طريق إلى الحرية ... بقلم:هاينز كونزاليك
ترجمة/د. ضرغام الدباغ
العنوان الأصلي للرواية باللغة الألمانية:
Strasse in die Hölle
المؤلف.......:
Heins G. Konsalik
صادرة عن..:
Wilhelm Heyne Verlag , Mümchen
الطبعة......: 18
السنة.......: 1989
الكاتب : سيرة ذاتية
ولد هاينز كونزاليك في 28 / مايو / 1921 في مدينة كولن (Köln) وسط ألمانيا، وتوفي في 2 / أكتوبر / 1999 في سالسبرغ بالنمسا ودفن في مسقط رأسه، درس في كولون وميونيخ وفيينا، درس العلوم المسرحية وتاريخ الأدب واللغة الألمانية، وقد خدم كونزاليك أبان الحرب العالمية الثانية على الجبهة السوفيتية حيث أصيب بجرح بليغ.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عمل في البداية كمدرس للدراما، وفي الصحافة، ثم تفرغ للكتابة منذ عام 1951، ومن أهم أعماله طبيب في ستالينغراد، السماء فوق كازاخستان، ناتاشا، ليالي الحب في تايغا، وقد بلغ العدد المطبوع من مؤلفات كونزاليك في جميع أرجاء العالم أكثر من 60 مليون نسخة.
كونزاليك كاتب غزير الإنتاج، قدمت بعض أعماله في السينما.
إهداء
إلى مناضلي الثورات الشعبية في وطني العربي وكافة أرجاء العالم
أهدي هذا العمل المتواضع
الحرية قضية واحدة لا تتجزأ
سلاماً لمحبي شعوبهم ومن يفتدونها بحياتهم
سلاماً للأبطال
مقدمة
كنت في أواسط التسعينات قد قمت بترجمة روايتان من أدب المقاومة الألمانية لأثنين من الكتاب الألمان، الذائعي الصيت وهما: كلاوس مان(Klaus Mann)، وهارالد هاوزر(Harald Hauser)، آمل أن يشاهدا النور في أقرب فرصة ويوضعان تحت أنظار الجمهور. وبطريق الصدف ووسط ظروف موضوعية لا توصف بأنها جيدة، وقعت على مجموعة من الأعمال الأدبية الألمانية، واستطعت بسهولة أن أتبين أن هذه الرواية التي بين يدي القارئ الكريم هي أفضلها ووقع اختياري على ترجمتها.
تدور أحداث هذه الرواية في أدغال الأمازون في البرازيل، وعن انتفاضة عمالية. والمؤلف يسند دور الراوي لمهندس ألماني يعمل كاستشاري لشركة برازيلية تعمل على شق طريق يمتد من مدينة كيرس إلى مدينة ريوارغوايا، والشركة البرازيلية، ومن أجل جني المزيد من الأرباح كانت تستغل ألاف العمال وتضطهدهم وتصادر حقوقهم، فتنضج كنتيجة لذلك ظروف أنتفاظة عمالية شأنها كشأن أنتفاضات لا حصر لها في تاريخ الحركات العمالية والتحررية والثورات المغدورة في العالم الثالث التي في تصاعدها وتراكمها تزداد خبرة وتمرس في خوض نضالات التحرر الوطني، مع نتائج أخرى جانبية أكثر وضوحاً في تعمق الأزمة الإنسانية فيتلك المجتمعات وتسلط ديكتاتوري يسفر وبخلف ضحايا وقصص بطولة.
ولست واثقاً إن بوسعنا أن نعد هذه الرواية من أدب المقاومة، فمؤلفها ليس ببرازيلي حيث تدور الانتفاضة، كما أنه لم يكن عضواً في الحركة الثورية، أو الانتفاضة بمعنى أدق، بل أن موقفه منها وهو التقني الأوربي، موقف ليبرالي. ففي الوقت الذي يدين فيه صراحة النظم الديكتاتورية ونظم التعسف وحكومات الأقلية التي تملك المال (الأوليغارشية)، أو الحكومات الكومبرادورية التي هي امتداد طفيلي للاحتكارات الرأسمالية العالمية ومتربولاتها، إلا أنه ومن موقفه الليبرالي لا يستطيع إدراك قوانين تراكم التناقضات واحتدامها وأخيراً انفجارها. فرغم أنه يقدم تأييده للنضال التحرري، وينتقد أٍساليب الحركة الثورية، ولسنا هنا بصدد مناقشة أراء المؤلف التي سيطالعها القارئ واضحة في سطور الرواية، بل إننا مهتمون بتصنيف هذا العمل الأدبي الهام، وهي رواية شاهد يعرض فيها المؤلف عرضاً لأفكاره وأحداث انتفاضة ثورية، وهو لا يستطيع إدراك التفاوت الكبير في الموقف الاجتماعي والاقتصادي بين بلاده ألمانيا أو أوربا الغربية وبين البرازيل وعموم أميركا اللاتينية وخصائصها المتميزة.
ولكن الرواية هي من أدب الثورات، والكاتب على لسان شاهده المهندس الألماني يعبر في مناسبات عديدة بأنه لا يفهم مفردات كثيرة عن مجرى النضال وخطوطه السياسية والفكرية والنضالية العملية، وذلك يعكس الطبيعة الخاصة لنضال حركات التحرر في الأقطار النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
فنحن إذن أمام رواية تتحدث عن أحداث ثورة بضمير الشاهد، ضرب من ضروب أدب الثورات قدم فيها هيمنغواي رواية لمن تقرع الأجراس، وأندريه مالرو في رواية الوضع البشري، وكذلك روايته الأمل، وبرغم أنني لا أريد بأي حال أن أقارن بين هذا العمل وتلك، ليس فقط بسبب اختلاف مستوى الأدباء فحسب، بل والتجربة الثورية والإنسانية بأسرها، والحدث الإنساني الذي مثل العقدة الدرامية للرواية.
والمؤلف لا يريد أن يصدر حكماً غيابياً على أطراف الصراع، بل هو يدع أبطال روايته يجرون الحوارات فتدور شيقة زاخرة بالحجج، والكاتب يريد أن يكون حيادياً، فهو يدع أبطال روايته حتى رجال الأمن ومؤسسات السلطات الحكومية بعرض وجهات نظرهم، ويسعى للحفاظ على حياديته وقد أفلح في ذلك إلا قليلاً، فهو وإن عبر عن شجبه لقمع الفاشيات العسكرية والأنظمة الديكتاتورية والأنظمة البورجوازية العليا المتحالفة مع كبار ملاكي الأرض والفئات المهيمنة على الفعاليات الاقتصادية وهي من أذرع الإخطبوط الرأسمالي العالمي، بيد أن المؤلف لم يستطع أن يستوعب قوانين الثورة ولم يضع نفسه في معسكرها، وإن أن أبدى تعاطفاً كبيراً معها، فنحن إذن أمام شهادة، وربما شهادة مهمة لأنها صادرة عن كاتب ليبرالي يضع على أفواه أبطاله لا سيما المهندس الاستشاري الألماني شعارات ومفردات موقفه السياسي والاجتماعي.
ويعرض الكاتب ببراعة موقف الثورة، فقائد الثورة يقول (ص106) " إنهم لا يستطيعون تجويعنا بعد أكثر، وعندما ستهدر القنابل والمدفعية الثقيلة سنكون قد أوقدنا شعلة الحرية في كافة أرجاء الوطن.لا يمكن إيقافنا.. البرازيل قد أفاقت ".
والدكتور سنتالوس بحديثه هذا لربما يدرك بذكائه وهو رجل مثقف أن معركته خاسرة على المدى القصير، ولكنها رابحة على المدى البعيد، إن إستراتيجية حرة التحرر في مواصلة النضال الدامي وانتزاع المكاسب وبالتالي الانتصارات من أيدي خصومهم لن يتم إلا عبر أشلائهم ونضالهم هو الوحيد الذي ينهي عبوديتهم وهذا الموقف النضالي لا يعبر عن اليأس أو التورط، فهذه حسابات سياسية تقليدية لا يتعامل بها الثوريون والمؤمنون بقوة الشعب وإرادته.
بل أن قائد الثورة واع للمشكلات التي تصاحب العمل الثوري واحتمالات الإخفاق بقوله (ص 107) " هؤلاء البشر الذين تركوكم لوحدكم هل يستحقون ذلك ..؟ " هو موقف يعبر عن وعي عميق بالقوة الكامنة لدى الشعب، فهو ينظر إلى جماهير الانتفاضة " وهل بوسع أحد إيقاف مسيرة هؤلاء، لقد أشتعل البركان، دعه يندلع إلى أن يتداعى نهائياً ".
ويبلغ هذا الوعي ذروته عندما يوجه الشاهد اللوم إلى قائد الثورة بأن الانتفاضة لا تجد استجابة في أي مكان، وإن الناس سينسون تضحياتهم، ومشاهدة مباراة بكرة القدم هي أهم من نضالهم وموتهم، فبجيب قائد الثورة: " هناك أعمال فردية لدعم الانتفاضة ولكن حتى قيام الانتفاضة العظمى والثورة سنكون نحن القدوة " فيسأل الشاهد وهل يستحق ذلك الموت هكذا بعذاب ؟ فيجيبه " نعم، فبدون نموذج أعلى لا توجد هناك ثورة، هل كانت ستوجد مسيحية بدون مسيح معلق على الصليب ؟؟".
يردد الكاتب/ الشاهد في كثير من الصفحات أنه لا يفهم مفردات كثيرة في مجرى النضال، سواء في خطوطه السياسية والفكرية أو العملية وذلك يعكس دون ريب الطبيعة الخاصة لنضال حركات التحرر في الأقطار النامية.
ومن جهة أخرى تقدم لنا هذه الرواية معلومات تطور ثقافتنا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدائرة في البرازيل الذي يعتبر من البلدان النامية المهمة، وعن بلدان أميركا اللاتينية بصفة عامة.
المترجم
أبو غريب / أواسط أيلول / 1998
1
كانوا يصرخون " العدالة ! عمل يليق بالإنسان ! ونريد أن ننام أيضاً ! " يحملون فوق رؤوسهم لافتات حمراء مشدودة إلى جذعي شجرتين من أشجار البامبو، وبعبارات ثقيلة مليئة بالأخطاء، مستهلكة، مهلهلة تدل على بدائيتهم، وعندما نحاول هنا أن نحولها إلى اللغة الألمانية: العدالة بتمديد حرف آ إلى أي لتصبح عدالي، أو كلمة نريد بتعميق حرف ي. كانوا يسيرون عبر المخيم بجموع كثيفة متلاصقين وكأنهم يخشون أن يتفرقوا عن بعضهم البعض، ولذلك ينبغي عليهم أن يبقوا متماسكين ليحافظوا على شجاعتهم، وليفتحوا أفواههم لغرض غير تناول الطعام والشراب.
كان لويس جيزوس جالساً في إحدى البراكات * واضعاً قبضته على رشيش (مسدس رشاش، غدارة) ملئ بالذخيرة، الجدران التي كانت مغطاة بخرائط تفصيلية لمشروع العمل، وسبعة من مراقبين العمال يقفون شاحبين دون حراك يبدو عليهم القلق، وكان رتل التظاهرة العمالية قد وصلت الآن إلى إدارة المشروع وأحاطوا بها كسياج بشري رؤوس وأفواه مفتوحة، فيما كانت اللافتات ترفرف فوق رؤوسهم في الهواء.
" العدالة وأوقات عمل معقولة، وطعام أكثر لنأكل نحن أيضاً بشر " زمجر الرجال.
" أسمعوا ... أسمعوا ما أقول " قال لويس جيزوس أريراس وأطل من النافذة، كانت طاولة مكتبه مليئة بالجداول والتخطيطات وقوائم الأجور وتقارير" لقد تحول النمل عندنا إلى وحوش يريدون أن يعضوا ..! ".
" إنهم يريدون مهاجمة البراكة " قال أحد المراقبين بصوت منخفض.
" أبداً " قال أريراس وهو يهز رأسه وأردف " أنهم يعلمون تماماً بأنني سأطلق النار، وأنتم ستطلقون النار كذلك" ثم بصق من فوق الطاولة باتجاه النافذة " إنهم جميعاً كلاب جبناء لهم أنوف طويلة ".
" لا أعلم لويس " قال أحد مراقبي العمال وهو يحك برأسه " منذ أسابيع وهناك شعور كما لو أن بركاناً سيندلع حالاً، بركان يمور في الأعماق، التموين ليس ناجحاً، المستوصف السيار لم يأت، الأجور لم تدفع إلا نصفها، ولكن الكد يتواصل في ورديات تبدأ من الفجر حتى المساء وبالعكس، وهذا ما لا يتحمله حتى الخنزير ".
" ألأسس عندكم وكل ما تحتاجونه، ها ..؟ " نهض أريراس ومضى صوب النافذة، وما كاد المتظاهرون يشاهدونه، حتى علا صوت الصراخ والزعيق والصفير، ورفعوا قبضاتهم مهددين.
" كان عليكم أن تكونوا سعداء، ذلك أنكم تعيشون جيداً، أي مخلوقات أنتم ..؟ مهجنين .. خليط من هنود وزنوج، لقد أخرجناكم من القاذورات وها أنتم تريدون بعد حقوق ..! ألم تأتيكم قبل أربعة عشر يوماً العاهرات من برازيليا (العاصمة)، الشراهة والسكر والنساء، هذه هي حياتكم وفجأة تصبحون عنيدين وجموحين ".
أستند أريراس على حافة النافذة وأطلق ضحكة على الجموع المزمجرة، ثم تناول رشيشه من على منضدة الكتابة، وركزه أمامه على حافة الشباك وقال " انتبهوا لا تقتربوا أكثر، بوسعكم أن تصرخوا ما شئتم، وإذا كانت القحاب قد أصابوكم بالملل، فهذا شأن شخصي، ولكن خطوة واحدة أخرى نحو عتبة البراكة، فإني سوف أوفر أجور البعض منكم..! ".
ساد الصمت في الساحة أمام إدارة العمل، وكفوا عن الصراخ، مئات العيون كانت تشخص صوب النافذة، وكان الصمت المفاجئ مهيباً، وكانت اللافتات تلوح وكأنها طيور متعبة في الريح.
" لا تخافوا " هب صوت عميق " إنهم بحاجة إلينا سوف لن يطلقوا علينا النار، كل ذراع من أذرعنا مهمة لهم وإلا فإن عليهم قطع الأشجار بأنفسهم، ودك الأرض وتصفيف الحجارة وسكب القير (الزفت)، سيتعين عليهم أن يجوعوا ويعرقوا وأن يجلبوا المياه من الحفر وأن يمكثوا حتى الرقبة في المستنقع، لا تخافوا يا أصدقاء إنهم بحاجة إلينا..! ".
" ذلك هو باولو ألجير " قال أحد المراقبين " إنه يقود العمال ".
" أعلم ذلك " قالها أريراس وهو يعود إلى وسط الغرفة وكان وجهه العريض يبدو أكثر حدة وأكثر قبحاً ووحشية. كان أنفه المكتنز يلتمع وكان يتصبب عرقاً ولكن ليس كمراقبيه من الخوف، بل من الغضب الذي لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً حياله. " الجيرا موجود دائماً ..! " قالها وتطلع إلى الجموع، ثم إلى الرجال الصامتين الشاحبين حوله " لماذا لم يقع حادث له منذ فترة طويلة..؟ شيئاً كهذا يمكن تنظيمه على نحو طبيعي ".
" هذا في السابق، الجيرا قد أصبح الآن حذراً، وعدا ذلك فإن الألماني يقف إلى جانبه ".
" الألماني..؟ " وضرب أريراس المنضدة بقبضة يده " أين هو هذا ..؟ هل هو يتظاهر معهم..؟ يجوز .. ! سجل عندك عدد الساعات التي خسرناها ومضت هدراً، إنها ستخصم من رواتبهم بالتأكيد، كما أنا متأكد من مؤخرتي ".
كان الوضع قد أصبح حرجاً، وأريراس أدرك ذلك، وهو لم يمنع خياله من السيطرة على الموقف بالكلمات القوية، وما يحصل هنا في أعماق الغابات البرازيلية الكثيفة كان أمراً طبيعياً، ولكن لم يأخذ أحد الخطر على محمل الجد.
منذ سنة كاملة وهم يشقون هنا طريقاً إلى الجحيم، ويعبدوه، بوحشية لم يعهدونها من قبل حتى في سبيريا، قال المهندس الألماني كارل جيبهارت مبرراً ومواسياً سقوط الكثير من القتلى، حتى في أيام الأحد كان العمل في الطريق يتواصل، الطريق بين برازيليا (العاصمة) والغابات المترامية الأطراف المسماة ريوارغوايا.
وكان هناك طريق من العاصمة حتى مستوطنة الغابات الاستوائية كيريس، ومن كيريس يتواصل العمل حتى الغابات الأزلية التي تتحدى الإنسان، وقد حققوا بضعة كيلومترات وعنها بوسع المرء أن يقول: هنا يستطيع المرء أن يتوقف، ولكن بعد ذلك أيها الأصدقاء، يبدأ الجحيم الحقيقي على الأرض.
الغابة تتألف من أشجار عملاقة ومتحجرات وأدغال متشابكة تشكل ما يشبه الجدار، ثم شبكة من جداول صغيرة وكثيرة، والتي تنتهي دائماً في مصب نهر آخر ثم يعود ويتفرع منه مرة أخرى جداول، وبينها الأرض رخوة وطينية. إنها غابة بكر لم يطأها إنسان من قبل ولا حتى الجيولوجيين أو المساحين أو رسامي الخرائط أو المهندسين أو الموظفين الحكوميين وسائر المستخدمين، وذلك بسبب عدم وجود فسحة تصلح لهبوط طائرة، ولكنهم على الرغم من ذلك فقد وضعوا على الخرائط التي صممت بناء على الصور الجوية، تأشيرة هي عبارة عن خطين متوازيين بلون أحمر.. ذلك هو الطريق...!
" من كيريس حتى ريوارغوايا، هنا سيشق الطريق باستقامة..! ولكن لماذا إذن لدينا المكائن ؟ تهوي الأشجار العملاقة ثم تقطع وتسحب بعيداً، لدينا الحفارات ؟ والقاشطات وآليات الحمل الثقيلة والمتفجرات والمضخات وخلاطات الاسمنت ؟ وقبل كل شيئ لأي غرض هم البشر ؟ بشر بما يكفي، بشر بوسعه أن يجوع وأن يكون سعيداً عندما ينال بضعة قروش فحسب ! بشر لم يألفوا الحياة المريحة كما في أكواخ العمال في معسكر شركتنا، وبهؤلاء البشر وبمكائننا سوف ننتصر على هذه الغابات اللامتناهية الغامضة المعادية كأنها الجحيم ".
لابد من شق هذا الطريق، فالغابة ثرية وبوسعها أن تجعل البرازيل ذات يوم مستقلة عن حسنات وصدقات الدول الأخرى. ففي أعماق هذا الجحيم الأخضر والذي لم تكتشف ثرواته بعد ولم تمس، من الأخشاب النادرة الثمينة، بالدرجة الأولى أخشاب (مهاكوني ـ Mahagoni)، وهناك أيضاً أشجار المطاط الأصلية، وبتقدير الخبراء الجيولوجيين هناك منجم للأحجار الثمينة، وبذور للأزهار النادرة تنمو هناك في كل مكان والتي تعادل الذهب.
الطريق ....! كان الحلم والمستقبل معاً، إنه شريان حياة جديدة والتي من خلالها يسيل الدم الفائض من الغابة الأزلية لتمنح الحياة إلى الأجساد البرازيلية المتداعية، الطريق الذي يقطع جزء من الأرض ويقود إلى الحلم الكبير: من ريو دي جانيرو إلى الأمازون، المشروع الكبير للبشرية.
لا أحد سيعلم فيما بعد، أن هذا العمل الكبير قد شيد بالدماء والدموع، سيشاهدون هذا الشريط العريض (الطريق) الممتد دون أن يلاحظوا القبور على يسار ويمين الطريق، قبور الذين سيرقدون إلى الأبد في هذه الغابة الفضيعة.
" هاهو قد جاء " قال أريراس، وأومأ بإشارة من رأسه إلى خارج النافذة.
توقفت سيارة لاندروفر ملوثة بالطين بحدة إلى جانب براكة إدارة المشروع فهبت زوبعة رذاذ طين من الهواء الساخن، وأصابت المتظاهرين ولكنهم لم يغضبوا ولم يصرخوا أو يطلقوا الشتائم، بل كانوا يصفقون، فيما التمعت وجوههم المتقلصة.
" الآن يمكن ملاحظة ماذا يمثل بالنسبة لهم ..! " قال أريراس بغضب " أنهم يتعاملون معه على أنه زميل لهم، لنر ماذا سيقول بهذا الصدد ".
ومن السيارة، قفز رجل نحيل طويل القامة يرتدي سروالاً عسكرياً قذراً، ممزقاً عند الركبة وحذاء ذا رقبة طويل تقريباً بلون شبه بني، ويضع على رأسه ذو الشعر الأشقر الطويل قبعة شمسية (كاب) بلون أخضر زيتوني كالذي عند أغلب العمال، ذات حافة طويلة فوق الجبهة لغرض الحماية من أشعة الشمس، خلعها من رأسه ومرق إلى باب البراكة، وضرب بقبعته بضع بعوضات كانت قد حطت على ذراعه المتعرق، وكان قد رفع أكمام قميصه إلى الأعلى، والسترة الخفيفة التي كان يرتديها مفتوحة إلى نصف صدره، وعدا حذائه الطويل الرقبة، ووجهه الأوربي، لم يكن يبدو إلا واحداً من العمال.
" لقد جئت في الوقت الصحيح يا سيد كارلوس " قال لويس جيروس اريراس عندما دخل جبهارت إلى الغرفة، ودفع الباب خلفه بقوة " إذا كنتم تريدون التبرير والشكوى، فهنا ليست جبهة وليسوا بجنود، أسأل صديقك العزيز باولو الجيرا، فهو الذي يحرض العمال على الإضراب ".
" لقد بلغ السيل الزبى أريراس لسماع ملاحظاتك الغبية " ثم ألقى لمحة سريعة على الرشيش المعبأ بالذخيرة على طاولة الكتابة، وهز يديه بحركة وألقى به على الأرضية ذات الألواح الخشبية، وكان أمراً عجيباً إذ لم ينطلق السلاح " وعدا ذلك فقد منعت وضع أسلحة محشوة بالذخيرة على طاولتي، ماذا تفعل هنا في مكتبي ؟ ولماذا لست في البراكة الخاصة بك ؟".
أبتسم أريداس ابتسامة مزيفة، فيما كانت عيناه تشعان غضباً " وهل كنت مرة يا سيد كارلوس هنا ؟ أنت هناك في الموقع تتعامل دائماً بسرعة وبوقت قصير ".
" بدونك ..؟ .. كيف بوسعك أن تظل واقفاً ؟ " جلس جبهارت وراء طاولته.
" أنا لم أكن هناك " رد اريراس بشعور من الكراهية.
" وأين كنت ؟ عند روزالين في المبغى ؟ ".
" كنت في محادثات مع مراقبي العمل عندما جاءت جموع المتظاهرين، ولكني كنت قد تلقيت تحذيراً، بواسطة اللاسلكي حيث تم إبلاغي بما يعده هذا الخنزير الجيرا " ثم دس اريراس يديه بحركة تظاهرية في جيب سرواله. والبرازيلي لا يسمح لنفسه أن يدار ويقاد من قبل أي أجنبي، حسناً الألماني كان مهندساً، والحكومة قد عينته هنا وعهدت إليه إدارة المستخدمين، ولكن ماذا سيكون عليه بدونه، وبدون مراقبيه، ترى هل سيكون بوسعه أن يتصرف في هذه الغابة الغامضة لوحده، أو أن يعمل في هذا الطريق المار عبر الغابة ؟ .. فبدون لويس جيروس أريراس فإن قيمة هذا الألماني ليست أكثر من بعوضة، وكان عليه أن يستوعب هذه الحقيقة ويقر بها ..!.
" ماذا تريد أن تفعل سيد كارلوس ؟ " سأل مطالباً، وأستطرد " طلب مساعدة عسكرية ؟ ".
" كلا ".
" هل تستطيع أن تستغني عن طلب الدعم ؟ هذا غير معقول بالمرة ..!".
" أليس للعمال هنا حق في ذلك ..؟ ".
" هذا ما كنت أنتظره منك " وقد لاحظ اريراس الاستحسان على مراقبي العمل، ولكن الرجال غالبوا صمتاً ران عليهم " هل تنحنون أمام مطالب الغوغاء ؟ .. إن هؤلاء لم يعيشوا بأفضل مما يحيون الآن، ونقود أكثر ..! وماذا يفعلون بنقودهم ؟ .. يسكرون ويذهبون إلى المواخير أكثر، وإذا كنا نحتاج إلى مستوصف سيار، فذلك سيكون فقط لأجل منحهم وصفة السيلان، أنا أعلم أن العمل صعب ".
" إنها مطلبهم الحالي، وحدودها الموت " قالها جبهارت بصوت عال.
" هذا ما ستجلبه الحكومة والسيد بولو ".
وبرغم جميع الإصلاحات فإن البرازيل ما زالت حتى اليوم تحكم من قبل بضعة عائلات يديرونها سراً بأموالهم وبنفوذهم وبسلطتهم في الاقتراض وبعلاقاتهم وجشعهم. والسياسة أمام البرلمان ليت تمثيلية تعرض على الرأي العام، ولكن لا أحد يعلم ماذا يدور خلف الأبواب المغلقة في الصالونات والمكتبات، وعلى الشرفات العالية المستندة على الأعمدة في الفيلات البيضاء الفخمة، وفي بارات القصور. ولكن كل فرد سيشعر إن عاجلاً أو آجلاً في أحشاءه أنها سلطة المال التي تحكم لا شيئ يقدر أن يزيحها، لا بواسطة الثورات ولا بالأفكار السياسية، لا بواسطة الكنيسة ولا بواسطة إصلاحات، أبطال الشعب يأتون ويذهبون، ولكن الثروة تبقى، لا بل وحتى الغابات الأزلية تنحني لها.
هيرمانو سانتوس بولو كان واحداً من هؤلاء الرجال الذين كانت أسمائهم معروفة لكل برازيلي، فهناك العديد من السوبر ماركت(الأسواق المركزية الكبيرة) تحمل أسمه، والفنادق الراقية تعود ملكيتها له، ولكل عمارة شاهقة تشيد في ريو دي جانيرو أو في برازيليا العاصمة، وفي ساوباولو أو في ريشينيا تجد فيها أصابع بولو. فهو يمتلك شركات البناء في كافة المدن البرازيلية، وهو يسيطر على أسواق القهوة وعلى تصدير الأخشاب الثمينة النادرة عبر مكاتبه وتزويد المدن بالطاقة(في ريو ساوباولو) والأحياء السكنية الجديدة وسكانها من الفقراء ويؤجرها لهم، فهو المالك، بالطبع من خلال رجال صنائع له، وعدد لا يحصى من بيوت الدعارة المزدهرة كما في باريس أو في هامبورغ.
عندما جرى التخطيط للطريق من كيرس حتى ريوارغوايا، علم بولو بذلك بوقت مبكر من خلال علاقاته في الحكومة وأسس شركة أطلق عليها " مؤسسة تعمير البرازيل " وقد ألتزمت الشركة أن تعين ألف وسبعمائة عامل، وتعهد بشق طريق عبر الجحيم الأخضر رونكادو وكانت صفقة مليارات، وأوقد السيد بولو للسيدة العذراء في كاتدرائية العاصمة برازيليا شمعة ضخمة، طويلة وشاهد البرازيليون ذلك جميعاً، فقد أمر بأخذ الشمعة بعد أن زارت روما الفاتيكان، إلى الكاتدرائية في المسيرة وبارك بنفسه الشمعة بدموع تتلألأ في عينيه.
ومنذ أن حصرت دائرة البناء الحكومية اهتمامها فقط بالأنباء القادمة من المكتب الرئيسي المركزي لبولو، عما يجري في مواقع العمل، كانت بالمقابل السيطرة والإشراف بعيدة المنال، أو من غير المستحب الحديث عنها، ولم يكن مهماً سوى: الطريق سيعبد وأنه سيكون جيداً، وأن زمن الإنجاز سوف لن يتم تجاوزه كثيراً، وستبقى التكاليف مستقرة وأنه يمكن الاعتماد على السيد بولو.
والآن هذا ...! ثورة في موقع العمل (V)، أي الجبهة المتقدمة بمقاييس العمل، عند الوحدات التي تعمل مباشرة بأجتثاث الغابة، عند الذين يفترسهم جحيم الغابة والمستنقعات، ويتساقطون كالذباب في الأجواء المسمومة كما في غرف الغاز (الإعدام بالغاز) والوحدات (مجاميع العمل)التي تتبعهم ومهمتها تسوية الأرض وسكب الزفت. كانت مهمتهم أسهل، إذ أنهم يواجهون أرضاً زالت عنها المخاطر، إذ أن الحيوانات الوحشية تكون قد فرت، والأفاعي قتلت، والقبائل الهندية المجهولة قد طردت إلى أعماق الغابات، فما كان أمامهم سوى طريق عريض طويل وسط أمواج من الخضرة.
إلى اليسار واليمين تشاهد القبور وقد وضع عليها الصلبان ويقف الرجال من الوحدات الأمامية بذهول يحملقون بالقبور عندما يحصلون على أجازة لبضعة أيام إلى المقرات الخلفية قادمين من موطن الشياطين، عائدين إلى المعسكر الرئيسي الكبير كالأشباح التي لا تعرف سوى الأكل بنهم والسكر، ينامون حيث هم يبددون القليل من المال الذي حصلوا عليه من بيوت الدعارة.
وكل شيئ هنا، الطعام والشراب، والمساكن والأسرة وحتى بيوت الدعارة والمومسات، كلها ملك السيد بولو.
" لدي تقرير إلى السيد هيرماندو بولو " قال كارل جيبهارت " إلى الشيطان، أن الأمر سوف لن يستقيم هكذا، فإن هؤلاء الرجال المساكين لم يعودوا يعيشون كالبشر فعلاً يا اريراس ..! فلدي هنا تسعة وأربعون مصاباً بالحمى، وهم بالكاد يستطيعون الوقوف على أقدامهم، ولكنهم على الرغم من ذلك يكدحون العشرة ساعات المقررة، لدي أثنان وعشرون جريحاً وليس هناك من يعتني بهم، هناك ممرض واحد فقط، وهو يجهل حتى القيام بالربط الصحيح، ويخفف الكحول الطبي بالماء ويكرعه ".
" أعلم ذلك، أعلم ذلك " قال أريراس بغير اكتراث " ولكن كيف سيكون بوسعك تغير ذلك ؟ التظاهرات لن تغير شيئاً، لقد رأيت بتبصر ضرورة طلب الحماية، وأن ترسل العاصمة لنا وحدة بوليس إلى كيرس ".
" هل تريد نشر الموت والضرب والقتل هنا ..؟ " صرخ جبهارت " شرطة وعمل عبيد تحت السلاح ! إن ما يحتاجه هؤلاء هو فقط ما وعدتم به لهم عند توقيع العقد، عمل ثابت، أجر كامل، قدر من الرعاية الطبية، خيم بدون ثقوب وناموسيات للوقاية من البعوض، وسائط عمل صالحة وخدمات! هل يأكل السيد بولو لمدة ثلاثة أسابيع الفاصوليا بزيت زنخ، ما لم يكن الرجال قد صنعوا بأيديهم فخاخ صيد الحيوانات لكانوا قد حرموا منذ أشهر من تناول اللحوم !".
" هل أنت الرئيس هنا أم أنا ؟ " رد عليه أريراس بفضاضة " والغريب هو فقط أن انتفاضة الرجال هذه قد حدثت بالضبط في وقت كان فيه المهندسين الآخرين موجودين في المقر الرئيسي في العاصمة، أنت فقط لوحدك هنا، فلماذا لا يزمجرون ..؟".
" هذا ما تعرفه بدقة يا اريراس " قال جبهارت ومضى صوب النافذة وتطلع عبرها، حيث كان العمال ما يزالون ينتظرون تحت لافتاتهم المهلهلة، يصدقون كالأطفال عندما يوعدهم المرء بكيس من جكليت (حامض حلو)، ولكنهم لا يحصلون في الواقع على شيئ من تلك الوعود، ولا حتى على أجورهم صافية(خالية من الاستقطاعات أو النواقص) من أجل ساعات العمل الضائعة، انه شيئ يبعث على التقيؤ ..!
" إنني هنا المدير الفني " قال جبهارت " ولكن بيدك أنت كافة التنظيمات، وعلي أنا أن أهتم بأن العمل يجري بصورة صحيحة، ولكنك أنت هنا من أجل أن نستطيع العمل، هيا أذهب خارجاً وأوضح للعمال لماذا لا يعطى لهم الطعام والأجر بدقة، أوضح لهم لماذا لا يوجد أحد يهتم بمرضاهم وجرحاهم ".
" بعد غد ستصل عربة المستوصف السيار إلى هنا " قال أريراس ومد يده إلى الحقيبة وأخرج منها دفتر ملاحظات " لقد استلمت موعداً ببرقية الدكتور ستيفانو سانتوس وثلاثة من الممرضين، ومساعدة طبيب أسمها نورينا ساماسينا، وهم الآن في كيرس ولا ينقصهم سوى بعض الصناديق التي ستأتي من العاصمة، وعدا ذلك، ستأتي معهم أربعة عاهرات جدد و....."
" وهذا ضروري فعلاً ...! ". قالها جبهارت مغتاضاً.
" أوه ... كم هو ضروري ذلك ..! " أكمل اريراس على الفور، وكان وجهه المنتفخ قد أكتسب هيئة الصدمة " بوسعك أن تأخذ النقانق من بين الخبز من أيدي الرجال، ولكن ستحدث عاصفة لو منعتهم عن النساء، نعم ذلك ما يقلقني ". وفجأة صرخ أريراس وهز ذراعه في الهواء " أتركوا قواكم لنساءكم، ولكن بعد ذلك تبكون وتتساقطون كالأكياس الخاوية. أنت إنساني جداً يا سيد كارلوس، وتفكر دائماً كأوربي ".
" إني أفكر كبشر " قال جبهارت.
" وحتى هذا لا يعترف به هنا " وأشار اريراس إلى الخارج، إلى الجموع المزمجرة من المتظاهرين وأضاف " إنسانية ..! تفضل وأسأل باولو الجيرا قائد هذه العصابة، ماذا يعرف عن الإنسانية، ماذا يسميه أصدقاؤه، الجيرا المجرم، ولماذا كان في السجن ؟ لأنه ذبح رجلاً لم يكن يعرفه من الأذن إلى الأذن، وهذا موجود في اضبارته الشخصية وبوسعي أن أعطيها لك يا سيد كارلوس ".
نهض جبهارت، ودفع اريراس عن طريقه وغادر الغرفة، يستطيعون الحديث بكلمات كبيرة وكثيرة، فكر بمرارة، شلال من الكلمات، ولكن لا شيئ يحدث في الواقع، في غضون يومين إذاً سيأتي المستوصف السيار، وطبيب ومساعدته، وثلاثة مضمدين، أي غباء هذا ..! ماذا سيكون بوسع مساعدة طبيب أن تفعل هنا في هذا الجحيم، سيدة من غير المسموح ملامستها بين مئتين وتسعة وثلاثين رجلاً من القتلة في هذه الغابة ..؟ وهم على استعداد لأن يقتل أحدهم الآخر إذا مجرد ابتسمت هذه الفتاة التي تدعى نورينا ساما زينا ..!
نورينا سامازينا، ياله من أسم، إذا كانت فعلاً جميلة كرنين حروف أسمها، آنذاك فليرحمنا الرب. هز رأسه وغادر البراكة. زحف العمال صوبه
" ماذا يقول هذه الحيوان النتن اريراس ؟ " هتف الجيرا " لماذا يتوارى عن الأنظار ؟ هل عملها في سرواله ..؟ فليخرج إلينا، أم ترى أنه أنفق أجورنا على السكر والعاهرات، نحن لسنا عبيداً ..! ".
" نحن لسنا عبيد " هتف المتظاهرون بصوت واحد ورفعوا قبضاتهم إلى السماء مهددين التي كانت تبدو براقة بعد زخة مطر الظهيرة.
كانت الشمس مشرقة تشع، والبخار يتصاعد من الأرض، والغابة العملاقة الكثيفة تهب منها رياح ساخنة وكل ما يرتديه المرء يلتصق على جسده، وهذا المناخ يحمل كل أمرئ على الفتور حتى أولئك الذين ولدوا هنا، إنها أنفاس الغابة، تفترس الأجساد كالحامض المخلل.
" كل شيئ في الطريق إليكم أيها الأصدقاء " قال جبهارت بصوت عال، كان صوته ذا رنين متعب. لا خدمات، لا أجور، بل وحتى المستوصف سيأتي وهو الآن في كيرس، أصبروا بضعة أيام أخرى وعودوا إلى أعمالكم ..".
كان العمال واقفين كالجدار، تختلط ألوان بشرتهم بيم الأصفر والبني، أو زنوج ذوو بشرة سوداء، أو بلون بني كالنحاس لدى الهنود منهم، بيض برمادي وسخ ناشف بفعل أشعة الشمس، كان الجيرا يقف في المقدمة، ذا كتفين عريضين، وقفص صدري كبير، ساقيه كعمودين وذراعين كأنهما دعامة رافعة، وعلى مساحة وجهه الكبير تنمو لحية وحشية.
قاتل، يقطع بسكينه رقبة رجل، تصور جبهارت ذلك وما هو بالنسبة لإنسان وكيف بوسعه فعل ذلك ..؟
" متى أطلق لويس جيزوس كذبته هذه المرة، سوف نسحبه على حمالة كما يفعل معنا عندما يعاقبنا ".
" نحن لسنا عبيد " هب صراخ الجوع، وكان صوت صراخ الزنوج السود هو الأقوى، أنهم يعلمون ماذا يعني ذلك ... أن تكون بلا حقوق.
" انتظروا " قال جبهارت رافعاً كلتا يديه إلى الأعلى، لقد أرسلت تقريراً مطولاً إلى العاصمة، ولابد من أن الوضع سيتحسن هنا ".
في المساء، جلس مع عناصر وحدته إلى النار الكبيرة الموقدة في فناء المعسكر، ولم يوقدوا النار بسبب البرد، بل من أجل أبعاد أسراب البعوض الكثيفة، لذلك كانوا يجلسون بالقرب من النار الموقدة كالأوراق المبتلة، والأدخنة كانت الوسيلة الأفضل لأبعاد لسع البعوض.
" أريد أن أتحدث معك باولو " قال جبهارت وهو ينتحي بالجيرا جانباً.
ومضيا يسيران مسافة جنباً لجنب، وجلسا على مقطع لجذع شجرة هائلة، يدخنان بشراهة سجائر لف يدوي بتبغ أسود.
" ماذا تريد مني يا صديقي " سأل الجيرا " لا تحاول التأثير علي، فنحن نعيش فوق بركان، فوق بركان مكون من ألف وسبعمائة إنسان، ولم يعد بوسع المرء الاعتماد على الوعود، نحن نناضل من أجل قضية عادلة ".
تطلع كارل جبهارت إلى الجيرا كمقطع جانبي، ترى كم يقدر عمره ؟ .. وكان قد أطلع بين الحين والآخر على أوراق الجيرا، واللحية الكثة تظهره أكثر عمراً من الحقيقة، وكان قد أنتبه إليه منذ أسابيع، هذا العامل له قوة جرار.
" هل كنت قد قتلت رجلاً ؟ " سأل جبهارت.
لم يهز السؤال المفاجئ الجيرا، وبدا وكأنه قد أعتاد على ذلك، " لقد عاقبت رجلاً " رد بهدوء.
" وفيها قطعت رأس الرجل ؟ ".
" نعم يا صديقي كان ينبغي أن يحدث ذلك ".
" لابد لك من الإقرار يا باولو أن هذا ليس أمراً طبيعياً ".
" كان ذلك طبيعياً صديقي " قالها باولو وأخذ نفساً عميقاً من سيكارته الثخينة السوداء " كان ذلك قبل سبعة سنوات، كنت لما أزل بعد رجلاً شاباً، وكنت قد تزوجت لتوي أيفا بيبيتا، هذا أسم زوجتي، وهي جميلة، كانت الأجمل في اماليوزا، وأخذتها معي إلى ريكيفا حيث كنت أعمل هناك كعامل بناء، وكنت أحصل على المال بما يكفي، كنا نحلم بمنزل صغير ذي حديقة، وبقرة وخنزيرين وقن ملئ بالدجاج، وكل ما يحلم به المرء، وأطفال، نعم كنا نريد الكثير من الأطفال، الأطفال هم بركة الرب، نعم ثم جاء أرنستو إلى موقع العمل، المهندس المعماري أرنستو، وكانت أيفا تجلب لي الطعام في كل ظهيرة إلى موقع العمل، وهكذا فقد رأها، وبعد أربعة أيام رأيت يا صديقي زوجتي مرمية على الأرض ممزقة الثياب، وقد أغتصبها أرنستو ".
واصل الجيرا تدخينه وهو غارق في التفكير، يخط بحذائه على أرض الغابة.
" لقد بحثت سبعة أسابيع بطولها عن أرنستو، فقد هرب كما يهرب حيوان مذعور، ولكني عثرت عليه، كنت أنظر على عينيه فيما كنت أقطع رأسه، ألم يكن ذلك عدلاً يا صديقي ؟". قال ذلك وتطلع إلى جبهارت.
حقاً كان يمتلك عينا طفل، فكر جبهارت، انه يريد أن يسمع مني، بأنه حسناً فعل، بماذا علي أن أجيبه ؟.
" إني أعلم " قال الجيرا " أنتم لديكم قوانين اخرى، ولكن هنا هي الغابة، فهنا يتعين على كل أمرء أن يناضل من أجل حياته وسعادته وإلا فإنه سوف يتعفن مثل شجرة الليانا المتسلقة المختنقة، وإنني أخشى بأن يحدث هذا قريباً مرة أخرى ".
" ماذا ..؟ " قال جبهارت بذعر.
" بأنه يتعين علي أن أحتز رأس أحدهم " وقطع الجيرا بقية سيكارته إلى نصفين " أني أحب أليا، هل تعرف آليا يا صديقي، إنها فتاة هندية نظرة وكأنها زهرة، إنها تعمل في الكانتين(نادي ومطعم) ونحن نوفر كل قرش ونودعها في بنك بالعاصمة، ولكن لويس جيزوس اريراس يطاردها، يلامسها بصورة غير نزيهة، ويسمعها كلمات قذرة، وسوف يعيد الأمر نفسه ".
قال ذلك بكل هدوء فيما كان جبهارت يتأمل، لقد مضى على وجوده في هذا البلد ثلاث سنوات، وهو يعلم أنه لا يمكن هنا أن تثني رجلاً عما يريد أن يفعله إذا تعلق الأمر بشرفه كرجل.
" وهل يعلم أريراس ذلك ..؟ " سأله بحرارة.
" آليا قالت له ذلك، ولكنه ضحك فقط، ثم لامسها بحماقة في ثديها ".
" سوف اتحدث معه " قال جبهارت ذلك ونهض واقفاً.
سوف أطالب المركز أن يستغنوا عنه، هكذا فكر في نفسه، عندما أذهب إلى العاصمة، ينبغي علي الحديث مع السيد بولو، أن البشر كالتماسيح عندما تشم رائحة الدم، فإنها تنفعل بنشوة وحماس، وأريراس سوف لن يكون الضحية الوحيدة.
" لقد تأخر الوقت يا باولو " قال جبهارت ثم أردف " غداً في الصباح الباكر سنبدأ من جديد، وعلينا أن نعمل بدل اليوم الضائع، أذهب إلى النوم، ليلة هانئة ".
توجه الجيرا إلى الخيمة الصغيرة بالقرب من النار الموقدة، واختفى بين بقية العمال، وفي مكان ما كان يسمع صوت بانجو (**) يعزف لحناً هندياً حزيناً، فيما عادت سيارة شحن إلى المعسكر بمجموعة عمل صغيرة، بالطبع كانوا سكارى يزعقون، قادمين من المعسكر الرئيسي الذي يقع في منتصف المسافة بين كيرس وبين آخر موقع عمل متقدم، كانوا يتهاتفون مع بعضهم والآخرين ببذاءة. ومن يستغرب ذلك ؟ إنهم قادمون من المبغى المتجول للسيد بولو يبلغون زملائهم عن تفاصيل أحداث سفرتهم مع المومسات هناك.
سيستمر الحال هنا على هذا المنوال عامين بعد، هكذا فكر جبهارت، ترى هل سأستطيع تحمل ذلك، أم أنني سأقذف المنديل مستسلماً كما يحدث في مباريات الملاكمة ...!
لم يكن هناك شيئ أبعد من ذلك
وأخيراً وصلت الصناديق المنتظرة للمستشفى الجوال، وبدأ الدكتور سانتالوس مع أثنين من الممرضين مقارنة القوائم مع المواد المرسلة: أدوية، أربطة، أجهزة، طاولة عمليات صغيرة، جهاز لتوليد الطاقة الكهربائية، الذي يغذي جهاز لألتقاط الأشعة، جهاز حفر الاستان، آلة تعقيم الأبر (الحقن)، غسالة. كان كل شيئ موجوداً، شيئ واحد لم يكن موجوداً، شيئ واحد لم يكن جيداً: وجود خيمة ثابتة، وأسرة للمرضى والجرحى الذين يستلزم وضعهم الرقود، كذلك كان ينتقص الأدوات المساعدة في حالات الصحة العامة وفي تقديم إسعافات سريعة.
وفي حديث هاتفي مع أحد مسؤولي "حركة إعمار البرازيل " قيل للدكتور سانتالوس بصراحة: لا تطالبون تأسيس مستشفى جامعي في غابة بدائية، إنه يكفي أن نقدم العلاج هنا بصفة عامة، والرجال هنا قد اعتادوا الاستلقاء على الأرض، وأن يتغوطوا خلف الأشجار. وأنه أفضل للطبيب الذي يواجه الحالات المرضية الكثيرة، الرجال الذين يسحقون الغابة لا يمكن قياسهم بمقاييس المدن التي نعرفها ونقيس عليها ".
" غداً سنبدأ " قال الدكتور سانتالوس في الليل بعد أنتهاء مراجعة القوائم ثم تناول طعامه في مطعم إدارة العمال بكيرس، وتناول نوعاً من النبيذ الأحمر الخفيف، وجلست على الطاولة المقابلة فتاة منهمكة بكتابة رسالة، كانت نورينا سامازينا.
نورينا سامازينا ..... حقاً كان جبهارت على صواب في مخاوفه، إذ كانت فعلاً أجمل من أسمها، وإذا كان الافتراض ممكناً، وأن أريج زهرة فاتنة يمكن أن يتجسد، فإن الطبيعة قد خلقت فتاة مثل نورينا، وعندما كانت قد قدمت إلى الدكتور سانتالوس، قال لها على الفور " هل تريدين العمل في الجحيم الأخضر ..؟ يا إلهي الرحيم، عودي على الفور واهربي، فإن إرسالك بين ألفين من الرجال هو جنون واضح ".
وقد أجابت بغير اكتراث " ماذا تريد سيدي، إنني أمضي بإرادتي، لم يرغمني احد ويسعدني أن أعمل هناك ".
" إذن عليك أن تتجولي هناك بحماية مسدسين محشويين" أجابها سانتالوس بحدة.
أوضحت، وهذه المرة بأبتسامة ساحرة " ولماذا ؟ إن ابرة (حقنة) واحدة تكفي بالتأكيد ".
في العاصمة ريوديجانيرو، لم يكن الدكتور سنتالوس معروفاً إلا بدرجة بسيطة، فقد كان واحداً من الأطباء الشباب المثاليين، الذين يؤمنون بأن من الممكن تغير العالم من خلال الإنسانية والعدالة والاشتراكية، كان قد نال توصية من قبل القس بيترو دي سيتا، وهو رجل دين شاب يرتدي الجبة فقط من خلال عمله الكنسي، وفيما عدا ذلك فهو وسخ كالفقراء، وهو الذي عاش بينهم والذين يحبونه إلى درجة التضحية بالنفس، كان يتجول بينهم بقميص مفتوح وببدلات قديمة. ومن خلال القس بيترو دي سيتا يعرف المرء بأن (على العكس من إدارة كنيسته) المسيحية تعظ، ليس بالصبر والاستكانة، بل الثورة ضد الشقاء والفقر والاستغلال والقمع.
كان القس دي سيتا قد شجع الدكتور سنتالوس، وحيثما كان يوجد طبيب على شيئ من الجنون، أن يتطوعوا تلقائياً للعمل في الغابات المجهولة من أجل أن يحملوا ما يقارب الألفين من المجتمعات البدائية من جميع الأعراق والألوان نفحة من رعاية طبية ..! ففي الدوائر الحكومية وكذلك لدى دائرة البناء، ثم في المكتب المركزي للسيد بولو كان المرء يحس بالسعادة ليجد في الدكتور سانتالوس الذي قبل هذا الواجب الشيطاني.
لا أحد يعلم كيف أرسل المرء إلى الجحيم الأخضر، وكان الكل يضغط على يد سانتالوس ويتمنون له التوفيق والحظ لكي يبقى على قيد الحياة، يقبلون الأجر المرتفع ومخصصات الخطورة ولكنهم يهزون رؤوسهم عندما يغادرون مكاتب الشركة.
وكان الممرضان اللذان يبحث عنهما سانتالوس، رجال طوال القامة، كلاهما يتمتع بجثة ضخمة كالدب، وعدا الأمتحان الذي أدياه، فقد تمرنا على الرماية، وكل ما هو ضروري للحياة في تلك المناطق، فكان الأول اخصائياُ في العمل على أجهزة اللاسلكي والثاني خبيراً في المتفجرات، والثالث كان مطبعياً، ولم يكن أحد يعلم ولا حتى في مكاتب الشركة، كيف وجد بين عفش المستشفى طابعة متنقلة. وكان ظهور نورينا سامارينا قد سبب القلق للدكتور سانتالوس.
كانت نورينا قد درست الطب في ريو، وبدلاً من أن تمارس المرحلة العملية في واحدة من المستشفيات النموذجية التي شيدت حديثاً، والتي يأخذون إليها بكل فخر واعتزاز كل زوار وضيوف البرازيل، فذهبت وسجلت أسمها للعمل في الغابات.
وحتى في حالتها، يهتم المسؤلون بها على الفور، كمساعدة طبية، فتاة شابة مثلها تبحث عن العمل في المقاصف أو كعاهرة في المواخير المتجولة، أو في تطعيم النسوة الهنديات اللاتي يرغمن على التلقيح ضد الأمراض في القرى التي تكشف في أعماق الغابات لقبائل هندية غير معروفة.
" وما هو رأي والديك حول فكرة هوجاء كهذه " سأل سانتوس عندما جاءت لتقدم نفسها وفي يدها شهادتها الحكومية.
" لا شيئ، لم يعد لدي والدين ".
" المعذرة، لم يكن بوسعي أن أعلم ذلك ".
" طبعاً " ابتسمت نورينا ابتسامة فاترة وأضافت " لقد توفي والدي في حادث سقوط طائرة، أنتم تذكرون الطائرة التي سقطت في البحر قرب ساوباولو عندما كانت تحاول الهبوط قبل أربعة سنوات ..".
" نعم أتذكر ذلكن كان حادثاً فضيعاً " تصفح الدكتور سانتالوس أوراقها وأردف " فأنت تسعين إلى قدرك نورينا ..... كلا سآخذك معي ".
" يجب أن تأخذني معك دكتور، فلدي عنوان وظيفة واضح، وعقد عمل صحيح ".
وطوال أربعة أيام كان فيها دكتور سانتالوس يجري فيها اتصالاته الهاتفية، بدون نجاح، إذ كانت نورينا قد عينت على ملاك كادره، حتى القس بيتر دي سيتا الذي كان قد تدخل، أخفق في مساعيه لدى الرؤساء.
" ينبغي علينا أن نضعها في أمان، وفي الوقت المناسب "، قال سانتالوس لاحقاً، وقد التقيا في كيرس في فندق صغير الذي أتخذه كمقر لمستشفاه" إنني في كل الأحوال لن أكون مرتاحاً حتى احصل على طائرة هليكوبتر كمستوصف، وهذه ستكون مفيدة جداً في تنقلها السريع ".
" ومتى سنكون في المعسكر ؟ " سأل دي سيتا .
" في غضون يومين بيترو، وغداً صباحاً سوف ننطلق ".
" حضاً سعيداً ستيفانو ".
" شكراً ".
وتصافحا، كان أكثر من وداع بين صديقين، لقد تبادلا نظرات متآمرين وكأنهما يتقاسمان بينهما سراً "
ــــــــــــــــ
* البراكة هي غرفة أو أكثر مصنوعة من الصفيح والخشب قابلة للتفكيك والنقل.
** بانجو: آلة موسيقية هندية.
997 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع