لمياء عمر عياد
• • رسَمت ابتسامة صغيرة على وجهها غصبا . و قالت لصاحب التاكسي : ""بسرعة أرجوك . انطلقت السيارة تشق الطريق . وانطلقت هي في سَفر آخرَ إلى بواطنها، تستجدي كل الذكريات ...
برَزَ لها في كل ركن من أركان الذاكرة، كانت تلتهم تفاصيلَه : كلامَه الوئيد وعينيه الساحرتين واضطرابه أوان كل لقاء, ثم طريقة إلقائه للتحية. كانت تعبثُ بــسطح يديْها كأنها تتحسّس أثاره... استلقت للوراء مسترخية وهي تنصِت لصُراخ وألـم تكتمُهُمَا، تارة بالنظر من حولها وطورا عبر بلور السيارة التي كانت تطوي المسافات طيّا، وكأن روحها هي من تدفعها دفعا.
أفاقتْ فجأة من شرودها حين توقفت السيارة ... ابتلعت ريقها تلعثما، ثم أعطت الأجرة للسائق و نزلت، وإذا بيد تسْحبُها برفق وحضن يلفها حتى حجبَ الضوءَ عنها... عرفته من عطرهِ، كان هو ... نبيّ لحظتِها تلك ... الرَّجل الذي أحبّته وأدمنت لذة الألم في وجوده، بل ذاك الذي أنطق الألم فيها.
دفعته برفق وحياء، ودونَ أن تغوصَ في سِفر عيْنيهِ خشية بث اليأس، سألته : "كيف حالك ؟"
قبل أن برُدّ، استدارَ لحظات فهمتْ منها أنه يُخفِي دمعَه، لقد تعوّدت منه ذالك، بل تعوّدت كلّ شيء منه. فكيف تـُرَى سيكون المصيرُ بعدَه ؟
استجمعَ بقاياه وقال في حرقة: "الطائرة ستقلع بعد ساعة ونصف، وسيُقْلعُ معها قلبي أيضا... هي ذي الدنيا . لقاء وفراق وما بينهُما الذكرَى...
قالتْ ولمَّا تبرحْ عيْناها تضاريسَ الرَّصيفِ: "إني مُسلّمة بقدري، المهم أن تكونَ بخير وتنتهي من هذه الغربة التي عشْتَها بآلامها بعيدا عن وطنك." ..
قال : " نحتاج إلى فرصة أخرى... سأعود حتما فأنا من دونِكِ في غربة هناك."
وضعت يدها المرتعشة على شفتيه تأمره بالصّمت.. لا تريد سكاكينَ أخرى تنكأ جراحها، وقالت : "خذ هذه ذكرى مني احفظها في كتاب." .. كانت وردة بيضاءَ، ملفوفة برباط أحمرَ انطبعَتْ عليْه آثار من دمِ أناملها التي سالتْ في غفلة منها وهيَ تضغط بقوة على شوك الوردة. دمٌ رَوَى ألمَهَا الفضِيعَ وهي تدسُّ رَأسَهَا في صدره...
سألته دامعَةً : " حبيبي أين أنا منك ؟" ..
ردّ دونَ تردّد وهو يشمّ الوردة ويعبثُ بالرِّباط : "أنتِ مَحَطَّة." ... ثــمَّ صَمتَ كأنه أحسَّ بقسْوَةِ الكلمة ووقعها المُزلزلِ عليْها، في حين انسحبتْ هي برفق من قبضة ذراعيه ، وأشاحتْ بنظرها بعيدا عنهُ، وردَّدَتْ بتتابُع زادَ من ارتباكهِ :
- "هو ذاك يا حبيبي .. هو ذاك يا حبيبي .. هو ذاك يا كلّ طريقي .. هو ذاك يا مُسافرًا في دمي.. لقد نسيتُ أنني في سَفركَ الدَّائم محطة، ترتاحُ على أديم شغَفِها بك، وتـرْوَى فيهَا منْ ضَمَإ السَّفر، ثم تسْترْخِي قليلا على شِغافِ القلب لتكملَ سَفرَك.
هبَّ إلى احتضانِها من جديد مقاطعا : "لا .. لا .. بالله عليْكِ، لا ترحلي بفهمك بعيدا .. كنتُ أهـذي فقط ولم أع ما أقولُ.".
تخلصَتْ منه وقالت : " بل هي لحظة صِدق عزيزي... أسال الله أن تصل سالما وأن تنتهيَ غرْبتك.." .. ثم ترَاجعت إلى الورَاءِ خطواتٍ، تكتبُ نهاية اللّقاءِ ومُبْحرَة بنظرها في عينيه هنيهة ... تمتمَ دامعا : "أحبك .. أحبك .. أحبك." ... ارتسمتْ ابتسامة باهتة على شفتيها وهي تجيبه: "أنا أعشقكَ حدَّ السَّماءِ، لكنيِّ محطّة وها قد حان السّفـــر." ... فعلا، في نفس اللحظة انبعَث صوتٌ من بهْو المحطة إيذانــًا بحلول الحافلة ودعوة للمُسَافِرين بالاسْتعدادِ.
تنهَّدتْ ثم استطردتْ : "هيا لنْ أعطلكَ أكثرَ...عجِّلْ بقضاءِ شؤونك لإني سأرْحلُ أيضًا." ... ثم استدارت تجمعُ حُطامَها، فجذبها اليه وقال بحُنــوٍّ : "انتظري مني مكالمة هامّة يا محطتي الأبدية.. سأكون عندك قريبا.. مُقِيمًا لا مغادرًا." ...
همهمت وهي تغادره : "في حفـــظِ الله .. انتبه لنفسك"
انطلقتْ دون أن تدرك أنّ الوردة قد عادتْ إلى يدِها حين تشابكتْ بيدهِ لحظة العناق... ولتْ تجري وتشقّ الزّحام .. تناديهِ .. كان قد ركبَ الحافلة، ولم يكنْ مسْموحًا لها بتجاوُز قاعة الانتظار... لمحتهُ من بعيدٍ عبْر باب القاعة .. مدُّ يدهُ مُودِّعًا ولم ينتبهْ إلى الوردة وهي تلوِّحُ بها عاليًا.. تجمَّدتْ طويلا في مكانها رافعة الوردة وهي تتبعُ حركة الحافلة منطلقة... بعد دقائق، آبتْ إلى ذاتها فمَشتْ إلى باب الخروج، تضغط من جديدٍ بأناملها على سَاق الوردة، عسَى دمُهَا يعَانقُ دمَهُ
1233 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع