نشأ سليم محمد كامل مشاكسا منذ نعومة أضفاره، ترك المدرسة قبل أن يتعلم قراءة جملة واحدة مثله مثل كثيرين هم أجيال الحصار، متذرعا بالعمل، لكنه لم يعمل في بدايه المشوار الذي ترك فيه المدرسة. اتهمه كبار أبناء محلته في مدينة الشعلة شقيٌ بالوراثة أو هاو مخالفة كما يقولون، وأشار اليه معلمون قبل تركه الصف الخامس الابتدائي بأيام أنه بطيئ التفكير.
أرهقه التيه طوال النهار، وأتعبه التسكع على الارصفة في غالب الوقت، فاتجه للعمل صبيا لحداد ماهر في شارع الشيخ عمر كان صديقا للوالد ايام شباب لم يتبق من ذكراها شيئا يجمعهما على موائد كانت عامرة.
ترك الصنعة قبل تعلم فنونها، بحجة القسوة من صديق الأب، قالها علنا أنه لا يرحم عماله طوال ساعات العمل، لكن الحقيقة ليست هكذا، فالصنعة هذه ومثلها أخريات بحاجة الى قدر من الالتزام لم يكن موجودا ضمن الصفات التي يحملها سليم، الانفعالي المتهور سليط اللسان.
العسكرية مدرسة تهذيب للإنسان طالما أشار اليها الأب في جلساته الخاصة وكذلك أمام افراد عائلته المقربين، خاصة وانه قد تخرج منها وغيره من أبناء الجيل والأجيال التي سبقت، فالزم ابنه البكر سليم بالالتحاق الى خدمتها الإلزامية جنديا حال بلوغه الثامنة عشرة عاما بالتمام مهددا إياه بالتبليغ عنه هاربا لفرقة الشعلة الحزبية ان لم يلتحق بالوقت المحدد، فشعر عند أول يوم ارتدى فيه الملابس العسكرية أنه مجبر على ارتدائها عنوة، عندها قضى السنة غيابا اثر غياب، وابتعاد عن أعين الانضباط العسكري والمفارز الحزبية، حتى تسريحه القسري مثل غيره الكثيرين من منتسبي الجيش السابق في اليوم الذي أحتلت فيه بغداد.
لقد ترك الوحدة التي ألتحق اليها طوعا من غياب دام أشهر في ذاك اليوم، لكنه لم يسير مثل زملاءه مشيا على الاقدام الى بيته في مدينة الشعلة، لقد أخذ معه سيارة الواز التي كان قد استلمها سائقا لآمر الفوج، أبقاها في بيته أمانة، يؤكد عند السؤال عن وجودها من أحد المعارف أنها أمانة، يردد التأكيد على انه سيعيدها الى الجيش عندما يعود قائما مثلما كان، فبات كلامه مثل تسجيل على اسطوانة مشروخة.
تبين له بعد أيام من التسريح القسري أن رجال الاحتلال مشغولون بأمور أخرى وان الجيش لم يَعُدْ مثلما كان، وانهم لا يولون اهتماما للأسلحة والمعدات والآليات التابعة لجيش سرحوه بارادة فرضها حاكمهم الأعلى وباركها بعض الساسة المتنفذون، بل وعلى العكس من هذا غضوّا النظر عن مزادات لبيع الأسلحة والمعدات علنا على أرصفة الشوارع البغدادية وفي باقي المحافظات، فتجرأ من جانبه على بيع الأمانة أو السيارة بيعا مباشرا سلعة رخيصة ومطلوبة في أوقات التحول والاضطراب...
اشتراها اسطة جابر الكهربائي من أقرباء العائلة بخمسمائة دولار، وضع لها رقما خاصاً وأخرج لها سنويةً بمائة دولار، فأصبحت أوراقها رسمية وأصبح سيرها في الشارع البغدادي رسميٌ بلوحة أرقام تشير الى ديالى مدينة البرتقال، كما كانت تسمى قبل جفاف بساتينها العامرة.
تزوج السيد سليم من حبيبته الجميلة انتصار بنت السيد أيوب الذي نصب نفسه شيخا منتصف التسعينات وبات يتقاضى راتبا شهريا عن مشيخته، رغم اعتراض الأب على سلوكها امرأة لعوب، تقلبت كثيرا بين أحضان الشباب، لكنه لا يرى في سلوك التلاعب عيبا، وان مرت بحضنه الدافئ قبل الزواج بقصد اللعب، معتبرا مرورها ضريبة حب وعربون شراكة تسقط كل العيوب، قائلا لأصحابه السائرين معه الى خطبتها:
- لا يوجد انسان كامل في هذا الزمان. ويكمل القول:
- ما يهمني في الزواج هو هذا الحب المتبادل، وانتصار تحبني وأنا أعشقها حتى الموت.
يستمر سليم في مشاكسته، يلتحق بإحدى العصابات المتخصصة بالسطو على البيوت بعد تفشي العصابات وسيطرتها على بعض الشوارع في بغداد، أما أنتصار فتستمر في سلوكها متقلبة بين الأحضان، تعشق دفء الأحضان، الأمر الذي جعل الأب يتبرأ منه ابنا ويحث العشيرة على أن تحذوا حذوه في البراءة، لكنه لا يأبه الى هذا فالانتماء الى عشيرة أخرى أمر سهل أو مثل شربة ماء كما كان يقول، وإخراج تأكيد أنتساب الى عشيرة جديدة يتم بمائة ألف دينارأوعشاء لأحد الشيوخ الذين كثروا بعد الاحتلال.
تدخلت الزوجة انتصار قائلة، لم العشاء ولم الفلوس، عشيرتي أولى بالانتماء وأبي هو الشيخ، وان لم يعجبك فسأجلب لك عشرات الشيوخ هنا الى البيت، فتوجهت الى هاتفها النقال، طلبت أحدهم قالت له أنه الشيخ جاسم، ومع هذا فهو لا يعير اهتمام للموضوع ولا للاسم المذكور، المهم شيخ وانتماء، فدنيا اليوم لا يمكنها الاستمرار دون شيخ وانتماء، ودون علاقات لها باتت تتشعب وتكثر مع كثر العصابات والفاسدين وأولاد الحرام.
الكثرة أعطتها قوة ونفوذ استخدمته ضد سليم أولا حتى بات لعبة بيدها سيدة تقود البيت وتتحكم بمقاليد الأمور.
لقد فاحت رائحة الاستهتار من جسمها المترهل، حاول الشقيق الأكبر للسيد سليم التدخل حفاضا على ماء الوجه، فوجد في ذات المساء الذي حاول فيه التدخل سيارة محملة بالشباب تقف عند الباب، ينزل منها عشرة أشخاص يلقنوه درسا لم يفق من غيبوبته الا في مستشفى مدينة الطب، مجبرا على الاعتراف بالخطأ ومجبرا أيضا على دفع عشرة ملايين دينار تعويض إهانة فرضها الشيخ جاسم، ومعها الجلاء عن المنطقة التي يسكنها قرب بيت أخيه سليم.
هكذا أفتى الشيخ في جلسة فصل بين الأخوة.
تمر السنين، يولد لسليم وانتصار أطفال، كبيرهم في السابعة من العمر، أخذ من الأب شراسته ومن الأم قدرا من الاستهتار، هوايته الشجار مع الآخرين من الأطفال، آخر شجار له مع أولاد جيرانه أبو محمد، المدرس الثانوي الوقور، الذي بادر اثر واقعة الشجار الى الاعتذار في محاولة منه الى تجنب السفاهة المعهودة للسيدة أنتصار، قائلا هكذا هم الأطفال عادة ما يتشاجرون ويتصالحون من عندهم دون تدخل من الكبار، لنتركهم يتصالحون.
لكن انتصار لا ترى هذا، فلسفتها في الحياة لكل شيء ثمن، والثمن تحدده القوة في هذه الأيام، هجمت على السيد أبو محمد، مسكته من قميصه أمام باب البيت عندما كان ذاهبا الى مدرسته، حاول التملص منها بحجج كثيرة لكنها أبت، رضخ لها قائلا:
- ست أنتصار الذي تريدينه يصير، أنا حاضر البي طلبك في الحال.
- نريدك الى الفصل العشائري، ابنك قد دفع أبني أمام الناس.
- لكن ابنك هو من شتم أبني على مرأى من الناس.
عاودت مسكه من قميصه، فعاود الرضوخ، وقبل بتحكيم العشيرتين في اليوم الذي تريد.
نصبت أو نصب سليم سرادقا لاحكام الفصل العشائري، حضر الشيخ جاسم وشيخ عشيرة أبو محمد وآخرين مناصرين لكلا الجانبين.
قدم الشيخ جاسم نفسه ونسبه وعشيرته التي تمتد حتى ساحل الفاو على أطراف الخليج العربي، وبالمقابل قدم الشخ محمد نفسه، قائلا:
- شيخنا الجليل، ان سليم في الأصل من عشيرتنا وقد فصلناه من العشيرة لكثر مشاكله، فعن أي عشيرة تتكلم، نحن الأعرف به وبأصوله. أجابه:
- لقد رمى قرشا مع عشيرتنا وهو الآن جزء من العشيرة ونحن مستعدين للدفاع عنه.
- لكني أعرف شيخ عشيرتكم في المدينة وكذلك شيخ العموم، فعن أي عشيرة تتكلم.
يتلفت الشيخ محمد من حول السرادق المنصوبة يرى عشرون شابا مسلحا يحيطون به وبمن يجلس داخلها، فأحكم عقله وأكمل المشوار.
- نعم طلباتكم أيها الشيخ الجليل، وقبل أن ينطق الشيخ جاسم، انبرى شخص يدعى السيد قرأ آية من القرآن الكريم، تكلم قليلا عن الحق والوفاء وترك المجال للشيوخ والحاضرين يتناوبون الكلام، ويخفضون من المبلغ حسب السياقات المتبعة في قضايا الفصول العشائرية، لتنتهي عند حدود الخمسة ملايين.
- يحاول الشيخ محمد تقليلها فالمسألة لا تستحق الفصل أصلا، يصر الشيخ جاسم على أن خمسة ملايين هو المبلغ المحدد لعملية الدفع الآتية من طفل قبل البلوغ.
- وهل هي تسعيرة؟.
- لا انها ليست تسعيرة، فهي عرف لعشيرتنا.
يتدخل المدرس صاغرا:
- سأدفعها حالا، لاجنبكم الحرج.
- سارحل عن جار قد أدفع فصلا لجيرته كل يوم.
- سأغادر هذه المنطقة الى أخرى لا يتواجد فيها شيوخ يفصلون لأبسط الأمور وسادة يجيء بهم ليتكلمون.
همس في اذنه أحد الجالسين الى جانبه قائلا.
- ومن قال لك أن صاحب العمة الذي تكلم سيد؟.
انه ليس سيد، هو من الأفاقين لسانه سليط، يتكلم بثقة عالية بالنفس، وقد أستأجروه بمائة ألف دينار.
- وما قصة الشيخ؟؟.
- ان الشيخ جاسم كذلك مزور فهو من عشاق السيدة أنتصار.
أجابه بقدر من اليأس:
- لا الله الا الله، هل يعقل أننا وصلنا الى هذه الحدود.
- نعم لقد وصلنا الى أكثر من هذا، أنا الآن قلق أتمنى أن يجلب أبو محمد المبلغ في الحال لنخرج من هنا سالمين.
426 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع