لم يكن عبد الواحد قد حلم في بداية حياته بأكثر من رتبة نائب ضابط في الجيش العراقي... رتبة تؤمن له عيشا مضمونا مع زوجة تنتسب الى عشيرته أحبها منذ الصغر وعدد من الأولاد، لا يريد عشرة أولاد مثلما أراد وفعل والده نائب العريف قاسم عبد الخضر.
لم يسأل نفسه يوما لماذا حدد لمستقبله سقفا رتبيا وضع في أعلى قمته نائب ضابط بالتحديد ؟.
ولم يسأله أحد عن نفس الموضوع، فمشى في طريقه غير آبه للسبب الذي قد يعود الى سابق عيش له في بيت يقف بمقدمة العائلة فيه نائب عريف، أو لان نائب الضابط يحتكم على راتب جيد وتقدير من باقي الجنود كما كان يقول الوالد في جلساته الخاصة مع الزملاء الذين يزورونه في البيت التابع الى معسكر المحاويل ثلاثون كيلومترا شمال مدينة الحلة.
لقد تقاعد الأب بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، في السنة التي أكمل فيها عبد الواحد دراسته المتوسطة، فترة حرجة دفعته الى التفكير مليا بمستقبله طالب لم ينهِ مراهقته بعد، فوجد فرصة في التطوع على ملاك الجيش ضابط صف، بعد أن أعلن الصنف الإداري حاجته الى متطوعين في مجال الاختصاص الإداري.
دخل الدورة في مدرسة الصنف الإداري بمعسكر التاجي وتخرج منها الأول، لم يكن ذكيا بالقدر الذي يؤهله الأول من بين خمسين متطوعا هم أفراد الدورة، بل بفعل الغش الذي يتقنه منذ الصغر، لقد كان مراوغا وطموحا، هدفه الوصول الى رتبة نائب ضابط بأقرب وقت ممكن.
حضر مندوبو القيادات الى مكان تخرج الدورة ليختاروا من يريدون حسب الصلاحيات المخولة لهم من رئاسة أركان الجيش، فكان نصيب العريف عبد الواحد قيادة قوات الحرس الخاص بعد اطلاع مندوبها على سجله الأمني ودرجته النهائية في الامتحان.
عاد الى بيته مزهوا، تمتع بإجازة نهاية الدورة، وجد نفسه بعدها في وحدة خاصة استمر عمله فيها مع ضابط الرواتب، أتقن عمله وكلما يتعلق بالأمور الحسابية وكذلك سبل التقرب ومداهنة الأعلى بفترة وجيزة بات على اثرها محط أنظار واهتمام آمريه ودعمهم لترقيته تكريما متواليا مهد له الطريق لتحقيق أمنيته نائب ضابط درجة ثامنة بوقت قياسي.
ترك وحدته مثلما تركها الغير يوم التاسع من نيسان عام 2003، عاد الى بيته في مدينة الشعب بلباس مدني كان قد أحضره قبل يوم من الصدمة، كأنه قد تنبأ بالصدمة وأدرك الحاجة الى اللبس المدني في يوم صعب.
راقب باهتمام ما يجري حوله في بغداد التي درجت على التغير في كل شيء، حرق لباسه العسكري الزيتوني، ورتبة النائب ضابط، ودعّها كأنه أكتفى بها مرتبة أو أنه وجد في دنياه العملية أنها لا تكفي لتأمين طموحاته مع عصر جديد يمكن أن تتغير فيه الطموحات كل ساعة بل كل دقيقة، وتتغير فيه الوسائل المساعدة لتحقيق الطموحات.
ترك الكحول التي كان يتناولها بشكل يكاد يكون يوميا، كمن أكتشف فجأة أنها حرام، وضع محبسا فضيا بحجر العقيق الأخضر في كل يد من يديه الناعمتين، سكن الجامع القريب من منزله، لف بشكل دوري على معظم الأحزاب السياسية التي أخذت لها أماكن في مقرات حزب البعث، لم يعجبه العمل السياسي الذي لا يتوافق مع طموحاته التي تركزت ضمن حدود الرتب العسكرية.
أنتظر الإعلان عن التطوع الى الجيش الجديد، كأنه عارف بتسلسل الأحداث بعد الاحتلال، أتصل في نفس الليلة التي سمع فيها الإعلان باثنان من أصدقاءه نواب الضباط، توجها سوية الى بناية خصصت لهذا الأمر من البنايات الباقية في مطار المثنى الذي توقف عن العمل نهاية الثمانينات، طالبا التطوع في الجيش الجديد خدمة للديمقراطية الجديدة بصفة ضابط، باعتباره حاملا لرتبة رائد في الجيش السابق، ذيل طلبه بعبارة أنتقد فيها النظام السابق وحزبه والرئيس.
كان هو من بين الوجبات الأولى للمتطوعين، قابلته لجنة من ضباط أمريكان، فحصوا هوية أعدها برتبة رائد اداري، لم يؤشروا تزويرها، وقد يكونون ممن تغاضوا عن التزوير عمدا، لا أحد يعلم بطبيعة الحال.
سألوه عدة أسئلة، أجاب بمعلومات عن الرواتب والشؤون الإدارية كانت جميعها مضبوطة، ركز رئيس اللجنة الخاصة بالمقابلة في أسئلته عن وحدته السابقة، أعطى اسما لفوج من نظام معركة الفرقة الرابعة، وأعطى اسما لقائدها كان موجودا بالفعل وكذلك لآمر اللواء نزولا الى آمر الفوج الذي ادعى الانتساب اليه.
آخر سؤال وُجِه له من ضابط أمريكي برتبة مقدم عن رقمه الاحصائي، ذكر من عنده رقما، أعاد ذكره بدقة متناهية عندما أعيد عليه السؤال بعد دقيقتين، كأنه كان عارفا بتفاصيل الأسئلة وما مطلوب، أو انه استفاد من صيغ المقابلات التي جرت مع متطوعين أتموها قبل منه بأيام.
نجح هو في المقابلة بامتياز، وفشل صديقاه بسبب عدم قدرتهم على تكرار الرقم الاحصائي للمرة الثانية.
لقد نسب على الفور ضابط رواتب لأحد وحدات الفرقة الأولى المشكلة حديثا.
كانت رواتب منتسبي الجيش الجديد في بداية تشكيله تأتي بإشراف من الامريكان، تقوم قواتهم على سحب المبالغ المطلوبة من المصارف العراقية وكذلك على إعادة إيداع الفائض منها بعد توزيع استحقاقات من كان مستمرا في الخدمة وإعادة تلك التي تعود الى آخرين تركوا وحداتهم قبل انتهاء الشهر.
الرائد عبد الواحد استهوته الأرقام العالية لملايين الدنانير التي تعاد الى المصرف نهاية كل شهر، درسها جيدا، خلع خاتم زواجه ليبدو عازبا، تعرف على سيدة مطلقة تعمل في المصرف ضمن الإيداع والاسترجاع، أملّها بالزواج بعد ترتيب وضعه المالي، بات يزورها في بيتها يسهر معها بشكل يكاد يكون يوميا، قص عليها خطته في الاستحواذ على جزء من المبالغ المعادة الى المصرف مؤكدا:
- انها ليست حرام هذه فلوس الامريكان وهم محتلين كفار.
سايرته الحبيبة المؤمنة بذات الفلسفة في الاستحواذ على أموال الغير بدعوى العائدية الى قوى الاحتلال، تماشت مع آراءه وخططه الى آخر المشوار مشترطة أن تكون لها حصة من كل عملية مبلغا مقطوعا يصل الى عشرة ملايين دينار، اتفقا على تفاصيل التنفيذ التي تعتمد آليته على قيامه بتقديم وصل (فيشة) بالمبلغ المسترجع كما هو الرقم الفعلي، وعندما يأخذ هذا الوصل طريقه الى الختم والتهيئة للتسجيل في الدفتر الخاص بالاسترجاع، تقوم هي من جانبها بتأخير التسجيل، حتى يقدم بعد دقائق معدودات وصلا آخرا بنصف المبلغ، لتقوم هي بتسجيله في الدفتر وارساله الى التنفيذ، وهكذا كان حصاد العملية الأولى خمسمائة مليون دينار له منها النصيب الأكبر وللموظفة حصتها ولأفراد الحراسة حصتهم من المقسوم.
استمرت الحال ستة أشهر جمع ثروة لم يحلم بها ورتبة عسكرية لم يستطع المحافظة عليها اذ بدأت إدارة الضباط تراجع خطوط الخدمة وتكتشف التزوير.
كان خط خدمته مزورا، عرض مائة مليون دينار على شخص كي يُدخل اسمه في قاعدة المعلومات الخاصة بخطوط الخدمة، لكنه لم يفلح لان الأمر صعب ومعقد، عندها وبعد اكتشاف أمر تزويره وقبل اتخاذ أي اجراء قانوني، ترك العراق وحبيبته والزوجة وسافر الى سوريا.
سكن دمشق، بات مدمنا على نواديها الليلية، اتفق مع مهرب عراقي الأصل لغرض ايصاله الى هولندا مقابل عشرون ألف دولار، دفعها مقدما، شاءت الصدف أن يكتشف أمره في مطار إسطنبول ويعاد الى دمشق المحطة الأولى للانطلاق، فاضطر الى دفع مثلها كي يتخلص من السجن المحتوم، عندها قرر العودة الى العراق، ليبدأ تاجرا هذه المرة.
صفقة سيارات مستعملة من ألمانيا خسر بها نصف مليون دولار، ترك بسببها تجارة السيارات، واشترى معملا مهملا لصناعة السجاد في المنطقة الصناعية بالوزيرية، فكانت عبارة عن عملية نصب كبيرة خسر ثمنها مليوني دولار.
توالى شؤم الخسارة على رأسه، واستمر العوم في نواد الليل مع بنات الليل واحتساء أغلى أنواع الخمور، وتوالت معه محاولات تغيير طبيعة التجارة والمهنة، لكنه لم يفلح في جميعها.
حاول الوالد الابتعاد عنه، ومع هذا حن عليه قائلا في أحد الأيام التي عاد فيها الى البيت بعد أذان الصبح:
- فلوس الحرام لا تناسبك.
أجابه:
- انها ليست حرام لأنها فلوس الامريكان المحتلين، وأضاف:
- ابقوا أنتم بعقلياتكم السابقة وسوف لن تروا الدنيا على حقيقتها، كنا أموات في سابق العهد والآن نحن الأحياء، دعنا نعيش أحياء ولا تنكد علينا العيش.
رد عليه بعصبية:
- ومن أين اتى الامريكان بالفلوس.
- من النفط الذي يسرقونه، وبالتالي هي ملك لنا ولنا الحق في استرجاعها متى توفرت الفرصة.
- انتم هذا الجيل تحللون وتحرمون حسب أهوائكم. سيحرقكم الحرام.
لم يعر اهتماما لقول الأب فمازالت في حوزته بعض ملايين تدفعه الى الاستمرار على نفس الوتيرة في البذخ، وتوالت عليه الخسائر والاستنزاف المستمر بنفس الوتيرة أيضا.
غاب عبد الواحد عن الساحة فترة ليست قصيرة، لم يشهده أصحابه ولا السائرين معه في الليل، عاد الى حبيبته الموظفة في البنك أخيرا طالبا الغفران، صدته بشدة، متهمة إياه بنكران الجميل ونكث الوعد في الزواج.
باع بيته القائم في مدينة المنصور، آخر ما كسبه من الرواتب أو من فلوس الامريكان كما كان يدعي، وسدد بثمنه ديون مستحقة وقف أصحابها في الباب يشهرون بوجهه السلاح.
استأجر بيتا لزوجته واطفاله الثلاثة في مدينة الشعب موطنه الأصلي، عمل حارسا في أحد الشركات الخاصة ليعيش فقط عيش كفاف، درج على لوم الذات، يكرر صيغة اللوم:
كيف لم استطع المحافظة على الملايين؟.
كيف تبخرت هذه الثروة التي جمعت بسنة واحدة؟.
وكيف تبددت جميعها بسنة واحدة أيضا؟.
ومع هذا، ومع شدة الغرابة في الجمع والتبديد لم يعترف أنها حرام......!.
809 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع