يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء الثالث

      

              جنود قوات الأحتلال الأمريكي في سامراء

     

 يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء الثالث

  

              

الخطوة الثالثة

بداية حزينة ونهاية مأساوية

انتقل جميع الأهل والأقارب من بغداد إلى سامراء في عزاء مبكر وانتظارا للكشف عن مصير زيدون، في المقدمة جاء الدكتور شامل السامرائي عميد الأسرة وعم والد زيدون وهو وزير سابق أثناء حكم الرئيسين عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف، كما جاءت عمات زيدون وعمات أبيه من بغداد ليشاركن من سبقهن قلقا صاخبا، هكذا العراقيون يجتمعون في الأحزان أكثر من حرصهم على التجمع في الأفراح، صام الجميع على أمل أن يغيب عنهم الشك باليقين وكانت العيون تنظر حائرة إلى بعضها والقلوب في غفلة عما يحيط بها والضمائر كلها تلتصق بقضية البحث عن زيدون الذي تأكد لنا أنه ذهب ضحية لجريمة مبتكرة في وحشيتها وبدم بارد ارتكبتها القوات الأمريكية برميه وابن عمه مروان في إحدى فوهات ناظم الثرثار والتي تأخذ مياه دجلة من بحيرة مقدمة سد الثرثار لتعيدها إلى نهر دجلة بعد أن تختلط مع مياه ذراع الثرثار دجلة، لأن المياه القادمة من خزان الثرثار إلى نهر دجلة تحمل معها الكثير من الأملاح مما يجعلها غير قابلة للاستهلاك البشري أو استخدامات الزراعة، أصر مروان أنه وابن عمه تم إلقاءهما في النقطة التي تقع في فوهة الناظم المؤدي إلى قناة الكتم، بدأت عمليات البحث عن زيدون بكثافة وجئنا بغواصين للبحث عنه واستحصلنا موافقة مدير الري لمنطقة سامراء لإغلاق البوابات التي تتدفق في القناة لثمان وأربعين ساعة، وبعد انتهاء المدة وعدم عثورنا على جثمان زيدون فقد كررنا الطلب لإغلاق البوابات مرة أخرى، كان قرار الغلق يتطلب موافقة مركزية من وزارة الموارد المائية في بغداد، بسبب تأثير مثل هذه الخطوة على نسبة الأملاح الذاهبة إلى نهر دجلة والتي تجري في ثلاث محافظات تحت مدينة سامراء هي بغداد وواسط وميسان قبل أن يلتحم دجلة بالفرات ويكوّنا شط العرب في محافظة البصرة، ومعنى زيادة نسبة الملوحة فيها أن المزروعات ستتعرض إلى أخطار جدية وكذلك السكان والحيوانات، ومع ذلك وحينما وجد مدير ري سامراء أن الأجواء النفسية لأهل المفقود كانت في ذروة الاحتقان فقد استجاب ولم يعر أهمية لقرار من بغداد التي تعيش تحت الاحتلال الأمريكي من دون سلطة، قال لنا بعض الصيادين إن الماء البارد لا يسمح للغريق أن يظهر على سطح الماء إلا بعد زمن طويل، واستمر البحث لعدة أيام مع الضياء الأول يتناوب الباحثون على مدار ساعات النهار، البعض استوطن عن شاطئ القناة متحديا البرد القارس على أمل أن ينقذ جثة الغريق من معاناة الغربة عن أهل يتحرقون شوقا لمعرفة الحقيقة، كانت الآمال بالعثور عليه حيا تتلاشى تدريجيا على الرغم من أن الأم والأب يمكن أن يشاهدا ولدهما مسجى أمامهما ولكنها لا يغادران الرجاء بأن يعود إلى الحياة، فكيف إذا كان مفقودا بعد ثلاثة أيام؟؟، البعض كانت تراوده آمال بأن زيدون يمكن أن يكون معتقلا لدى القوات الأمريكية، مجرد أن تطرح فكرة كهذه سرعان ما تتلقفها القلوب القلقة في محاولة لتهدئة الخواطر المشحون بكل أسباب النقمة والتأزم، ومع الوقت تبدأ تلك الأفكار الوردية بالتراجع والتلاشي عندما يدخل العقل على خط التحليل، إذن لماذا عثرنا على سترته في القناة؟ وهل يعقل أن الأمريكان يمزحون في تجارة الموت؟ لم يكن أحد يمكن أن تطرأ لديه فكرة إلا وطرحها من دون تفكير بواقعيتها أو وجاهتها، تحولت جلستنا إلى منتدى لتداول الأفكار الساذجة التي كانت تقطعها بين الفينة والأخرى أصوات العويل الذي ينفلت من بين الصدور، وبسبب صراع اليأس والأمل، أصبحنا مسرحا تلقى فيه قصائد الشعراء من دون تمحيص، وكان هذا تعذيبا مضافا إلى معاناة الأهل، نعم الجميع كان يشعر بوجع المحنة وألمها ولكن لفجيعة الأب والأم لغة لا يفهما إلا هما أو من مر بمثل ما وقع لهما وخاصة إذا كان موقع الألم ناتج عن فقدان الولد البكر الذي يحمل كل الصفات الحميدة التي يتطلع الأبوان أن يكون ابنهما عليها، لم ينقطع البكاء والعويل الذي كان يتخطى جدران الألم ليتنقل بطرقات الحي وأزقته، من دون استئذان من دوريات القتلة الأمريكان الذين يعرفون مصير زيدون ولكنهم يتلذذون بتعذيب أهله مرة أخرى، فبعد أن قتلوه ها هم ينكرون قتله بل ينكرون علمهم بمصيره فهل هناك وحشية أكبر من هذه حينما يتعمد القتلة السخرية من آلام القتيل ويتعمدون إخفاء معالم جريمتهم ويروحون ويجيئون قرب منزله لمعرفة ما توصل إليه الأهل من حقائق، وفي دوامة القلق نسي الجميع مروان وما عاناه من ليلة اقترب فيها من الموت من دون حواجز، واختزن في بدنه بردا كثيرا لليلة ربما كانت أطول ليلة في حياته، كان التفكير ينصب على البحث عن عزيز آخر يجب العثور عليه في وسط مائي متحرك التيار ومع أجواء أمنية معقدة وشد عصبي لا يجب أن تفلت فيه الأعصاب في وقت نحتاج فيه إلى حكمة التصرف أكثر من شجاعة كل الرجال في التاريخ، فخطأ واحد يمكن أن يمنعنا من مواصلة البحث، ويمكن أن يكلفنا مسؤولية تهديد الأمن على وفق التهم الأمريكية الجاهزة وليس فقدان أحد أبنائنا فقط، وهذا من أسوأ المعاناة التي يمر بها ذوو ضحية عندما تنعدم الحقوق ويضيع العدل ويسود الظلم وشريعة الغاب.
طلبنا من مروان أكثر من مئة مرة أن يقص علينا تفاصيل ما وقع، نحن نعرف أن الرواية ستتكرر بمضامينها حتى وإن تغيرت صياغاتها والكلمات التي تحكيها، كان مروان يحس بإعياء شديد يقعده عن الحركة، كان من حقه أن يجزع ويشعر بالمرارة والألم فقد غادر بغداد مع ابن عمه ولكنه عاد منفردا إلى بيت يعج بالضجيج والعويل والأسئلة التي تتكرر عليه من كل زائر، كان علي شخصيا أن أقف صلبا في هذه الظروف مستعينا بالعم الدكتور شامل السامرائي الذي هو عميد الأسرة وكبير العائلة، ذلك أن ظرفا كالذي نمر به يتطلب تدخلا مباشر لفض النقاشات ومنع الأسئلة التي كنا نلمس منها فتيلا يمكن أن يقترب من برميل بارود الأب الذي تتقافز أمامه مئات الأسئلة ومئات الصورالسوداوية ، كنا نلتقط معاناة النساء القريبات من مكان جلوسنا، كان اللقاء بين أم زيدون وخطيبته الأكثر مأساوية حيث أطلقت كل منهما لنفسها العنان بعويل يمزق الضلوع.
الإنسان على علو قدره وعظيم مكانته عند أهله، فإن دفنه في أسرع وقت بعد الوفاة يكون أمرا ملحا من أقرب أهله إليه، فهذه سنة دينية لا تحتمل التغيير وهذه مفارقة حياة الإنسان وموته، وهنا برزت مشكلة كبيرة، هل نسلم الجثمان للأمريكان من أجل تشريحه أم نبادر من فورنا لدفنه ونتحمل تبعات هذا القرار؟ رفض الجميع فكرة التشريح بأي حال وخاصة من قبل قاتليه، فهو شهيد ولن تدنس جسده الطاهر أياد تقطر بالدم، وبعد مشاورات مع علماء دين ووجهاء المدينة صدر القرار بعدم تسليم الجثمان للأمريكان، وبرزت قضية أخرى وهي هل نغسله ثم نكفنه أم نتركه بملابسه التي قضى فيها؟ أفتى بعض العلماء بأن بالإمكان دفنه مع تغسيله لجواز ذلك من دون أن ينتقص ذلك من مكانته عند الله والناس.

بدأ موكب التشييع من دار الحاج فاضل حسون (جد الشهيد) وخرج فيه المئات من أبناء مدينة سامراء وفي المقدمة منهم رجال المقاومة المسلحة الذين ألحقوا هزيمة كبيرة بالقوات الأمريكية المحتلة، وقد أطلقوا العيارات النارية بكثافة خلال التشييع الذي شق طريقه في شوارع سامراء وسط تكبير وتهليل المواطنين الواقفين على أرصفتها، وبعد أن وصل الموكب إلى مقبرة سامراء، تمت مواراة جثمان زيدون الثرى إلى جانب جده وجدته وأهال عليه أقاربه والمشيعون التراب وسط مشاعر حزن عميقة عليه وغضب جارف على الأمريكان الذين قتلوه بهمجية ودم بارد، بجريمة مبتكرة بوحشيتها، وربما كانت أول جريمة إعدام تنفذ بالإغراق الحقيقي في بداية العام حيث تنخفض درجات الحرارة إلى ما يقرب من الصفر المئوي، وبعد انتهاء مراسم الدفن عاد كثير من المشيعين إلى منزل الحاج فاضل حسون حيث تقرر إقامة مجلس الفاتحة على الشهيد، وخلال المجلس كانت مداولاتنا تنصب على كيفية التعامل مع هذه الجريمة البشعة، تداولت بشكل خاص مع عمي الدكتور شامل السامرائي عن رأيه في كتابة رسالة مفصلة إلى عدد من قادة دول العالم والمنظمات الدولية، فاستحسن الفكرة وشجعني عليها وتعددت اتصالاتنا مع كل من له خبرة في مراكز الانترنيت لإيصال الرسالة إلى العناوين المثبتة فيها، وترجمة النص العربي إلى اللغات الحية الأخرى لتسهيل وصول الفكرة وخاصة إلى أجهزة الإعلام العالمية، خاصة وأن الجريمة متميزة بطريقة تنفيذها ووحشية تعبر عن قسوة أفراد الجيش الأمريكي الذي قيل أنه جاء لنقل الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى العراق.
المهم كتبت الرسالة ووجهناها باسم والدة الشهيد زيدون إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وعدد من الرؤساء ورؤساء الحكومات في العالم والأمناء العامين للمنظمات الدولية عبر شبكة الانترنيت شرحنا فيها القصة كاملة وطالبنا فيها بفتح تحقيق بالأمر ومعاقبة الجناة، وهذا هو نص الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية المحترم
السيد جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية المحترم
السيد توني بلير رئيس وزراء المملكة المتحدة المحترم
السيد الدكتور عدنان الباججي رئيس مجلس الحكم الانتقالي المحترم
السيد بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي المحترم
السيد كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة المحترم
السيد عمرو موسى أمين الجامعة العربية المحترم
السيد رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر المحترم
السيد رئيس منظمة حقوق الإنسان المحترم
أيها السادة المحترمون
إنني في ظرف نفسي صعب للغاية وقد يفجر ذلك مشاعري وانفعالاتي، وذلك بسبب المصاب الجلل الذي أصابني وزوجي عندما فقدنا ولدنا البكر والذي يبلغ من العمر تسعة عشر ربيعا، والذي كان يتطلع للحياة بنظرة ملؤها التفاؤل والأمل خاصة عندما تم عقد قرانه على إحدى قريباته، فتوجه بكل طاقته لبناء حياته اللاحقة على أسس قوية وراسخة، إلا أن الأقدار كانت له ولأحلامه بالمرصاد إذ اختطفته على حين غفلة فترك جرحا نازفا في قلوب أبويه وخطيبته ومحبيه، واسمحوا أن أسرد لكم القصة بتفاصيلها.
يوم السبت المصادف 3 / 1 / 2004 كان ولدي زيدون ومعه ابن عمه مروان قادمين من بغداد إلى مدينة سامراء حيث نقيم، حيث يعملان في سيارة شحن صغيرة تعود ملكيتها لشخص ثالث، وذلك من أجل توفير سبل العيش في بلد هدته الحرب والحصار، نعم كانا عائدين من بغداد إلا أن سوء الطالع رافق الرحلة من بدايتها فقد أصيبت السيارة بعطل لم يسمح لها أن تواصل الرحلة مما أدى إلى تأخير في الوصول إلى سامراء في وقت يقترب مع بدء سريان منع التجول في المدينة، وهنا يبدأ الفصل الأول من المأساة، إذ اعترضت السيارة دورية عسكرية تابعة للجيش الأمريكي، وبعد أن استكملت كافة إجراءاتها بتفتيش ولدي وابن عمه وتفتيش حمولة السيارة، أنزلوهما من السيارة وشدوا وثاقهما واقتادوهما إلى منطقة تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات، وأمام إحدى بوابات ناظم الثرثار حيث تتدفق المياه بقوة هائلة، ووسط ذهولهما، أمرهما الجنود بقذف نفسيهما إلى الماء في البرد القارس عند منتصف الليل، وتم دفعهما بقوة، وللأسف الشديد لم يكن ولدي يجيد السباحة، على الرغم من أن السباحة في هذا الفصل ومع قوة التيار الجارف لا تجدي نفعا، ومع ذلك فإن ابن عم ولدي الذي علق بإحدى الشجيرات نجا من الموت بأعجوبة ليحكي لنا هذه القصة المأساوية، ولقد بذل جهودا كبيرة لإنقاذ ولدي ولكن تيار الماء المتدفق كان أقوى منه ومن محاولاته، وبعد عدة أيام من البحث عنه عثرنا على سترته في مجرى الماء وستبقى معي ذكرى وعنوانا للظلم الذي حل بولدي من جنود جيش الولايات المتحدة الأمريكية، الذين جاءوا إلى بلدنا وهم يرفعون شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية، وإذا بهؤلاء الجنود وبدم بارد وبأعصاب جامدة يزفون ولدي إلى حتفه في أيام عرسه. 
وكي أوثق الحدث فإن ابني اسمه (زيدون مأمون فاضل حسون السامرائي)، من مواليد 1.6. 1984، نعم قتلوه وفجعوني به، وتصوروا أيها السادة واسألوا زوجاتكم كم هو عسير على كل أم أن ترى ثمرتها وقد نضجت، ثم تهوي به يد أثيمة لتلقي به في هذا السيل الجارف دون رحمة أو إنسانية، لقد أحال الجنود كل ما قالته أمريكا عن حقوق الإنسان إلى كذبة كبيرة أو جثة هامدة كنت واحدة من ضحاياها وهم كثيرون، لذلك أتوجه جميعا وإلى السيدات الفاضلات عقيلاتكم وإلى الرئيس جورج بوش خصوصا لفتح تحقيق في ملابسات الحادث، على الرغم من أن أي إجراء سيتخذ من قبلكم لن يعيد ابني إلى الحياة، ولكني بإحساس عارم بالفجيعة أتطلع إليكم عسى أن يوضع حد لآلام الأمهات في بلدي فنحن نحصد البؤس والشقاء لما يفعله جنود جيش الاحتلال الأمريكي دون مراعاة لحياة الإنسان وكرامته ولقيم المجتمع وتقاليده، ولعل اتخاذ الإجراءات بشأن الحادث يعيد لي شيئا من المصداقية حول الشعارات التي ترتفع عاليا في أمريكا ولكننا لا نلمس منها شيئا بل نحصد النقيض لها في بلدنا، ولعل في هذا التحقيق ما سيدعم قوة القانون حتى لا يأتي يوم يصحوا فيه ضمير أحد القتلة ويعترف بتفاصيل فعلته وحينذاك ستكون مسؤوليتها على عاتق بلدكم، وأنا على يقين بأنكم تعرفون الإرهاب وما يندرج في قائمة الأعمال الإرهابية، فهل سمعتم أو اطلعتم على عملية إرهابية أبشع من هذه الجريمة التي ألحقها جنودكم بسحق السيارة وتسويتها بالأرض بواسطة آلياتهم الحربية، هذا سؤال أوجهه لكم وللمجتمع الإنساني وقد انتظر منكم جوابا شافيا.                        
                      
المفجوعة بولدها
أم الضحية زيدون مأمون فاضل حسون السامرائي
سامراء   
9 / 1/ 2004

         

    

الخطوة الرابعة
فتح ملف التحقيق
وقف أبناء مدينة سامراء وقفة واحدة في التعاطف مع أسرة زيدون واستنكار الجريمة الأمريكية، تقاطر المئات منهم إلى مجلس الفاتحة، وبعد انتهاء الأيام الثلاثة للمجلس بدأنا نتحرك لإيصال الرسالة إلى العناوين المثبتة فيها، كان مبنى القائممقامية محتلا من قبل القوات الأمريكية ولكن المجلس البلدي لسامراء كان يجتمع فيه وكان جميع أعضاء المجلس غاضبين على الجريمة وكانوا متعاطفين معنا وخاصة المرحوم حازم كريم الياسين الذي بقي على اتصال معنا طيلة الأيام السابقة، كان أملنا محدودا في وصول الرسالة وحتى في حال وصولها فإنها لن تكون ذات نفع، فنحن من جهة لم نطلب تعويضا ماليا، ومن جهة أخرى نحن كنا على يقين بأن الإدارة الأمريكية لن تسمح بتجريم جنودها مهما كانت جريمتهم ومهما كانت الأدلة قاطعة، لكننا في الوقت نفسه عزمنا على المضي في إيصال صوتنا إلى الرأي العام العالمي وإلى الصحافة الأمريكية والأوربية، في تحرك على محور القيادة الميدانية الأمريكية في سامراء والتي كانت تتخذ من سايلو الحبوب الواقع على الطريق السريع المؤدي إلى تكريت وتحتل ببعض وحداتها مقر قائممقامية قضاء سامراء  الواقع عند مدخل المدينة وقد راجعنا هذا المقر ثلاث مرات بناء على طلب الجانب الأمريكي من دون أن نخرج بنتيجة وكان الأمريكيون يتفنون في ممارسة الضغوط علينا لوقف متابعتنا للقضية وإرهابنا بما عرف عنهم من عنجهية وغطرسة ولكننا صممنا على عدم التخلي عن حقنا مهما تعرضنا له من صعوبات كان الضباط الأمريكيون ينفون أية صلة لهم بالحادث وأكدنا إصرارنا على متابعة التحقيق ورفض ادعاءات الجانب الأمريكي، في سلوك مفاجئ تطوع اللواء عدنان ثابت الكنعاني في تقديم المساعدة في الوصول إلى القائد هناك، ربما كان مدفوعا بروح المدينة والتعاطف مع أبنائها إذا أصابتهم مصيبة وربما هو محاولة للتغطية على أدواره الأخرى في إلحاق الأذى بأبناء سامراء الذين هبوا للدفاع عن وطنهم ضد قوات الاحتلال، كان اسم القائد الميداني غونزاليس وهو آسيوي مضرب بأصول أمريكية لاتينية وكان برتبة عقيد وكان سيء الأدب فضا ومتعجرفا في تعامله معنا، ذهبت مع أخي مأمون والد زيدون واللواء عدنان ثابت الكنعاني، والتقيناه بموعد مرتب مسبقا من السيد الكنعاني، سلمناه الرسالة وحينما قرأها بمساعدة المترجم امتقع وجهه وفقد هدوءه وأخذت عباراته تشتد مع الوقت وحاول تهديدنا بالاعتقال، من بين ما قاله، كيف تسمحون لأنفسكم أن تصفوا القوات الأمريكية بالصفات الواردة في رسالتكم؟ اتفقت مع الجميع أن أتحدث وحدي مع الجانب الأمريكي كمحام وطلبت منهم عدم الدخول في أي حديث إلا في حال السؤال منهم وبعد أخذ موافقتي، أجبته بهدوء إن من كتب الرسالة أم فقدت ابنها وبالتالي لا يمتلك أحد الحق في يصوغ لها مشاعرها وعباراتها إلى الكارثة التي حلت بها وأظن أن من المستحيل أن تتمكنوا من مصادرة مشاعر الناس لاسيما النساء وعلى الخصوص الأمهات المنكوبات، لكن القائد لم يقتنع وواصل لهجته المتعالية، حينها قلت لهم هي في البيت فإذا أردتم اعتقالها فاذهبوا ولكن عليكم تحمل التبعات في أسرة غاضبة حد الاستعداد للموت ومدينة متعاطفة مع هذه الأسرة من دون حدود خاصة إذا تعلق الأمر بانتهاك حرمات البيوت والاعتداء على المرأة في مجتمع على استعداد أن يدفع آلاف الضحايا دفاعا عن شرف سيدة، عندها لمس مني لغة تهديد مبطنة، ولكنه مع ذلك لم يتراجع عن غطرسته فحاول إخافتنا بأن هذه الرسالة لن تقدم ولن تؤخر بل أنه يجزم أنها لن تصل وحتى في حال وصولها فلن تتخذ بشأنها أية إجراءات، دفعني ذلك إلى القول وبلغة واثقة، أظن أنه من الأفضل أن تفتح تحقيقا بالحادث فالأمر بذلك سيصلك قريبا وذلك أفضل لك لأنه سيظهرك بمظهر قائد يرفض خروج قواته على قواعد الاشتباك التي وضعها الجيش الأمريكي لنفسه، وغادرنا جميعا مكتب قائد منطقة سامراء على أمل أن سيتم استدعاؤنا في أية لحظة لفتح باب التحقيق.
بمساعدة السيد بشير عبد الرحمن الخضير استطعنا إبراق الرسالة عبر شبكة الانترنيت بعد ترجمة نصها إلى اللغتين الانكليزية والفرنسية، كما أرسلنا الرسالة إلى الصحف المحلية والعربية وقد نشرتها كما هي وأوصلنا نسخة منها إلى قائد القوات الأمريكية في سامراء، وتحركت من خلال علاقاتي مع الصحافة والفضائيات لفضح الجريمة،

       

وفعلا جاء فريق تلفزيوني من شبكة الـ BBC في خدمتها التلفزيونية وأجرت لقاءات مع أفراد أسرة زيدون، وصور الفريق المنطقة التي تم إلقاؤه منها إلى بوابة ناظم الثرثار، كما أن عددا من الصحف البريطانية أسهمت في توسيع نطاق التعرف على تفاصيل الحادث، فقد أرسلت صحيفة ساندي تايمز إحدى الصحفيات العاملات فيها لمتابعة هذا الملف المهم والذي يساعد على شهرة من يتصدى للكتابة عنه بسبب الطبيعة الهمجية لهذه الجريمة وأجرت الصحفية مقابلات مباشرة مع أم زيدون وخطيبته وأخوته وأخواته وكانت لقاءات مؤثرة إلى حد بعيد، هذا الاهتمام البريطاني له ما يبرره، فبريطانيا شريك مهم في العدوان على العراق ويبدو أن الكثير من الصحفيين والسياسيين والمفكرين البريطانيين كانوا معترضين على مشاركة بلادهم في غزو العراق واحتلاله أو على الأقل لإبراز الجرائم الأمريكية ودفع العراقيين لإجراء مقارنات بين فعل القوات الأمريكية في ساحة عملياتها...

     

والقوات البريطانية في القاطع الجنوبي في الاحتلال الحالي أو ما فعلته سلطة الاحتلال البريطانية في العراق أثناء احتلاله بداية القرن الماضي وهذه المقارنة الساذجة بين شرين أيهما أهون ولا يمكن أن تمر بسهولة فكلاهما قوة احتلال ثم أن القوات البريطانية لم تحافظ على صورتها التي أرادت تسويقها إلى الأبد فقد كشفت وثائق مؤكدة عن انتهاكات لحقوق الإنسان ضد مدنيين في مدينة البصرة مما أرغم رئيس الأركان البريطاني على الاعتذار لذوي الضحايا وأبناء محافظة البصرة ووصف ما حصل بأنها أعمال مخزية، كما أن قناة الجزيرة بادرت لمتابعة الحدث وكل حسب طاقته وما تسمح به الظروف الأمنية للتحرك القطرية أعدت قصة كاملة عن الحادث، وعلى الرغم من أن الحدث لم يأخذ حقه ومداه من التغطية في أجهزة الإعلام فالصحف العربية لم تنظر إلى القضية على أنها صورة مصغرة لما يجري في العراق كما أن اللافت للنظر أن الصحافة الأوربية وبخاصة الصحافة الفرنسية والألمانية أغفلت ما حصل على الرغم من أننا افترضنا أن إعلام هاتين الدولتين سيكون أكثر حماسة وجرأة من غيره في متابعة حدث كهذا، على الرغم من ذلك كله فإنني رضيت بتلك التغطية من دون أن افقد الأمل بتغطية أوسع وأعمق مع الوقت.
بعد بضعة أيام زارنا اللواء الكنعاني في المنزل وقال استعدوا للذهاب لمقابلة القائد الأمريكي الذي طلب حضوركم إلى مقر القيادة، حينما وصلنا كانت تقاسيم وجهه تنم عن سلوك آخر غير الذي عهدناه منه في المرات السابقة، رحب بنا وقال إن أوامر فتح التحقيق بالقضية قد وصلت، وأن السرجنت إرين سينترون (IRENE  CINTRON) وهي مسؤولة في مكتب التحقيقات الجنائية العسكرية الأمريكية هي المكلفة بالتحقيق بالقضية وفتح ملف لها، وبدأت بأحاديث إزالة التحسس منا تجاهها وطلبت منا مساعدتها على إنجاز التحقيق بأسرع وقت، وكبداية لفتح الملف قالت أنها تريد أن تذهب بنا إلى موقع الجريمة وإجراء معاينة ميدانية للتعرف على كيفية وقوع الحادث وأجرت تحقيقا في موقع الحادث مع مروان وصورت الموضع من عشرات الزوايا والنقاط بالفديو، استمرت حالات الاستدعاء إلى مقر قيادة القوات الأمريكية في السايلو لعدة مرات وفي أحد الاستدعاءات فوجئنا بالسرجنت سينترون تبلغنا عن طريق المترجم مايكل رحباني وهو جندي أمريكي من أصل لبناني كما يتضح من لقبه باعتذار رسمي باسم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عن الحادث، كان حتميا أن أسأل هل هو تعبير عن الأسف أم اعتذار رسمي، سألها رحباني فأجابت بثقة إنه اعتذار رسمي بكل تأكيد وهنا تدخلت فقلت إن ذلك يعني تحمل المسؤولية الجنائية عن الحادث، قالت نعم ولكنكم أصررتم على رفض التعويض عن الفقيد، قلت نعم لأننا على يقين أن أي تعويض لن يكافئ خسارته ولكن هناك الشاحنة التي سحقتها الدبابات الأمريكية والبضاعة التي كانت على متنها وعدتنا المحققة بدراسة ملف التعويض على الشاحنة وحمولتها وطلبت بيانات تفصيلية عن ذلك وبعد عدة أيام تم دفع تعويض الشاحنة وحمولتها وقالت السرجنت سينترون إن قيادة القوات الميدانية أبدت استعدادها لتحمل جزء من تكاليف الدفن ومجلس العزاء الذي أقيم على روح الفقيد وكناية عن باقة زهور، لكنني بادرت لرفض هذه الفكرة على الفور لأنها يمكن أن تفسر على أنها قبول لمبدأ التعويض المالي فنقل المترجم الرحباني ما قلت حرفيا إلى سينترون ردت بأن ذلك تفسير خاطئ وأقسم مايكل الرحباني بأن المبلغ ليس تعويضا وقرأ النص الذي تم بموجبه صرف المبلغ وقمت بتثبيت النص على وصل الاستلام، مضت أشهر الشتاء والتحقت بها أشهر الربيع القصيرة ومرت كئيبة على العائلة وكان الجميع يتساءلون بعيونهم إن لم تفعل أفواههم أين وصل التحقيق؟ وهل هناك فرصة حقيقية لتطبيق العدالة؟ تطوع الكثير من الأقارب والأصدقاء لإثارة المزيد من عوامل القلق في النفوس، وبخاصة حينما يتبرعون بتفسير غرض المبالغ التي تسلمناها وخاصة المبلغ الذي قيل بأنه مساهمة في مجلس العزاء وفسره أولئك على أنه تعويض عن الفقيد، كانت هذه الأفكار كفيلة بإثارة المواجع في النفوس فأصبحنا من فرط العطالة وانتظار الجديد نتلاوم بلا حدود وعلى كل شيء، حين لا يجد واحدنا من يلومه فإنه يبدأ بجلد نفسه ويوجه لها لوما جارحا وكأنه يضع ملحا على جرح غائر، وربما كان نصيبي من الحالة أكبر من غيري، هل ورطت نفسي في قضية كبرى مع الأمريكان الذين يمسكون بكل خيوطها؟ أم أن في الوقت متسعا كي يعتقد الجميع بأن ملف القضية ما يزال مفتوحا وأن القلق المشروع يجب ألا يحجب كوة الأمل عن رؤية بصيص الضوء، ولكن من فقد ولده ليس كمن فقد نظارته، فالولد خلاصة الوالدين إلى الحياة، إذن لا مناص من الإصرار على ملاحقة القضية عبر ما متاح تحت يدي من وسائل وكنت أهيج نارها كلما خبت.

    

للراغبين الأطلاع على الجزء الثاني:

http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/11813-2014-07-31-15-52-11.html

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

162 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع