اغنية العمر ...

  

                     اغنية العمر...

     

     

      

لم تحظى مطربه في العصر القديم ولا الحديث كما حظيت الراحله ام كلثوم كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي بشهره كبيره وعدد من المعجبين فاق كل تصور والتي لاتزال اغانيها تسمع من قبل الشباب قبل الكبار وهي لاتزال وبعد نصف قرن على رحيلها تحصل على الاوليه في الاستماع واغانيها محط اعجاب وطرب للكثير ..

ام كلثوم التي تمكنت من جمع العرب في موعد واحد وعلى هدف واحد في مواعيد حفلاتها وهي التي قدمت لمصر وللعرب كافه الكثير من العطاء الذي امتازت به دون غيرها ولكن هناك محطات اكثر خلودا من غيرها في سفر ام كلثوم الخالد وهو اللقاء الشهير بين الملحن العربي الكبير محمد عبد الوهاب وبين ام كلثوم بعد انتظار دام اربعين سنه حتى التقى الجبلان في رائعه لن تتكرر ولايمكن نسيانها والتي تطرب الكثير لحد الان الا وهي اغنية العمر ( انت عمري ) ..

        

طال انتظار موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لكي يدخل الحلبة في التلحين لسيدة الغناء العربي أم كلثوم مع موسيقارها وملحنها المفضل رياض السنباطي وقد طال الانتظار لمدة بلغت أربعين عاماً، وأعتقد أن السبب في هذا الانتظار الطويل هو الخوف فكانا الأثنان يخشيان من التعامل مع بعضهما بصفتهما قمتا الغناء العربي الحديث ، فكانت أم كلثوم تخشي أن تطغي موسيقي عبد الوهاب علي غنائها، بينما خشي عبد الوهاب من ديكتاتورية أم كلثوم في التعامل مع ملحنيها  ..

                  

وشهدت الاربعين عاماً هذه عدة محاولات لتجميع القمتين في عمل واحد كان أبرزها محاولة طلعت باشا حرب عندما أراد أنتاج فيلم عن قصة ألمظ وعبده الحامولي من بطولة أم كلثوم وعبد الوهاب وطبعاً باء المشروع السينمائي بالفشل بسبب تعنت أم كلثوم وكبرياء عبد الوهاب ..
ومن الثابت أن قصة الأغنية الأولي بدأت مع ضغط  الرئيس الراحل جمال عبد الناصر منذ عام 1953  لبدء مشروع تعاوني بين كوكب الشرق وعبد الوهاب وهذا ما جعل موقف الأثنان حرجاً للغاية أمام الرئيس الراحل منذ بدايات الستينات ، ومن هنا جاء التفكير الجدي في عمل مشترك يجمع القطبين ..

  

كيف ولد اللقاء

بدأ التفكير العملي و الحقيقي لفكرة الأغنية مع مطلع السيتنات وخصوصا بعد طلب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر المتكرر في أعياد الثورة، وذلك الذي وضح جالياً في عام 1961 و 1962 لتتحول فكرة التعاون الى حقيقة في منتصف عام 1963 ليخرج الي النور في 6 فبراير 1964، بدأت القصة عندما أستمع أحمد الحفناوي عازف الكمان الشهير إلي أغنية أسمها انت عمري في بيت عبد الوهاب من كلمات أحمد شفيق كامل ، ومن هنا نقل الحفناوي ما استمع اليه في بيت عبد الوهاب الي السيدة ام كلثوم التي طلبت من عبد الوهاب ان يسمعها هذا اللحن وتلك الكلمات وأبدت استعدادها للتعاون لفك الضغط الرئاسي الشديد عليهما من قبل الرئيس عبد الناصر ..
وفي منزل أم كلثوم اجتمع كل من أم كلثوم وعبد الوهاب وأحمد شفيق كامل لقراءة الأغنية من جديد .وعلى عكس ما هو شائع ان ام كلثوم اعترضت علي بداية كلمات الأغنية بل عبد الوهاب هو الذي أبدى اعتراضه على بداية الأغنية التي كانت تقول
" شوقوني عينيك لأيامي اللي راحوا "
فغيرها إلى :
" رجعوني عينيك لأيامي اللى راحوا "
وفي مقطع آخر ..
" من حنان قلبي اللي بيشابي لحنانك "
إلى
" من حنان قلبي اللي طال شوقه لحنانك "

وقد اعترضت أم كلثوم على كلمة بيشابي ..لأنها كلمة عامية تستعمل في مصر فقط ..مع أنها تغني لكل الملايين العربية ، ودافع أحمد شفيق كامل عن الكلمة بحرارة ولكن أم كلثوم أصرت على تغير الكلمة ..  وأيضاً أعترض  عبد الوهاب على الكلمات التالية "قد إيه من عمري قبلك راح وعدى
راح كأن العمر قبلك ليلة واحدة
ليلة من دمعي ومن نار الجراح "
فاستبدلها الشاعر بـ ..
"قد إيه من عمري قبلك راح وعدى
ياحبيبي
ولا شاف القلب قبلك فرحة واحدة
ولا داق في الدنيا غير طعم الجراح"

         

وبدأ عبد الوهاب التحلين واتفق الأثنان على التمهل لأخراج عمل فني متكامل يليق بضخامة اللقاء الفني الكبير، وتسربت أخبار للصحافة وفي عيد الثورة  23 تموز 1963 عاد الرئيس عبد الناصر ليسأل عن الأغنية التي تتحدث عنها الصحف فأخبرته أم كلثوم انهما انجزا الكثير وان عبد الوهاب يضع اللمسات الاخيرة ..
وقبل ان يسافر عبد الوهاب الي أوروبا في صيف 1963 سجل الأغنية بصوته وأرسلها الي أم كلثوم لتحفظها وعاد عبد الوهاب الي القاهرة واستمر سيناريو التكتم على الاغنية مستمرا خوفاً من حدوث مشاكل بين الطرفين.
وبدأ نشوب اول الخلافات بين ام كلثوم وعبد الوهاب بخصوص المقدمة الموسيقية فقد كان عبد الوهاب قد أقترح أدخال الجيتار الكهربائي الي المقدمة الموسيقية فرفضت أم كلثوم رفضاً قاطعاً على أساس أن فرقتها من التخت الشرقي ..وأن جمهورها لم يعتاد سماع أي آلة غربية في فرقتها ..فلم يعاند عبد الوهاب..لكنه بذكائه حكم الي القصبجي الذي وقف في صف عبد الوهاب وفي الصباح حضر اليها  بصحبة عبد الفتاح خيري وطلب منه أن يسمعها مقطع اللحن المقترح عزفه بالجيتار الكهربائي وحينئذ فقط وافقت أم كلثوم ..
وفي نهاية عام 1963 أسمع عبد الوهاب أصدقاء له اللحن ومن صيحات إعجابهم باللحن اطمئن قلبه قليلاً من نجاح الأغنية، وبدأت البروفات وأستمرت شهراً كاملاً ..
وفي يوم الأربعاء 29 كانون الثاني 1964 الموافق 14 رمضان كانت أم كلثوم تسجل الأغنية في الأستديو وأستمر التسجيل لمدة 12 ساعة كاملة ، وغير عبد الوهاب العديد من اللوازم الموسيقية أثناء التسجيل.

                  

وكانت ام كلثوم وعبد الوهاب والفرقة صائمة ، ومع عدم اكتمال التسجيل دعي ذلك  أم كلثوم ان تطلب الطعام في الأستديو لكي يفطر الجميع ثم يستأنفوا التسجيل ..!!

            

 ليلة اللقاء
كان يوم الخميس 6 فبراير 1964 يوماً حافلاً بالنسبة للثلاثة الذين قدموا هذا العمل الضخم بعد طول انتظار..
وكان الناس في كل الوطن العربي والخارج ينتظرون بفارغ الصبر هذا اللقاء الفريد والجميع اجل اعمال تلك الليه وتهيأ لها وكل حسب طريقته في الاستماع لام كلثوم التي كانت قد أجرت بروفة مع عبد الوهاب حتى الظهر ..ثم نامت هي وانطلق هو بسيارته إلى المقابر حيث زار قبر أمه ..وهذه هي عادة عبد الوهاب عندما يقدم على عمل كبير يهتم به . وفي الثالثة بعد الظهر عاد عبد الوهاب إلى المنزل ..ونام حتى موعد بداية الحفل ، اتجهت كل الأنظار في الصالة إلى المقصوره رقم (9) شمال عندما دخلت فيه السيدة نهلة القدسي زوجة عبد الوهاب ..كانت العيون تنتظر أن تراها مع الموسيقار عبد الوهاب.. ولكن عبد الوهاب لم يكن مع زوجته في هذا الوقت.. فقد ذهبت هي مع بعض أقاربها وظل هو في البيت..يستمع الى الحفل من جهاز راديو صغير. .

                        

بدأت أم كلثوم الحفل بأغنية "كل ليلة وكل يوم" وهنا خرج عبد الوهاب من منزله وأتجه نحو مسرح الازبكية ودخل الى الكواليس وبعد غناء الوصلة الأولي هنأ عبد الوهاب ام كلثوم وجلس مع الموسقيين للتغير اللازم الذي يسبق الاغنيه  وضبط الألات الموسقية بنفسه ..

                  

وفي الساعة الثانية عشرة و40 دقيقة رفع الستار عن ام كلثوم وهي ترتدي فستان من الشيفون الاخضر.. بعدما قدمها جلال معوض لمستمعيها عبر الأثير .. بينما كان الموسيقار عبد الوهاب خلف الديكور الذي يحيط بأم كلثوم وفرقتها.. لم يكن يفصل عبد الوهاب عن أم كلثوم سوى ستة أمتار على الأكثر..ومع بداية المقدمة الموسيقية بدأ الأعجاب باللحن  يظهر وصفق الناس للمقدمة الموسيقية.. صفقوا لدرجة انهم قاطعوها منذ بدايتها فاضطرت الفرقة الموسيقية الى اعادتها وأخذ عبد الوهاب نفساً طويلاً وهو يرفع رأسه الى أعلى شاكراً الله ..
وأعيدت المقدمة الموسيقية بعد ذلك مرتين.. والناس تصفق وبدأت أم كلثوم تغني.. والناس تتمايل طرباً .. وعبد الوهاب في مكانه في الظلام يتمايل هو الآخر.. لقد بكى عبد الوهاب .. لم يستطع منع دموعه من أن تنفلت وهو يسمع الناس تستزيد أم كلثوم.. حتى أعادت الاساس او مايسمى عندنا في العراق ( القفل ) 4 مرات.. وبعد 40 دقيقة من غناء أم كلثوم غادر عبد الوهاب المسرح نحو بيته ليستمع الي بقية الأغنية ومع انتهاء الوصلة الثانية اتصلت ام كلثوم بعبد الوهاب ليأتي لحيي معها الجمهور ولكنه رفض لخجله الشديد لقد غنت أم كلثوم أنت عمري في 2.20 ساعه وكانت هذه اطول وصلة غنائية في عمرها كله ..

ثم غنت أم كلثوم في الوصلة الثالثة أغنية للصبر حدود للمرة الثانية وانتهي الحفل في الرابعة صباحاً !!
لم يحدث أن بقي شعب بأكمله من المحيط الى الخليج  ساهراً حتى الصباح ! يضع آذانه على أجهزة الراديو ، كأنه يتوقع أن يسمع نبأً هائلاً والأزواج عادوا إلى بيوتهم مبكرين. الأطفال طلب آباؤهم إليهم أن يغلقوا أفواههم ولا ينبسون  بكلمه .
كل شيء قد هدأ وصمت وسادت حاله من الترقب لأن أم كلثوم ستغني أغنية من لحن عبد الوهاب  ,, وبعد لحظات بدأت أم كلثوم تغني ، فإذا بملايين الرؤوس تتمايل، وملايين الأقدام تدق على الأرض مع نغمات اللحن وعاشت هذه الملايين ثلاث ساعات في نشوة وهناء ، وكأنها ترقص في فرح كبير..وقد كان هذا فرحاً حقيقياً فإنه زواج بين صوت أم كلثوم ولحن عبد الوهاب! وهذا الان وبعد عشرات  السنين تجد الاجيال الحاضره  تحسد الأجيال الماضيه الذين عاشوا في ذلك العصر ، وشاهدوا ما فيه من انجازات عظيمه على كل الاصعده ، فقد احتشدت فيه الأحداث بحيث أصبحنا لا نعرف هل نحن نعيش في التاريخ الكبير، أم نحن هو هذا التاريخ الكبير ..
لم تحظى اي اغنيه في العالم مثلما حظيت بها اغنية انت عمري التي فاقت التوقعات والاحتمالات وحققت اكبر اجاز فني في تاريخ الاغنيه العربيه والتي لاتزال مكان طرب واعجاب من الكثير ..

لقد كتبت الصحافه في اليوم التالي الكثير منها :
 لقد سمعت هذا اللحن الساحر في لندن قبل الحفله لقد عزفه لي عبد الوهاب عدة مرات وأنا جالس في حجرة نومه بفندق مايفير . وكتبت يومها أقول أنني أحسست وأنا أسمعه أن الملايين ستردده مع أم كلثوم
كانت أم كلثوم وهي تغني هذا اللحن الخالد، تحوله من نغمات إلى مشاهد حية تراها العيون وتغني معها القلوب ..  
لقد سمعت أمس غناء الملائكة...ولم أسمع غناء البشر
ولا حدود لقدرة الملا ئكة
علي امين

هذه كانت قصة اغنية العمر
انت عمري

مع تحيات
عبد الكريم الحسيني

      

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1049 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع