قاعة الشعب: "صالة" بغداد الأولى
د. خالد السلطاني* المدى:ثمة رموز بنائية حضرية، ارتقت بعمارتها لأن تكون "أيقونة" بصرية للمدن المشيدة فيها.
بيد أن تاريخ تلك "الرموز" (او المعرفة بذلك التاريخ)، يبقى، أحياناً، امراً يكتنفه الغموض والإبهام، رغم اهميتها التصميمية ومكانتها في البيئة الحضرية. ومثال مبنى "قاعة الشعب" (قاعة الملك فيصل الثاني سابقاً)، في باب المعظم، احدى تمثلات تلك النماذج المبهرة التى تحدثنا عنها تواً.
فالمبنى مع أهميته الوظيفية وحضوره المميز في البيئة المبنية البغدادية، وأسلوب عمارته فضلاً على طبيعة استخداماته العمومية، ظل على الدوام "يرى" من قبل الجميع، ولكن من دون "بيوغرافيا" محددة له ، تشير وتوضح قيمته التصميمية، وتاريخ انشائه، او تذكر اسم مصممه. والتساؤل الذي يحضر في الحال، هنا، لماذا هذا "التجاهل" لواحد من أهم مباني العاصمة، هو الذي كان يمثل في الحقيقة "صالة" بغداد الاولى، (وربما ..الوحيدة!)،الصالة التى جمعت في فضائها كثيرا من الأنشطة الثقافية والفنية وحتى السياسية، ان شئتم، لما مثلته القاعة من فضاء نادر للتجمعات والخطب السياسية والأحداث الرسمية المهمة. ومرة أخرى، اتساءل، لماذا هذا التغاضي وعدم الاكتراث "المقيتين" اللذين بسببهما لم يحظ هذا المبنى (وربما الكثير على شاكلته، المؤلفة لخيرة نماذج تنويعات النسيج الحضري للعاصمة) على اهتمام ورعاية البغداديين ولاسيما المهنيين منهم. والاشارة الى "المهنيين"، لا تعفيني شخصيا -انا الذي اعد نفسي، قارئاً للعمارة العراقية الحداثية- من مسؤولية وتبعات ذلك الإهمال والتغاضي. اعترف، ايضاً، باني ولفترة زمنية طويلة كنت أتقصى كل ما يحيط بهذا المبنى الفريد. وانا أقول (الفريد)، لأنه على امتداد عقود كان عنوانا ومكانا للأحداث الفنية والثقافية في العاصمة، وربما لعموم البلد باسره. لكني لم اصل الى نتائج مقنعة، وعندما كنت استفسر من أصدقائي المعماريين والفنانين عن تاريخ المبنى واسم معماره، أتت الإجابات غير واضحة وملتبسة، كما وجدت ان غالبيتها تفتقر الى قدرٍ كبير من المصداقية، مثلما رأيتها أحيانا بعيدة عن الواقع. ولهذا بات الفعل الاستدلالي لقراءة عمارة المبنى، الفعل المتاح لي في استقراء تلك العمارة وتبيان أحداثها. واذ اقرّ بان فرضيتي الاستدلالية سوف لن تكون، بالطبع، بمنأىً عن الشكوك والتساؤلات، فاني اعترف بانها المقاربة الوحيدة (بغياب الوثائق والبيانات ذات المصداقية المتعلقة بالمبنى وعمارته) التي بمقدوري ان اقدم تصورا قريبا من الواقع عن المبنى، بحكم متابعتي للنشاط المعماري الحداثي البغدادي.
يقع مبنى القاعة ، كما هو معروف ضمن القلعة (وزارة الدفاع سابقاً)، بمنطقة باب المعظم، المنطقة العاجة بالأبنية ذات الوظائف العمومية المختلفة. وقد لاحظ، مرة، صديقي الروائي العراقي المعروف غائب طعمة فرمان (1927-1990)، من ان مباني تلك المنطقة، ليست فقط تنطوي على تنويع مدهش في الوظائف التي تؤديها، وإنما أتسمت، ايضاً، على نوع من التضاد والتناقض الشديدين، اذ يشير في روايته "خمسة اصوات" الصادرة في 1967، والتي مثل الفضاء الحضري البغدادي في الخمسينات فيها خلفية اساسية لفعل وحركة "ابطال" روايته الشهيرة، من ان مباني باب المعظم كانت تعكس بأمانة حالات التعقيد والتناقض لتلك الفترة. فإلى جانب وزارة الخارجية، كان هناك السجن المركزي، وبالقرب من مستوصف حماية الاطفال كانت دائرة الطب العدلي، وبجوار قاعة الملك فيصل الثاني كان المبغى العام! كما جاورت وزارة الدفاع سوق الهرج. وكانت المكتبة الوطنية لا تبعد كثيرا عن مقبرة "الشهداء" الأتراك، هذا فضلاً عن غزارة الأبنية العامة وتكدسها، فان المنطقة إياها حفلت بوجود الأبنية السكنية، ايضاً، كجزء هام من مفردات النسيج البنائي لباب المعظم! وقد انعكس هذا التناقض المذهل في الوظائف على نوعية لغة عمارة مبنى القاعة، هي التي تاق معمارها لأن تكون مختلفة عن مجاوراتها، وحاضرة بقوة في المشهد المكاني لتلك المنطقة.
يتعين التذكير، بان أبعاد فضاء القاعة الداخلي الواسع، وطبيعة وظيفة تلك القاعة، شكلتا عاملين أساسيين لدى المعمار، في تخليق اللغة المعمارية للمبنى. واذ حلّ المعمار معضلة تسقيف فضاء القاعة الواسع، بواسطة قبو ضخم، يُرى جزء منه من الخارج، فان المعالجة الواجهية للمبنى، الذي شغل زاوية الموقع المطل على شارعين، اتسمت (أو بالاحرى، كان عليها ان تتسم)، على صلادة واضحة، تعكس خصوصية الفضاءات الداخلية. الا ان المعمار مع هذا ارتأى ان تكون ثمة فتحات لنوافذ في جداران المبنى المحيطة من كل الجهات. ان وظيفة تلك الفتحات متنوعة، فالخلفية منها تضيء فضاءات الغرف الادارية الواقعة خلفها، في حين باعث وجودها في الواجهة الأمامية والجانبية كان لاضاءة الممرات الداخلية المؤدية الى القاعة الرئيسية. تثير محاولة المعمار إعطاء أهمية خاصة الى مدخل المبنى، اهتمام المتلقي، ولفت أنظاره نحو مفردة تصميمية، يراد بها تأكيد أهمية موقع المدخل الرئيس للقاعة، والإشارة اليه تكوينياً. ثمة سقيفة Canopy خرسانية تمتد بعيدا نحو الخارج، على شكل تطليعة (كابوليه) Cantilever تُحمل بزوجين من الاعمدة. ان شكلها الناتئ النظيف، وتطليعاتها الجريئة الممتدة بعيداً نوعاً ما، وافقيتها المعاكسة لعمودية كتلة المبنى وفتحات المدخل العديدة فيه، تؤشر بوضوح الى مكان المدخل الرئيس وتجذب انتباه المشاهد نحوه. وقد تكون هذه المفردة التصميمية، وأسلوب استخدامها، هي أحدى تجديدات اللغة المعمارية للمبنى، الذي يسعى مصممه ان يجعل من عمارته "قطيعة" تصميمية، لما كان ينشأ ويصمم سابقاً. وهذا الأمر، هو الذي يدفع الى تحديد فترة تشييد المبنى، التي ظلت تمثل احدى "الفجوات" المعرفية، في "سيرة" هذا المبنى المهم؛ شأنها شأن فجوة اشكالية تثبيت اسم المعمار المصمم له.
ليس هناك ادنى شك، في ان فترة بناء المبنى لا تعود الى عقد الثلاثينات، نظراً للمقاربة المعمارية التي اتكأ عليها المصمم في صياغة الحل التكويني لمبناه. كما ان المبنى لم يُصمم من قبل اي من المعماريين الانكليز او العراقيين، الذين عملوا في تلك الفترة. اذ ليس من ذكر لهذا المبنى في سجل تصاميم أولئك المعماريين. ويشهد كثر، بان المبنى كان "موجوداً" في بداية الخمسينات. اي ان فترة تشييده تقع في عقد الاربعينات حصراً.
ولكن متى؟ في بدء عقد الاربعينات كانت البلاد أمام تحديات كبرى، سببها "دكة" رشيد عالي ومحاولته الانقلابية، ما يجعل من الصعب بمكان التفكير ببناء "قاعة كبرى" إبان تلك الايام. تلتها سنوات الحرب القاسية وضائقة "التموين" التى نجمت عنها. اي ان المبنى يمكن له ان يشيد بعد الحرب. يذكر احد الأصدقاء (وهو الآن مقيم في استراليا)، رداً على استفساري عن تاريخ المبنى، بانه حضر (او عزف في) حفلة موسيقية في القاعة اياها في سنة 1948، وهو ما يمكن الخروج به باستنتاج من إن المبنى، قد يكون ُشيّد في 1947، او في اقصى الاحتمالات في 1946. بقى علينا ان نحدد اسم المعمار لتكتمل مفردات "بيوغرافيا" المبنى الناقصة. تجدر الاشارة، ابتداءً، من ان مصمم القاعة، هو معمار محترف، يعرف مهنته جيداً، ومطلع على الأساليب المعمارية وطرزها. انه قطعا غير حرفي. انه معمار: حاصل على تعليم أكاديمي. ولكن من هو ياترى، ماهو اسمه؟ يتعذر عليّ، رغم كل تقصياتي واستفساراتي العديدة عنه، تحديد اسم هذا المعمار. واذ اقرًّ بعجزي وعدم مقدرتي عن ذكر اسمه، فاني أناشد قرائي الأعزاء لهذه الحلقات التى انشرها، ان يسعفوني، إن استطاعوا باسم ذلك المعمار، الواهب لبغداد "صالتها" الاولى! توخيا لتدوين وتوثيق مباني بغداد المهمة.
عندما كنت في بغداد، مؤخراً، عملت جاهداً من اجل تصوير وتوثيق المبنى في حالته الآنية. والتصوير في بغداد الحالية يثير الشجون. فالجميع يقف حائلا بينك وبين ما تنوي من مقاصد أراها ضرورية لتسجيل الأثر المعماري والحفاظ عليه. لقد استطعت ان أصوره ولكن على عجل. فليس هناك أرشيف تصويري تحتفظ بغداد به لمبانيها المهمة، والذي يمكن الرجوع اليه (وجدت صورة قديمة و"يتيمة" للقاعة يعود تاريخها الى 1963، انشرها مع هذه الحلقة). ثمة أعمال "ترميمية" واسعة "يتعرض" لها المبنى في الوقت الحاضر. انها وان كانت لا غنى عنها، فانها تتم بأسلوب بدائي لا يهتم بالمحافظة على شكل المبنى الأصلي ولا يتماشى مع أسلوب استخدام خصوصية مواده الانشائية. وكل ذلك يبعد مبنى القاعة عن ذاكرة بغداد، ويجعل منه بناءً دخيلا في المشهد الحضري للعاصمة. فهذا المبنى، (وغيره على شاكلته)، يظل يمثل صفحة ناصعة من تلك "الذاكرة" الجميلة، الواجبة الحفاظ والتذكر، هي التي تتلاشى الآن عن المشهد، و"تتوارى" <بحسب لغة صديقي الشاعر علي عبد الاميرعجام> بعيدا في طي النسيان! بيد ان الهم المهني الذي يحمله كثر من المعماريين والمثقفين: محبي بغداد، قادر ان يجعل من استرجاع تلك الذاكرة الابداعية، عاملا اساسياً في ترسيخ قيم الثقافة الرفيعة، وتكريس مظاهر التحضر المديني، التي اتسمت بها بغداد على مر العصور!
*معمار وأكاديمي
الكاردينيا: كل الشكر للأستاذ الدكتور/ اكرم المشهداني الذي أهدانا هذه الصور عن قاعة الشعب..فعلا صور نادرة..جزاه الله خيرا..
666 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع