بريطانيا من دخول أي بضائع من دول المحور المانيا وإيطاليا واليابان الى العراق ومن جانب اخر فقد انقطعت طرق المواصلات البحرية بسبب الحرب وأصاب العراق قحط وارتفاع الأسعار وجوع لم يعرفه الناس منذ سنوات طويلة قد ذكّرتهم ازمة التموين تلك بمجاعة الموصل سنة 1917 خلال الحرب العالمية الأولى , عندما اخذ الناس يسرقون الأطفال ويذبحوهم ويأكلون لحمهم او يطبخونهم ويبيعونهم في المطاعم , وانخفضت قوة الدينار العراقي الى السدس وأصاب التضخم كل مفاصل الدولة واستمر ذلك منذ بداية 1940 الى نهاية الحرب , وقد كان الشيخ احمد كمال في ذلك الوقت قد تقاعد عن العمل بعد اصابته فاخذ يعمل في تجارة الحبوب واتفق مع احد التجار من أصدقائه من تجار الحبوب على ان يكون راس المال منه والعمل من التاجر واتفق مع التاجر على نسبة الربح مناصفة بينه وبين التاجر وتنازل عن ثلثي نسبته لصالح المستهلك في تحديد الأسعار ومن تلك العملية فقد كانت أسعار الحبوب التي باعها التاجر مقارنة مع أسعار السوق رخيصة في ذلك الوقت وقد قاموا ببيع كميات هائلة من الحبوب وحصلوا على أرباحا كثيرة بسبب رخص الأسعار وبعد انتهاء الحرب ورجوع الأحوال الى حالها الطبيعي توقف الشيخ احمد كمال عن العمل في التجارة وقال ما لدي يكفيني لأعيش بسلام.
كانت مواعيد الشيخ احمد كمال اليومية ثابتة فالإفطار كان في السابعة صباحا والغداء كان في الثانية عشر ظهرا والعشاء في السادسة مساء وكان ينام في الثامنة والنصف وعندما كان يسمع أي أصوات او ضوضاء في البيت بعد دخوله في الفراش حتى لو كانت الساعة التاسعة مساء فانه يستيقظ ويخرج من غرفه نومه ويصرخ بالجميع في صوته القوي : الدنيا نصف الليل ... فيهرب الجميع ويسود الهدوء في الصالة الكبيرة التي فيها التلفزيون وجلسة العائلة الدائمة وقد علم َ الجميع انه عندما ينام الشيخ احمد كمال عليهم الهدوء وعندما كان الشيخ احمد كمال يخرج من غرفته الى الصالة الرئيسية في البيت او يدخل أي غرفة يسود الصمت ويقفون احتراما له , وعندما يكون لديه موعد في خارج البيت كان يرتدي بدلته ويضع عطره ويكون جاهزا في الموعد قبل الوقت بأكثر من ساعة ولم يكن يأخذ أي دواء طول حياته وقد مرض ودخل المستشفى مرتين في حياته الأولى عند سقوطه من الفرس في نهاية الثلاثينات والثانية في منتصف السبعينات عندما سقط على الأرض وهي يتوضآ فقد كسر عظم الحوض وبقي شهرين في المستشفى الى ان شفي الكسر وتمكن من المشي وفي المستشفى وهو راقد في فراشه لم يترك وقت صلاة واحدة وكان يتشاجر مع ابنه الطبيب الذي كان يرعاه وهو في المستشفى ومع الممرضات ويريد النهوض والوضوء فيأتون له بمنشفة مبللة ويمسحون يديه ورجليه ووجهه فيصلي وهو نائم على ظهره وفي البيت كان يرتدي دائما بجامة وفي الشتاء يرتدي روب فوق البيجاما ولم يقابل طول حياته ضيفا ً وهو بملابس البيت بل يحرص ان يرتدي ملابسه الرسمية امام الضيوف , وفي معظم الأحيان كان يرتدي ساعتين في يديه , ففي اليد اليمنى يرتدي ساعة على التوقيت العربي الغروبي الذي يضبط عليه ساعته حسب أوقات الصلوات وفي يده اليسرى يرتدي ساعة على التوقيت العادي الذي هو اربع وعشرين ساعة وعندما يساله احد عن الوقت مثلا يرد عليه ان الساعة الان بالتوقيت العربي الساعة السابعة زوالية يعني السابعة بعد زوال الشمس أي السابعة مساء والوقت في التوقيت الغربي هي الساعة ... وقد كانت الساعات التي تعمل بالتوقيت العربي الغروبي منتشرة في العراق في ذلك الزمان
وكان برج الساعة محطة قطارات بغداد وفي معظم دوائر الدولة والأماكن العامة ساعتين الأولى بالتوقيت العربي والثانية بالتوقيت الغربي وقد الغيت تلك الساعات مع زوال النظام الملكي.
في موسم الأعياد كان الشيخ احمد كمال يوزع العيديات على الجميع وقد كان يقوم بتصريف مبلغ كبير من الدنانير الى فئات صغيرة من فئة الربع دينار وفي صباح اليوم الأول من العيد يأتي احفاده من الأبناء والبنات يهنئونه بالعيد ويصافحونه ويحاولون تقبيل يده فيسحب يده بسرعة ولكي لا يتمسكون بيده وقد لا يتمكن من سحب يده فقد كان يقدم أصابعه فقط للمصافحة ليتمكن من سحبها بسرعة و كان يستحرم ان يقبل الانسان يده ويقول حرام على الانسان ان يقبل يد أخيه الانسان مهما كانت المنزلة والمقام وقد كانت عادة تقبيل يد المرأة الكبيرة في السن في بغداد من العادات الراسخة في المجتمع ,
مع تقادم الزمن وارتفاع مستوى المعاشي فقد اصبح مبلغ الربع دينار لا يساوي شيء لكن الشيخ احمد كمال ظل يوزع نفس المبلغ كعيدية للجميع لأنه لم يكن يعرف انخفاض قيمة الربع دينار لأنه لم يشعر بتغير الزمن.
كانت الشيخ احمد كمال نادرا ما يتكلم وله جملة بقي يرددها الى ان توفاه الله سنة 1979 والجملة هي " لكل زمان دولة ورجال " والجميع لا يعلم أهمية ومغزى تلك الجملة وكانت تبريرا لشعوره بان دوره في الدولة قد انتهى وقد اخذ مكانه في خدمة الدولة رجال اخرين وكان يقول تلك الجملة بجدية وحزم خصوصا عندما يستمع الى نشرة الاخبار المسائية في الساعة الثامنة , وكان يردد كذلك المثل البغدادي المعروف : ثلاثتهم بالحمل يجودون جاسم واحمد أغا وحسين عفون , وكان يضحك ويقهقه بصوت مرتفع كلما ذكر ذلك المثل وكان الصغار يسالون أهلهم من هم هؤلاء الثلاثة جاسم واحمد اغا وحسين عفون ؟ معتقدين انهم رجال معروفين والاهل يضحكون ويقولون لهم هذا المثل للكبار فقط وليس لكم ومع مرور الزمن وقد كبُرَ الصغار وعلموا قصة ذلك المثل ,
فقد كان هناك رجل فقير يعيش في محلة الفضل ببغداد يعمل حمالا ً ولديه ثلاثة حمير من النوع الحساوي يستعملهم في الحمل اطلق عليهم اسماء جاسم واحمد أغا وحسين عفون وعندما كان يساله الناس عن حاله يقول انا اغنى رجل في بغداد وبالي مرتاح فيسالوه كيف ذلك وانت الفقير المدقع فيقول " ثلاثتهم بالحمل يجودون ( أي يحملون الاثقال الكبيرة بنشاط ) جاسم واحمد اغا وحسين عفون " ويقصد الحمير الثلاثة " لكن الواقع كان غير ذلك فقد كان ذلك الحمال بخيلا لا يطعم الحمير ما يكفيها من الطعام والتي كانت تحمل الطابوق ومواد البناء الى البيوت التي تحت الانشاء وعند مرورها من فوق جسر او قنطرة في بغداد او في ازقة بغداد الضيقة تقوم بالركض بسرعة ورفس بعضها البعض والاحتكاك بالجدران لتسقط ما عليها من طابوق ومواد بناء أخرى فيقوم صاحب المواد بتغريم الحمّال البخيل ثمن المواد المحمولة او لا يدفع له اجرة الحمولة ومع ذلك فالحمّال البخيل يتباهى بالحمير الثلاثة امام الناس بقوله المشهور ذلك وقد ضرب القول كمثل على الرجل البخيل الغبي , لكن الشيخ احمد كمال قد غيّر اسم الحمار الأول من جاسم الى قاسم والحمار الثاني الى عارف اغا فكان يقول ثلاثتهم بالحمل يجودون : قاسم وعارف اغا وحسين عفون وكان يقصد بذلك عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف قاتلي العائلة الهاشمية في انقلاب تموز 1958, وكان الحمالين في بغداد والمدن الكبيرة في العراق يستعملون الحمير الحساوية الكبيرة في نقل البضائع لما تتمتع به من حجم كبير وقوة وذكاء وتتذكر الأماكن التي مرت بها وقد كانت تستعمل في تهريب البضائع عبر الحدود مع ايران حيث يتم تدريب حمار واحد على اجتياز الحدود ولعدة مرات من نقطة معينة في داخل العراق الى نقطة معينة في داخل ايران من خلال وديان وعرة لا تصلها دوريات شرطة الهجانة الحدودية ثم يتم تحميل قافلة من الحمير ويقودها ذلك الحمار المتدرب فتسير القافة في اثره وفي حال ان قامت الشرطة بإلقاء القبض على القافلة سوف لن تجد المهرب فينجو المهرب من العقاب فيتم مصادرة المواد المهربة , والحمار الحساوي كبير الحجم وهو اصغر قليلا من الحصان والوانه رصاصي او ازرق فاتح واصله من منطقة الاحساء الغنية بالخضرة والنخيل وكانت الحمير الشاوية تستعمل في الحقول والمزارع لصغر حجمها وسرعتها .
الشيخ احمد كمال مثله مثل بقية الرجال في ذلك الزمن متسامح مع الاخرين حازم في اموره صبور وغير متعجل وقد تزوج احد أبنائه امرأة أوروبية مسيحية الديانة وتزوج احد احفاده كذلك امرأة أوروبية مسيحية الديانة وكان يتعامل معهما مثل بناته ولم يطلب منهما في يوم ما ان يغيرا ديانتهما ولم يكن ذلك سلوكه فرديا منه وكان سلوكا مجتمعيا , فصديقه وجاره عالم الدين الكبير الكربلائي الأصل قد تزوج ابنه الأوسط كذلك من امرأة أوروبية مسيحية وكان الامر طبيعي بالنسبة له وكان الكثير من الشباب العراقيين يتزوجون النساء الاوروبيات في ذلك الزمن لما كان للعراق من ثروات مالية وسمعة دولية محترمة وقد كان المجتمع العراقي في ذلك الزمن متسامح منفتح لا يؤمن بفرض معتقداته الدينية على الاخرين وبالمقابل فان النساء الاوروبيات كن يراعين التقاليد والعادات العراقية من حيث الملبس والمأكل والعلاقات الاجتماعية.
جميلة كانت تحلم كثيرا وكان هناك ثلاثة اشخاص يفسرون لها احلامها المفسر الأول السيد يحيى امام جامع الأمير عبد الاله وكانت تذهب لزيارته ليشرح لها تفسير الحلم واذا لم يكن موجودا تحكي الحلم الى زوجته وتحصل على التفسير فيما بعد وكان امام الجامع الحجازي يعتمد على القران الكريم في تفسير الاحلام وكان تفسيره معتدلا وعقلانيا , والمفسر الثاني كان رجل اسمه أبو عمشة وكان يعمل حارس صباحي في البنك المركزي العراقي كانت جميلة تذهب اليه وتأخذ معها في كل مرة بعض الاكل كهدية للأطفال ويفسر لها احلامها , كان أبو عمشة حارس ليلي لعمارة مقابل جامع الأمير عبد الاله ويسكن في نفس تلك العمارة في احد الدكاكين التي تقع في نهاية العمارة بحجم ثلاثة امتار في ثلاثة امتار هو وزوجته وأولاده الخمسة , وأبو عمشة بدوي يتكلم بلهجة قبائل بدو جنوب الموصل وكان يقرا القران كذلك ولكنه كان يفسر لها بالسليقة , وقد أصيبت جميلة بصدمة كبيرة وظلت تتكلم مع نفسها لأيام عديدة عندما حدث شيء غريب لأبو عمشه , ففي صباح يوم 18 تموز 1968 خرج أبو عمشة من عشته الصغيرة وهو يرتدي رتبة ملازم اول شرطة بكامل قيافته ويحمل مسدس في جنبه وذهب يتمختر بمشيته الى عمله في البنك المركزي وقد راه الناس فأصابهم الهلع والخوف وظل يرتدي ذلك الزي اكثر من أسبوع وهو يذهب صباحا الى العمل ويعود بعد الظهر بنفس الملابس وجميلة مصدومة تهلوس طول الوقت وفي عالم اخر وبعد أسبوع اختفى أبو عمشة واخذ عائلته معه وجميلة لا تعرف اين ذهب وما هي قصته الحقيقية اهو كان ضابط شرطة سابق او انه سرق زي ضابط الشرطة او هناك سبب اخر.
الشخص الثالث الذي كان يفسر لها احلامها هو ام فاروق واسمها جميلة كذلك وهي ممرضة من مسيحيي الموصل تعمل في مستشفى الشماعية للأمراض العقلية , وكانت جميلة تذهب عادة الى بيت ام فاروق لزرق ابرة مقابل خمسين فلسا ً وقد كان العراقيين في ذلك الزمن يضربون ابرة البنسلين منذ بداية ظهوره كعلاج لكل الامراض , ام فاروق كان لديها كتاب تفسير أحلام وفي بعض الأحيان كانت تقول اشياء غريبة لا تفهمها جميلة فتسالها بغضب ماذا يعني ذلك فترد عليها ام فاروق انا لا اعرف وانا لا أقول شيء من عندي انه الكتاب الذي يقول وبالتدريج اخذت جميلة تستعمل تلك العبارة عندما تنقل للعائلة ما تفسره ام فاروق من احلام وعندما يستغربون من تفسير بعض الاحلام كانت تقول لهم انه الكتاب الذي يقول وليست ام فاروق , في بعض الأحيان عندما تنتهي ام فاروق من زرق جميلة ابرة البنسلين واذا لم يكن لجميلة حلم , كانت ام فاروق تطلب من جميلة الجلوس قليلا وتعمل لها فنجان قهوة وبعد ان تشرب جميلة القهوة تقلب الفنجان على الصحن الصغير الى ان يعمل اشكال معينة بعد خمس دقائق فترفعه ام فاروق وتقرأ فنجان جميلة وتتكلم عن أشياء كثيرة وفي معظم الأحيان كانت تقول لها عن احداث ستحصل قريبا وفعلا تحصل تلك الاحداث واما اذا لم يكن في قراءة الفنجان شيء يثير جميلة فتقول جميلة لام فاروق لدي شيء اريد ان اعرفه لم تذكريه لي فتطلب منها ام فاروق ان تبصم في قعر الفنجان أي تضع اصبع الابهام في قعر الفنجان وتخرجها وبذلك تظهر بعض الاشكال في القعر فتقرأها ام فاروق , هذا يعني ان جميلة لم تكن تخرج من بيت ام فاروق خالية الوفاض عندما تذهب لزرق ابرة البنسلين , فأما تفسير حلم او قراءة فنجان وكانت ام فاروق تستقبل جميلة في غرفة الضيوف التي في مدخل البيت وكانت الغرفة مليئة بالأشياء المختلفة والموضوعة بشكل عشوائي وعلى طاولة جانبية كان هناك تمثال مشع من الفسفور الأبيض للسيدة مريم العذراء وكانت جميلة تحترم قدسية السيدة مريم العذراء , وفي بعض الأحيان عندما تذهب ام فاروق لعمل القهوة كانت جميلة تلتفت الى تمثال السيدة العذراء وتشكي لها حالها ثم تتساقط دموعها بصمت فتمسحها بسرعة حتى لا تلاحظ ام فاروق ذلك وكانت جميلة تجلب الهداية لام فاروق ولزوجها وابنائها الثلاثة في الأعياد المسيحية كافة ولم تنقطع يوما عن تهنئتهم بالعيد وجلب قال كيك كبير مميز مع بعض الهدايات الأخرى.
المواسم والاعياد كان لها وقع كبير على جميلة فقبل العيد مثلا تقوم بغسل وكوي الستائر وتنظيف البيت كاملا من السقوف بسعف النخيل حتى الشبابيك والارضيات وتغسل الستائر ثم تقوم بسن السكاكين والمقصات لدى الأوزبكي الذي يدور على البيوت قبل الأعياد بأيام ,
والأوزبكي هو الرجل الذي يقوم بسن السكاكين والمقصات واصله من أوزبكستان وقد استوطن الأوزبك في بغداد منذ القرن الخامس عشر
ولهم جامع كبير في منطقة الباب المعظم في بغداد قد بناه احد امراء الاوزبك عبد العزيز خان في سنة 1682 عند قبر عمه امير الأوزبك ( امام قولي )
وكان فري طريقه الى الحج وفي ذلك الجامع قد دفن عدد من المتصوفة ومعلمي الجامع حيث كان في الجامع مدرسة علمية ودينية , وامتهن الأوزبك في بغداد صناعة السيوف والخناجر ومع اضمحلال تلك الصناعة تحولوا الى مهنة تصليح وسن الخناجر والسيوف والسكاكين والمقصات والمناجل وكان الأوزبكي يدور مشيا ًعلى الاقدام في المحلات السكنية والشوارع العامة ويحمل على ظهره عجلة حديدية كبيرة وثقيلة الوزن يقوم بتحريكها بواسطة الضغط على عتلة على الأرض بالقدم لتدور العجلة وتحرك حجر السن المثبت على قاعدة في الأعلى وبذلك تتم عملية سن السكاكين ويرتدي الاوزبكي عادة ملابس الأوزبك الجميلة الملونة وهي عبارة عن سروال طويل وقميص فضفاض يتدلى على السروال وفوق القميص يرتدي ما يشبه الجبة القصيرة بدون اكمام ومطرزة بالوان زاهية , وكان الاوزبكي يبتسم دائما للجميع وكلما نظرت اليه يطل عليك بوجهه الجميل الأبيض المتفائل الذي يشبه الصينيين وبلحيته الخفيفة ولا تتمكن من تحديد عمره بسبب ملامحه الصينية , وقبل العيد كانت جميلة كذلك تقوم بخياطة الصحون والقواري المكسورة اذا كانت تلك الصحون ذات أهمية لديها او غالية الثمن والمصنوعة من السيراميك الصيني الذي يسميه البغادة فرفوري او فخفوري وخياط الصحون الصينية مهنة قد انقرضت منذ الستينات , وخلال عملية تنظيف البيت استعدادا ً للعيد تتجمع أغراض كثيرة لا يحتاجونها في البيت فتجمعها جميلة في مكان واحد في الحديقة بانتظار أبو العيسكي ليشتريها منهم , والعيسكي هو تحريف لكلمة ( اسكي) التركية والتي تعني القديم وكان اغلب العسكية من اليهود ثم اندثرت تلك المهنة تدريجيا وخصوصا ً بعد رحيل اليهود من العراق , وكانت جميلة تعطي الأغراض المستعملة التي لا حاجة للبيت بها الى أبو العسكي لكن في كثير من الأحيان مجانا او مقابل مبالغ قليلة جدا لان جميلة لم تكن مهتمة بالنقود بقدر اهتمامها بالتخلص من الأغراض القديمة واذا كان الوقت ظهرا والوقت وقت الغداء فإنها كانت تعمل صينية طعام من نفس وجبة طعام البيت ذلك اليوم تقدمه الى أبو العيسكي وتلك كانت عادة الناس في بغداد فان أي شخص يكون حاضرا في البيت وقت الغداء يجب ان يتغدى من طعام اهل البيت , وجميلة معروفة لدى العسكية لانهم يأخذون اغلب الأغراض مجانا ً مع وجبة طعام .
جميلة كانت تحب الصحون كثيرا جدا لان الصحون اخذت حيزا كبيرا في حياتها وكانت حريصة شهريا على تبديل الثياب بالصحون حيث كانت مهنة تبديل الملابس المستعمل بالصحون الجديدة معروفة في مدينة بغداد، والشخص الذي يمتهن تلك المهنة كان يحمل زنبيل مليء بالصحون الجديدة وكيس قماش للملابس المستعملة ويدور على البيوت ليأخذ الملابس القديمة من ربات البيوت ويعطي بدلا عنها صحون جديدة .
طعام العيد في بيت الشيخ احمد كمال كان له خصوصية فلو تم ذبح خروف فانه سيكون غداء اليوم الأول للعيد حيث يأتي جميع أبناء الشيخ احمد كمال الخمسة وابنتيه وعائلاتهم الى البيت الكبير للمعايدة وتقوم جميله بطبخ الخروف كاملا ً مع كمية هائلة من الرز والمكسرات وكانت تبدأ طبخ طعام غداء العيد بعد الإفطار مباشرة عند السابعة والنصف صباحا واما حلويات العيد فكانت تعملها قبل العيد بأيام وتقوم بشوي حلويات العيد في فرن كبير كانت تضعه في الحديقة الخلفية للبيت خلف المطبخ على طاولة حديدية ولم يكن في بغداد في ذلك الوقت افران داخل الطباخ وانما كانت الافران منفصلة ولها حمالتين من كلا الجانبين ليتم حملها باليد وتلك الافران تعمل كذلك بالنفط مثل الطباخات ذات العيون المتعددة
واهم حلويات العيد فكانت الكليجة بأنواعها و( بادملي شكر) وهي حلويات مربعة او مدورة مصنوعة من السكر واللوز المطحون او السكر مع مبروش جوز الهند , والبادم حلويات عراقية قديمة منذ العصر العباسي تصنع بنكهات متعددة ومعنى بأدم اللوز بالفارسية القديمة , وكانت جميلة تعمل (ياغلي بورك ) أي البورك الدهين المقلي حيث تقوم بحشو اصابع البورك باللحم المفروم والكرفس وتقليها بالزيت فيتناوله ضيوف العيد مع بقية الحلويات كوجبة خفيفة وسريعة اذا كانت زيارتهم الى البيت الكبير صباحا وقبل حلول وقت الغداء ,
وشراب العيد عادة كان عصائر حلوة المذاق مثل النارنج والبرتقال والليمون بنكهات متعددة واذا صادف ان يكون العيد في الصيف فكان الناس يقدمون كذلك مشروب البلنكو البارد مع الثلج والبغادة مدمنين على شرب البلنكو ويباع البلنكو كذلك خلال فصل الصيف الحار في معظم الأسواق والبلنكو هو حبوب الشيا حيث تخلط بالماء ويضاف اليها الماء وقليلا من السكر وماء الورد , وحبوب الشيا تعطي للجسم مناعة كبيرة من الامراض لما تحتويه من معادن وفيتامينات لتقويه العظام والاعصاب وتعطي الانسان الشعور بالشبع .
فراش العيد الكبير له تقاليد عريقة في مدينة بغداد ومهرجان للصغار قبل الكبار فقيل العيد بأيام كانت جميلة تقوم بتجديد كل فراش البيت ,
حيث يحضر النداف للبيت وهو يحمل قوسه الكبير ويجلس في زاوية نظيفة واسعة على الأرض ويقوم بإخراج القطن من كافة الافرشة والمخدات القطنية ويقوم بندف القطن بواسطة قوسه الطويل والندف هي عملية إعادة حلج وتفتيت القطن وتنشيطه بقوس طوله يقارب المتر وثمانين سنتمتر يضع القطن تحت وتر القوس ويحركه بضربه بقطعة أسطوانية خشبية لها مقبض بحجم كف اليد ويصدر أصواتا موسيقية يتجمع حوله الأطفال في فضول وفرح يجمعون له القطن المتطاير من حوله ويحملون له الاقمشة الجديدة ويقوم النداف بتبديل اقمشة الفراش من مخدات الى لحفان الى مرتبات بأخرى جديدة يقوم بتفصيلها وخياطتها بيده في نفس الوقت وهو يعرف قياس كل الفراش وحجم القطن الذي يجب استخدامه لكل منها ويستعمل الوان مختلفة من الاقمشة قد يجلبها معه او ان تقوم بجميلة بإعطائه الاقمشة الجديدة المتوفرة لديها ليستعملها وخلال فترة الثلاثينات والاربعينات كانت الأسواق قليلة في بغداد ولم يكن الناس يخرجون كثيرا من بيوتهم فكان الدوار يبيع القماش عليهم وكلمة دوار تعني البائع المتجول الذي يدور على البيوت ويبيع الأشياء وقد انقرض استعمال تلك الكلمة وبائعي الاقمشة كانوا من اليهود حيث يحملون اطوال الاقمشة على اكتافهم ويدورون مشيا ً على الاقدام حول البيوت وكانت جميلة تتبارك بإعادة تجديد الفراش للجميع فكل عيد كبير يجب ان ينام افراد العائلة على فراش جديد وتجديد الفراش في العيد الكبير كانت عادة بغدادية قديمة يعتقدون انهم نظفوا الفراش مما علق به من نحس السنة الماضية.
الى اللقاء في الحلقة القادمة
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/59583-2023-07-25-10-15-40.html
865 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع