الجزء الحادي عشر
أستمر الموت خمسة أيام ...
خمسة أيام استمرت قنابل الدبابات تطرق على المتاريس، كان العمال فيها يرممون الحواجز، وينقلون الرجال الممزقة أحشاؤهم، كانوا يقصفون حافات الغابة وقد أصابت القنابل إصابات مباشرة وأبادت العاهرات من ماخور المعسكر الرئيسي اللاتي كن قد اختبئن في ملجأ مغطى بجذوع الأشجار الضخمة، أصابت القنابل المحيط البعيد للأشجار وتسبب باندلاع حريق وتساقطت جمراتها على العمال وقطع عليهم أنفاسهم.
خمسة أيام أستمر فيها الموت دون انقطاع، خمسة أيام بطولها زمجر الجحيم وإذا كانت المدافع تصمت لالتقاط الأنفاس، ومن أجل تبريد سبطانات المدافع، يزحف فيها الرجال من بين أنقاض المتاريس والملاجئ والحواجز ويبدأون بالغناء .
كان الدكتور سنتالوس ونورينا يجرون العمليات في فترات إيقاف القصف، جبهارت لم يكن يفهم، كأن هناك أعجوبة تحميهم، وبينما كانت الأحشاء تتمزق هنا حوله، كان الدم الوحيد الذي يسيل هو دماء الآخرين، كان شيئاً لا يفهم.
" الآن يقصفون بالنابالم " قال د. سنتالوس، عندما بدأت المتاريس والغابة بالاشتعال، وكأن أحداً قد سكب عليها النفط ، لقد قلت لكم أنهم خنازير، والإنسانية هي فقط كلمة للتهريج والضحك ".
كان المظليون قد احتلوا النهر من كل جوانبه، ولكنهم لم يعبروه، وكان الجسر المؤقت قد تم تفجيره في الوقت المناسب، وفي كلا الجانبين يكمن العمال وجنود المظلات مقابل بعضهما، كان قتال رجل لرجل يدور بوحشية بلا رحمة. هنا كانت كل حركة أي صوت، أي قرقعة تحسب عدواً، وبالتالي الموت الأكيد، ولكن هنا كان القتال الفردي قد حسم، وهذا ما عرضه سنتالوس إذ وصل الجنود إلى الطريق والمعسكر، كان الأمر أشبه بالقبضة الحديدة لا مقاومة أمامهم.
" مجموعتان قد شقت طريقها " قال سنتالوس ليلة اليوم الخامس للمعركة، " لقد أعطوا أمراً باللاسلكي استلمناه بأجهزتنا، إنهم في كيرس، الهيجان في المدينة هائل وعلى الرغم من التعتيم الإعلامي التام، فإن تقارير عن نضالنا قد وصلت إلى الخارج، وصحف العالم كلها تكتب عنه، إذن فالأمر ليس عبثاً ".
شعر جبهارت في هذه الدقائق بألم عميق على سنتالوس، أنه يحسب تأثير مقالات الصحف كما لو أنه ستغير العالم، إنه كان يتحدث بأن نضالهم لوحدهم سيكون بمثابة إشارة وفي ذلك، فإنه يعلم بدقة بأن مشاهدة لعبة كرة قدم غداً ستكون أكثر أهمية من موت ألفين رجل في طريق يمر عبر غابة غير معروفة وسط أدغال البرازيل.
" هل ستحصل على إسناد من الخارج ؟ " سأل جبهارت " هل هناك انتفاضة شعبية ؟ ".
نظر د. سنتالوس إلى جبهارت بعيون متعبة " أنا أعلم ماذا تريد أن تسمع الآن، وسوف تسمعه: كلا، هناك فقط أعمال فردية ولكن عندما تحدث الانتفاضة العظمى سنكون نحن القدوة ".
" وهل يستحق ذلك، الموت هكذا بعذاب ؟ ".
" نعم، فبدون نموذج لا توجد هناك ثورة، هل كانت ستوجد مسيحية بدون مسيح معلق على الصليب، حول أي نموذج يتجمهر الناس، إذا لم يكن هناك صليب ؟ ".
" وهل تريد أن تكون صليب البرازيل ..؟ ".
" نحن جميعاً هنا " وقام د, سنتالوس بإشارة كبيرة من يده، " يعلم كل أمرء ذلك، ولهذا يصمد، إنهم سيكونون سعداء بأنهم يستطيعون خدمة وطنهم، أليس صحيحاً كارلوس ؟ ".
" صحيح دكتور، وبالذات نحن الألمان لدينا ما يطلق عليها البطولة حتى الشطط والإرهاق، البرازيل بدأت ذلك، فذلك يشعرني بالاضطراب ".
في اليوم السابع للحصار، مضى كل شيئ بسرعة، إذ هاجم جنود المظلات من ثلاث اتجاهات بعد آخر تمهيد مدفعي للمتاريس وللمعسكر، كانت تأتي من صوب الغابات مع اللهب، ولم تعد هناك دفاعات مضادة.
الجيرا كان من ضمن آخر الرجال الذين يواصلون إطلاق النار، كان مستلقياً خلف مدفع رشاش ويطلق النار من آخر الشرائط المتوفرة " إني بحاجة إلى عتاد ! " صرخ وأضاف" هناك من الجهة المقابلة قرب البلدوزر صندوقان، أجلبوه هنا ! ".
لم يتحرك الرجال الذين كانوا راقدين في إحدى حفر القنابل، وكانوا على مبعدة حوالي عشرون متراً من صناديق العتاد، وكانت المسافة حوالي أربعين متراً ذهاباً وعودة، تمر عبر وسط الجحيم، كانت الصناديق على حافة الغابة، كما لسوء الحظ كانت ترقد هناك ثلاث جثث لجنود المظلات.
فجأة قفز أحدهم عالياً وأخذ يعدو بطريقة متعرجة فوق الطريق شخص ذو هيئة نحيلة صغيرة يرتدي سروال رجالي ذو مقاس كبير جداً وسترة ممزقة ذو شعر أسود طويل يتراقص خلال الركض بين الكتفين.
" آليا " صرخ الجيرا " آليا عودي، يا إلهي ! يا إلهي ".
أنطلق صوبها على حافة الغابة، وقام الرجال بحمايته بالنيران، وفجأة اندلع خلف من شجرة زان شعاع من اللهب عندما اختفى جسدها في النيران، كان اللهب يبدو كشعاع وآلة التصوير الشعاعية، ولم يعد يبدو منها سوى الهيكل العظمي يتوهج كالفسفور، هيكل عظمي مضيئ، ثم خمد شعاع الضوء بغتة، ولم يبقى من آليا سوى بقعة سوداء على الأرض.
" يا إلهي " سقط الجيرا على الأرض وأنزلق في حفرة خلف رشاشه، وانكفأ على الجدار، بسط يديه " سامحني على كل ما سأفعله، وإنه ليس ضد ما فعلت أو سمحت بحدوثه الآن ليبق أسمك مقدساً إلى الأبد آمين.
أنتظر برهة يراقب حافة الغابة، ثم زحف من حفرته، وأخذ يعدو إلى أنقاض المتاريس واختفى هناك بين أنقاض الحديد الممزق.
وبعد عشرون دقيقة، رمى الباقون على قيد الحياة بأسلحتهم أرضاً، وطوحوا بخوذهم، وأعطى د. سنتالوس أوامره الأخيرة. إنه يعمل مع ممرضيه ونورينا في المستوصف، عندما أحتل جنود المظلات المعسكر، ثم أنه رفع رأسه للحظة عندما دخل العقيد إلى الخيمة وحياه كما لو كان خصماً عسكرياً يماثله في الرتبة.
" أترك عملك وأتبعني " قال له العقيد بلجة آمرة.
" والجرحى ؟ " قال سنتالوس وأغطس يديه الملوثتين بالدم في إناء فيه ماء.
" سوف يستلمهم أطباؤنا حالاً " نظر إليه العقيد والتقت نظراته بنورينا سامازينا وأستقر عند كارل جبهارت " السيد كارل جبهارت ؟ ".
" نعم " قالها جبهارت ووضع ذراعه على كتف نورينا وأضاف " نورينا زوجتي ".
أبتسم العقيد ببرود " حول ذلك سوف نتحادث فيما بعد، فلدي الأمر بأن أرافقك إلى كيرس، النقيب بيرابورت عبر عنك بأطراء ".
" إذن فقد كذب " سحب جبهارت نورينا إليه، والتصقت هي بوجهها على سترته القذرة، وبدأت فجأة ترتجف وأضاف " وأنا أيضاً حملت السلاح بيدي ".
" وهل أطلقت منه النار ؟ ".
" طبعاَ ..! ".
" إنه يكذب " اندفعت نورينا وأفلتت من يده " إنه يكذب إنه لا يستطيع إطلاق النار من أي سلاح حتى على حيوان، على لا شيئ ... لا تصدقوه ".
" سوف أفكر في هذا الأمر " حياه العقيد تحية عسكرية، وبينما كان خارجاً، أقتحم جنود الخيمة وانتزعوا سنتالوس من طاولة العمليات، وضربوه بأخمص البندقية على رأسه، فأغمي عليه، فسحبوه خارجاً، ثم دفعوا جبهارت بعد أن فكوا التحامه بنورينا بالأيدي، وركلوا نورينا على بطنها، فأنثنت على نفسها من الألم بصمت وهي تصر على أسنانها، ولكنها لم تمنحهم السعادة بأن يسمعوها تصرخ، فتحملت الألم بدون صوت، وأخرجوها من الخيمة دفعاً وضرباً، ولكنها لم تطلق كلمة واحدة.
" أيها الكلاب " صرخ جبهارت " أيها الكلاب الملاعين، أيها الكلاب القذرين .. تحيا حرية البرازيل .. تحيا ..".
وتلقى ضربة بقبضة يد على فمه من أحدهم، وشعر أن الدم يسيل على ذقنه، وبدا أن وجهه يورم، فقد شعر أن رأسه أصبح كالبالون، ثم سقط، وارتطمت جبهته بطاولة العدد والآلآت .... وفقد الوعي ".
عندما أفاق، كان راقداً على أريكة، كانت من النوع الذي يعود إلى عهد جدته بلون أخضر غامق في قماش من المخمل (القديفة) وله مسند ظهر عال، وغرفة شبه جرداء ذات نافذتين تحيط بكل منهما مشبك للوقاية من الشمس، وهناك كرسي من القش قرب أحد الشبابيك حيث يجلس رجل يرتدي الملابس الرسمية. إنه العقيد.
كان جبهارت يشعر بدوار في الرأس، رفع ساقيه عن الأرض، فقد رأى كل شيئ وكأنها صور بعيدة غائمة باهتة تلوح ممن بعيد.
" لقد حولت الجنود الذين أساؤا لك إلى المحاسبة سيد كارلوس " قال العقيد وبدا أن صوته يأتي مع حفرة عميقة " إني أرجو السماح، ففي هذه الظروف لا يستطيع الجندي التعرف بدقة في الموضوعات السياسية، ثم أنك تتحدث البرتغالية مثلنا ".
" أين نورينا ؟ " سأل جبهارت، ولم يكن بوسعه أن يتعرف على صوته، سعل وأتكأ على ظهر الأريكة القديمة وسحب نفساً عميقاً " ماذا فعل كلابكم مع نورينا ؟ ".
" إنك تتحدث عن وحدة من قطعات النخبة في الجيش يا سيد " ونهض العقيد وجاء إلى جبهارت وانتصب أمامه وكأنه جبل، كان قوياً لدرجة أنه أغلق الأفق أمام جبهارت " نحن لدينا إثنان وأربعون قتيلاً ومائة وتسعة وستون جريحاً من الجنود بسبب العصاة، وهنا فإن الانتقام أهم عنصر وأكثر من إنسان ".
" وأين هي نورينا ؟ " سأل جبهارت بصوت عال، وقد ابتدأ جسده وأعصابه الاعتياد على العالم، وبدأ الورم يخف تدريجياً، وآن ينظر إلى العقيد كما هو عليه فعلاً: متوسط الطول ذو هيئة قوية، يحمل ثلاثة أوسمة على ملابسه العسكرية، في حوالي الخمسين من العمر، رمادي الشعر ذو وجه مكتنز ولكن قوي.
" إنها هنا في كيرس في زنزانة منفردة في السجن العسكري ".
" هل أنا في كيرس ؟ " سأل جبهارت، وهو يشعر بأنه مخدوع.
" وهل افترضت أننا نضعك على أريكة في الغابة، إنك الآن في غرفتي الخاصة في المعسكر، والأريكة التي نمت عليها عمرها أكثر من مئة عام، وهي بالأصل من عمة لي في بروكسل، حيث كان عمي قنصل البرتغال هناك ".
" ماذا حصل الآن مع نورينا ؟ " ولامس جبهارت وجهه بكلتا يديه " أنا لست هنا لأبداء أعجابي بأريكتك "." سوف تتحسن حالة وجهك " أبتسم العقيد وقال " نورينا سامازينا تنتظر الحكم عليها ".
" إنها لم تفعل شيئاً البتة ".
" القليل بما يكفي لإطلاق النار على الناس ".
" كلا أنها لم تفعل ذلك ".
" من أجل حسم هذه المسألة، فهذا شأن المحكمة الخاصة " قدم العقيد قدحاً لجبهارت، ثم شرب القدح ببطء وكـأنه عصير فواكه مثلج حلو ومر في آن واحد.
"والدكتور سنتالوس ؟ ".
" هو الآخر مسكين ! " مضى العقيد إلى النافذة " المحكمة ستنعقد وتحاكم المتهمين في مجاميع، فنحن لدينا مئة وإثنان وثلاثون موقوف من العصاة ".
" مئة وإثنان وثلاثون من ألفين ؟ " قال جبهارت.
" نحن نأمل أن ننتهي هذا المساء " عاد العقيد وجلس على كرسيه. " وأطول جلسة ستكون الافتتاحية مع المتهمين السبعة الرئيسيين: باولو الجيرا، وكان من أفضل رجالك، أليس كذلك سيد كارلوس " جاء السؤال مفاجئاً مثل طلقة من الخلف، أنحنى جبهارت، قدح عصير آخر .. إنني أحترق من الداخل ...
" نعم، لم يكن هناك شيئ عاجزاً عن فعله ".
" هذا صحيح " ضحك العقيد بقوة " لاحظنا هذا، فهو الوحيد الذي تمكن من النجاة بنفسه، لقد قلبنا كل جثة ثلاثة مرات بحثاً عنه، ولكنه لم يكن بين القتلى، إنه رجل يثير الدهشة، ولكن المسألة وقت فقط ".
" وهل أستطيع أن أشاهد نورينا ؟ " سأل جبهارت وأضاف " وأن أتحدث معها؟ ".
" كتعويض عن سوء معاملتك، وبشكل استثنائي "، وملأ العقيد القدح وناوله لجبهارت، وكان الظلام قد حل، وأخذ سيكاره " سمعت أنباء من ريو بالاتفاق مع السفارة الألمانية والشركة التي تعمل بها في ألمانيا، ستحصل على تأشيرة الخروج في الأسبوع المقبل، كما أنك ستحصل راتب عام كامل كتعويض لما أصابك من أضرار ".
" خطأ أيها العقيد " وأستند جبهارت بظهره إلى الجدار وامسك القدح من يد جبهارت بكلتا يديه " إنني سأبقى بجانب نورينا ".
" سيخلق لك هذا صعوبات يا سيد كارلوس " قالها العقيد وأخذ القدح من يد جبهارت، كما يأخذ المرء لعبة سهلة الكسر من يد كفل " الإعدام سيكون يوم الأثنين الساعة السادسة فجراً ".
كانت الزنزانة الصغيرة رطبة تعبق برائحة العفونة، وتقع تحت الأرض ولم تكن هناك نوافذ ولا تهوية، والأرضة كانت طينية والجدران من الحجر الخشن، وعلى السقف الذي كان عالياً لا يلمس، كان هناك مصباح وحيد، والباب الحديدي كان صدئاً. وفي هذا الجو العفن، عندما فتح الباب أحدث صريراً عالياً تسلل حتى العظام.
جلست نورينا على السرير المصنوع من القصب المضغوط، ونظرت إلى الباب المقفل، كانت قد عقدت شعرها وتبدو هادئة تماماً، فقط أصبعها الذي كانت تقرع به على حافة السرير ينبأ أي قوة هائلة تسيطر به هذه المرأة على قلقها.
الآن سيأتون، فكرت، وسيأخذونني دون محاكمة، دون قرار حكم، بل سيخجلون من كلمات دفاعنا، كيف سيقتلونني، رمياً بالرصاص ؟ أم ترى شنقاً ؟ كيف يقتل القضاء العسكري امرأة ؟ ....
كان أول من دخل عليها جندياً، حياها فتعجبت لذلك نورينا، توقف بالقرب من الباب " لديك زوار أيتها الآنسة، ولمدة ربع ساعة ".
" لا أريد أن أقابل أحداً، وليس لدي شيئ أقوله بعد " قالتها نورينا وهزت رأسها " دعه في الخارج ".
ثم صمتت فجأة، سكتت حال وقوع بصرها على الرجل الذي دخل الزنزانة تقريباً، وعاد الجندي إلى الممر وأغلق الباب.
" نورينا ..." قال جبهارت بصوت باهت " يا إلهي نورينا .. ماذا فعلت بنفسك ".
" لماذا جئت كارليتو ؟ " ونهضت واقفة وتعانقا بتنهيدة، واستمرا كذلك وكأنهما يريدان أن يذوبا " الذكريات، كانت أجمل بكثير من الواقع ".
يوم السبت سنكون المحاكمة " غطس صوت جبهارت " لقد حاولت بكل السبل طوال ساعة وأنا أتحدث بالهاتف مع السفير الألماني في ريو، ليس بوسعهم مساعدتنا، إنها مسألة برازيلية داخلية، هكذا قالوا، وأن أبقى خارج هذه المسألة، ولكني لن أستسلم ".
" وماذا تريد أن تفعل كارليتو ؟ " قالتها وقبلته وقد بدا الأمر وكأنها تريد أن تواسيه " إذن فهم سيقيمون لنا مرافعة ؟ هذا يهدأني، سيكون الأمر فضيعاً أن تتم التصفية بهدوء وسكون، يجب أن يشاهد ويسمع الكل بأي فخر نتقدم للموت ".
" هل هذا هو كل ما تفكين به ؟ ".
" تفكرين ؟ " ومسدت على وجهه المندهش، وأشارت إلى الجدار العفن المبتل " أوه .. كلا، التفكير وأنا في عالم آخر تماماً، التفكير والحلم هو شيئ رائع عندما يعلم المرء بأنها تبقى فنتازيا (خيال)وبها يغلف المرء مثل ملابس ملكية، أتعلم ماذا أرى ؟ إنني أملك بيتاً في مكان ما في بلد حر مسالم ذات تصميم معماري جميل، زوجة مع أطفال أثنين أو ثلاثة، لهم مثل عيوني ومثل فمك، عائلة سعيدة في عالم جنة".
" نورينا " قالها بتلعثم" كان يمكن أن يكون كذلك قبل يومين فقط، كانت لدينا الفرصة ".
" كلا ووضعت رأسها على صدره وأحاطته بكلتا ذراعيها " لم تكن لدينا هذه الفرصة أبداً، كان دائماً وفقط حلم لو كنا قد تقابلنا قبل ستة شهور في ريو برازيليا... برما آنذاك، ولكن عندما جئت مع سنتالوس عندكم من المعسكر، وكل ما عدا هذه المهمة تبقى أشواقاً وأحلاماً " رفعت رأسها والتمعت عيناها السوداوتان، وللمرة الأولى يراها جبهارت تبكي " كان عليك أن لا تأتي " قالت بصوت منخفض " أنت الآن تجعل لي الإعدام صعباً ".
" لم يصدر قرار الحكم عليك بعد " يوم الاثنين الساعة السادسة فجراً يبدأ تنفيذ الإعدام، فكر جبهارت في نفسه: يومين أثنين فقط بضمنها يوم واحد من المحاكمة المهزلة، ويوم آخر للمداولات فيما يسمى إحقاق الحق، والإدانة ستكون جاهزة، ماذا يتوقع المرء أن يفعل في يومين ؟ ..
أحدهم قرع على الباب الحديدي من الخارج، أرتعش كلاهما، وتعانقا مرة أخرى، كان الوقت قد جرى منهما، يا لها من ربع ساعة عند الوداع الأبدي ..!
" أذهب " قالت نورينا بشجاعة، كانت قد مسحت دموعها بسترة جبهارت وابتسمت له " لا تلتفت عندما تذهب، لا أريد أن أرى عيناك، رجاء ".
" سوف أخرجك من هنا ! " قال جبهارت بحماسة " فأنا سأطير إلى ريو اليوم. .".
" إنهم سوف لن يتركوك كارليتو " وسمع صرير الباب ومد الجندي رأسه إلى الزنزانة وأشار، وفهمت نورينا وهزت رأسها.
" عش جيداً يا حبيبي " قالت نورينا ثم أضافت " نتقاسم قدرنا ومصيرنا مع كثيرين وسوف يكون هناك دائماً نساء ورجال تفرقهم الأقدار " وبدفعة واحدة تخلصت منه، وصدمته بكلتا قبضتيها، وهرعت إلى مضجعها الخشبي " والآن إذهب " صرخت " إذهب أخيراً ".
كان جبهارت يريد أن يقول شيئاً بعد، ولكن الجندي سحبه من سترته خارج الزنزانة، ترنح من الدوار، وأغلق الباب، ودار المزلاج وأغلق بصوته المعروف " دقيقة بعد " بدا جبهارت في رجاءه كطفل " دقيقة واحدة فقط، رجاء ".
نظر إليه الجندي متفحصاً إنهم ينتظروك سيد " قال وأدى إشارة وتبعه جبهارت خارجاً حيث كان يقف شخص يرتدي جبه قسيس طويلة تصل إلى الأرض، له وجه شاب في غاية الجدية، وبرغم شبابه مثل حجر متأثر بعوامل التعرية.
" باتر دي سيتا " قال القس.
" أنحدر عرق مثلج على ظهر جبهارت، ها هو القس لليوم الأخير هنا، يا لها من سخرية، إنهم سيقتلون ويحملون خلال القتل الصليب عالياً.
" هل هذه هي حقاً إرادة الله " سأل جبهارت بقسوة " هل بوسعك أن تجيب على ذلك باتر ؟ ".
" نعم " وأشار باتر دي سيتا إلى الممر في الأسفل، " رجاء رافقني إلى الخارج أريد أن أتكلم معك ".
ولكن طلبه لم يكن ينطوي على رنين رجاء، بل أنه سمع ذلك وكأنه أمر، تبع جبهارت القس مستغرباً ومضيا في الممر إلى الأسفل، ثم أرتقيا السلم المسور إلى الأعلى وإلى الخارج، إلى الضوء .
وصل باولو الجيرا إلى برازيليا.
ولم يسأل فيما بعد كيف نجح في ذلك، فقد كان كل ما هو إنساني فيه قد مات، وبدأ يشق طريقه كحيوان متوحش فر عبر الغابات، وفي الليل أستطاع أن يسرق دراجة بخارية من المعسكر الرئيس السابق وبها وصل إلى كيرس، أوقف في الشارع سيارة، أنتزع سائقها منها وجلس في مكانه وقاد السيارة إلى برازيليا.
ما كان الجيرا يفعله لا ينتمي إلى شعوره بالوعي، كما لو أن خيالاً ورؤى تتحرك أمامه وتسافر معه حيثما ذهب. كان يشاهد فيه منظر آليا في تلك اللحظة التي تحول فيه جسدها إلى شعاع من النار، صورة ملتهبة ماثلة أمام عينيه، وكل ما فعله في الطريق من تحطيم وتدمير، كان يبدو خلاله كإنسان قد أفلت ولا يمكن الإمساك به، ولم يعد ينتمي إلى أي تصنيف.
وهكذا وصل إلى برازيليا، وهكذا أوقف بعد ثلاثة أيام دون أن يستريح فيها ولا ساعة واحدة، وجد نفسه واقفاً أمام مجمع هائل من الزجاج والفولاذ والأسمنت المسلح وخشب المهاغوني، محمع أركولهو التسويقي، تطلع إلى الواجهة العالية.
هناك في الأعلى، يسكن هيرمانوسانتوس بولو، فكر الجيرا، السيد الكبير بولو، يسكن هناك في الأعلى، كالنسر الذي لا يمكن الوصول إليه. هل تعلم يا سيد بولو أنه لا يوجد شيئ في العالم لا يمكن الوصول إليه ؟ لا شيئ بالنسبة لباولو الجيرا.
أخفض رأسه وأخذ يدلك وجهه العريض بكلتا يديه، ولكنه عندما أغلق عينيه ظلت الصورة ماثلة أمامه، جسد آليا المضئ في أشعة النار للوقود المشتعل.
شرع بدوار، ترك ذراعيه تسقطان وجمدت أبصاره مرة أخرى على سطح المجمع، ومن حافة النافذة حيث توجد أحواض زهور ملونة، خلف الشبابيك التي تسطع بالأنوار في الطابق التاسع، حيث يبدو الإنسان كنملة كبيرة.
وببطء بدأ باولو يتحرك، وشعر ببرودة الهواء في الممر الذي عزل عن ممرات الجمهور المتسوقين، أخذ يبحث عن المصعد وأنتظره حتى هبط وفتحت بابه.
" إلى الأعلى تماماً " قال ألجيرا بصوت خشن لعامل المصعد الذي يرتدي ملابس نظامية، فحياه عامل المصعد بتهذيب.
زجاج، بورسلان (خزف)، سجاد، ستائر، هدايا، تحف.
إذن هكذا ..! أتكأ الجيرا على جدار المصعد النظيف اللامع.
كان المصعد يواصل صعوده إلى الأعلى بدون صوت.
الحلقة / ١٢
هيرمان سانتوس بولو... يراه المرء بأنه كان غنياً، ولكن المرء لا يرى بأنه يستحق أن يشتم ويعلن من الآلاف التابعين له، وكيف ينظر المرء إلى ذلك ؟ إنه يتبع يومياً التدليك والتجميل لتليين بشرة الوجه والعناية بها، وبتصرفاته الجيدة جعلت منه ينتمي إلى أوساط المجتمع البرازيلي الراقية، وهو الذي كان يمتلك النفوذ، وكان لديه أصدقاء كثيرون يمتلكون ذات الصفات والخصائص من كبار ملاكي الأراضي ممن يملكون قرى في الريف قد يبلغ حجمها بقدر سويسرا، وزراء وعسكريون، وصناعيون، ورجال أموالهم تدور بينهم، أصحاب بنوك يضاعفون أموالهم عن طريق التدليس والمضاربات والغش، أصحاب صحف من الذين لا يسمحون بظهور سطراً واحداً في صحفهم عن إبادة أعراق هندية، فقط الكنيسة لم تكن موجودة في هذا السوق، ومثلت المعارضة الوحيدة ل (نادي المئة) الذي يحكم البرازيل.
وقد تمت المحاولات في جميع المجالات، وكافة السبل، وقبل كل شيئ مساعي الأسقف هيلد كامار الشجاع، ومن التهديد إلى السخرية ومن الوشاية وتشويه السمعة، إلى الكذب. باءت جميعها بالفشل، وحتى مواقف كامارا الشجاعة لم تؤد إلى شيئ، بل هو جدلي في العالم إذ جلب من أوربا ومن الولايات المتحدة مقاولات جديدة من خلال ألام الهنود وعبودية البشر وتراكم رأس المال. ولكن أصحاب الأموال البرازيليين لم يكونوا قلقين بصفة خاصة حول هذه المحاولات، وما فعله الأسقف كامارا كان جيداً، حيث ذهب وقص على بلدان الغرب عن الفقر في بلده البعيدة عن الغرب عن الفقر في بلاده البعيدة، والأمر بالنسبة لهم سيان تماماً كما تحكى الخرافات والأساطير من جبب القساوسة، فكانوا يستمعون له بتأثر، ولكنهم يجمعون على استئصال الهنود في الغابات، ربما سينال أحد القساوسة يوماً وساماً، ولكن البرازيل سوف لن تنال شيئاً، وهذه قالها مرة بولو لوفد اقتصادي أوربي بوضوح تام.
" أصدقائي، ما هو أهم: هل ما تحتاجون إليه أنتم وشعوبكم بشكل فوري من: القهوة، والأخشاب الثمينة، القطن، السكر والتبغ، أم الهنود .. هل تريدون أن تستثمروا في البرازيل صناعة جديدة متطورة التي ستصبح قريباً الأعظم في كل أميركا الجنوبية، أم أنكم ستصلون مع الأسقف هيلدر للراية الحمراء فوق الأمازون ؟ القرار الحاسم بأيديكم أصدقائي، البرازيل ستجد شركاء ومتعاملين معها في كل مكان، وهذا البلد سينمو الآن وتفتح قميص نومها الليلي مثل سيدة جميلة، أنظروا أي كنور مطمورة هنا، تعالوا إلى هنا قبل غيركم ! ".
ثم ضحك، فليجلبوا لنا زجاجة نبيذ من الدرجة الأولى، أما الوفد الأوربي فلم يعد يتحدث عن الفقر والهنود والعدالة الاجتماعية، واضطهاد الأقليات، بل لم يعودوا يريدون حتى سماعها، لقد كان هذا عرضاً بسيطاً ولكنه كان فعالاً في عقد الاتفاقيات، فالمصطلحات الأخلاقية العالية لا تعمل أبداً على زيادة الأرصدة المالية في البنوك .
في هذه الظهيرة الساخنة، كان بولو قد قرر أن يذهب إلى البحر وأن ينهي أسبوع العمل، وهو يسكن بمفرده في سطح المجمع التسويقي، وكانت طاعته لرغبته أكبر من حاجته، فهو يملك العديد من الفيلات الأنيقة ذات الحدائق، ولكنه كان من شقته من سطح المجمع التسويقي بوسعه أن يشاهد برازيليا كلها، هذه البناية التي كانت في المكاتب الاستشاريين للمهندسين المعماريين بأنها مدينة كاملة في بناية واحدة وهي تحمل أكثر ملامح المستقبل، فهي بناية مبردة، هي من الزجاج والاسمنت من حيث المظهر، ما يمكن خلطه بالماء والرمل والأسمنت، وأي جمال يمكن أن يخلق، ومن هنا يمكن لبولو أن ينتقل إلى الجانب الآخر إلى بناية أخرى من إمبراطوريته، إلى البرج الزجاجي الذي يعمل فيه ألف موظف وموظفة لإدارة شركاته ذات العائدات العالية.
على منصة بولو في الغرفة الفسيحة ذات الواجهة الزجاجية العريضة التي تطل على أوسع مشهد للمدينة، هناك جهازا هاتف فقط ، الأول أبيض اللون للاستخدام الخصوصي، والآخر أخضر اللون وهو يقوم بمثابة المقسم (البدالة) يمارس من خلاله سلطته، وبكلمات مقتضبة، ولكن كل كلمة تعني مصير أولئك الذين تمسهم قراراته وتوجيهاته، وقد كان شعوراً شهوانياً أن يرفع سماعة الهاتف وأن يقول شيئاً يمكن أن يغير عالماً كبيراً أو صغيراً، أمراً يمتع بولو.
كان بولو في يبلغ الخامسة والخمسين من العمر، متوسط الطول، عريض المنكبين، مطلق ثلاث مرات، ولكنه الآن على علاقة مع بارونة فرنسية كانت تنظره في ريو، وكن هيرمانو سانتوس بولو مصطلح يمثل القوة والسلطة.
في آخر نداء هاتفي أجراه كان مشغولاً بأنباء الأنتفاظة العمالية في طريق الغابات إلى ريوآرغوايا، كان الثوار قد تلقوا ضربات نهائية على أيدي قوات المظلات، ومن بقي منهم على قيد الحياة، ما يزالون في كيرس ينتظر الإدانة والحكم عليه، وقد تم إعداد مجموعات عمل جديدة كانوا يقفون على أهبة الاستعداد للتحرك إلى موقع العمل الكبير. وكان الفقراء يقفون أمام مكاتب التشغيل في صفوف طويلة، ولكن على أية حال، كان أسبوعاً قد انصرم وضاع، وقرر بولو بقلب قاس خصم الخسارة بتخفيض كيروتسيروس أثنين من كل تسعة ساعات عمل، ولا يمكن توقع غير هذا من بولو.
بنظرة فيها دهشة أكثر من القلق، تطلع بولو عندما فتح باب صالون بيته، دون أن يسبق ذلك قرع على الباب، وبدلاً من الخادم جوان، دخل رجل عملاق مهلهل الثياب تقريباًـ أغلق الباب ورائه بقوة، ووقف وقفة استعداد على الأرض المفروشة بالسجاد الفاخر.
رفع بولو حاجبيه، ودس يديه في جيوب سرواله " قبل أن تبدأ قل لي أولاً كيف دخلت إلى هنا ؟ سأصرف الخادم جوان من العمل حالاً " قال بولو بانزعاج.
أشار باولو الجيرا برأسه إلى الباب " وهل يدعى الرجل جوان ؟ إنه لا يحتاج إلى صرف من العمل، فهو بحاجة الآن إلى تابوت ".
في هذه اللحظة سمع صوت انفجار عميق، اهتزت على أثره ألألواح الزجاج الكبيرة في صالة بولو، وقبل أن يبدأ بولو أي رد فعل، دو رنين الإنذار في المجمع التسويقي، وحتى شقة بولو الخصوصية والمعزولة جيداً، تناهى إليها صرخات وصياح مئات الرجال.
" حريق " قال الجيرا بصوت عميق " حريق يا سيد بولو، وهذه كانت قنبلة والتي أرسلت المصعد يهوي إلى الأسفل، وينبغي أن تنفجر في الطابق الثاني. قف ! أبقى واقفاً في محلك " .
أراد بولو أن يتقدم إلى مكتبه، ولكن الجيرا قطع عليه الطريق وطوح به بحركة يد واحدة إلى الوراء، ومضى يعرج بأتجاه الجدار وأنتزع في طريقه أحدى قوائم حوض للزهور، ثم عاد للهجوم فوراً وبيده صحن حديدي، ضحك الجيرا وهز رأسه، كانت هذه الحركة مضحكة، كما لو كانت صفارة الإنذار في المجمع.
" أنت مجنون، صرخ بولو " ماذا تريد ؟ نقود ؟ وبهذه الطريقة ؟ فخلال دقائق ستكون الشرطة هنا ".
" إنهم سوف لن يستطيعوا الدخول " انتصب الجيرا مثل دب هائل أمام بولو، الذي أراد أن يصلح من وضع حوض الزهور الذي تحطم قائمته.
" لقد رأيت هذا المجمع والسوق وهو كله يعود لك، ليس الآن، في الماضي، إنها بناية جميلة ولكن بدون جهاز إطفاء الحريق الأوتوماتيكي الباهض الثمن جداً سيد بولو، طبعاً ثمنه غال جداً، إذ ما هي قيمة حياة الإنسان ، وهذا ما قلته لآليا عندما اشترينا مرة بلوزة لها من الطابق الأول، كانت آليا تبدو كأميرة عندما تطلق شعرها الأسود الطويل فوق الأحمر الوردي، صحيح ؟ ".
" أنت مخطأ " زمجر بولو وقد سمع عويل صفارات الإطفاء ، وفي مكان ما سمع صوت زجاج يتفجر ويتحطم، حريق ؟ فكر بولو، ثم ثبت نظره على الجيرا، البناية تحترق، وهناك في كل مكان السلع والبضائع السهلة الاحتراق، وسوف تتسع النيران حتماً بوجود مواد قابلة للالتهاب سريعاً " لو أردنا أن نضيع المزيد من الوقت، فإن البيت ذو المدرجات سوف يحترق، وأنت معه، أيمكنك أن تتصور ذلك ! أنت معه !! ". ثم صمت للحظة ...
" أسألك فيما إذا كنت تعرف الفتاة آليا، الفتاة ذات البلوزة باللون الأحمر الوردي " واصل الجيرا حديثه بهدوء.
" كلا " زمجر بولو " كلا ياللشيطان .. ما لي وهذه الفتاة ..! ".
" هذا ما سألت نفسي أيضاً سيد بولو، ولكن على الرغم من ذلك فقد فعلتها أنت ..".
" ماذا فعلت ؟ ".
" لقد أسكرتها سيد بولو، ثم سحبتها إلى سريرك ونمت فوقها عندما جلبتها إلى الأمازون، لقد حطمت جسدها ونفسيتها وكلاهما يعودان لي، آليا الفتاة التي كانت تعمل في مطعم المعسكر الكبير على الطريق الجديد، أتذكر ذلك سيد بولو ؟ كانت ترتدي البلوزة ذات اللون الأحمر الوردي وقد مزقتها عن جسدها، كانت فتاة خلاسية جميلة، بحيث أن رجلاً أبيض كبيراً هام بها ".
" ومن تكون أنت ؟ " سأله بولو، فيما كانت نظراته تشيع خوفاً. فتاة المطعم ؟؟ فكر للحظة، طبعاً السمراء الصغيرة ذات الجسم الملائكي التي دافعت عن نفسها كقطة، ولكنها ألم تضع مئة كروسيروس بين ثدييها بعد ذلك ؟
" أنا باولو الجيرا " أجاب بهدوء. وابتدأ قلب بولو يقرع بقوة فيما كان صراخ الناس يتصاعد من وراء زجاج النافذة الكبيرة. وكان عمال المطافئ قد بدؤا عملهم فيما كانت طائرتان مروحيتان تابعتين للشرطة تراقبان البناية الرائعة من الجو. على أية حال، لم يكن بولو يشاهد كم كان اللهب واسعاً وكبيراً في طابقين، وكان الناس يجلسون على حافة الشباك ثم يقفزون من ذلك الارتفاع مفضلين الموت على هذه الطريقة بدل الاحتراق، وعلى السلالم كانت الأجساد تتدحرج في فزع جنوني يطئون بعضهم بعضا، كانت الأجساد تغلق الممرات، وألسنة اللهب تلاحق الهاربين منها.
" الجيرا ..! " انطلقت الكلمة من فمه " البرازيل بأسرها تبحث عنك ".
" أنا هنا وأريد أن أتحدث معك عن آليا ".
" بالنار وإبادة بشر لا ذنب لهم ..؟ ".
" ألم تكن آليا بدون ذنب يا سيد بولو ؟ " قالها وهجم عليه وأنتزع من يده قائم حوض الزهور وقذف بها باتجاه الشباك العريض وتحطم زجاجها، وبذلك انتهت عزلة بولو وبدأ يسمع بوضوح تام صوت الصراخ والزعيق من الناس الذين حاصرتهم النيران، وصوت ارتطام الماء من خراطيم رجال الإطفاء والانفجارات الصغيرة للنيران، وصوت سيارات الإطفاء والشرطة والجيش، التي أغلقت الشوارع المؤدية لبناية المجمع.
في هذه اللحظة، أنهار السيد الكبير بولو وأصبح إنساناً قميئاً يتوسل لإنقاذ حياته. " الجيرا " قالها منتحباً، وكان الدخان قد بدأ يتسلل إلى الغرف، دخان ذو رائحة كريهة من المواد الصناعية ورائحة شواء البشر " مليون، مليون كامل إذا اتفقنا الآن وأنا أتعهد لك بأن ألتزم الصمت " .
" آليا كانت جميلة جداً " قالها ألجيرا بصوت حالم " عندما كنت أعانقها كنت أشعر بأني الرجل الأكثر ثراء في العالم ".
" ستقضي النيران علينا الجيرا، لنذهب إلى سطح البناية فالطائرات المروحية يمكنها إنقاذنا " صرخ بولو وتداعى، ومع تداعيه أنهار أيضاً كبرياؤه وجسده، فأستند إلى الجدار وجمدت نظراته على الجيرا وأخذ يرتجف من صوت الصراخ الوحشي الذي كان يقتحم شقته المرتفعة.
" سنحترق .." وقف الجيرا بضخامته أما بولو، كانت عيناه تبدوان مشرقتان " أتعلم كيف يبدو الإنسان عندما يتناوله لهب النيران ؟ لقد رأيت ذلك للمرة الأولى، لم يكن قد بقي لحم على الجسد، توهج الهيكل العظمي وكأنه مصباح نيون مضيئ يا سيد بولو، وقد رأيت آليا وكأن عظامها تضيئ ".
زفر بولو الهواء من أعماقه، ثم قفز إلى الأمام، ورأسه غاطس إلى الأمام وليس له سوى هدف واحد: الباب المفضي إلى الممر، ومن هناك وبواسطة السلالم الجدارية الخارجية المؤدية إلى الخارج، ولكنه أصطدم بشي وكأنه الصخر، كان صدر الجيرا العريض باستقباله دون أن يهتز هذا العملاق، ثم هجم عليه، فأخذ بولو من كتفيه عالياً وحمله وهو يزمجر إلى خارج الصالون.
" أحترقت حتى أضاء جسدها قالها وهو يحمله ويدخل الباب المؤدي إلى الممر، فقابله الهواء الساخن. النيران قد بلغت إلى مكانه، وكانت عينا الجيرا تدوران في محاجرها بجنون، وقد شل كل حركة دفاعية أبداها بولو الذي بدأ يزعق ككلب بينما كان معلقاً بسهولة بين الذراعين الهائلين باولو الجيرا وكأن لا ثقل له البتة " أنت لم تشاهد ذلك سيد بولو ".
****************************
أستمر حريق المجنع التسويقي أورجولهو يومين قبل أن يتمكن رجال الإطفاء من السيطرة على النيران وإخمادها، وعن ذلك كتبت الصحف: بركان وبحر من اللهب أنفجر في وسط العاصمة، وتسبب في اندلاع حرائق، ويظهر أن إدارة الإطفاء لم تتمكن حتى الآن من الوصول إلى الطوابق العليا، لذلك يتعذر مكافحة النيران في الأدوار الأخيرة التي قضت تماماً على المجمع التسويقي للسيد بولو، وقد استخرجت حتى الآن 347 جثة من بين الأنقاض والركام التي يمكن بالكاد التعرف على أصحابها، كما قذف 23 شخصاً بأنفسهم من الطوابق العليا ولاقوا حتفهم، ومن بين الرجال الذين تم التعرف عليهم لحد الآن من الجثث المحترقة، ربما أن أحدها تعود للسيد بولو، ويفترض رجال الشرطة أن سبب الحريق الذي وصف بالكارثي، هو عمل تخريبي، والأكبر في تاريخ البرازيل.
ولم تخمد ألسنة الحريق إلا في اليوم الرابع، إذ ما زالت شرارات تنبعث وتسبب حريقاً جديداً، والآن بدأت أعمال التنظيف ورفع الأنقاض.
وعثر رجال الشرطة والإطفاء على السلم الحجري بين العمارة والمجمع التسويقي على جثتين متفحمتين تماماً، مستلقيتين قرب الجدار متلازمتين، ويقدر المختصون أنها جثة أب كان يريد إنقاذ أبنه، ولكن الطب العدلي يؤكد أنها جثتين لرجلين بالغين، أحدهما طويل القامة، ضخم، والآخر متوسط الطول.
يتعذر القول أكثر من ذلك، وقد دفنت جميع الجثث المجهولة الواحدة قرب الأخرى وعلى الصلبان التي كانت من الخشب البسيط كتب ويا للسخرية: " صديقان " .
كانت الغرفة التي خصصت للأب دي سيتا في السجن العسكري تقع بالقرب من الزنزانات تحت الأرض، وكانت نافذتها تطل على حوش صغير ذات أرضية قوية، وكان ستة جنود يعملون أمام جدار مرتفع من الطين الأصفر، يدقون أعمدة خشبية في الأرض بطول رجل.
وقف جبهارت على الشباك وتطلع إلى الحوش، ومن خلفه جلب القس دي سيتا قدحين وقنينة روم من دولاب قديم مزعزع الأركان.
" ألا تريد أن تجلس سيد كارلوس ؟ " سأل القس وهما لا يستطيعان تجاهل أعمدة الإعدام ويشاهدان عملية دقها أمامهما.
أخفض جبهارت رأسه ولكنه ضل واقفاً على الشباك " إنهم سيكونون عندك " سأل بصوت منخفض.
" نعم " وتناهى إليه صوت سكب الروم في الأقداح " هذه بالنسبة لكل قس واجب مكروه ولكن لابد منه، ماذا يتعين الحديث مع المحكوم عليهم بالموت ؟ إن الله يحبهم ؟ أن العدالة الحقيقية هي في السماء ؟ .. إن هذه الحياة هنا على الأرض محطة مؤقتة، وأن الحياة الحقيقية لا تنتهي قط ولا حتى برصاصات فصيلة الإعدام، ولكن على الرغم من ذلك، فقد قمت متطوعاً بتقديم نفسي لهذه المهمة وللدقائق الأخيرة من حياة المحكومين ".
" هل هذا واجبك أيها الأب ؟ ".
" ليس هذا فقط، لذلك أردت أن أتحدث معك دون إزعاج يا سيد كارلوس " جاء القس إلى الشباك وناوله القدح وفاحت رائحة الروم بشدة، فأخذ القدح وأفرغه بجرعة واحدة، فأحس بأنه يريد أن يسعل " بعد الإعدام سوف أذهب إلى المجاميع العمالية الجديدة التي سوف تعمل في الغابة، وبناء على نصيحتي فقد تم اتخاذ العديد من المبادرات مثل صندوق الكنيسة ". ثم تناول القس دي سيتا قدحاً آخر وأفرغه دفعة واحدة وأضاف " أما العاهرات فقد كان حظهن الأوفر بين الجميع، فقد حصلن على سيارتي باص مجهزة كاملة وبأجهزة تكييف، وكذلك ثلاث باصات / بار جوالة، ولكن الكنيسة لم تحصل على سيارة، لذلك فأنا ما زلت أركب دراجتي البخارية القديمة، وسأكون مثلك في الصفوف الأمامية ".
" وهل تعتقد أن المومسات لا ينبغي أن تكون لهن فرصة ؟ ". أبتسم جبهارت بسخرية.
" حظاً ... أكيد " وأخذ القس القدح الفارغ من يد جبهارت وذهب إلى وسط الغرفة " لا يعيش الإنسان من الطعام لوحده، فلابد له أن يتكلم وأن يعبر عن نفسه، وأن يحرر ذاته، وهو ينتظر أن تقابل رغباته بالتفهم، ولذلك أنا هنا، أنل سأتفهم كل واحد، إن الكتاب المقدس يحتوي على أفكار اشتراكية كثيرة ".
" أيها القس " والتفت جبهارت إليه ببطء، كان القس يقف خلف الطاولة، سكب الروم مجدداً في الأقداح وأبتسم " أنت تريد بثوب قسيس أن .... يا إلهي ".
" " كم نفهم بعضنا جيداً يا سيد كارلوس، الكنيسة لم تنم بعد في هذه البلاد ".
" إنك واحد من القساوسة الحمر ؟ " قال جبهارت بصوت منخفض " أيها الأب، بإمكانهم أن يعدموك أنت أيضاً ".
" لماذا تقول أنت الآخر كأعدائنا .. الحمر ! .. لماذا لا تقول، قس من أجل البشر ؟ لقد كانت غلطة الكنيسة في عالم ممزق معذب، يصلون ويتحدثون عن عالم الخير، إن الحديث مقبول عن عدالة السماء وانتظار الجحيم على الأرض، نحن القساوسة الشبان نرى ذلك، المسيحية يجب أن تكون سلطة لتحقيق النظام، نظام العدل لجميع البشر، هكذا نفهم نحن مهمة المسيحية، أذهب إلى جميع العالم، وما شأن الحمر بهذا أو مع الثورات التي تدمر فقط، نحن نريد البناء ".
مد جبهارت يده إلى قدح الروم وأفرغه بجرعة واحدة، ولكنه لم يسعل هذه المرة " الفلاسفة النظريون كانوا بالنسبة للكنيسة الطفل المدلل، كيف تتصور الواقع العملي أيها القس ".
" إنها تطرح نفسها لوحدها، عندما يقف المرء في الخط الأمامي، التي يعمل المرء فيها وبيده المشرط ".
" وهل تريد أن تأخذ مكان سنتالوس " سأل جبهارت بدهشة.
" نعم ".
كانت هذه إجابة واضحة تغني عن أسئلة أخرى، والمرء ينظر لنفسه ويعلم فجأة أن هناك صديقاً أمامه.
" ولكن نورينا .." قال جهارت بتأثر " هل تعتقد أنهم سيعدمون نورينا رمياً بالرصاص ؟ ".
" كلا أنهم سيحكمون عليها بالسجن لمدة عشرين عاماً، وهذا في بعض الأحيان أسوء من الموت السريع ".
مضى القس صوب النافذة وأغلقها، فضربات المطرقة التي كان الجنود يدقون بها أعمدة الإعدام على الأرض لم تعد تحتمل. " هل تحب نورينا ؟ ".
جمدت نظرات جبهارت على القس كما لو كان قد ضرب " هل تسألني ذلك ؟ ".
" أتحب نورينا هكذا بلا حدود، وتقبل تحمل أس خطر بسببها ؟ ".
" ألم أثبت ذلك ؟ لقد كنت في المذبحة الوحشية إلى جانبها، كما تقدمت برجاء أن يعاملوني مثلها ".
" بطولة كهذه لا فائدة منها، وأنت لست بطلاً، وأنت تعرف ذلك بدقة سيد كارلوس، هل تعتمد على نفسك بتحمل المشاق، على الأقدام، إذا كان الأمر لا بد منه على الحيوانات في الفرار عبر الغابة ؟ عبوراً إلى بارغواي عبر جحيم ماتوكروسو الرطب ؟ ".
" لماذا ".
" مع نورينا أيها الأحمق ".
" مع ..." دق جبهارت بقبضته على الطاولة " أيها القس إذا واصلت الحديث معي هكذا سأحطم لك جمجمتك "
" وهذا أيضاً ليس بمقدورك " دس الأب دي سيتا يده في جبته وأخرج خارطة من برازيليا فصاعداً، الطريق من كيرس عبر الجحيم الأخضر إلى حدود بارغواي، طريق لا عودة فيه، فقط الوصول إلى الهدف أو الأفول. " أنت لديك تجارب الغابة كارلوس، وهذه ستساعدك، وعدا ذلك، هناك الرب فقط .... وقواك الذاتية ".
وبحركة يد قال " وكيف سيكون إخراج نورينا من هذه الحفرة تحت الأرض ".
" عدا الحراس، أنا الوحيد الذي أستطيع الوصول إليها، متى ما شئت ذلك ".
" هذا إذا لم تمتنع نورينا، أنت لا تعلم كم رجوتها أن تهرب معي ".
" دع ذلك لهدوء قس مثلي ".
" ولماذا نورينا بالذات ؟ ".
" هل تريد أن تهرب مع سنتالوس ؟ ".
" متى ؟ " سأل جبهارت وقد بدا عليه صعوبة التنفس.
" بعد صدور الحكم ".
يوم الاثنين صباحاً، ستبدأ عمليات الإعدام ".
" إنهم سوف لن يحكموا على نورينا بالإعدام، إنها ستنجو من ذلك لأنها إمرأة. في انتفاضة عمال الطريق نعم، في القتال قتلوا نسوة، ولكن الآن، هكذا بدون سلاح في اليد، وبضعف أمام جمال المرأة، حتى لو كان جمالاً خطراً، الأمريكي الجنوبي لا ينسى أنه هيدالكو (ضرب من قصة بطولة وفروسية ـ Hidalgo) لننتظر ذلك ".
" ثم بعد ذلك ؟ ".
" الذين سيعدمون سوف ينسون بعد شهر، لم يعودوا شيئاً مهماً، هذه هي اللحظة الصحيحة ".
" ولا تنسى حتى أنا سأوقف كسجين ".
" من اليوم فصاعداً لن يحدث ذلك، وأنت بوسعك أن تتحرك في المحكمة العسكرية بحرية، أنت تعلم أنك سوف تبعد إلى ألمانيا ".
" نعم، والسفارة الألمانية لعبت دورها ".
" السياسة ! العلاقات الاقتصادية الجيدة ! سوف تتعرض للغسيل مما علق بدماغك، لقد جئت إلى هنا كممثل لشركة ألمانية، وتدخلت في الشؤون الداخلية البرازيلية ".
" إنني سوف أطرق على رأس كل من لا يفهم الحقائق ".
" أنت مغفل " قالها القس دي سيتا وأبتسم بنعومة كما لو أنه سامح على خطيئة " إنك سرعان ما ستكون إنساناً وحيداً، أهتم بنورينا، حبها وأعملوا أطفال حلوين، إنك ستكون مهندساً جيداً، هذه مسؤوليتك وصوتك الوحيد في ألمانيا يوف لن يفيدنا كثيراً ".
بعد ذلك بساعة، كان جبهارت يجلس مرة أخرى أمام العقيد على نفس الأريكة، وقدمت إليهم أكواب شاي ذي رائحة زكية بكل أدب وترتيب.
" ماذا فعلت مع نورينا سامازينا سيد كارلوس ؟ " سأل العقيد فيما كان يعض على السندويتش " منذ أن غادرتها وهي تبكي إلى حد الآن، إنها بدموعها أضعفت قلوب ضباطي في المحكمة العسكرية الخاصة، اللعنة كنت أريد أن أوفر عليها السجن، عمود الإعدام كان سيكون أفضل لها "
في هذه اللحظة شعر جبهارت بالكراهية كما لم يشعر في حياته.
للراغبين الأطلاع على الحلقتين السابقتين:
http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/18778-2015-09-06-19-23-54.html
2178 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع