خزين ذاكرتي وطريف الحكايات - بعد العداوة حلاوة
بقلم لواء الشرطة الحقوقي
محي الدين محمد يونس
كان معنا في هذه الدنيا الفانية وتركنا وانتقل إلى دار البقاء بتاريخ 26 آذار المنصرم زميلي وصديقي عقيد الشرطة المتقاعد (زرار فتح الله عمر) كان رجلاً دمث الأخلاق حسن السيرة والسلوك كريم ومرح الطباع تعرفت عليه في عام 1974 عندما جاءنا نقلاً إلى مديرية شرطة محافظة أربيل ونسب إلى شرطة الغابات وكان مفوضاً من الدرجة الأولى في حين كنت برتبة ملازم اول جمعتنا شراكة الدوام الوظيفي في بناية واحدة وتوطدت العلاقة بيننا بمرور الزمن ولحين وفاته...
رغم كونه كان مفوضاً في الشرطة إلا أنه كان محط احترام ومحبة جميع الضباط الذين عمل معهم وكسب ودهم ويعود أسباب تميز هذا الرجل عن غيره من حيث قيمته الاعتبارية إلى نشأته العائلية وعلاقاته الاجتماعية الواسعة المتميزة وهذا لا يعني عدم وجود آخرين بدرجته الوظيفية وبنفس التميز الشخصي.
زرار فتح الله وهو برتبة عقيد شرطة
تخرج من إعدادية الشرطة في بغداد عام 1962 وبعد سقوط نظام حكم الجمهورية الأولى برئاسة (عبد الكريم قاسم) في انقلاب 8 شباط 1963 شملته حملة الاعتقالات الواسعة التي جرت بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي حيث أوقف بتاريخ 13 شباط 1963 واستمر موقوفاً لمدة أربعة أشهر حيث أفرجت عنه الهيئة التحقيقية الخاصة لعدم ثبوت إدانته فيما اسند إليه من تهمه وكانت السلطات الإدارية قد أصدرت قراراً بفصله من الوظيفة دون انتظار نتائج التحقيق مما جعله عاطلاً عن العمل ورفض الطلبات التي كان يقدمها لإعادته إليها مما اضطره إلى القيام بشراء مطعم نزار الذي كان موقعه في بداية شارع السعدون من جهة ساحة التحرير ويقع بجانبه مطعم فيومي الشهير بالأكلات المصرية.
الزعيم عبد الكريم قاسم
وتعيدني ذاكرتي إلى عام 1973 عندما أصدرت الحكومة العراقية قراراً بعدم تناول اللحوم الحيوانية بسبب قيام بعض الفلاحين ومالكي هذه الحيوانات اطعامها من القمح المعفر والذي كان يشكل خطراً على حياة الإنسان وسلامته مما جعل الناس يلجئون إلى الأطعمة الخالية من اللحوم الحمراء ولذلك كان الإقبال على هذا المطعم بشكل كبير من أجل تناول الأطعمة المصرية ومن الجدير بالذكر بأن هذه الأطعمة (الفلافل, حمص بطحينة...إلخ) لم تكن مشهورة ومعروفة في العراق حيث لم تكن في العاصمة بغداد سوى ثلاثة أو أربعة مطاعم للأطعمة المذكورة إحداها المطعم الذي ذكرناه ومطعمين آخرين في شارع سينما الخيام وكان ذلك في عام 1961 ومن الجدير بالذكر بأن أول من قام بإدخال الفلافل إلى العراق هو اللبناني (أبو سمير) صاحب مطعم أبو سمير في شارع سينما الخيام في بغداد وكثيراً ما كنت أتردد على هذا المطعم في ذلك الوقت وكانت قيمة الوجبة عشرة فلوس والمطعم المذكور لا زال قائماً بإدارة ولده سمير, أما المحافظات الأخرى فإنها كانت تخلو من هذا النوع من المطاعم, أما اليوم فإن أكلة الفلافل أصبحت الأكلة الأكثر انتشاراً في جميع أنحاء العراق بالنسبة للأغنياء والفقراء لكونها لذيذة وسهلة الإعداد ورخيصة الثمن.
مطعم أبو سمير في بغداد
كان المرحوم (زرار) يجلس في بداية الدخول إلى المطعم من أجل الإشراف وتنظيم سير الأعمال وخدمة الزبائن بالإضافة إلى استحصال أثمان الأطعمة من الزبائن عند خروجهم من المطعم ، حيث كان العامل المشرف على ادارة صالة المطعم عندما يشاهد احد الزبائن وقت انتهى من تناول وجبة الطعام وشرب استكانا حاراً من الشاي العراقي وهو يهم بالخروج من المطعم ويقترب من السيد (زرار) ينادي بأعلى صوته:-
- نفر كباب و شيش عوازة
- دجاج على تمن
- نفر مشكل
- يابسة على تمن سادة ( بدون لحم)
- تشرب لحم
- قوزي الشام ... الخ
في أحد الأيام وكان الوقت ظهراً دخل إلى المطعم شاب أنيق يرتدي بدلة زرقاء ويضع منديلاً في جيب بدلته (هذه الحكاية رواها لي المرحوم زرار قبل سنوات واتركه يرويها لكم بنفسه)
فلافل وحمص بالطحينية وفول
جلس الشاب في منتصف المطعم وتقدم منه أحد العمال ووضع امامه دولكة ماء وقدح ستيل حيث كانت المياه تقدم بالشكل المذكور لأنها كانت نظيفة ولم تكن تشكل خطراً على حياة الإنسان كما هو الحال في وقتنا الحاضر وأصبحت المياه تشكل عبئاً مادياً آخر على معظم العوائل التي تقوم بشراء المياه المعبئة في القناني المختلفة الأحجام، بعدها قدم له العامل صحناً صغيراً من الطرشي على عكس هذه الأيام حيث تقدم المطاعم لزبائنها مجموعة من المقبلات المختلفة وبعدها طلب العامل من الزبون المذكور بيان طلباته بعد أن قام بتعداد أسماء الأطعمة المتوفرة عندهم وبشكل سريع وبصوت جهوري وواضح كأنما يقرأ بياناً رسمياً..
دولكة ماء وأقداح ستيل
الزبون: ((جيبلي تمن ومرك (فاصوليا، بامية))
وبعد أن أحضر العامل الطعام الذي طلبه فنظر إليه قائلاً: ((شيله ما أريده جيبلي كبة))
امتثالاً لأمره رفع العامل الطعام من امامه وجلب له الكبة وكما في المرة الماضية نظر إلى الكبة وطلب من العامل: ((شيله ما أريده جيبلي تشريب))
كذلك امتثل لرغبته وأنا أراقب الموقف وما ستؤول إليه النتائج والكلام ما زال للمرحوم (زرار) أيضاً كرر الزبون نفس فعلته السابقة حيث نظر إلى التشريب والذي كان يعلوه لحمة كبيرة: ((ما أريده رجعلي التمن والمرك))
كـبة عراقية
العامل دخل في نقاش مع الزبون قائلاً: ((عمي أخوية... كَلت التمن والمرك ما أريده رجعنا كل شي بجدره ... كَلت الكبه ما أريدها وجاء عدنا زبون طلب كبة وقدمناها إله... زين تكَول التشريب ما أريده شسوي بيه وين أودي))
الزبون: ((شيله ما أريده ولا تحجي زايد))
عندها نفذ صبري وأصبحت في وضع لا أحتمل تصرفات هذا الزبون المشاكس قمت من مكاني وتوجهت نحوه بعد أن وصل النقاش بينه وبين العامل إلى طريق مسدود واحتمال تحول الحرب الباردة بينهما إلى حرب حقيقية، كررت عليه نفس ما قال العامل إلا أنه أجابني: ((أكَلك شيل التشريب ما أريده وين تودي ما تودي هاي مشكلتك وإذا ما تبدلوا أكَوم أروح))
عندها بلغ السيل الزبى وخرجت الأمور من تحكم العقل وأصبحت في حالة نفسية سيئة أرغمتني على اتخاذ قراري بالرد على هذا الزبون الطائش وتصرفاته الرعناء رداً قوياً يستحقه ويكون عبرة لكل من تسول له نفسه التجاوز على أصول ارتياد المطاعم وتناول الطعام فيها.
السيد زرار فتح الله عمر
رفعت صحن التشريب ووجهته نحو وجه الزبون إلا انني ومن شدة حالتي العصبية أخطأت التصويب واتجه الصحن نحو صدره ومن ثم سقط على الأرض وتحطم عدة قطع متناثرة على أرضية المطعم وكان المنظر الذي أثارني وجعلني أغرق في ضحك متواصل هو تناثر قطع الخبز المبللة بماء التشريب على انحاء جسمه وكان المنظر الأكثر إثارة للضحك هو استقرار إحدى قطع الخبز سقطت على صدر الزبون واستقرت بين المنديل المثبت في الجيب الأمامي في صدر بدلته وقطعة اللحم وجدت لها مستقرا في حضنه حالتان متناقضتان فالزبون نهض من الكرسي الذي كان جالساً عليه وهو في أشد حالات الانفعال والعصبية وكنت انا (الكلام لا زال للمرحوم زرار) مستغرقاً في الضحك المتواصل وجالساً على أرضية المطعم, هذه الحالة دعت زبائن المطعم الجالسين فيه وعمالها للتدخل وفض مشروع الاشتباك المرتقب بيننا...
تشريب لحم عراقي
خرج الزبون مسرعاً من المطعم وهو يهدد ويتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور، بعد دقائق معدودات حضر أحد أفراد الشرطة من مركز شرطة اليتاويين القريب من مطعمي وطالباً مني مرافقته إلى المركز، وعندما دخلته شاهدت غريمي واقفاً في فنائه وظهره على الحائط وملابسه ملطخة بماء التشريب أدخلني الشرطي على مفوض المركز الخفر لذلك اليوم وكانت المفاجئة كونه أحد خريجي دفعتي أي دورتي في إعدادية الشرطة... قبلني قبلة خاطفة: ((ها زرار شبيك ويه هذا الولد بعدين أنت شمسوي بي... هم زين صارت الإصابة بصدره مو براسه))
حدثته بالسالفة بالتفصيل... وقلت للمفوض: ((أخويه أنت هم لو بمكاني جان سويت بي نفس السواية وأكثر))
رد علي المفوض: ((على كل حال... خلي لا يعرف خصمك بعلاقتنا وحتى اتدخل وأفض المشكلة بحيادية... يلا أنت هم روح بره انتظر))
بعد نصف ساعة ونحن الاثنان خارج الغرفة، انشغلت في معاتبة غريمي وبأنه وتصرفاته كانت السبب فيما نحن فيه، ونحن في خضم النقاش وإذا بأحد أفراد الشرطة يطلب منا مواجهة مفوض الخفر وعند دخولنا سلمنا عليه سوية أخذ يصرخ في وجهي: ((أنت شنو... صاحب مطعم لو شقاوة ليش هيجي مسوي بالرجال ما تخاف ربك... يلا أشو اخذ القاط والقميص والرباط مال الرجال ووديهن للغسل والكوي وجيبهن بسرعة... وانت أخوية يلا انزعهن))
عندها استفسر المذكور من المفوض: ((إجراءاتك هاي هيه))
أجابه المفوض: ((أخويه أنت هم مقصر... يلا أشو أنزع ملابسك بغرفة كاتب المركز))
نزع ملابسه وبقي باللباس الداخلي والفانيلة لحين عودتي ومعي الملابس وبعد أن ارتداها طلب منا المفوض أن نقوم بتقبيل أحدنا للأخر وموجها الحديث لي: ((وأنت زرار تعتذر منه ومطلوب له غدوية دسمة))
وبعد توديع المفوض خرجنا من المركز سوية وبصعوبة استطعت إقناعه بمصاحبتي للمطعم وطلبت من العمال إعداد وجبة غداء مشكلة لضيفنا والذي أصبح فيما بعد صديقاً عزيزاً علي واستمرت علاقتنا لسنوات.
بذلك أنهى زميلي روايته لهذه الحكاية الطريفة وفاتني أن أذكر بانه أعيد إلى الخدمة في الشرطة وتدرج في الرتب ولحين إحالته على التقاعد برتبة عقيد بعد إكماله السن القانونية للتقاعد، دعائي من الله العلي القدير أن يتغمد فقيدنا زميلنا (زرار فتح الله عمر) بواسع رحمته وأن يغفر له وهو على كل شيء قدير.
1230 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع