أيام زمان.. الجزء الثاني (الورد)
التراث الشعبي مجموعة من القيم والأعراف والأحلام والأماني والصراعات التي كانت تحدث داخل المجتمعات الإنسانية في جميع أطوارها التاريخية وقد حمل التراث الشعبي في كل مجالاته الكلامية والموسيقية والعينية في الأزياء والعمران وغيرها تأثيرات البيئة وأشيائها وألوانها، وحمل أيضا أثار موجودات الطبيعة جميعها وكان من الأشياء التي أثرت فيها الأزهار والرياحين والورد في شتى أنواعها، ولا شك بان التراث الشعبي حفظ للورد في الأغنية الشعبية والحكاية والمثل وغيرها قيما جمالية وفنية من خلال تعامل الإنسان مع الورد. تتردد لفظة الورد كثيرا على ألسنة البغداديين، نساء ورجالا في حياتهم اليومية، فهم يجمعون الوردة على ورد والجمبدة على جمبد (وردة الروز)، وإذا سئل أحدهم شلون فلان؟ أجابهم (ورد) أي بصحة جيدة وحال هانئ، وإذا وصفت أحداهن زميلة لها قالت (غاديه ورد) أي سمنت قليلا وتحسنت صحتها وزادت جمالا، وإذا وصفوا أحدهم بالنظافة قالوا (مثل الورد). كما يقولون (وردة وذبلت) للمريض الذي هزل جسمه وشحب لونه. و(مثل وردة البستان ) لجميل الطلعة و (چنهم ورد ) لوصف الولاد بالنظافة والصحة والجمال، و (خده مثل الجمبد أو خدوده ورد )، لوصف الخدود بالاحمرار الذي يغلب على الوان الورد و(ريحته ورد ) للنظيف ذي الرائحة الطيبة و (وردة عالرأس أو وردة تنشجخ بالرأس ) عند تزكية شخص ومدحه، و (بعده بالوردة ) أي لايزال صغيرا وفي نداءات الباعة قالوا ( بعده بالوردة يا خيار ) أي تازة وناعم و (عمبر ورد يا ورد ) لنوع من حلوى الصغار كما يسمون الأدهم باسما الورد فمنهم: وردة -وزهرة - وأزهار - وزهور - وجوري - وجورية - وقداح -وقداحة ورازقية.
ويفسرون تغريد البلابل بقولهم (شدة ورد -تكي حلو)
وللورد مكانة مرموقة لدى أكثر الناس، وكان البغداديون وما يزالون ينظرون الورد نظرة خاصة. فالأفندي يضع في ياقة سترته وردة، ويحمل بيده أخرى يشمها بين أونة وأخرى. وغيره يأخذ معه (حفنة) من ورد الرازقي لتوزيعه بين أصدقائه في المقهى، حيث يضعها مدخن النرجيلة في كيس التتن، ويضعها الأخر في قوطية الجكاير، والفتاة تزين شعرها بوردة أو أكثر، كما يزينون راس العروس بطوق من ورد القداح الاصطناعي، كما تحمل بيدها باقة من الورد الأبيض الاصطناعي المستورد. ويعتنون عناية خاصة بالورود.
وقد زادت رغبة الناس وحبهم للورد في الآونة الأخيرة فتوسعت حدائق البيوت وكثرت الحدائق العامة كما تنوعت الورود بعدان كانت مقتصرة على الرازقي والجوري والاشرفي (ورد احمر اللون قليل الرائحة ) وقد استوردت منها أنواع شتى والوان مختلفة واطلقوا عليها اسم ( الروز ) كما زاد عدد المشاتل التي تتعاطى تربية وتكثير الأوراد خاصة وأنواع الأشجار بصورة عامة وتيسيرها للهواة بأسعار زهيدة .كما درت تجارة البذور والأسمدة والأدوات الزراعية والأدوية المضادة للآفات والحشرات الزراعية أرباحا وافرة نظرا لولع الناس
بالحدائق والعناية بالورود.
كان الورد يباع باقات منها شدات كبيرة وشدات صغيرة من الورد الجوري بألوانه المعروفة كالأبيض والأحمر والأصفر. واغلب متعاطي بيع الورد كانوا من أهل الكرادة وهم يقدمون الى بغداد مع أول الصباح حاملين ما اقتطفوه من ورد في (زنبيل أبو العراوي) ومعهم كمية من العيدان لا يتجاوز طول الواحدة 30 سم اقتطعوها من جريد النخل مع كمية من خوص السعف حيت تربط كل وردة على احدى تلك العيدان بواسطة خيط رفيع من خوص السعف وبعدئذ تجمع أعداد مناسبة من تلك الورود ويوضع خلالها وحولها أوراق اليأس المغسولة غسلا نظيفا ليظهر لونها اخضرا زاهي.
وكان باعة الورد يتخذون لهم أماكن معلومة من الأسواق المشهورة عند رؤوس وأركان الشوارع.. وبالقرب من الفنادق الكبيرة وأخيرا افتتح أول حانوت لبيع الأزهار في ساحة النصر بالقرب من الباب الشرقي ببغداد ونجح نجاحا كبيرا.
تقدم باقات الورد في مناسبات منها: عند قدوم زائر الى بغداد حيث يقدم له أحد أطفال المدينة باقة كبيرة من الزهور باعتبار الأطفال هم زهور الحياة. كما تقدم باقة من الزهور عند زيارة مريض الى المستشفى أو الى داره. كما يضع من الزهور الطبيعية أو الاصطناعية (أكاليل) تحمل في جنازة أحد الشهداء أو جنازة شخص من أعلام البلاد ثم توضع فوق قبره. وبعدها جرت العادة في بغداد وضع إكليل من الزهور على قبر الجندي المجهول من قبل زوار بغداد الرسمين بمراسيم خاصة.
تحفظ الزهور الطبيعية عادة في البيوت في المزهريات خاصة كانت قديما تصنع من الفضة صناعة محلية وأخيرا استوردت أنواع مختلفة من المزهريات الزجاجية بأحجام والوان متعددة منها رخيصة الثمن ومنها الغالية توضع في داخلها أغصان تحمل أوراقا وأورادا بمختلف الألوان ويوضع عادة في كل مزهرية قليل من الماء لإدامة بقاء الزهور ناضرة لمدة أطول على أن يبدل الماء يوميا ومنهم من يضع قليلا من ملح الطعام أو السكر أو نصف حبة أسبرين أو قطعة نحاسية غالبا ما تكون فلسا لنفس السبب انف الذكر ... وهناك من يضع الزهور الاصطناعية في المزهريات في المواسم التي تقل فيها الزهور . كما تنثر الزهور بالمناسبات المفرحة منها على رأس العروس عند دخولها دار الزوجية أو على رأس المطهر أو خاتم القران الكريم أو عند استقبال ضيف ذي مكانة مرموقة كما تنثر الزهور من قبل باعة الفواكه وخصوصا باعة التكي على ما يبيعونه زيادة في إغراء (المشترية) ..
وإلفات نظرهم الى سلعهم كما يصنعون من ورق الورد نوعا من المربى يسمى ب (مربى الورد) وشربت الورد.
وفي موسم الورد يلعب الصغار بورق الورد حيث يضع أحدهم الورقة فوق الحلقة المتشكلة من سبابة وإبهام اليد اليسرى فيقول (فلانه طلعت ليبره وأخدودها محمرة لاكوها سته سبعه حلوة لو مرة؟) ومع لفظة مرة يضرب براحة يده اليمنى على ورقة الورد فأنها تخرج صوتا (طق) فاذا طقت وهذا ما يحدث غالبا فأنها حلوة،
ومن ألعابهم بالورد انهم يفتحون مبيض الوردة لإخراج حشوها ورميه بين قميص وجلد أحدهم خلسة فأنها (تنغزه) أي تنخسه وتؤذيه.
لم تقتصر رغبة البغداديون على عشق الزهور والتغني بها بل تتعداه الى تقطيره في بيوتهم لاستخراج ما يسمى ب (مي الورد) ويحفظ في قناني محكمة السد الى وقت الحاجة.
ولماء الورد استعمالات كثيرة فعلاوة على التطبيب به يستعمل في عمل المحلبية وحلاوة الشكر أو (الحلاوة البيضة - هي حلاوة طحين التمن) كما توضع قطرات منه في حب ماء الشرب لتطيبيه كما يستعمل في اليوم الثالث من أيام (الكعدية) لإشعار المعزين بان هذا اليوم هو اليوم الثالث من أيام مجلس الفاتحة كما ينثر الورد اليابس على أكفان الموتى ويدخل في عمل البهارات.
وهناك أنواع أخرى من الأوراد كانت تستعمل في معالجة بعض الأمراض ولازالت بعض العوائل تعتقد بفائدتها ومنها، كما عرف الخلفاء بعشقهم للأزهار بأنواعها فلم تغب عن حدائق قصورهم وتعطروا ونساؤهم بمياهها، وتفنن خدمهم في رصفها وتوزيعها داخل الغرف للزينة بشكل يومي، كما أبدعوا في تزيين حفلاتهم بها وتزيين ملابسهم برسومها واعتبروها من أجمل الهدايا فكانت تقدم للاحتفاء بالضيف وتقدم كهدية للمقربين.
ولعل أبرز ما تتناوله الروايات التاريخية في العصر الإسلامي عن شغف الخلفاء بالأزهار ما قاله وفعله الخليفة جعفر المتوكل عاشر الخلفاء العباسيين “أنا ملك السلاطين والورد ملك الرياحين، فكل أولى بصاحبه”، فحرمه على الجميع ولا يرى الورد إلا في مجلسه، فكان في موسمه يلبس الثياب الموردة، ويفترش الفرش الموردة.
ورد الماوي أو ورد لسان الثور: وهو عشب بري وردته زرقاء يباع لدى العطارين ويخدر كتخدير الشاي ويشرب بالاستكانات بعد إضافة قليل من السكر عليه يقدم للمحزونين اعتقادا منهم بانه يهدئ الأعصاب ويخفف من حدة الشعور بالألم
ورد البابنك او البيبون: وهو عشب بري لونه اصفر يباع لدى العطارين أيضا بخدر كتخدير الشاي ويشرب وبعد إضافة قليل من السكر عليه يفيد المصابين بالبرد والزكام والنزلة الصدرية.
ورد البنفشة ويسمونه (ورد البنوشة): ورد لونه بنفسجي ذو رائحة عطرة يخدر كتخدير الشاي ويسقى للأطفال المصابين بالحصبة حتى (يمشي) البطن ويستعمل كملين للأمعاء -مسهل.
ورد ختمه: يباع لدى العطارين يغلى بالماء ويستعمل كغرغرة للمصابين بالأم الأسنان والتهابات اللثة والتهاب اللوزتين ولايشرب المريض منه لانه مر المذاق كما يستنشق بخاره المصابون بالنشلة فانه يعجل في شفائهم وقد ذكر الورد في الأمثال يقولهم :(أكعد بفي الورد، وتذكر ليالي البرد) يضرب للرخاء يقع بعد الشدة فيعرض فيه ما ذكر بما مر من أيام الشقاء. و(اكطف الوردة وشمها والبنت تطلع على حبايب امها) ويضرب للمشابه بالأخلاق والعادات. اخذ مني نصيحة وكل اجر ما أريد، لا تزرع ورد يم ناس ما تشتم. أي لا تعمل المعروف إلا لأهله. و(تذبل الوردة وريحتها بيها) يضرب في أن الخيار من الناس لا يقفدون معالم النبل في شخصياتهم بالرغم من تنكر الدهر لهم ونزول الأيام بهم.
و (حافي ومحني رجليه، اكرع وشاجخ له ورده) يضرب للشخص يترك الضروري وينصرف الى الكماليات وثانويات الأمور، كالحافي الذي يضع في رجله الحناء، وكان أولى به أن يتخذ لها نعلا ينتعله، وكذلك الأقرع الذي يحاول أن يحبب نفسه الى الناس بما يعلق على صدره من الورد والأزهار، وكان أولى به لو اتخذ لنفسه غطاء ستر به قرعته.
و (شكول شكول ورد الباجلة) يضرب استخفافا بالقوم يكونون أضرابا شتى من الناس.
و(وردة الصديق تزعل) يقال أن رجلا حكم عليه بالرجم، فدفن في حفرة الى منتصفه، واخذ المارة يقذفون الحجارة عليه وكان المرجوم صامتا لا يشكو من الحجارة التي تصيبه، وقد مر خلال ذلك صديق له كانت في يده وردة يشمها فرجم بها صديقة، الذي لم يكن منه على اثر ذلك، ألا أن يصرخ صراخا عاليا لفت نظر الناس جميعا، توقفوا عن قذفه بالحجارة ثم اقبلوا عليه يسألونه عن سر صراخه، فقال أن الذي ضربه بالوردة كان من خيرة أصدقائه، لذا شق عليه ما بدر منه اتجاهه.
و (ورد من مزبلة)، يضرب لاستثناء من يشب على عادات وأخلاق فاضلة، تختلف عما عرفت به عائلته من صيت سيئ.
وحمل التراث الشعبي في كل مجالاته الكلامية والموسيقية والعينية، وفي الأزياء والعمران موجودات تؤرخ التعلق بالورود فالأغنية الشعبية أيضا تقدم صورا شعرية وفنية جميلة، نجد فيها تعبيرات الإنسان عن كل الحالات التي مر بها من حزن وفرح وحب، مستحضرا الطبيعة ومشبها حالاته ومشاعره بمناظر الزهور.
وقد ذكروا في غنائهم كثيرا فقالوا:
أحبك وأحب كلمن يحبك وأحب الورد جوري عبنه بلون خدك.
عمي يبياع الورد كلي الورد بيش؟
وردة سكيتها من دمع العيون صارت بالحسن فتنه للعيون.
كما تستعمل الزهور اليوم في نفس الأغراض عند الشعوب تقريبا للزينة والتعطر والتداوي والهدايا وكذلك دخلت عالم التجميل ومستحضراته خاصة منها الطبيعية والمنزلية.
المصدر:
بغداديات عزيز الحجية
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
https://algardenia.com/mochtaratt/46560-2020-10-30-09-18-45.html
3007 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع