يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء الثاني
الحلقة الرابعة
الخطوة الثانية
زيدون ... وداعا إلى الأبد
بعد رحلة كان صوت الآلية الأمريكية وهي تسير على طريق معبد كما يبدو من صوت التقاء سرفاتها مع الأرض المبلطة بالإسفلت، يقطع سكون الليل البارد والموحش بين أيدي أعداء لا يعرفون لكل الشعارات التي يرفعونها معنى على الأرض، وهواجس المجهول الذي يقرب نهاية معلومة عند من خبر أساليب جنود الاحتلال الأمريكي، وأهل ينتظرون عودة الابنين البكرين لأهلهما، كان خزين الخيال ينضب مع الوقت، ولم يبق إلا انتظار لحظة الوداع، توقفت العجلة الأمريكية بعد أن استدارت عدة مرات ومع كل استدارة كانت المشاعر تدور معها في حلقة مفرغة فتح الباب ونزل الجنود الذين سحبوا مروان وزيدون من كتفيهما بقوة وأنزلوهما ورفعوا عن عيونهما عصاباتها، هدير مياه دجلة وهي تجتاز سد الثرثار يحكي قصة صراع طويل على أرض الرافدين بين الفيضانات وإرادة الإنسان، وهو اليوم يصطدم بكتل إسمنتية جامدة ورمز الحياة التي جعلها الله من الماء، ولكنه هنا تحول إلى كائن خرافي لا يقف بوجهه شيء، كان الماء وهو ينحدر بقوة وعنفوان يثير الرعب الإنساني على مر العصور، كانت الأمواج تكسر صمت الليل القارس البرد الموحش بظلمته والمخيف بانسحاب الحياة من بين الصدور ومن شوارع المدن والطرقات المؤدية إليها تدريجيا، ترى ما هي خطوتهم التالية وهل سيلقون بنا في هذا اليم الهائج؟ آه من هذا النهر بل آه من هذا السد الذي أقيم ليحمي بغداد والعراق كله من الغرق فهل تراه أقيم كي يبتلع أحفاد من ساهموا ببنائه؟ فهل نحن قربان يقدم لفداء الآخرين؟ كان الشلال الذي صنعه السد يثير في رائيه من علو رعشة خوف، فكيف تكون مشاعر من يصطدم بجدرانه الإسمنتية، كانت أمواجه تتسابق مع بعضها وتصنع دوامات متداخلة ومتعاقبة يفلت بعضها عن محيطه ليقفز عاليا بتدافع وتلاحق ينزع القلب عن موضعه وكأنها لا تطيق صدمة الكتل الخرسانية الصلبة ولكنها كانت كسمكة قرش فغرت فاها لتبتلع فريستها، حينما كان الجنود ينتظرون الأمر من الرقيب، خرج من وسط الظلام شعاع نور فجائي من وهج مصباح كاشف كبير سلطه أحد أفراد قوة الدفاع الوطني في الجانب الآخر من السد ظنا منه أن عبوة ناسفة على وشك أن تفجر السد وتدمره وتغرق حوض دجلة من جنوب سامراء إلى البصرة ، فجأة تغير كل شيء فبعد وقت قصير تخلله نقاش كان يعلو أحيانا تم إغلاق الباب الذي فتح لهنيهة وانطلقت إلى مجهول جديد، وعلى عجل صدرت الأوامر لمروان وزيدون بالصعود إلى جوف المدرعة الأمريكية، وانطلقت بهم جميعا في ليل بهيم، ربما كانت تلك أطول ليلة على الإطلاق، ومن حركة المدرعة قدرا أنها تسير في اتجاه مماثل، كان كل منهما يود معرفة مشاعر الآخر وانفعالاته وتوقعاته عله يستمد من رفيقه شيئا من الاطمئنان وراحة البال ولكن الظلام كان يحول بينهما كموج بحر في ليلة دامسة الظلام واضطربت النفوس وبلغت القلوب الحناجر، الزمن يسير إلى الوراء وربما يتقافز إلى الأمام، وربما يتوقف عند هذه اللحظة، لا أحد يعرف ولا أحد يستطيع التكهن، كم استغرقت المدرعة في مسيرها من لحظة انطلاقتها الأولى حتى الآن؟ وتوقفت ثانية وجاء الأمر لمروان وزيدون بالنزول منها وإذا بها عند ناظم الثرثار، إذن فالمصير أصبح واضحا ولم يعد هناك شك في أن الرمي في هذه الدوامة الفوارة هو ما ينتظرهما، وفك الجنود وثاقهما هذه المرة، استغرب الشابان هذه اللفتة الإنسانية المفاجئة، على الرغم من أن القلق عطل كل مواقع الإدراك، بعد لحظات من التساؤل اتضحت الحقيقة وجاء الجواب ... الأمريكيون أرادوا قتل مروان وزيدون من دون أن يتركوا دليلا، ولذلك لم يتركوا أيديهم مقيدة، فالحبل سيكون بداية الخيط الذي يوصل إلى الفاعل، تقدم العريف نحوهما وبلهجة قاطعة أمرهما بأن يلقيا نفسيهما في مقدم ناظم الثرثار، هل هذا الرجل مجنون أم مصاب بعقدة كراهية مستحكمة، كيف نلقي بأنفسنا في هذه الدوامة المميتة التي تقذف الماء من شاهق إلى منخفض بسرعة كبيرة جدا، يصطدم الماء خلالها بعدد من العوارض الإسمنتية لطالما فتكت بالأسماك فكيف سيكون حالنا؟ بل كيف سيكون حال زيدون الذي حرص والده على إبقائه بعيدا عن مجاري الأنهار وأحواض السباحة لأنه لا يريد تكرار مرارة حزن قديم بفقدان عم زيدون الذي جرفته مياه مشروع الإسحاقي الذي أراده العراقيون رمزا للخير والنماء وإذا به في أول إطلالة له على أهل مدينة سامراء يطلب منهم قربانا كما تقدم لكل مشروع جديد ولكن ليس مما يقدم الناس، فكان عليّ هو ذلك القربان الذي فرضته مصادفة لعينة أبكت الأم والأب والأخوة والأخوات بمرارة لم تعهدها الأحزان الأخرى.
عندما وجد السرجنت الأمريكي رفضا لأوامره القاتلة، شهر سلاحه الأوتوماتيكي الجاهز لانطلاق رصاصه الغزير وكذلك فعل بقية الجنود، وبسرعة خاطفة كانت رفسة من جندي أمريكي تندفع نحو صدر زيدون ولتقذف به في وسط ماء بداية كانون الثاني/ يناير الذي يقترب من درجة الانجماد، وفي أقل من لمح البصر كانت رفسة أخرى تنطلق نحو مروان وتلقيه قرب زيدون، وبدأت محاولات مروان للبحث عن زيدون، أين أنت قالها بصوت مكبوت فالأمريكيون ما زالوا هنا ويريدون الاطمئنان إلى نجاح جريمتهم من دون أدلة، تشبث مروان ببعض أغصان نبات شق طريقه نحو الأعلى من بين جدران ضفة السد، وتجمعت حولها جذوع أشجار اقتلعتها مياه الفيضان العاتية فتجمعت نتيجة إهمال عمليات الصيانة المعتادة للسدود بسبب الاحتلال الأمريكي، كانت بحيرة مقدم السد ممتلئة بأقصى درجات استيعابها، وفي ظروف كهذه يتم تخفيف منسوب الماء عن حوض دجلة، ليصب في منخفض الثرثار من أجل الاستفادة منه في شهور الصيف حيث تتزايد الحاجة لمياه السقي مع أقل مورد لدجلة والفرات من خارج الحدود، كان تدفق الماء في القناة سريعا وشديدا ولم يكن بوسع أحد حتى في الظرف الطبيعي وفي فصل الصيف مقاومته إلا لدقائق معدودة ثم تخور قواه فيجرفه التيار.
بعد نحو ربع ساعة من البحث اليائس، وبعد أن أوشكت قواه على الانهيار، وبعد أن تيقن أن الأمريكيين قد غادروا مكان جريمتهم واطمأنوا إلى أن الشابين قد ابتلعتهما مياه مندفعة بقوة من شاهق إلى أسفل وباردة حد الانجماد، جاءهم أمر السرجنت بالانسحاب السريع كي لا ينتبه إلى وجودهم أحد في هذه الليلة المظلمة، أخرج مروان رأسه من بين الأغصان المتشابكة، وبدأ يحرك يديه بصعوبة لأنها أوشكت أن تتجمد، ولكنه تحامل على نفسه وجاءته قوة لم يعرف من أين تجمعت لديه لأنه يعرف أن دون ذلك الموت فتضيع الجريمة الأمريكية وسط مياه الثرثار، وفي حركة مستميتة وجد نفسه مستلقيا على الأرض، تحسس جسمه ليتأكد أنه على قيد الحياة فعلا وليس في حلم مرعب، استجمع قواه مرة أخرى ونهض واقفا، من بعيد تراءى له بصيص نور خافت، حاول استذكار الصور القديمة التي مرت أمامه قبل عدة ساعات والتي مرت وكأنها دهر طويل، تذكر أن مصدر النور هو سيطرة للحرس الوطني تقع على حافة السد عند مدخل سامراء من جانب دجلة الغربي، هل أذهب إليهم وماذا سيكون رد فعلهم لاسيما وأنهم كانوا قد نصحوني ليلة أمس بعدم العبور؟ وماذا لو عاد الأمريكيون فجأة وشاهدوا الشاهد الوحيد على جريمتهم التي أرادوها كاملة دون نقص يفضح تفاصيلها؟ وماذا تراهم سيفعلون بي؟ ولكن هل هناك خيار آخر؟
حث الخطى قبل أن تظهر دورية للقوات الأمريكية، وبعد أن تلاشت الخيارات كلها اتخذ قراره بالتوجه إلى سيطرة الحرس الوطني، وصلها بعد جهد ومشقة ظن أن جسده لن يقدر على حمله كل هذه المسافة الطويلة، وألقى بنفسه أمام عنصر الحرس الوطني الذي كان في نوبة الحراسة خارج الخيمة، والذي ذهل من هذا القادم من وسط الظلام، وكان يرتجف من شدة البرد كأنه سعفة تلعب بها الريح، ربما اعتقده الحرس رجلا يربط حول جسده حزاما ناسفا وربما راودته فكرة أن القادم هو جان يريد أن يلعب معهم لعبة الرعب التي طالما سمع عنها في الليالي الباردة عندما كانت أمه تقص عليه تنويمة البرد الذي يتسلل إلى العظام كبرد هذه الليلة الموحشة، بمجرد أن استقرت قناعته على أن القادم هو إنسان من لحم ودم وأنه في هذا الوقت لا يتحرك إلا من يريد بأجهزة الأمن شرا مؤكدا، أسرع إلى بندقية الكلاشنكوف مرتجفا باحثا عن نجدة من زملائه الذين كانوا يغطون في نوم عميق بعد ليلة موحشة البرد ومن النشاط العسكري للقوات الأمريكية وحركة الدوريات الآلية على سد سامراء مما حرمهم من لذة النوم المبكر خشية من محاسبة القوات الأمريكية لهم على التقصير في واجب حماية ظهرها من (الإرهابيين)، حاول إيقاظ بعض زملائه ولكنه أخفق في ذلك، كان يرتجف بردا وخوفا من هذا الشبح القادم من وراء الأفق، عندما وصل مروان كانت ملابسه ما تزال شبه متجمدة على جسده بحيث ضاعت فرصة التفريق بين ملابسه وجسده من شدة البرد، كان عاجزا عن وصف ما وقع ولكنه كان يردد اسم ابن عمه زيدون الذي يظن أنه غرق في دوامة الماء المتدفق من بحيرة مقدم سد الثرثار لتندفع في قناة الكتم، حكى لجنود الحرس الوطني الذين استيقظوا من نومهم العميق، كان يعرف بعضهم لأنهم أبناء مدينة واحدة وبعضهم ويعرفونه أيضا، بعد أن قص عليهم ما مر عليه وعلى ابن عمه، هبوا لتقديم النجدة لزيدون ابن مدينتهم ووطنهم في محاولة لإنقاذه فمضوا إلى موقع الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي، مع ما في هذه الحركة من مجازفة في حال ضبطتهم القوات الأمريكية، ولكن الوقت كان قد فات كثيرا، فقد مرت مياه كثيرة من بوابات السد والليل لا يصلح لإجراء عمليات التحري فكيف الأمر مع مياه وطقس بدرجة الصفر وربما أقل من ذلك، ودوريات الأمريكيين تتمنى أن تجد في طريقها صيدا حتى إذا كان من قوات شكلها بول بريمر نفسه، بعد عودتهم إلى مقرهم أعطى الجنود لمروان ما يتوفر لديهم من ملابس تناسب مقاساته، لحين تجفيف ملابسه على المدفأة، وطلبوا منه المغادرة مع صعود الشمس بالأفق من دون إبطاء خشية عليه وعلى أنفسهم.
كان مأمون (أبو زيدون) في بغداد في منزلي في حي العدل منذ عدة أيام وكان مقررا أن يمكث عدة أيام أخر، جاءت مكالمة هاتفية بعد منتصف الليل بقليل لتقض مضاجعنا وتلقي بنا في دوامة من القلق، كان على الخط من سامراء عبد الحكيم (أبو مروان) يسأل عن مروان وزيدون لأنهم استبطئوهما فهم علموا منا أنهما سيغادران بغداد عصرا، حينما أخبرناه بأنهما تركا بغداد قبيل المغرب بقليل وصل القلق ذروته حتى يكاد المرء يلمسه عبر أسلاك الهاتف، أصبح مأمون في أقصى درجات القلق المسدود النهايات كانت المكالمة قدحة نار أحرقت كل شيء وأثارت فيه كل الهواجس النائمة ولكنه كان يطمئن نفسه بقليل من الأمل ربما كانا متأخرين واحتجزتهما القوات الأمريكية وظل ليلتها يقارع قلقا لم تنقطع خيوطه أبدا حتى أذن مؤذن جامع مالك ابن أنس في حي العدل ببغداد لصلاة الفجر توضأ وغادر البيت إلى الجامع لأداء الصلاة، راودته فكرة الاتصال بسامراء للاستفسار عن ابنه وابن أخيه، لكن نفسه لم تطاوعه أن يفعل ذلك خشية من الأسوأ، ولكنه أراد أن يخفف عن صدره أوجاعه ويبثها للآخرين، استعجل الشمس أن تشرق قبل موعدها ولكن انتظاره لم يطل كثيرا فقد جاءته المكالمة من سامراء، أما نحن فقد بقينا ننتظر أي خبر جديد، فلا سبيل لغير ذلك فالقوات الأمريكية فرضت منع التجوال في بغداد وغيرها من مدن العراق ابتداء من الساعة العاشرة مساء وحتى السادسة صباحا، وهناك تشديدات للحظر حسب الظرف الأمني لكل مدينة، مما يمنع أي مبادرة لتقصي الحقيقة ميدانيا، بدأ الوقت يمضي بطيئا والليل في هذا الوقت من السنة هو الأطول وما علينا إلا الصبر وانتظار الفجر، ولكن متى تشرق الشمس لتحمل اليقين وما تراه سيكون، وهل هناك مكالمة جديدة تعطي بعض الأمل، وكيف يستطيع أبو مروان أن يعرف أكثر وهو محاصر بمنع التجول أيضا وينتظر سنوح الفرصة لمعرفة مصير ولده البكر ومصير ابن أخيه البكر أيضا.
استأذن مروان أفراد الحرس الوطني بالمغادرة، حذروه وقالوا له لقد رفضت نصيحتنا الليلة الماضية ففقدت ابن عمك، فهل تريد أن تفقد حياتك؟ كان مروان في أشد حالات الانفعال، هو يشعر بمسؤولية أخلاقية تجاه ابن عمه ولكن هؤلاء لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا، هو يريد الوصول إلى البيت ليقص على أهله ما وقع ليلة المصيبة، عندما وجدوا فيه إصرارا على المغادرة، قالوا له على مسؤوليتك ولكن خذ حذرك بأعلى ما تكون درجات الحذر، أجاب ليحصل ما يحصل فإما أعيش أنا وابن عمي معا أو نموت معا، فانطلق ماشيا بأقصى سرعة منتبها للدوريات الأمريكية التي تقلص تسييرها إلى النصف في هذا الوقت من اليوم، هو يريد الوصول إلى أحد أي ليخبره الحقيقة قبل أن تضيع وسط جحيم الأكاذيب الأمريكية الوقحة، لا يدري كم استغرق من الوقت، ولا يدري من أين استمد كل تلك الحيوية المفاجئة حتى يصل إلى المنزل، وجد البيت وقد قامت قيامته، الأب والأم والأعمام والأخوان والأقارب ينتظرون في الشارع، الأخوة والأخوات ينتحبون، الأقارب عاشوا حالة إنذار بكل ما تعنيه الكلمة، لم يشأ أن يدخل المنزل حكى لهم القصة أو ما بقي عالقا في ذاكرة أربكها الجنود الأمريكيون بوحشيتهم التي يتلذذون بها، أو ما بقي عالقا في ذهنه المشوش من أحداث ليلة الحزن، كان الجميع في حالة يأس عن مصير مروان وزيدون فقد عرفا أن سيارة البيك أب تعرضت للسحق تحت سرف المدرعات الأمريكية وهي داخل مدينة سامراء مركونة على قارعة أحد الطرق الرئيسة.
أسرع أبو مروان (عبد الحكيم) وهو الأخ الذي يصغر مأمون أبي زيدون إلى الداخل والتقط الهاتف واتصل ببغداد، لم يتمكن من إخبار أخيه بفاجعة فقدان ولده زيدون، ولكنه طلب منه العودة الفورية إلى سامراء، أدرك مأمون أن شيئا قد حصل لزيدون ولكن ما هو؟ وسط جو ضبابي كان طريق بغداد سامراء مغطى به وتنعدم فيه الرؤيا إلا لمسافة قريبة قاد مأمون سيارته بسرعة جنونية في ذات الطريق الذي كان ابنه وابن أخيه يسلكانه بحذر قبل ليلة واحدة، حاولت بكل ما أوتيت من قوة منعه من الذهاب بانتظار أن أتهيأ للذهاب معه، ولكنه لم يترك لي متسعا من الوقت للإقناع فغادر المنزل مع خال زيدون الذي يقيم في دار مجاورة لمنزلي، أخذت سيارتي ووسط طريق موحش وضباب كثيف كنت أتلفت عن يمين وشمال وأمامي عساني أرى سيارة أخي ولكن عبثا فيبدو أنه كان منطلقا بسرعة لم تبق في السيارة المزيد حقا خشيت عليه من حادث آخر نفقد شخصا آخر يمكن أن يضاف لشخص ربما فقدناه قبل ساعات.
ليست هذه المرة الأولى التي تنكب فيها عائلة فاضل حسون بغرق أحد أبنائها، ففي 16 أيلول 1980 كانت قد فقدت (علي) عم زيدون وهو أصغر أبناء الحاج فاضل، غرقا أيضا والذي كانت له مكانة خاصة في قلوب والديه وأخوته وأخواته، حينها كانت طبول الحرب تقرع في طهران بقوة بعد وصول آية الله الخميني إلى الحكم تحت شعار تصدير الثورة ابتداء من العراق، وكان العديد من مدن العراق الحدودية هدفا للقصف المدفعي الإيراني مما أدى إلى تهجير الآلاف من العائلات العراقية منها وطفقت الحكومة العراقية بتأمين الملاذ الآمن للسكان، وفي سامراء البعيدة عن حدود النار كانت كما بقية المدن الآمنة ما تزال تلهو ببراءة وطمأنينة، كان علي ابن الثانية عشرة من عمره يشاهد لعبة لكرة القدم في منطقة القلعة غربي نهر دجلة عند مدخل سامراء، وفجأة ظهرت على الطريق كتلة هائلة من النار المتوهجة تسير بأقصى سرعة نحو قناة الإسحاقي الذي يأخذ ماءه من مقدم سد الثرثار ليسقي مئات الآلاف من الدونمات من أخصب الأراضي الزراعية في المطقة وليلغي نهائيا استخدام مئات المضخات التي تشتغل بالنفط الأسود والتي كانت تؤمن مياه السقي لهذه الأراضي الذهبية وتكلف مالكيها نفقات كبيرة لإدامتها ولوقودها الذي سيلوث البيئة أيضا، عندما اقتربت كتلة النار اتضح أنها شاحنة كبيرة وتحمل كابلات كهربائية عملاقة لغرض استخدامها في كهربة المدن والريف في العراق، كان سائقها يحاول إيصالها إلى مصدر للماء من أجل المساعدة على إطفائها، نجح في الوصول إلى قناة الإسحاقي ولكنه لم ينجح في إطفائها، تجمع الصبية حول الشاحنة بفضول طفولي، وجاءت سيارات الإطفاء وحاول العاملون عليها مباشرة عملهم، ولكن التجمهر كان يتضاعف مع مرور كل دقيقة وخاصة من متفرجي لعبة كرة القدم، بادر أحد أفراد الإطفاء بتوجيه خرطوم الماء إلى المتجمهرين من أجل إبعادهم وتسهيل مهمة إخماد الحريق، يبدو أن القدر قد رسم كل هذا السيناريو من أجل أن يختطف حياة علي ابن الثانية عشرة من العمر، ويبدو أن مشاريع الري التي أقيمت استكمالا لسد الثرثار في مدينة سامراء كانت تحتاج إلى قرابين، فكان علي قربانا لقناة الإسحاقي وجاء من بعده ابن أخيه زيدون بعد 23 عاما ليكون قربانا لقناة الكتم، هل نحن أهل بيت متخصصون في تقديم القرابين للمشاريع التي تخدم مدينة سامراء؟ أم نحن أهل بيت كتب علينا الموت غرقا؟ وهل يكون الخير للناس بمأساتنا؟ وهل كان إطفاء شاحنة كانت على وشك أن تكون رمادا يستوجب قتل شاب في مقتبل العمر؟ أليست مفارقة دامية هي التي كونت أسباب الرحيل عبر حادث عرضي على الطريق العام حتى يغلف الحزن جدران أحد بيوت سامراء؟ هكذا حللنا ملابسات الحادث وربما كانت له تفاصيل وتفرعات أخرى، ولكن مضي السنين من الطويلة من دون أن يظهر دليل يدحض هذا السيناريو جعلتنا نعتبره التفسير الوحيد الذي علينا التسليم به.
كان علي عم زيدون من مواليد 6 / 1 / 1969، وكان زيدون من مواليد 1 / 6 / 1984، وهذا التوافق الرقمي بين 6 / 1 و 1 / 6 كان عامل تشاؤم عند مأمون أبي زيدون، ولهذا صمم أن يبعد ابنه عن النهر الذي يبتلع كل عام الكثير من الضحايا من أبناء سامراء، ورفض كل توسلات زيدون لتعلم السباحة وإلحاح أصدقاء زيدون على الأب الذي أصم أذنيه عن نداء الأبناء ظانا أنه يستطيع الوقوف بوجه قضاء الله وقدره، من دون أن يخبره بحقيقة هواجسه القديمة، وشب زيدون وهو يتحسر حينما يرى أصدقاءه وهم يمارسون هذه الرياضة الممتعة والمحببة إلى النفوس، ولكن حبه لأبيه لم يكن يسمح له بعد فوات الأوان أن يلح بالسؤال والطلب للحصول على امتياز يختص به دون إخوته .
1326 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع