أيام زمان بائع السوس - الجزء الخامس
اختلفت المهن التقليدية من بيئة إلى أخرى، وبين مدينة ومدينة، وظهرت الحاجة إليها، وتوفرت العوامل والإمكانيات والموارد الداعمة لها. وصاحب المهنة والحرفة له نداءات وأغان وأمثال، وعادات وسلوكيات وأزياء وشارات يتعرف بها أهل كل حرفة ومهنة.
من الصور الجميلة في الشارع العراقي، والتي كنا نألفها وإلى يومنا هذا في بعض المناطق، بائع عرق السوس، وهو يجوب الشوارع والأسواق، (يصفق) يضرب الطاستين النحاسيتين الواحدة بالأخرى، ويصدر رنينا وصوتا يعرفه كل المتواجدين في الأسواق، أن بائع السوس اقترب منهم، أو يقف مناديا (عرق سوس، سوس بارد) بنغم موسيقي، يوم لم يكن الإعلان عن السلعة أو البضاعة لتعرف طريقها الى وسائل الإعلام المعروفة اليوم.
كما أن بائع السوس بزيه التراثي لم يعد موجودا في الشوارع والأماكن الشعبية إلا بشكل نادر، وأصبح بمثابة شخصية فلكلورية تستعين به أغلب الفنادق السياحية والخيام الرمضانية، ويلقى قبولا من روادها لما له من طابع مميز، وهو يوزع على روادها شرابه المميز أثناء تناولهم الإفطار.
ولكن يبقى بائع السوس جزءا من الحياة الشعبية، لا يمكن فصله عن مساره في تلك اللوحة، وهو يمشي في مهرجان تسبقه نغمات طاساته الذهبية، يحمل إناء السوس بحجمه وامتلائه، يجعل له صدره مهادا ووسادا، يباعد بين الطاسة في يده وبين فتحة الأبريق الكبير أو فتحة القربة (وِعَاءٌ مِنْ جِلْدٍ يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ أو السوس) وهو يصب لتظهر الرغوة المميزة للسوس.
كما لم يكن بمقدور كل بائع السوس أن يتخذ دكاناً لعرض سلعته أو بضاعته، فكان بائعا متجولا يتواجد داخل الأسواق المكتظة بالناس، ويقصد الشوارع التي تزدحم بالمارة، ليطلق نداءه المنغم الذي تصاحبه الأصوات المنبعثة عن صفق (الطاستين) التي يحملها بيده ببعضها، وفي الفترات المتأخرة (استعاض بعضهم بالأقداح بدل الطاسات).
ولعل البعض من القراء لم يشاهد بائع عرق السوس وهو في أسواق وشوارع المدن، رغم أن شمسه لم تنطفئ من عالمنا الشعبي بعد، بل أن الكثير منهم أيضاً لا يعرف شيئاً عن هذا الشراب الشعبي. وعرق السوس أو (رُبْ السوس أو منقوع العرقسوس).
قد يذهب الظن الى أن استعمال عرق السوس كشراب طبي، يرقى الى زمن قريب لا يتعدى القرن أو القرنين، بيد أن المصادر التاريخية تفيد أن الطبيب العراقي القديم، استعمل شراب هذا النبات للعلاج منذ آلاف السنين. فقد ورد في لوحات مكتبة آشور بانيبال الطبية اسم ل (250)، نوعاً من النبات يستعمل في الطب، وكان مما صنـف من الأعشاب المسهلة: الصبر، والخـــروع، والخــريق، والسـوس. وقد تم العثور على جذور السوس في قبر الملك توت عنخ آمون، وكان يقتصر استخدامه وشرابه على الملوك الفراعنة، وقد ذكر عند الحضارات القديمة في كتب المصريين والرومان وعند العرب حيث تميز بخاصيه جميله انه يساعد الأنسان على الشفاء من الكثير من الأمراض المعدة أو التقيؤ أو غيرها من الأمراض والاضطرابات التي تصيب الإنسان .وكذلك ذكرت بعص المصادر أن بعض الأطباء العرب القدماء أكدوا على أهميه هذا السائل في الكثير من الأمراض التي تتعلق بالرئة و القصبات الهوائية وحالات الربو وكذلك كملين يساعد على إدرار البول، وكان الأطباء المصريون القدماء يخلطونه بالأدوية المرة لإخفاء طعم مرارتها، ويعالجون به أمراض الكبد والأمعاء، والسعال الجاف والربو والعطش الشديد، وقد اعتبر السوس شرابا ملكيا حتى جاء الفاطميون، فأقبل عليه الناس ليصير مشروب العامة خاصة في شهر رمضان المبارك، فيتناوله المسلمون بعد أذان المغرب لأهميته في القضاء على الإحساس بالعطش. بما يدعم وجهة النظر المؤكدة لوجود مهنة بائع السوس في مصر منذ القدم. وقد عرف قدماء العرب هذا النبات وورد وصفه في كثير من المراجع القديمة، وأن منقوع العرقسوس المخمر يفيد في حالات القيء وتهيج المعدة والأمعاء وحرقة البول.
وكشراب لتخفيض حرارة الطفل المرتفعة. بعد أن يخلط معه (عر الكبر)، على أن يشربه الطفل لمدة أربعة أيام متتالية. هذا فضلاً أن الكثير من المغنيون كانوا يتناولونه ويستعملونه لصفاء أصواتهم وترطيب حناجرهم.
"العرقسوس" كلمة عربية الأصل تعني امتداد جذور النبات في الأرض، أو الخشب الحلو، وهي مكونة من مقطعين (عرق) أي جذر، و(سوس) تعني متأصل، أو أصل السوس وهو نبات شجري معمر من الفصيلة البقولية، على شكل شجيرات متعددة السيقان نحيفة تحمل مادة مكونة دبقاً خاصاً على الأوراق اللوزية الشكل. ينبت في الكثير من الأماكن من العالم فيستخلص من الجذور شراب السوس، والتي ذات قيمة علاجية عالية. وتشتهر مدينة الموصل أكثر من غيرها من المدن العراقية لتوفر نباته فيها بكثرة.
ولتحضير السوس يستغرق وقتا طويلا، حيث تنقع الجذور بعد تنظيفها من العوالق المختلفة في وعاء كبير ليلة كاملة أو أكثر حيث يتحلل السائل من تلك الجذور، ومن ثَمَّ تصفيته عن طريق قطعة قماش نظيفة تسمى "شاش"، بعدها تبدأ عمليات التحلية والتعبئة في الإبريق الزجاجي أو النحاسي أو القربة، أما الآن فقد أصبح التحضير أكثر سهولة ولا يستلزم نقع ولا إعداد بعد أن تدخلت الآلات لطحن السوس و بيعه على هيئة مسحوق سهل التحضير، وبالتالي بإمكان الأسرة أن تعده بنفس السهولة، وتضيف الماء الساخن أو البارد إليه، و عليه فإن لهذا السائل فوائد جمة على الإنسان خاصه انه نبات طبيعي ينمو من دون تدخل البشر في أي مرحله من مراحل نموه وقد بينت الدراسات الحديثة ذلك وأكدت انه يمثل نموذجا من الأدوية التي لا تضر صحة الإنسان بل أن فوائده لا تحصى وبهذه الأهمية بات يفضله على الكثير من السوائل الأخرى.
ملابس بائع السوس التراثية أفضل إعلان يقدمه البائع، لإظهار عراقة تاريخ الشراب الذي يبيعه، ويتكون من لباس سفلي يسمى السروال يغطي الأرجل يبدأ من السرة، وإما أن يكون طويلا يصل إلى القدمين أو قصيرا يدرك الركبتين. والسروال الطويل واسع فضفاض لسهولة الحركة، وذو حجر منخفض (ساقط) وواسع يضيق عند القدمين. ويشد حول الوسط بتكة أو أستك. ويعلوه قميص الجزء العلوي من الجسم، مفتوح من الأمام ويقفل بأزرار، وله نصف ياقة وأكمام طويلة. كما يرتدى بائع السوس الصديري، وهو يعتبر قطعة ثانوية، إما أن تكون سوداء من الخلف وبأقلام طولية أو عرضية بيضاء ومُلونة من الأمام، أو ذات لون واحدة ومطرزة بالخيوط المعدنية الذهبية في شكل زخارف رائعة والتي قد تكرر على السروال. وبالحديث عن مكملات زي تلك المهنة نجدها تتكون من غطاء الرأس قد يكون طربوشا أو طاقية دلالة على الاعتناء بهندام البائع. والحزام وهو عبارة عن شريط جلدي عريض لحمل إبريق السوس الكبير أو القربة، وحزام صف وهو شريط من الجلد يحيط بالخصر، يحتوي على درج معدني لوضع النقود. والمريلة وهي قطعة من القماش مستطيلة الشكل يقوم البائع بتثبيتها عند والوسط بواسطة الحزام.
يحمل بائع السوس إبريقا ضخما من الزجاج أو النحاس، فرديا أو مزدوجا، مصنوعا خصيصا للمحافظة على برودة السوس طوال اليوم، ويحمله بواسطة الحزام الجلد العريض والذي يُحكم ربط الإبريق حول الوسط، بما يوزع الثقل على الجسم. ومشدود على الخصر حزام يتدلى منه إناء صغير للأكواب، ووسادة صغيرة، محاكة من جميع الجوانب بداخلها مواد حشو كالقطن أو الفايبر توضع بداخل الحزام الذي يحيط بالخصر لتساعد البائع في حمل الإبريق الكبير، وتعزل عنه برودة السوس المثلج. أو يحمل قربة من جلد الحيوان بدلا من الأبريق مربوط فيها أنبوب خشبي لخروج السوس، يغلقه البائع بواسطة إبهامه. ويمسك بيده اليمنى (الطاسات) والتي هي عبارة عن طاسة دائرية من النحاس، يضعها البائع بين أصابعه بشكل يسهل استخدامها فتتراقص بين يديه محدثة نغمات رائعة يعرفها الكبير وتجذب الصغير. وتحمل يده اليسرى إبريقا صغيرا مملوءا بالماء لغسل الأكواب أو الطاسات، فنراه يتحرك بين أدواته كراقص محترف رشيق في حركاته.
لكل مدينه طقوس خاصه وميزه تمتاز بها عن المدن الأخرى، ولمدينة الموصل ميزه خاصة في فصل الصيف حيث تزداد معدلات الحرارة الى درجات كبيره جدا، ربما تنفرد بها هذه المدينة عن المدن العراقية الأخرى لكثرة تعدد باعة السوس، حيث يقوم عدد من الأشخاص ممن امتهن هذه المهنة وباتت تدر لهم المال تواجدهم في الطرقات والأسواق المكتظة بالمارة من سكان المدينة، ويتواجد باعة السوس أمام الدوائر الحكومية، حيث يقوم المراجع بإطفاء حرارة العطش بطاسه من هذا السائل البارد، أو ممن جاء الى المدينة لمراجعه دائرة أو لمراجعه طبيب معين.
تسمع أصوات هؤلاء الباعة وهو يتجولون بملابسهم الشعبية، التي ربما هي ملابس خاصه باهل هذه المهنة، التي تدل على قدمها وعمقها في تاريخ مدينة الموصل، وهذا ما يؤكد أصالة هذه المهنة وجذورها في المدينة بل ربما بعض العوائل باتت لها ألقاب من هذه المهنة كعائله السواس مثلا.
وفي مدينة الموصل قام ونهض من جديد تمثال بائع السوس، حيث هدمه التنظيم المسلح بعد دخوله مدينة الموصل في حزيران 2014، وأعاد نحاتو الموصل تأهيل تمثال “بائع السوس” الشهير في مركز أيمن الموصل بعد نحو 5 أعوام من تدميره. وأعيد مجد التمثال الذي يعتبر أحد أبرز التماثيل في المدينة فقد دفع فنان موصلي شهيرا ليصنع تحفة فنية رائعة لبائع السوس في مدخل المدينة، يحمل البائع قربته على كتفه ويتدلى منها أنبوب طويل، وينخفض جسده كله بالقربة لينهمر الشراب الرائق في كوب مصنوع بطريقة فنية والتمثال صنع بطريقة مبهرة.
المصادر:
عود الند. مجلة ثقافية فصلية
ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
Midline News
جريدة الزوراء
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/47686-2021-01-29-12-56-47.html
3206 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع